الحلقة (3) البداء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ولي الحمد ومستحقه، وصلواته على خيرته من خلقه محمدٍ وآله الطاهرين...
تحدث الدكتور عن عقيدة الإمامية في "البداء" في 10 صفحات، ومما قاله:
الفصل السابع: البداء: من أصول الاثني عشرية القول بالبداء على الله سبحانه وتعالى حتى بالغوا في أمره، فقالوا: "ما عبد الله بشيء مثل البداء" و"ما عظّم الله عز وجل بمثل البداء"، "ولو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا من الكلام فيه"، "وما بعث الله نبيًا قط إلا بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء".
ويبدو أن الذي أرسى أسس هذا المعتقد عند الاثني عشريّة هو الملقّب عندهم بثقة الإسلام وهو شيخهم الكليني (ت328 أو 329ه) حيث وضع هذا المعتقد في قسم الأصول من الكافي، وجعله ضمن كتاب التوحيد، وخصّص له بابًا بعنوان "باب البداء" وذكر فيه ستّة عشر حديثًا من الأحاديث المنسوبة للأئمة.
وجاء من بعده ابن بابويه (ت381ه)، وسجل ذلك ضمن عقائد طائفته، وعقد له بابًا خاصًا بعنوان "باب البداء" وذلك في كتاب "الاعتقادات" الذي يسمى دين الإمامية [الاعتقادات: ص89.]. ومثل ذلك فعل في كتابه "التوحيد" [التوحيد: ص331.].
وقد اهتمّ شيخهم المجلسي (ت1111ه) بأمر البداء وبوّب له في بحاره بعنوان "باب النّسخ والبداء"، وذكر (70) حديثًا من أحاديثهم عن الأئمة [بحار الأنوار: 4/92-129.].
ولعل القارئ المسلم يعجب من أمر هذه العقيدة، التي لا يعرفها المسلمون، وليس له ذكر في كتاب الله سبحانه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مع أنها من أعظم ما عبد الله به، ومن أصول رسالات الرسل، وفيها من الأجر ما لو علم به المسلم لأصبحت تجري على لسانه دائمًا كشهادة التوحيد (كما يزعمون).
إذا رجعت إلى اللغة العربية لتعرف معنى البداء تجد أن القاموس يقول: بدا بدوًا وبدوًا وبداءة: ظهر. وبدا له في الأمر بدوًا وبداء وبداة: نشأ له فيه رأي [القاموس المحيط، مادة: بدو (4/302).]. فالبداء في اللغة – كما ترى – له معنيان:
الأول: الظهور بعد الخفاء. تقول: بدا سور المدينة أي: ظهر.
والثاني: نشأة الرأي الجديد. قال الفراء: بدا لي بداء أي: ظهر لي رأي آخر، وقال الجوهري: بدا له في الأمر بداء أي: نشأ له فيه رأي [الصحاح (6/2278)، ولسان العرب (14/66)، وانظر هذا المعنى في كتب الشيعة مثل: مجمع البحرين للطريحي: 1/45.].
وكلا المعنيين وردا في القرآن، فمن الأول قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ} [البقرة، آية: 284.]. ومن الثاني قوله: {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف، آية: 35.].
وواضح أن البداء بمعنييه يستلزم سبق الجهل وحدوث العلم وكلاهما محال على الله سبحانه. ونسبته إلى الله سبحانه من أعظم الكفر، فكيف تجعل الشيعة الاثنا عشرية هذا من أعظم العبادات، وتدعي أنه ما عظم الله عز وجل بمثل البداء؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.
وهذا المعنى المنكر يوجد في كتب اليهود، فقد جاء في التوراة التي حرفها اليهود وفق ما شاءت أهواؤهم نصوص صريحة تتضمن نسبة معنى البداء إلى الله سبحانه.
ويبدو أن ابن سبأ اليهودي قد حاول إشاعة هذه المقالة، التي ارتضعها من «توراته» في المجتمع الإسلامي الذي حاول التأثير فيه باسم التشيع وتحت مظلة الدعوة إلى ولاية علي، ذلك أن فرق السبيئة "كلهم يقولون بالبداء وأن الله تبدو له البداوات" [الملطي/ التنبيه والرد: ص19.].
ثم قال: روايات في كتب الاثني عشرية تنقض عقيدة البداء:
إن نقض الخصم كلامه بنفسه، من أبلغ النقض، لأنه يقضي على نفسه بسلاحه، وإن ظهور تناقضه من أوضح أمارات بطلان معتقده، وأنت تجد في كتب الاثني عشرية روايات عن الأئمة ترمي من قال بالبداء بالخزي، وتناقض ما سلف من روايات.
وهذه الروايات قد تكون روايات وثيقة الصلة بعلماء آل البيت لأنها تعبر عن المعنى الحق وهو ما يليق بأولئك الصفوة، وقد تكون من آثار الشيعة المعتدلة بقيت آثارها في كتب الاثني عشرية، ولا يبعد أن تكون هذه الروايات ستارًا وضعه أولئك الزنادقة على عقيدتهم في البداء.
وعلى أية حال فإن إثبات مثل هذه الروايات تبين مدى تناقض هذه الطائفة في رواياتها، وأن دينها قائم على الأخذ بالجانب الشاذ، والمخالف للجماعة من أخبارهم، لأن ما خالف الجماعة ففيه الرشاد كما هو قانون أولئك الزنادقة، الذي يخرج من أخذ به عن الدين رأسًا.
جاء في كتاب التّوحيد لابن بابويه: ".. عن منصور بن حازم قال: سألت أبا عبد الله – عليه السّلام – هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله تعالى بالأمس؟ قال: لا، من قال هذا فأخزاه الله، قلت: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله؟ قال: بلى، قبل أن يخلق الخلق" [التّوحيد: ص334، أصول الكافي: 1/148 رقم (10)، وانظر قريبًا من هذا المعنى رواية أخرى في الكافي: 1/148 (رقم9).].
ولا شك بأن عقيدة البداء بمقتضى معناها اللّغوي، وبموجب روايات الاثني عشريّة، وحسب تأويل بعض شيوخهم تقتضي أن يكون في علم الله اليوم ما لم يكن في الأمس.
وحسب الاثني عشرية عارًا وفضيحة أن تنسب إلى الحق جل شأنه هذه العقيدة، على حين تبرئ أئمتها منها، فإذا وقع الخلف في قول الإمام نسبت ذلك إلى الله لا إلى الإمام.
وإذا رجعت إلى معتقدهم في توحيد الألوهية والربوبية، والأسماء والصفات، وجدت أن الإمام قد حل محل الرب سبحانه في قلوبهم وعقولهم، بتأثير ذلك الركام المظلم من الأخبار.. فعقيدة البداء أثر لغلوهم في الإمام.
انتهى
التعليق:
قال الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء}...
تلك كانت مقتطفات من كلام الدكتور القفاري، وقد نقل كلاما مبتورا عن الشيخ الصدوق رضوان الله عليه وزعم ان فيه اضطراباً، وقد بنى الدكتور هذا الفصل كله على ما يتظاهر بفهمه -ولا أقول ما يفهمه، لأن كتب الشيعة بين يديه، وهو يبتر النصوص- فهو يريد أن يقول: أن البداء يستلزم سبق الجهل، والشيعة يعتقدون بهذا المعنى من البداء...
إذاً فالذي ينبغي أن يقال أن البداء ليس كما صوره الدكتور...
وقد افترى فرية جديدة حين قال:
ولا شك بأن عقيدة البداء بمقتضى معناها اللّغوي، وبموجب روايات الاثني عشريّة، وحسب تأويل بعض شيوخهم تقتضي أن يكون في علم الله اليوم ما لم يكن في الأمس..
ولكنه لم يذكر أي مصدر لهذه الفرية!!!
فمن هو هذا الشيخ الذي قال هذا الكلام؟؟؟
وقد وعد الدكتور بأن لا ينسب للشيعة شيئا إلا من مصادرها المعتمدة، ووعد بأن يذكر النص الحرفي فقال في المقدمة: واهتممت بالنقل "الحرفي" في الغالب رعاية للموضوعية، وضرورة الدقة في النقل والعزو، وهذا ما يفرضه المنهج العلمي في نقل كلام الخصوم.
فأين هو هذا النقل الحرفي؟؟؟
بل أين هو أسم الشيخ الذي قال هذا الكلام؟؟؟
{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ }
وفي الكافي بابا خاصا بالبداء يحتوي على 16 حديثا كما قال الدكتور، ولا توجد رواية واحدة في الكافي ولا في غيره من كتب الشيعة على الإطلاق تفسر البداء بالمعنى الذي ذكره الدكتور، بل على العكس، فمن الروايات الواردة:
قال الكليني عليه الرحمة والرضوان: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن الحسن بن محبوب، عن عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو له.
عنه، عن أحمد، عن الحسن بن علي بن فضال، عن داود بن فرقد، عن عمرو بن عثمان الجهني، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: إن الله لم يبد له من جهل.
علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن منصور بن حازم قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس ؟
قال: لا، من قال هذا فأخزاه الله.
قلت: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله؟
قال: بلى، قبل أن يخلق الخلق.
الكافي ج 1 ص 148 باب البداء
وهذه كلمات بعض علمائنا في البداء:
1 - قال العلامة الشيخ جعفر السبحاني دام ظله:
المسألة الخامسة: البداء عند الشيعة الإمامية: إن من العقائد الثابتة عند الشيعة الإمامية، هو القول بالبداء، ومن الكلمات الدارجة بين علمائهم أن النسخ والبداء صنوان، غير أن الأول في التشريع، والثاني في التكوين، وقد اشتهرت بالقول به كاشتهارها بالقول بالتقية وجواز متعة النساء.
وصار القول بهذه الأمور الثلاثة من خصائصهم وقد أنكرت عليهم السنة أشد الإنكار خصوصا في مسألة البداء، ولكنهم لو كانوا واقفين على مراد الشيعة من تجويز البداء على الله لتوقفوا عن الاستنكار، ولأعلنوا الوفاق.
وأقول عن جد: لو أتيحت الفرصة لعلماء الفريقين للبحث عن النقاط الخلافية بعيدا عن التعصب والتشنج لتجلى الحق بأجلى مظاهره، ولأقروا بصحة مقالة الشيعة، غير أن تلك أمنية لا تتحقق إلا في فترات خاصة.
وقد سألني أحد علماء أهل السنة عن حقيقة البداء، فأجبته بإجمال ما أفصله في هذا المقام، فتعجب عن إتقان معناه، غير أنه زعم أن ما ذكرته نظرية شخصية لا صلة بها بنظرية الإمامية في البداء، فطلب مني كتابا لقدماء علماء الشيعة، فدفعت إليه أوائل المقالات، وشرح عقائد الصدوق لشيخ الأمة محمد بن النعمان المفيد (336 - 413 هـ) فقرأهما بدقة.
وجاء بالكتاب بعد أيام وقال: لو كان معنى البداء هو الذي يذكره صاحب الكتاب فهو من صميم عقيدة أهل السنة ولا يخالفون الشيعة في هذا المبدأ أبدا.
أضواء على عقائد الشيعة الإمامية ص 427
2 - وقال السيد شرف الدين قدس سره: المبحث الأول: في البداء: وقد زعم النواصب أنا نقول: بأن الله عز وجل قد يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الأمر بخلاف ما اعتقد، وهذا إفك منهم وبهتان، وظلم لآل محمد وعدوان، وحاشا أهل البيت وأولياءهم أن يقولوا بهذا الضلال المبين المستحيل على الله عز وجل، فإن علم الله تعالى عين ذاته عندهم، فكيف يمكن دخول التغيير والتبديل فيه لو كان النواصب ينصفون؟
أجوبة مسائل جار الله ص 99
3 - وكتب السيد الإمام أبو القاسم الخوئي رضي الله عنه عن البداء بشيء من التفصيل فقال:
بمناسبة الحديث عن النسخ في الأحكام وهو في أفق التشريع، وبمناسبة أن النسخ كالبداء وهو في أفق التكوين، وبمناسبة خفاء معنى البداء على كثير من علماء المسلمين، وأنهم نسبوا إلى الشيعة ما هم براء منه، وأنهم لم يحسنوا في الفهم ولم يحسنوا في النقد، وليتهم إذ لم يعرفوا تثبتوا أو توففوا كما تفرضه الأمانة في النقل، وكما تقتضيه الحيطة في الحكم، والورع في الدين بمناسبة كل ذلك وجب أن نذكر شيئاً في توضيح معنى البداء، وإن لم تكن له صلة -غير هذا- بمدخل التفسير.
تمهيد:
لا ريب في أن العالم بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته، وأن وجود أي شيء من الممكنات منوط بمشيئة الله تعالى، فإن شاء أوجده، وإن لم يشأ لم يوجده.
ولا ريب أيضا في أن علم الله سبحانه قد تعلق بالأشياء كلها منذ الأزل، وأن الأشياء بأجمعها كان لها تعين علمي في علم الله الأزلي وهذا التعين يعبر عنه ب "تقدير الله" تارة وب "قضائه" تارة أخرى، ولكن تقدير الله وعلمه سبحانه بالأشياء منذ الأزل لا يزاحم ولا ينافي قدرته تعالى عليها حين إيجادها، فإن الممكن لا يزال منوطا بتعلق مشيئة الله بوجوده التي قد يعبر عنها بالإختيار، وقد يعبر عنها بالإرادة، فإن تعلقت المشيئة به وجد وإلا لم يوجد.
والعلم الإلهي يتعلق بالأشياء على واقعها من الإناطة بالمشيئة الإلهية، لأن إنكشاف الشيء لا يزيد على واقع ذلك الشيء، فإذا كان الواقع منوطا بمشيئة الله تعالى كان العلم متعلقا به على هذه الحالة، وإلا لم يكن العلم علما به على وجهه، وانكشافا له على واقعه.
فمعنى تقدير الله تعالى للأشياء وقضائه بها: أن الأشياء جميعها كانت متعينة في العلم الإلهي منذ الأزل على ما هي عليه من أن وجودها معلق على أن تتعلق المشيئة بها، حسب اقتضاء المصالح والمفاسد التي تختلف باختلاف الظروف والتي يحيط بها العلم الإلهي.
موقف اليهود من قدرة الله:
وذهبت اليهود إلى أن قلم التقدير والقضاء حينما جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة بخلافه. ومن أجل ذلك قالوا: يد الله مغلولة عن القبض والبسط والأخذ والإعطاء، فقد جرى فيها قلم التقدير ولا يمكن فيها التغيير، ومن الغريب أنهم -قاتلهم الله- التزموا بسلب القدرة عن الله، ولم يلتزموا بسلب القدرة عن العبد، مع أن الملاك في كليهما واحد، فقد تعلق العلم الأزلي بأفعال الله تعالى، وبأفعال العبيد على حد سواء.
موقع البداء عند الشيعة:
ثم إن البداء الذي تقول به الشيعة الإمامية إنما يقع في القضاء غير المحتوم، أما المحتوم منه فلا يتخلف، ولا بد من أن تتعلق المشيئة بما تعلق به القضاء، وتوضيح ذلك أن القضاء على ثلاثة أقسام:
أقسام القضاء الإلهي:
الأول: قضاء الله الذي لم يطلع عليه أحدا من خلقه، والعلم المخزون الذي استأثر به لنفسه، ولا ريب في أن البداء لا يقع في هذا القسم، بل ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام أن البداء إنما ينشأ من هذا العلم.
روى الشيخ الصدوق في "العيون" بإسناده عن الحسن بن محمد النوفلي أن الرضا عليه السلام قال لسليمان المروزي: "رويت عن أبي عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال: إن لله عز وجل علمين علما مخزونا مكنونا لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء، وعلما علمه ملائكته ورسله، فالعلماء من أهل بيت نبيك يعلمونه...".
وروى الشيخ محمد بن الحسن الصفار في "بصائر الدرجات" بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام قال: "إن لله علمين: علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو، من ذلك يكون البداء وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه، ونحن نعلمه".
الثاني: قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بأنه سيقع حتما، ولا ريب في أن هذا القسم أيضا لا يقع فيه البداء، وإن افترق عن القسم الاول، بأن البداء لا ينشأ منه. قال الرضا عليه السلام لسليمان المروزي -في الرواية المتقدمة- عن الصدوق: "إن عليا عليه السلام كان يقول: العلم علمان، فعلم علمه الله ملائكته ورسله، فما علمه ملائكته ورسله فإنه يكون، ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه يقدم منه ما يشاء، ويؤخر ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ".
وروى العياشي عن الفضيل، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: "من الأمور أمور محتومة جائية لا محالة، ومن الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم منها ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، لم يطلع على ذلك أحدا -يعني الموقوفة- فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا بكذب نفسه، ولا نبيه، ولا ملائكته".
الثالث: قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بوقوعه في الخارج إلا أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئة الله بخلافه. وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}. {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ}.
وقد دلت على ذلك روايات كثيرة منها هذه:
1 - ما في " تفسير علي بن إبراهيم " عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة إلى سماء الدنيا، فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة، فإذا أراد الله أن يقدم شيئا أو يؤخره، أو ينقص شيئا أمر الملك أن يمحو ما يشاء، ثم أثبت الذي أراده.
قلت: وكل شئ هو عند الله مثبت في كتاب ؟ قال: نعم. قلت: فأي شيء يكون بعده ؟
قال: سبحان الله، ثم يحدث الله أيضا ما يشاء تبارك وتعالى".
2 - ما في تفسيره أيضا عن عبدالله بن مسكان عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن - ع - في تفسير قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أي يقدر الله كل أمر من الحق ومن الباطل، وما يكون في تلك السنة، وله فيه البداء والمشيئة. يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض، ويزيد فيها ما يشاء وينقص ما يشاء..".
3 - ما في كتاب "الاحتجاج" عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "لولا آية في كتاب الله، لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة، وهي هذه الآية: {يَمْحُو اللّهُ}...".
وروى الصدوق في الأمالي والتوحيد بإسناده عن الاصبغ عن أمير المؤمنين عليه مثله.
4 - ما في "تفسير العياشي" عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: "كان علي بن الحسين عليه السلام يقول: لولا آية في كتاب الله لحدثتكم بما يكون إلى يوم القيامة.
فقلت: أية آية ؟ قال: قول الله: {يَمْحُو اللّهُ}...".
5 - ما في " قرب الإسناد " عن البزنطي عن الرضا عليه السلام قال: قال أبو عبد الله، وأبو جعفر، وعلي بن الحسين، والحسين بن علي، والحسن بن علي وعلي بن أبي طالب عليهم السلام: " لولا آية في كتاب الله لحدثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة: {يَمْحُو اللّهُ}...".
إلى غير ذلك من الروايات الدالة على وقوع البداء في القضاء الموقوف.
وخلاصة القول:
أن القضاء الحتمي المعبر عنه باللوح المحفوظ، وبأم الكتاب، والعلم المخزون عند الله يستحيل أن يقع فيه البداء. وكيف يتصور فيه البداء ؟ وأن الله سبحانه عالم بجميع الاشياء منذ الأزل، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
روى الصدوق في " إكمال الدين " بإسناده عن أبي بصير وسماعة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "من زعم أن الله عز وجل يبدو له في شئ لم يعلمه أمس فابرأوا منه ".
وروى العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام يقول: "إن الله يقدم ما يشاء، ويؤخر ما يشاء، ويمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب، وقال: فكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شئ يبدو له إلا وقد كان في علمه، إن الله لا يبدو له من جهل".
وروى أيضا عن عمار بن موسى عن أبي عبد الله عليه السلام: "سئل عن قول الله: {يَمْحُو اللّهُ}... قال: إن ذلك الكتاب كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت، فمن ذلك الذي يرد الدعاء القضاء، وذلك الدعاء مكتوب عليه الذي يرد به القضاء، حتى إذا صار إلى أم الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئا".
وروى الشيخ الطوسي في كتاب "الغيبة" بإسناده عن البزنطي، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال علي بن الحسين، وعلي بن أبي طالب قبله، ومحمد بن علي وجعفر بن محمد: "كيف لنا بالحديث مع هذه الآية {يَمْحُو اللّهُ}... فأما من قال بأن الله تعالى لا يعلم الشيء إلا بعد كونه فقد كفر وخرج عن التوحيد".
والروايات المأثورة عن أهل البيت - ع - أن الله لم يزل عالما قبل أن يخلق الخلق، فهي فوق حد الإحصاء، وقد اتفقت على ذلك كلمة الشيعة الإمامية طبقا لكتاب الله وسنة رسوله، جريا على ما يقتضيه حكم العقل الفطري الصحيح.
ثمرة الاعتقاد بالبداء:
والبداء: إنما يكون في القضاء الموقوف المعبر عنه بلوح المحو والإثبات، والإلتزام بجواز البداء فيه لا يستلزم نسبة الجهل إلى الله سبحانه وليس في هذا الإلتزام ما ينافي عظمته وجلاله.
فالقول بالبداء:
هو الإعتراف الصريح بأن العالم تحت سلطان الله وقدرته في حدوثه وبقائه، وأن إرادة الله نافذة في الأشياء أزلا وأبدا، بل وفي القول بالبداء يتضح الفارق بين العلم الإلهي وبين علم المخلوقين، فعلم المخلوقين -وإن كانوا أنبياء أو أوصياء- لا يحيط بما أحاط به علمه تعالى، فإن بعضا منهم وإن كان عالما -بتعليم الله إياه- بجميع عوالم الممكنات لا يحيط بما أحاط به علم الله المخزون الذي استأثر به لنفسه، فإنه لا يعلم بمشيئة الله تعالى -لوجود شيء- أو عدم مشيئته إلا حيث يخبره الله تعالى به على نحو الحتم.
والقول بالبداء:
يوجب إنقطاع العبد إلى الله وطلبه إجابة دعائه منه وكفاية مهماته، وتوفيقه للطاعة، وإبعاده عن المعصية، فإن إنكار البداء والإلتزام بأن ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة -دون استثناء- يلزمه يأس المعتقد بهذه العقيدة عن إجابة دعائه، فإن ما يطلبه العبد من ربه إن كان قد جرى قلم التقدير بإنفاذه فهو كائن لا محالة، ولا حاجة إلى الدعاء والتوسل، وإن كان قد جرى القلم بخلافه لم يقع أبدا، ولم ينفعه الدعاء ولا التضرع، وإذا يئس العبد من إجابة دعائه ترك التضرع لخالقه، حيث لا فائدة في ذلك، وكذلك الحال في سائر العبادات والصدقات التي ورد عن المعصومين -ع- أنها تزيد في العمر أو في الرزق أو غير ذلك مما يطلبه العبد.
وهذا هو سر ما ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام من الاهتمام بشأن البداء. فقد روى الصدوق في كتاب "التوحيد" بإسناده عن زرارة عن أحدهما عليه السلام قال: "ما عبد الله عز وجل بشيء مثل البداء".
وروى بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ما عظم الله عز وجل بمثل البداء".
وروى بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ما بعث الله عز وجل نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار بالعبودية وخلع الأنداد، وأن الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء".
والسر في هذا الاهتمام:
أن إنكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأن الله غير قادر على أن يغير ما جرى عليه قلم التقدير. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فإن كلا القولين يؤيس العبد من إجابة دعائه، وذلك يوجب عدم توجهه في طلباته إلى ربه.
حقيقة البداء عند الشيعة:
وعلى الجملة: فإن البداء بالمعنى الذي تقول به الشيعة الإمامية هو من الإبداء "الإظهار" حقيقة، وإطلاق لفظ البداء عليه مبني على التنزيل والإطلاق بعلاقة المشاكلة.
وقد أطلق بهذا المعنى في بعض الروايات من طرق أهل السنة. روى البخاري بإسناده عن أبي عمرة، أن أبا هريرة حدثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأعمى وأقرع، بدا لله عز وجل أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص..."
وقد وقع نظير ذلك في كثير من الاستعمالات القرآنية، كقوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}.
وقوله تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}.
وقوله تعالى: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.
وما أكثر الروايات من طرق أهل السنة في أن الصدقة والدعاء يغيران القضاء.
أما ما وقع في كلمات المعصومين عليهم السلام من الإنباء بالحوادث المستقبلة فتحقيق الحال فيها: أن المعصوم متى ما أخبر بوقوع أمر مستقبل على سبيل الحتم والجزم ودون تعليق، فذلك يدل أن ما أخبر به مما جرى به القضاء المحتوم وهذا هو القسم الثاني "الحتمي" من أقسام القضاء المتقدمة.
وقد علمت أن مثله ليس موضعا للبداء، فإن الله لا يكذب نفسه ولا نبيه. ومتى ما أخبر المعصوم بشيء معلقا على أن لا تتعلق المشيئة الإلهية بخلافه، ونصب قرينة متصلة أو منفصلة على ذلك فهذا الخبر إنما يدل على جريان القضاء الموقوف الذي هو موضع البداء.
والخبر الذي أخبر به المعصوم صادق وإن جرى فيه البداء، وتعلقت المشيئة الإلهية بخلافه. فإن الخبر -كما عرفت- منوط بأن لا تخالفه المشيئة.
وروى العياشي عن عمرو بن الحمق قال: "دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام حين ضرب على قرنه، فقال لي: يا عمرو إني مفارقكم، ثم قال: سنة السبعين فيها بلاء...
فقلت: بأبي أنت وأمي قلت: إلى السبعين بلاء، فهل بعد السبعين رخاء ؟
قال: نعم يا عمرو إن بعد البلاء رخاء".. وذكر آية: {يَمْحُو اللّهُ}...
البيان في تفسير القرآن ص 385
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ولي الحمد ومستحقه، وصلواته على خيرته من خلقه محمدٍ وآله الطاهرين...
تحدث الدكتور عن عقيدة الإمامية في "البداء" في 10 صفحات، ومما قاله:
الفصل السابع: البداء: من أصول الاثني عشرية القول بالبداء على الله سبحانه وتعالى حتى بالغوا في أمره، فقالوا: "ما عبد الله بشيء مثل البداء" و"ما عظّم الله عز وجل بمثل البداء"، "ولو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا من الكلام فيه"، "وما بعث الله نبيًا قط إلا بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء".
ويبدو أن الذي أرسى أسس هذا المعتقد عند الاثني عشريّة هو الملقّب عندهم بثقة الإسلام وهو شيخهم الكليني (ت328 أو 329ه) حيث وضع هذا المعتقد في قسم الأصول من الكافي، وجعله ضمن كتاب التوحيد، وخصّص له بابًا بعنوان "باب البداء" وذكر فيه ستّة عشر حديثًا من الأحاديث المنسوبة للأئمة.
وجاء من بعده ابن بابويه (ت381ه)، وسجل ذلك ضمن عقائد طائفته، وعقد له بابًا خاصًا بعنوان "باب البداء" وذلك في كتاب "الاعتقادات" الذي يسمى دين الإمامية [الاعتقادات: ص89.]. ومثل ذلك فعل في كتابه "التوحيد" [التوحيد: ص331.].
وقد اهتمّ شيخهم المجلسي (ت1111ه) بأمر البداء وبوّب له في بحاره بعنوان "باب النّسخ والبداء"، وذكر (70) حديثًا من أحاديثهم عن الأئمة [بحار الأنوار: 4/92-129.].
ولعل القارئ المسلم يعجب من أمر هذه العقيدة، التي لا يعرفها المسلمون، وليس له ذكر في كتاب الله سبحانه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مع أنها من أعظم ما عبد الله به، ومن أصول رسالات الرسل، وفيها من الأجر ما لو علم به المسلم لأصبحت تجري على لسانه دائمًا كشهادة التوحيد (كما يزعمون).
إذا رجعت إلى اللغة العربية لتعرف معنى البداء تجد أن القاموس يقول: بدا بدوًا وبدوًا وبداءة: ظهر. وبدا له في الأمر بدوًا وبداء وبداة: نشأ له فيه رأي [القاموس المحيط، مادة: بدو (4/302).]. فالبداء في اللغة – كما ترى – له معنيان:
الأول: الظهور بعد الخفاء. تقول: بدا سور المدينة أي: ظهر.
والثاني: نشأة الرأي الجديد. قال الفراء: بدا لي بداء أي: ظهر لي رأي آخر، وقال الجوهري: بدا له في الأمر بداء أي: نشأ له فيه رأي [الصحاح (6/2278)، ولسان العرب (14/66)، وانظر هذا المعنى في كتب الشيعة مثل: مجمع البحرين للطريحي: 1/45.].
وكلا المعنيين وردا في القرآن، فمن الأول قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ} [البقرة، آية: 284.]. ومن الثاني قوله: {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف، آية: 35.].
وواضح أن البداء بمعنييه يستلزم سبق الجهل وحدوث العلم وكلاهما محال على الله سبحانه. ونسبته إلى الله سبحانه من أعظم الكفر، فكيف تجعل الشيعة الاثنا عشرية هذا من أعظم العبادات، وتدعي أنه ما عظم الله عز وجل بمثل البداء؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.
وهذا المعنى المنكر يوجد في كتب اليهود، فقد جاء في التوراة التي حرفها اليهود وفق ما شاءت أهواؤهم نصوص صريحة تتضمن نسبة معنى البداء إلى الله سبحانه.
ويبدو أن ابن سبأ اليهودي قد حاول إشاعة هذه المقالة، التي ارتضعها من «توراته» في المجتمع الإسلامي الذي حاول التأثير فيه باسم التشيع وتحت مظلة الدعوة إلى ولاية علي، ذلك أن فرق السبيئة "كلهم يقولون بالبداء وأن الله تبدو له البداوات" [الملطي/ التنبيه والرد: ص19.].
ثم قال: روايات في كتب الاثني عشرية تنقض عقيدة البداء:
إن نقض الخصم كلامه بنفسه، من أبلغ النقض، لأنه يقضي على نفسه بسلاحه، وإن ظهور تناقضه من أوضح أمارات بطلان معتقده، وأنت تجد في كتب الاثني عشرية روايات عن الأئمة ترمي من قال بالبداء بالخزي، وتناقض ما سلف من روايات.
وهذه الروايات قد تكون روايات وثيقة الصلة بعلماء آل البيت لأنها تعبر عن المعنى الحق وهو ما يليق بأولئك الصفوة، وقد تكون من آثار الشيعة المعتدلة بقيت آثارها في كتب الاثني عشرية، ولا يبعد أن تكون هذه الروايات ستارًا وضعه أولئك الزنادقة على عقيدتهم في البداء.
وعلى أية حال فإن إثبات مثل هذه الروايات تبين مدى تناقض هذه الطائفة في رواياتها، وأن دينها قائم على الأخذ بالجانب الشاذ، والمخالف للجماعة من أخبارهم، لأن ما خالف الجماعة ففيه الرشاد كما هو قانون أولئك الزنادقة، الذي يخرج من أخذ به عن الدين رأسًا.
جاء في كتاب التّوحيد لابن بابويه: ".. عن منصور بن حازم قال: سألت أبا عبد الله – عليه السّلام – هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله تعالى بالأمس؟ قال: لا، من قال هذا فأخزاه الله، قلت: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله؟ قال: بلى، قبل أن يخلق الخلق" [التّوحيد: ص334، أصول الكافي: 1/148 رقم (10)، وانظر قريبًا من هذا المعنى رواية أخرى في الكافي: 1/148 (رقم9).].
ولا شك بأن عقيدة البداء بمقتضى معناها اللّغوي، وبموجب روايات الاثني عشريّة، وحسب تأويل بعض شيوخهم تقتضي أن يكون في علم الله اليوم ما لم يكن في الأمس.
وحسب الاثني عشرية عارًا وفضيحة أن تنسب إلى الحق جل شأنه هذه العقيدة، على حين تبرئ أئمتها منها، فإذا وقع الخلف في قول الإمام نسبت ذلك إلى الله لا إلى الإمام.
وإذا رجعت إلى معتقدهم في توحيد الألوهية والربوبية، والأسماء والصفات، وجدت أن الإمام قد حل محل الرب سبحانه في قلوبهم وعقولهم، بتأثير ذلك الركام المظلم من الأخبار.. فعقيدة البداء أثر لغلوهم في الإمام.
انتهى
التعليق:
قال الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء}...
تلك كانت مقتطفات من كلام الدكتور القفاري، وقد نقل كلاما مبتورا عن الشيخ الصدوق رضوان الله عليه وزعم ان فيه اضطراباً، وقد بنى الدكتور هذا الفصل كله على ما يتظاهر بفهمه -ولا أقول ما يفهمه، لأن كتب الشيعة بين يديه، وهو يبتر النصوص- فهو يريد أن يقول: أن البداء يستلزم سبق الجهل، والشيعة يعتقدون بهذا المعنى من البداء...
إذاً فالذي ينبغي أن يقال أن البداء ليس كما صوره الدكتور...
وقد افترى فرية جديدة حين قال:
ولا شك بأن عقيدة البداء بمقتضى معناها اللّغوي، وبموجب روايات الاثني عشريّة، وحسب تأويل بعض شيوخهم تقتضي أن يكون في علم الله اليوم ما لم يكن في الأمس..
ولكنه لم يذكر أي مصدر لهذه الفرية!!!
فمن هو هذا الشيخ الذي قال هذا الكلام؟؟؟
وقد وعد الدكتور بأن لا ينسب للشيعة شيئا إلا من مصادرها المعتمدة، ووعد بأن يذكر النص الحرفي فقال في المقدمة: واهتممت بالنقل "الحرفي" في الغالب رعاية للموضوعية، وضرورة الدقة في النقل والعزو، وهذا ما يفرضه المنهج العلمي في نقل كلام الخصوم.
فأين هو هذا النقل الحرفي؟؟؟
بل أين هو أسم الشيخ الذي قال هذا الكلام؟؟؟
{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ }
وفي الكافي بابا خاصا بالبداء يحتوي على 16 حديثا كما قال الدكتور، ولا توجد رواية واحدة في الكافي ولا في غيره من كتب الشيعة على الإطلاق تفسر البداء بالمعنى الذي ذكره الدكتور، بل على العكس، فمن الروايات الواردة:
قال الكليني عليه الرحمة والرضوان: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن الحسن بن محبوب، عن عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو له.
عنه، عن أحمد، عن الحسن بن علي بن فضال، عن داود بن فرقد، عن عمرو بن عثمان الجهني، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: إن الله لم يبد له من جهل.
علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن منصور بن حازم قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس ؟
قال: لا، من قال هذا فأخزاه الله.
قلت: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله؟
قال: بلى، قبل أن يخلق الخلق.
الكافي ج 1 ص 148 باب البداء
وهذه كلمات بعض علمائنا في البداء:
1 - قال العلامة الشيخ جعفر السبحاني دام ظله:
المسألة الخامسة: البداء عند الشيعة الإمامية: إن من العقائد الثابتة عند الشيعة الإمامية، هو القول بالبداء، ومن الكلمات الدارجة بين علمائهم أن النسخ والبداء صنوان، غير أن الأول في التشريع، والثاني في التكوين، وقد اشتهرت بالقول به كاشتهارها بالقول بالتقية وجواز متعة النساء.
وصار القول بهذه الأمور الثلاثة من خصائصهم وقد أنكرت عليهم السنة أشد الإنكار خصوصا في مسألة البداء، ولكنهم لو كانوا واقفين على مراد الشيعة من تجويز البداء على الله لتوقفوا عن الاستنكار، ولأعلنوا الوفاق.
وأقول عن جد: لو أتيحت الفرصة لعلماء الفريقين للبحث عن النقاط الخلافية بعيدا عن التعصب والتشنج لتجلى الحق بأجلى مظاهره، ولأقروا بصحة مقالة الشيعة، غير أن تلك أمنية لا تتحقق إلا في فترات خاصة.
وقد سألني أحد علماء أهل السنة عن حقيقة البداء، فأجبته بإجمال ما أفصله في هذا المقام، فتعجب عن إتقان معناه، غير أنه زعم أن ما ذكرته نظرية شخصية لا صلة بها بنظرية الإمامية في البداء، فطلب مني كتابا لقدماء علماء الشيعة، فدفعت إليه أوائل المقالات، وشرح عقائد الصدوق لشيخ الأمة محمد بن النعمان المفيد (336 - 413 هـ) فقرأهما بدقة.
وجاء بالكتاب بعد أيام وقال: لو كان معنى البداء هو الذي يذكره صاحب الكتاب فهو من صميم عقيدة أهل السنة ولا يخالفون الشيعة في هذا المبدأ أبدا.
أضواء على عقائد الشيعة الإمامية ص 427
2 - وقال السيد شرف الدين قدس سره: المبحث الأول: في البداء: وقد زعم النواصب أنا نقول: بأن الله عز وجل قد يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الأمر بخلاف ما اعتقد، وهذا إفك منهم وبهتان، وظلم لآل محمد وعدوان، وحاشا أهل البيت وأولياءهم أن يقولوا بهذا الضلال المبين المستحيل على الله عز وجل، فإن علم الله تعالى عين ذاته عندهم، فكيف يمكن دخول التغيير والتبديل فيه لو كان النواصب ينصفون؟
أجوبة مسائل جار الله ص 99
3 - وكتب السيد الإمام أبو القاسم الخوئي رضي الله عنه عن البداء بشيء من التفصيل فقال:
بمناسبة الحديث عن النسخ في الأحكام وهو في أفق التشريع، وبمناسبة أن النسخ كالبداء وهو في أفق التكوين، وبمناسبة خفاء معنى البداء على كثير من علماء المسلمين، وأنهم نسبوا إلى الشيعة ما هم براء منه، وأنهم لم يحسنوا في الفهم ولم يحسنوا في النقد، وليتهم إذ لم يعرفوا تثبتوا أو توففوا كما تفرضه الأمانة في النقل، وكما تقتضيه الحيطة في الحكم، والورع في الدين بمناسبة كل ذلك وجب أن نذكر شيئاً في توضيح معنى البداء، وإن لم تكن له صلة -غير هذا- بمدخل التفسير.
تمهيد:
لا ريب في أن العالم بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته، وأن وجود أي شيء من الممكنات منوط بمشيئة الله تعالى، فإن شاء أوجده، وإن لم يشأ لم يوجده.
ولا ريب أيضا في أن علم الله سبحانه قد تعلق بالأشياء كلها منذ الأزل، وأن الأشياء بأجمعها كان لها تعين علمي في علم الله الأزلي وهذا التعين يعبر عنه ب "تقدير الله" تارة وب "قضائه" تارة أخرى، ولكن تقدير الله وعلمه سبحانه بالأشياء منذ الأزل لا يزاحم ولا ينافي قدرته تعالى عليها حين إيجادها، فإن الممكن لا يزال منوطا بتعلق مشيئة الله بوجوده التي قد يعبر عنها بالإختيار، وقد يعبر عنها بالإرادة، فإن تعلقت المشيئة به وجد وإلا لم يوجد.
والعلم الإلهي يتعلق بالأشياء على واقعها من الإناطة بالمشيئة الإلهية، لأن إنكشاف الشيء لا يزيد على واقع ذلك الشيء، فإذا كان الواقع منوطا بمشيئة الله تعالى كان العلم متعلقا به على هذه الحالة، وإلا لم يكن العلم علما به على وجهه، وانكشافا له على واقعه.
فمعنى تقدير الله تعالى للأشياء وقضائه بها: أن الأشياء جميعها كانت متعينة في العلم الإلهي منذ الأزل على ما هي عليه من أن وجودها معلق على أن تتعلق المشيئة بها، حسب اقتضاء المصالح والمفاسد التي تختلف باختلاف الظروف والتي يحيط بها العلم الإلهي.
موقف اليهود من قدرة الله:
وذهبت اليهود إلى أن قلم التقدير والقضاء حينما جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة بخلافه. ومن أجل ذلك قالوا: يد الله مغلولة عن القبض والبسط والأخذ والإعطاء، فقد جرى فيها قلم التقدير ولا يمكن فيها التغيير، ومن الغريب أنهم -قاتلهم الله- التزموا بسلب القدرة عن الله، ولم يلتزموا بسلب القدرة عن العبد، مع أن الملاك في كليهما واحد، فقد تعلق العلم الأزلي بأفعال الله تعالى، وبأفعال العبيد على حد سواء.
موقع البداء عند الشيعة:
ثم إن البداء الذي تقول به الشيعة الإمامية إنما يقع في القضاء غير المحتوم، أما المحتوم منه فلا يتخلف، ولا بد من أن تتعلق المشيئة بما تعلق به القضاء، وتوضيح ذلك أن القضاء على ثلاثة أقسام:
أقسام القضاء الإلهي:
الأول: قضاء الله الذي لم يطلع عليه أحدا من خلقه، والعلم المخزون الذي استأثر به لنفسه، ولا ريب في أن البداء لا يقع في هذا القسم، بل ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام أن البداء إنما ينشأ من هذا العلم.
روى الشيخ الصدوق في "العيون" بإسناده عن الحسن بن محمد النوفلي أن الرضا عليه السلام قال لسليمان المروزي: "رويت عن أبي عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال: إن لله عز وجل علمين علما مخزونا مكنونا لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء، وعلما علمه ملائكته ورسله، فالعلماء من أهل بيت نبيك يعلمونه...".
وروى الشيخ محمد بن الحسن الصفار في "بصائر الدرجات" بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام قال: "إن لله علمين: علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو، من ذلك يكون البداء وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه، ونحن نعلمه".
الثاني: قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بأنه سيقع حتما، ولا ريب في أن هذا القسم أيضا لا يقع فيه البداء، وإن افترق عن القسم الاول، بأن البداء لا ينشأ منه. قال الرضا عليه السلام لسليمان المروزي -في الرواية المتقدمة- عن الصدوق: "إن عليا عليه السلام كان يقول: العلم علمان، فعلم علمه الله ملائكته ورسله، فما علمه ملائكته ورسله فإنه يكون، ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه يقدم منه ما يشاء، ويؤخر ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ".
وروى العياشي عن الفضيل، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: "من الأمور أمور محتومة جائية لا محالة، ومن الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم منها ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، لم يطلع على ذلك أحدا -يعني الموقوفة- فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا بكذب نفسه، ولا نبيه، ولا ملائكته".
الثالث: قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بوقوعه في الخارج إلا أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئة الله بخلافه. وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}. {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ}.
وقد دلت على ذلك روايات كثيرة منها هذه:
1 - ما في " تفسير علي بن إبراهيم " عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة إلى سماء الدنيا، فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة، فإذا أراد الله أن يقدم شيئا أو يؤخره، أو ينقص شيئا أمر الملك أن يمحو ما يشاء، ثم أثبت الذي أراده.
قلت: وكل شئ هو عند الله مثبت في كتاب ؟ قال: نعم. قلت: فأي شيء يكون بعده ؟
قال: سبحان الله، ثم يحدث الله أيضا ما يشاء تبارك وتعالى".
2 - ما في تفسيره أيضا عن عبدالله بن مسكان عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن - ع - في تفسير قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أي يقدر الله كل أمر من الحق ومن الباطل، وما يكون في تلك السنة، وله فيه البداء والمشيئة. يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض، ويزيد فيها ما يشاء وينقص ما يشاء..".
3 - ما في كتاب "الاحتجاج" عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "لولا آية في كتاب الله، لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة، وهي هذه الآية: {يَمْحُو اللّهُ}...".
وروى الصدوق في الأمالي والتوحيد بإسناده عن الاصبغ عن أمير المؤمنين عليه مثله.
4 - ما في "تفسير العياشي" عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: "كان علي بن الحسين عليه السلام يقول: لولا آية في كتاب الله لحدثتكم بما يكون إلى يوم القيامة.
فقلت: أية آية ؟ قال: قول الله: {يَمْحُو اللّهُ}...".
5 - ما في " قرب الإسناد " عن البزنطي عن الرضا عليه السلام قال: قال أبو عبد الله، وأبو جعفر، وعلي بن الحسين، والحسين بن علي، والحسن بن علي وعلي بن أبي طالب عليهم السلام: " لولا آية في كتاب الله لحدثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة: {يَمْحُو اللّهُ}...".
إلى غير ذلك من الروايات الدالة على وقوع البداء في القضاء الموقوف.
وخلاصة القول:
أن القضاء الحتمي المعبر عنه باللوح المحفوظ، وبأم الكتاب، والعلم المخزون عند الله يستحيل أن يقع فيه البداء. وكيف يتصور فيه البداء ؟ وأن الله سبحانه عالم بجميع الاشياء منذ الأزل، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
روى الصدوق في " إكمال الدين " بإسناده عن أبي بصير وسماعة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "من زعم أن الله عز وجل يبدو له في شئ لم يعلمه أمس فابرأوا منه ".
وروى العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام يقول: "إن الله يقدم ما يشاء، ويؤخر ما يشاء، ويمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب، وقال: فكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شئ يبدو له إلا وقد كان في علمه، إن الله لا يبدو له من جهل".
وروى أيضا عن عمار بن موسى عن أبي عبد الله عليه السلام: "سئل عن قول الله: {يَمْحُو اللّهُ}... قال: إن ذلك الكتاب كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت، فمن ذلك الذي يرد الدعاء القضاء، وذلك الدعاء مكتوب عليه الذي يرد به القضاء، حتى إذا صار إلى أم الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئا".
وروى الشيخ الطوسي في كتاب "الغيبة" بإسناده عن البزنطي، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال علي بن الحسين، وعلي بن أبي طالب قبله، ومحمد بن علي وجعفر بن محمد: "كيف لنا بالحديث مع هذه الآية {يَمْحُو اللّهُ}... فأما من قال بأن الله تعالى لا يعلم الشيء إلا بعد كونه فقد كفر وخرج عن التوحيد".
والروايات المأثورة عن أهل البيت - ع - أن الله لم يزل عالما قبل أن يخلق الخلق، فهي فوق حد الإحصاء، وقد اتفقت على ذلك كلمة الشيعة الإمامية طبقا لكتاب الله وسنة رسوله، جريا على ما يقتضيه حكم العقل الفطري الصحيح.
ثمرة الاعتقاد بالبداء:
والبداء: إنما يكون في القضاء الموقوف المعبر عنه بلوح المحو والإثبات، والإلتزام بجواز البداء فيه لا يستلزم نسبة الجهل إلى الله سبحانه وليس في هذا الإلتزام ما ينافي عظمته وجلاله.
فالقول بالبداء:
هو الإعتراف الصريح بأن العالم تحت سلطان الله وقدرته في حدوثه وبقائه، وأن إرادة الله نافذة في الأشياء أزلا وأبدا، بل وفي القول بالبداء يتضح الفارق بين العلم الإلهي وبين علم المخلوقين، فعلم المخلوقين -وإن كانوا أنبياء أو أوصياء- لا يحيط بما أحاط به علمه تعالى، فإن بعضا منهم وإن كان عالما -بتعليم الله إياه- بجميع عوالم الممكنات لا يحيط بما أحاط به علم الله المخزون الذي استأثر به لنفسه، فإنه لا يعلم بمشيئة الله تعالى -لوجود شيء- أو عدم مشيئته إلا حيث يخبره الله تعالى به على نحو الحتم.
والقول بالبداء:
يوجب إنقطاع العبد إلى الله وطلبه إجابة دعائه منه وكفاية مهماته، وتوفيقه للطاعة، وإبعاده عن المعصية، فإن إنكار البداء والإلتزام بأن ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة -دون استثناء- يلزمه يأس المعتقد بهذه العقيدة عن إجابة دعائه، فإن ما يطلبه العبد من ربه إن كان قد جرى قلم التقدير بإنفاذه فهو كائن لا محالة، ولا حاجة إلى الدعاء والتوسل، وإن كان قد جرى القلم بخلافه لم يقع أبدا، ولم ينفعه الدعاء ولا التضرع، وإذا يئس العبد من إجابة دعائه ترك التضرع لخالقه، حيث لا فائدة في ذلك، وكذلك الحال في سائر العبادات والصدقات التي ورد عن المعصومين -ع- أنها تزيد في العمر أو في الرزق أو غير ذلك مما يطلبه العبد.
وهذا هو سر ما ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام من الاهتمام بشأن البداء. فقد روى الصدوق في كتاب "التوحيد" بإسناده عن زرارة عن أحدهما عليه السلام قال: "ما عبد الله عز وجل بشيء مثل البداء".
وروى بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ما عظم الله عز وجل بمثل البداء".
وروى بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ما بعث الله عز وجل نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار بالعبودية وخلع الأنداد، وأن الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء".
والسر في هذا الاهتمام:
أن إنكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأن الله غير قادر على أن يغير ما جرى عليه قلم التقدير. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فإن كلا القولين يؤيس العبد من إجابة دعائه، وذلك يوجب عدم توجهه في طلباته إلى ربه.
حقيقة البداء عند الشيعة:
وعلى الجملة: فإن البداء بالمعنى الذي تقول به الشيعة الإمامية هو من الإبداء "الإظهار" حقيقة، وإطلاق لفظ البداء عليه مبني على التنزيل والإطلاق بعلاقة المشاكلة.
وقد أطلق بهذا المعنى في بعض الروايات من طرق أهل السنة. روى البخاري بإسناده عن أبي عمرة، أن أبا هريرة حدثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأعمى وأقرع، بدا لله عز وجل أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص..."
وقد وقع نظير ذلك في كثير من الاستعمالات القرآنية، كقوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}.
وقوله تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}.
وقوله تعالى: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.
وما أكثر الروايات من طرق أهل السنة في أن الصدقة والدعاء يغيران القضاء.
أما ما وقع في كلمات المعصومين عليهم السلام من الإنباء بالحوادث المستقبلة فتحقيق الحال فيها: أن المعصوم متى ما أخبر بوقوع أمر مستقبل على سبيل الحتم والجزم ودون تعليق، فذلك يدل أن ما أخبر به مما جرى به القضاء المحتوم وهذا هو القسم الثاني "الحتمي" من أقسام القضاء المتقدمة.
وقد علمت أن مثله ليس موضعا للبداء، فإن الله لا يكذب نفسه ولا نبيه. ومتى ما أخبر المعصوم بشيء معلقا على أن لا تتعلق المشيئة الإلهية بخلافه، ونصب قرينة متصلة أو منفصلة على ذلك فهذا الخبر إنما يدل على جريان القضاء الموقوف الذي هو موضع البداء.
والخبر الذي أخبر به المعصوم صادق وإن جرى فيه البداء، وتعلقت المشيئة الإلهية بخلافه. فإن الخبر -كما عرفت- منوط بأن لا تخالفه المشيئة.
وروى العياشي عن عمرو بن الحمق قال: "دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام حين ضرب على قرنه، فقال لي: يا عمرو إني مفارقكم، ثم قال: سنة السبعين فيها بلاء...
فقلت: بأبي أنت وأمي قلت: إلى السبعين بلاء، فهل بعد السبعين رخاء ؟
قال: نعم يا عمرو إن بعد البلاء رخاء".. وذكر آية: {يَمْحُو اللّهُ}...
البيان في تفسير القرآن ص 385