بسم الله الرحمن الرحيم
أولا : بما أن الأخ العزيز الخزاعي ... طلب عدم مشاركة أحد بمداخلة في موضوعه وأنه من حقه أن يطلب من المراقبين حذف أي مداخلة ... لذلك قررت أن أفرد ردوي هذه في موضوع مستقل بها .
ثانيا : لقد تحدثت هناك في الموضوع الذي أثاره الأخ العزيز الخزاعي أولا حول الدليل الذي جعل السيد فضل الله يتبنى الرأي القائل : بأن يوسف همّ بإمرأة العزيز لا شعوريا ومال إليها طبيعيا ، وقلنا أنه لا يوجد دليل مركون إليه يدل على أن هذا التفسير هو الصحيح لا من روايات أهل البيت عليهم السلام ولا اللغة باعتبار أن استخدام الهم بمعنى الشهوة والميل الطبعي استخدام مجازي ، فيحتاج الأمر إلى قرينة ودليل يدلان على أن القرآن استخدم هذه اللفظة في معناها الغير حقيقي ، وهذا الدليل مفقود ، وكذلك ظاهر الألفاظ والسياق لا يشجعان على هذا التفسير بل إلى غيره من الآراء الأخرى المناسبة أقرب . أما القول بأننا إذا استخدمنا لفظة الهم في معناها الحقيقي فإنه يلزم من ذلك أن نقول بأن يوسف عزم على المعصية لذلك علينا أن نأخذ بالمعنى المجازي فهو مغالطة ، لأن الآيات الكريمة لم تبين لنا متعلق الهم ، فلا بد من وجود دليل آخر يبين لنا هذا المتعلق ، وباحتمال وجود أكثر من متعلق لهذا الهم فالركون إلى واحد منها والجزم به أو الاستقرار عليه يحتاج إلى مرجح ، ولا مرجح يجعلنا نجزم بأن المراد به – أي الهم - الشهوة والميل الطبعي ، نعم بالنسبة لهم زوجة العزيز بينته الآيات الكريمة وهو أن همها المعصية أما متعلق هم يوسف عليه السلام فلا وهذا يكفي في دفع هذه المغالطة . ثم انتقلت إلى نقطة أخرى وهي هل يوجد من المفسرين الشيعة من تبنى هذا الرأي الذي تبناه السيد فضل واستقر عليه وجزم به كما جزم السيد فضل الله أم لا ، وقد نقلت هناك ما أورده الشيخ الطبرسي عليه الرحمة من آراء في تفسير الآية الكريمة وبينت أنه لا يوجد في كلامه دليل يدل على أنه تبنى هذا التفسير واستقر عليه والآن ننتقل إلى ما أورده العلامة الطبرسي في تفسيره ( مجمع البيان ) لنرى هل تبنى هذا التفسير واستقر عليه وجزم به أم لا في تفسيره هذا ... وإن شاء الله تعالى بعد الانتهاء من هذه النقطة سأتحدث حول نقطة أخرى وهي الأساس في الموضوع وهي هل هذا التفسير الذي استقر عليه السيد فضل الله وتبناه يتنافى مع عصمة الأنبياء عليهم السلام أم لا ؟
ثالثا : أما ما ذكره الشيخ الطبرسي عليه الرّحمة في كتابه ( مجمع البيان ) حول تفسير الآية الكريمة : ( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) فنحن ننقل هنا نص ما ورد في كتاب ( مجمع البيان ) : قال العلامة :
(( ] المعنى [ ( ولقد همّت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) اختلف العلماء فيه على قولين :
( أحدهما ) أنه لم يوجد من يوسف ذنب كبير ولا صغير .
( وألاخر ) أنه وجد منه العزم على القبيح ثم انصرف عنه .
فأما الأولون فإنهم اختلفوا في تأويل الآية على وجوه :
( أحدها ) أن الهمّ في ظاهر الآية قد تعلق بما لا يصح تعلق العزم به على الحقيقة لأنه قال ولقد همّت به وهمّ بها فعلق الهم بهما وذاتهما لا يجوز أن يرادا ويعزم عليهما لأن الموجود الباقي لا يصح أن يراد ويعزم عليه فإذا حملنا الهم في الآية على العزم فلا بدّ من تقدير أمر محذوف يتعلق العزم به وقد أمكن أن نعلق عزمه عليه السلام بغير القبيح ونجعله متناولا لضربها أو دفعها عن نفسه فكأنه قال ولقد همت بالفاحشة منه وأرادت ذلك وهمّ يوسف عليه السلام بضربها ودفعها عن نفسه كما يقال هممت بفلان أي بضربه وإيقاع مكروه به ، وعلى هذا فيكون معنى رؤية البرهان أن الله سبحانه أراه برهاناً على أنه إن أقدم على ما همّ به أهلكه أهلها أو قتلوه أو ادعت عليه المراودة على القبيح وقذفته بأنه دعاها إليه وضربها لامتناعها منه ، فأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل وظن اقتراف الفاحشة به ، ويكون التقدير لولا أن رأى برهان ربه لفعل ذلك ويكون جواب لولا محذوف كما حذف في قوله تعالى : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله رؤوف رحيم ) وقوله : ( كلا لو تعلمون علم اليقين ) أي لولا فضل الله لهلكتم ولو تعلمون علم اليقين لم يهلكم التكاثر ومثله قول امرىء القيس :
ولو أنها نفس تموت سويّة ولكنّها نفس تساقط أنفسا
يريد فلو أنها نفس تموت سوية لنقضت وفنيت فحذف الجواب تعويلا على أن الكلام يقتضيه وعلى هذا يكون جواب لولا محذوف يدل عليه قوله وهمّ بها ولا يجوز أن يكون قوله ( وهمّ بها ) جوابا للولا لأن جواب لولا لا يتقدم عليه .
( وثانيها ) أن يحمل الكلام على التقديم والتأخير ويكون التقدير ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ولما رأى برهان ربه لم يهمّ بها ويجري ذلك مجرى قولهم قد كنت هلكت لولا أني تداركتك وقد كنت قلت لولا أني خلصتك والمعنى لولا تداركي لهلكت ولولا تخليصي إياك لقتلت ، وإن كان لم يقع هلاك وقتل ومثله قول الشاعر :
فلا يدعني قومي ليوم كريهة لئن لم أعجل ضربة أو أعجل .
وقال آخر :
فلا يدعني قومي صريحا لحرة لئن كنت مقتولا ويسلم عامر .
وفي القرآن ان كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها ، وهذا الوجه اختاره أبو مسلم وهو قريب من الأول .
وثالثها : أن معنى قوله همّ بها اشتهاها ومال طبعه إلى ما دعته إليه وقد يجوز أن تسمى الشهوة على سبيل التوسع والمجاز ولا قبح في الشهوة لأنها من فعل الله تعالى وإنما يتعلق القبح بالمشتهي ، وقد روي هذا التأويل عن الحسن قال : أما همّها فكان أخبث الهمّ وأما همّه فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء .
وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال همّها القصد وهمّه أنه تمناها أن تكون زوجة له وعلى هذا الوجه فيجب أن يكون قوله لولا أن رأى برهان ربه متعلقاً بمحذوف أيضاً كأنه قال لولا أن رأى برهان ربه لعزم أو فعل .
( سؤال ) قالوا أن قوله ولقد همت به وهمّ بها خرجا مخرجا واحداً فلم جعلتم همّها به متعلقاً بالقبيح وهمّه متعلقاً بغير القبيح ، وجوابه أن الظاهر لا يدل على ما تعلق به الهم ففيهما جميعا وإنما أثبتنا همّها به متعلقاً بالقبيح لشهادة القرآن والآثار به ولأنها ممن يجوز عليه فعل القبيح والشاهد لذلك من الكتاب قوله وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وقوله وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حباً إنا لنراها في ضلال مبين ، وقوله حكاية عنها الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ، والشاهد من الآثار اجماع المفسرين على أنّها همّت بالمعصية والفاحشة وأما يوسف عليه السلام فقد دلّت الأدلة النقلية التي لا يتطرق إليها الاحتمال والمجاز على أنه لا يجوز أن يفعل القبيح ولا يعزم عليه فأما الشاهد من القرآن على أنه ما همّ بالفاحشة فقوله سبحانه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء وقوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وغير ذلك من قوله : قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء والعزم على الفاحشة من أكبر السوء .
وأما الفرقة الأخرى فإنهم قالوا فيه ما لا يجوز نسبته إلى الأنبياء فقال بعضهم أنه قعد بين رجليها وحلّ تكة سراويله وقال بعضهم حل السراويل حق بلغ الثنن وجلس منها مجلس الرجل من امرأته وقد نزّهه الله سبحانه عن ذلك كله بقوله كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء وأمثال ذلك مما عددناه .
فأما البرهان الذي رآه فقد اختلف فيه على وجوه :
( أحدها ) أنه حجة الله سبحانه في تحريم الزنا والعلم بالعذاب الذي يستحقه الزاني عن محمد بن كعب والجبائي .
(وثانيها ) أنه ما أتاه الله سبحانه من آداب الأنبياء وأخلاق الأصفياء في العفاف وصيانة النفس عن الأدناس عن أبي مسلم .
( وثالثها ) أنه النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش والحكمة الصارفة عن القبائح روي ذلك عن الصادق عليه السلام .
( ورابعها ) أنه كان في البيت صنم فألقت المرأة عليه ثوباً ، فقال عليه السلام ان كنت تستحين من الصنم فأنا أحق أن أستحي من الواحد القهار عن علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام .
( وخامسها ) أنه اللطف الذي لطف الله تعالى به في تلك الحال أو قبلها فاختار عنده الامتناع عن المعاصي وهو ما يقتضي كونه معصوما لأن العصمة هي اللطف الذي يختار عنده التنزه عن القبائح والامتناع من فعلها ويجوز أن يكون الرؤية ههنا بمعنى العلم كما يجوز أن يكون بمعنى الادراك فأما ما ذكر في البرهان من الأشياء البعيدة بأن قيل أنه سمع قائلا يقول يا ابن يعقوب لا تكونن كالطير له ريش فإذا زنا ذهب ريشه وقيل أنه رأى صورة يعقوب عاضا على أنامله وقيل أنه رأى كفاً بدت فيما بينهما مكتوبا عليها النهي عن ذلك فلم ينته فأرسل الله سبحانه جبريل عليه السلام وقال أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة فرآه عاضاً على اصبعه فكل هذا سواء ثناء على الأنبياء مع أن ذلك ينافي التكليف ويقتضي أن لا يستحق على الامتناع من القبيح مدحا ولا ثوابا وهذا من أقبح القول فيه عليه السلام . ( انتهى ما أورده العلامة المجلسي من آراء في تفسير الآية الكريمة ، ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه ) .
اقول :
أولاً : إن الرأي الذي يوافق رأي السيد فضل الله هو من ضمن ما نقله من أقوال بالنسبة للجماعة الأولى من العلماء وبالتحديد هو الذي نقله تحت ( وثالثهما ) ، وقد نسب هذا التفسير إلى الحسن البصري وهو سني المذهب .
ثانيا : لا نجد في كلام العلامة الطبرسي هذا ما يدل على أنه تبى هذا الرأي أو واحدا من الآراء التي نقلها بل نقلها دون أن يتبني رأيا واحدا منها أو يستقر عليه ويرجحه على غيره .
رابعا : أنقل رأي آية الله العظمى الميرزا جواد التبريزي دام ظله حول جواب وجه له :
السؤال : ( ما رأيكم الشريف بمن يقول في آية سورة يوسف (( فهمت به وهم بها(1) )) أن مشاعر يوسف قد تحركت باتجاه امرأة العزيز من واقع الضعف الانساني .. فأدركه برهان ربه فاستخلصه من ارتكاب المحرم ؟ )
الجواب : ( بسمه تعالى : إنّ عصمة الأنبياء والأئمة عليهم السلام تعني أنهم بلغوا من العلم واليقين حداً لا تنقدح في نفوسهم الدواعي فضلاً عن فعلها ، وهذا لا ينافي قدرة الانسان على المعصية كما أن الإنسان العادي معصوم عن بعض الأفعال القبيحة ككشف العورة أمام الناس في الشارع مع قدرته على ذلك لكنه لشدة قبحها في نظره لا ينقدح في نفسه الداعي لفعلها فضلاً عن القيام بها . وأما ألاية المذكورة (( و لقد همت وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) فهي على عكس المطلوب أدل ، لأن لفظ ( لولا ) دال على امتناع همّه بالمعصية لرؤية برهان ربه ، وهذه هي عقيدة الشيعة المستفادة من الآيات والأخبار المعتبرة ، وكل ( ما ) يخالف ما ذكرنا فهو يخالف للمسلمات في المذهب _ والله العالم ) .
________________________
(1) هكذا وردت الآية في السؤال وهو اشتابه ، والصحيح ( ولقد همت به وهم بها )
التلميذ
العلامة المشهدي ( كنز الدقائق )
أولا : بما أن الأخ العزيز الخزاعي ... طلب عدم مشاركة أحد بمداخلة في موضوعه وأنه من حقه أن يطلب من المراقبين حذف أي مداخلة ... لذلك قررت أن أفرد ردوي هذه في موضوع مستقل بها .
ثانيا : لقد تحدثت هناك في الموضوع الذي أثاره الأخ العزيز الخزاعي أولا حول الدليل الذي جعل السيد فضل الله يتبنى الرأي القائل : بأن يوسف همّ بإمرأة العزيز لا شعوريا ومال إليها طبيعيا ، وقلنا أنه لا يوجد دليل مركون إليه يدل على أن هذا التفسير هو الصحيح لا من روايات أهل البيت عليهم السلام ولا اللغة باعتبار أن استخدام الهم بمعنى الشهوة والميل الطبعي استخدام مجازي ، فيحتاج الأمر إلى قرينة ودليل يدلان على أن القرآن استخدم هذه اللفظة في معناها الغير حقيقي ، وهذا الدليل مفقود ، وكذلك ظاهر الألفاظ والسياق لا يشجعان على هذا التفسير بل إلى غيره من الآراء الأخرى المناسبة أقرب . أما القول بأننا إذا استخدمنا لفظة الهم في معناها الحقيقي فإنه يلزم من ذلك أن نقول بأن يوسف عزم على المعصية لذلك علينا أن نأخذ بالمعنى المجازي فهو مغالطة ، لأن الآيات الكريمة لم تبين لنا متعلق الهم ، فلا بد من وجود دليل آخر يبين لنا هذا المتعلق ، وباحتمال وجود أكثر من متعلق لهذا الهم فالركون إلى واحد منها والجزم به أو الاستقرار عليه يحتاج إلى مرجح ، ولا مرجح يجعلنا نجزم بأن المراد به – أي الهم - الشهوة والميل الطبعي ، نعم بالنسبة لهم زوجة العزيز بينته الآيات الكريمة وهو أن همها المعصية أما متعلق هم يوسف عليه السلام فلا وهذا يكفي في دفع هذه المغالطة . ثم انتقلت إلى نقطة أخرى وهي هل يوجد من المفسرين الشيعة من تبنى هذا الرأي الذي تبناه السيد فضل واستقر عليه وجزم به كما جزم السيد فضل الله أم لا ، وقد نقلت هناك ما أورده الشيخ الطبرسي عليه الرحمة من آراء في تفسير الآية الكريمة وبينت أنه لا يوجد في كلامه دليل يدل على أنه تبنى هذا التفسير واستقر عليه والآن ننتقل إلى ما أورده العلامة الطبرسي في تفسيره ( مجمع البيان ) لنرى هل تبنى هذا التفسير واستقر عليه وجزم به أم لا في تفسيره هذا ... وإن شاء الله تعالى بعد الانتهاء من هذه النقطة سأتحدث حول نقطة أخرى وهي الأساس في الموضوع وهي هل هذا التفسير الذي استقر عليه السيد فضل الله وتبناه يتنافى مع عصمة الأنبياء عليهم السلام أم لا ؟
ثالثا : أما ما ذكره الشيخ الطبرسي عليه الرّحمة في كتابه ( مجمع البيان ) حول تفسير الآية الكريمة : ( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) فنحن ننقل هنا نص ما ورد في كتاب ( مجمع البيان ) : قال العلامة :
(( ] المعنى [ ( ولقد همّت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) اختلف العلماء فيه على قولين :
( أحدهما ) أنه لم يوجد من يوسف ذنب كبير ولا صغير .
( وألاخر ) أنه وجد منه العزم على القبيح ثم انصرف عنه .
فأما الأولون فإنهم اختلفوا في تأويل الآية على وجوه :
( أحدها ) أن الهمّ في ظاهر الآية قد تعلق بما لا يصح تعلق العزم به على الحقيقة لأنه قال ولقد همّت به وهمّ بها فعلق الهم بهما وذاتهما لا يجوز أن يرادا ويعزم عليهما لأن الموجود الباقي لا يصح أن يراد ويعزم عليه فإذا حملنا الهم في الآية على العزم فلا بدّ من تقدير أمر محذوف يتعلق العزم به وقد أمكن أن نعلق عزمه عليه السلام بغير القبيح ونجعله متناولا لضربها أو دفعها عن نفسه فكأنه قال ولقد همت بالفاحشة منه وأرادت ذلك وهمّ يوسف عليه السلام بضربها ودفعها عن نفسه كما يقال هممت بفلان أي بضربه وإيقاع مكروه به ، وعلى هذا فيكون معنى رؤية البرهان أن الله سبحانه أراه برهاناً على أنه إن أقدم على ما همّ به أهلكه أهلها أو قتلوه أو ادعت عليه المراودة على القبيح وقذفته بأنه دعاها إليه وضربها لامتناعها منه ، فأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل وظن اقتراف الفاحشة به ، ويكون التقدير لولا أن رأى برهان ربه لفعل ذلك ويكون جواب لولا محذوف كما حذف في قوله تعالى : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله رؤوف رحيم ) وقوله : ( كلا لو تعلمون علم اليقين ) أي لولا فضل الله لهلكتم ولو تعلمون علم اليقين لم يهلكم التكاثر ومثله قول امرىء القيس :
ولو أنها نفس تموت سويّة ولكنّها نفس تساقط أنفسا
يريد فلو أنها نفس تموت سوية لنقضت وفنيت فحذف الجواب تعويلا على أن الكلام يقتضيه وعلى هذا يكون جواب لولا محذوف يدل عليه قوله وهمّ بها ولا يجوز أن يكون قوله ( وهمّ بها ) جوابا للولا لأن جواب لولا لا يتقدم عليه .
( وثانيها ) أن يحمل الكلام على التقديم والتأخير ويكون التقدير ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ولما رأى برهان ربه لم يهمّ بها ويجري ذلك مجرى قولهم قد كنت هلكت لولا أني تداركتك وقد كنت قلت لولا أني خلصتك والمعنى لولا تداركي لهلكت ولولا تخليصي إياك لقتلت ، وإن كان لم يقع هلاك وقتل ومثله قول الشاعر :
فلا يدعني قومي ليوم كريهة لئن لم أعجل ضربة أو أعجل .
وقال آخر :
فلا يدعني قومي صريحا لحرة لئن كنت مقتولا ويسلم عامر .
وفي القرآن ان كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها ، وهذا الوجه اختاره أبو مسلم وهو قريب من الأول .
وثالثها : أن معنى قوله همّ بها اشتهاها ومال طبعه إلى ما دعته إليه وقد يجوز أن تسمى الشهوة على سبيل التوسع والمجاز ولا قبح في الشهوة لأنها من فعل الله تعالى وإنما يتعلق القبح بالمشتهي ، وقد روي هذا التأويل عن الحسن قال : أما همّها فكان أخبث الهمّ وأما همّه فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء .
وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال همّها القصد وهمّه أنه تمناها أن تكون زوجة له وعلى هذا الوجه فيجب أن يكون قوله لولا أن رأى برهان ربه متعلقاً بمحذوف أيضاً كأنه قال لولا أن رأى برهان ربه لعزم أو فعل .
( سؤال ) قالوا أن قوله ولقد همت به وهمّ بها خرجا مخرجا واحداً فلم جعلتم همّها به متعلقاً بالقبيح وهمّه متعلقاً بغير القبيح ، وجوابه أن الظاهر لا يدل على ما تعلق به الهم ففيهما جميعا وإنما أثبتنا همّها به متعلقاً بالقبيح لشهادة القرآن والآثار به ولأنها ممن يجوز عليه فعل القبيح والشاهد لذلك من الكتاب قوله وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وقوله وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حباً إنا لنراها في ضلال مبين ، وقوله حكاية عنها الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ، والشاهد من الآثار اجماع المفسرين على أنّها همّت بالمعصية والفاحشة وأما يوسف عليه السلام فقد دلّت الأدلة النقلية التي لا يتطرق إليها الاحتمال والمجاز على أنه لا يجوز أن يفعل القبيح ولا يعزم عليه فأما الشاهد من القرآن على أنه ما همّ بالفاحشة فقوله سبحانه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء وقوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وغير ذلك من قوله : قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء والعزم على الفاحشة من أكبر السوء .
وأما الفرقة الأخرى فإنهم قالوا فيه ما لا يجوز نسبته إلى الأنبياء فقال بعضهم أنه قعد بين رجليها وحلّ تكة سراويله وقال بعضهم حل السراويل حق بلغ الثنن وجلس منها مجلس الرجل من امرأته وقد نزّهه الله سبحانه عن ذلك كله بقوله كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء وأمثال ذلك مما عددناه .
فأما البرهان الذي رآه فقد اختلف فيه على وجوه :
( أحدها ) أنه حجة الله سبحانه في تحريم الزنا والعلم بالعذاب الذي يستحقه الزاني عن محمد بن كعب والجبائي .
(وثانيها ) أنه ما أتاه الله سبحانه من آداب الأنبياء وأخلاق الأصفياء في العفاف وصيانة النفس عن الأدناس عن أبي مسلم .
( وثالثها ) أنه النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش والحكمة الصارفة عن القبائح روي ذلك عن الصادق عليه السلام .
( ورابعها ) أنه كان في البيت صنم فألقت المرأة عليه ثوباً ، فقال عليه السلام ان كنت تستحين من الصنم فأنا أحق أن أستحي من الواحد القهار عن علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام .
( وخامسها ) أنه اللطف الذي لطف الله تعالى به في تلك الحال أو قبلها فاختار عنده الامتناع عن المعاصي وهو ما يقتضي كونه معصوما لأن العصمة هي اللطف الذي يختار عنده التنزه عن القبائح والامتناع من فعلها ويجوز أن يكون الرؤية ههنا بمعنى العلم كما يجوز أن يكون بمعنى الادراك فأما ما ذكر في البرهان من الأشياء البعيدة بأن قيل أنه سمع قائلا يقول يا ابن يعقوب لا تكونن كالطير له ريش فإذا زنا ذهب ريشه وقيل أنه رأى صورة يعقوب عاضا على أنامله وقيل أنه رأى كفاً بدت فيما بينهما مكتوبا عليها النهي عن ذلك فلم ينته فأرسل الله سبحانه جبريل عليه السلام وقال أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة فرآه عاضاً على اصبعه فكل هذا سواء ثناء على الأنبياء مع أن ذلك ينافي التكليف ويقتضي أن لا يستحق على الامتناع من القبيح مدحا ولا ثوابا وهذا من أقبح القول فيه عليه السلام . ( انتهى ما أورده العلامة المجلسي من آراء في تفسير الآية الكريمة ، ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه ) .
اقول :
أولاً : إن الرأي الذي يوافق رأي السيد فضل الله هو من ضمن ما نقله من أقوال بالنسبة للجماعة الأولى من العلماء وبالتحديد هو الذي نقله تحت ( وثالثهما ) ، وقد نسب هذا التفسير إلى الحسن البصري وهو سني المذهب .
ثانيا : لا نجد في كلام العلامة الطبرسي هذا ما يدل على أنه تبى هذا الرأي أو واحدا من الآراء التي نقلها بل نقلها دون أن يتبني رأيا واحدا منها أو يستقر عليه ويرجحه على غيره .
رابعا : أنقل رأي آية الله العظمى الميرزا جواد التبريزي دام ظله حول جواب وجه له :
السؤال : ( ما رأيكم الشريف بمن يقول في آية سورة يوسف (( فهمت به وهم بها(1) )) أن مشاعر يوسف قد تحركت باتجاه امرأة العزيز من واقع الضعف الانساني .. فأدركه برهان ربه فاستخلصه من ارتكاب المحرم ؟ )
الجواب : ( بسمه تعالى : إنّ عصمة الأنبياء والأئمة عليهم السلام تعني أنهم بلغوا من العلم واليقين حداً لا تنقدح في نفوسهم الدواعي فضلاً عن فعلها ، وهذا لا ينافي قدرة الانسان على المعصية كما أن الإنسان العادي معصوم عن بعض الأفعال القبيحة ككشف العورة أمام الناس في الشارع مع قدرته على ذلك لكنه لشدة قبحها في نظره لا ينقدح في نفسه الداعي لفعلها فضلاً عن القيام بها . وأما ألاية المذكورة (( و لقد همت وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) فهي على عكس المطلوب أدل ، لأن لفظ ( لولا ) دال على امتناع همّه بالمعصية لرؤية برهان ربه ، وهذه هي عقيدة الشيعة المستفادة من الآيات والأخبار المعتبرة ، وكل ( ما ) يخالف ما ذكرنا فهو يخالف للمسلمات في المذهب _ والله العالم ) .
________________________
(1) هكذا وردت الآية في السؤال وهو اشتابه ، والصحيح ( ولقد همت به وهم بها )
التلميذ
العلامة المشهدي ( كنز الدقائق )