مراتب ومقامات النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم


بمناسبة مولد مبدء الأنوار الأزليّة وعلّة الوجود وسيّد الخلق، النبيّ العربي الأميّ محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وحشرنا الله تعالى تحت لوائه بيد إبنه الإمام المفدّى وليّ نعمتنا وأمرنا، الحجّة القائم المهدي عجّل الله تعالى فرجه الشّريف.
هذا البحث يحتوي على مقامات ومراتب للنبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله والّذي ربّما بعض العقول لا تستوعبها؛ فالبحث ليس للقراءة السطحيّة وتحكيم الأذواق الشخصيّة، بل هو لأصحاب البصائر، المتعطّشين للتعرّف وللتعمّق في مقامات النبيّ الأعظم وآله الأطهار صلوات الله تعالى عليهم ولعنة الله على أعدائهم ومخالفيهم ومنكري فضائلهم.


- قال تعالى:
"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا"(1).


- وقال أبي عبد الله عليه السلام: قال الله تبارك وتعالى:
"يا محمّد إنّي خلقتك وعليا نورا يعني روحا بلا بدن قبل أن أخلق سماواتي وأرضي وعرشي وبحري فلم تزل تهللني وتمجّدني ثم جمعت روحيكما فجعلتهما واحدة فكانت تمجّدني وتقدّسني وتهلّلني ثم قسّمتها ثنتين، وقسّمت الثنتين ثنتين، فصارت أربعة: محمد واحد، وعلي واحد، والحسن والحسين ثنتان، ثمّ خلق الله فاطمة من نور ابتدأها، روحا بلا بدن، ثم مسحنا بيمينه فأفضى نوره فينا"(2).


- وقال أمير المؤمنين عليه السلام:
"ما برأ الله نسمة خيراً من محمّد صلّى الله عليه وآله"(3).




قال الميرزا محمّد تقي التّبريزي الممقاني (4) :
"إعلم أن الله سبحانه خلق وجود نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) قبل جميع المخلوقات ذاتً ورتبة، وأقامه في مقام القرب حيث لا سماء مبنيّة ولا أرض مدحيّة ولا حسّ ولا محسوس، ثمّ اشتقّ من نوره نور وصيّه الّذي هو بمنزلة نفسه كالضوء من الضوء ومن نوره أنوار سائر المعصومين الأربعة عشر كذلك كما هو مدلول أخبار متواترة بمعنى بل ولفظاً ثمّ أنّه تعالى خلق من شعاع نورهم سائر الخلق على ترتيب الأشرف فالأشرف كأنوار الأنبياء (عليهم السّلام) فإنّها أشرف من سائر الخلق، فكان قبولهم للوجود أسبق من حيث الذّات والرّتبة، ثمّ أنّ الله تعالى أنزل نور نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) ثمّ أنّ الله تعالى أنزل نور نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) إلى رتبة الأنبياء بأن أعطاه لباسا من سنخ رتبتهم فصار أحد الأنبياء وأخاً لهم، ولذا تراه (صلّى الله عليه وآله) يعبّر عن الأنبياء بالأخوّة فيقول أخي موسى وأخي عيسى وأخي سليمان وهكذا، ثم منه إلى رتبة البشر والملائكة وغيرهم، فكان في ذلك المقام يقول أخي جبرائيل وهكذا وأمثال هذه الخطابات من لوازم رتبة التنّزل، وإلّا فهو في رتبة ذاته لا ذكر فيها لشيء من هؤلاء المذكورين حتى يتحقق هناك معنى الأخوة والمجالسة فافهم.
وكلّما نزل إلى مقام من تلك المقامات النازلة اصطفى من سنخ ذلك المقام أشرف الألبسة وأكملها ليسع ذلك اللّباس لتحمل أعباء إشراقات حقيقته المقدسة ولا يندك عند الظهور ولا كذلك سائر الأنبياء فإنهم لا يحتملون ظهور حقيقته المقدسة على التمام لكون حقائقهم جزئية بالنسبة إلى سيد الرسل (ص) وإنما يرشح عليهم ما يطفح منه على حسب درجاتهم في تلك المرتبة فإن أولي العزم منهم يحتملون من ذلك الظهور ما لا يحتمله غيرهم "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي" أي ترك "ولم نجد له عزما" فالله تعالى يرقبهم في مقامات ظهور الولاية الأحمدية المطلقة بالسير الجوهري، فربما لا يكادون يحتملون ما ظهر في الإبتداء لصعوبة المسلك، ثم يقبلونه على التسليم ثم على طريق اليقين ثم على طريق المعرفة والشهود كما سمعت من قصة أيّوب وعدم تحمله في بدو الأمر لذلك ثم تسليمه وإنابته إلى الله تعالى، افهم ما أقول فإنه من مكنون العلم ومخزونه، ألا ترى كليم الله موسى على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام لما تجلّى له حقيقته التي هي جذوة من نور الخلق الأول الذي هو نور الله المشرق من صبح الأزل أعني أنوار محمّد وآله الطّاهرين جعل جبل طبيعته دكّاً وخرّ موسى صعقا. فقس على ذلك حال جميع الأنبياء.
فكلّ سافل لولا معونة من الله وحفظ له يكاد يتلاشى ويفنى عند ظهور نور المرتبة الأعلى له، ومثال ذلك مشاهد في العلم المكتوم الذي هو أصح العلوم، فإن الأرواح في بدو العمل لا تكاد تستقر في الأجساد إذا وصل إليها نار التدبير إلا بصعوبة شديدة ولطف في العمل وقص أجنحتها بالتدريج وكثرة التكرار في النزول والصعود، ولذا قال بعض الحكماء: (عوّد حجرك على النار وذلك لا يحصل إلا بالتكرار).
ولباس نبينا (صلّى الله عليه وآله) لمّا كان أكمل الألبسة في مقام النزول احتمل نور الولاية الكليّة الّتي هي نور حقيقته وحقيقة أوصيائه المخلوقين من طينته وهي الولاية الإلهية على ما ينبغي، ولم يشك ولم يتوقف بل أدى لوازمها على طور لا يمكن في الإمكان طور أكمل منه وكذا أوصياؤه المعصومون القائمون مقامه، ولذا قالوا (عليهم السّلام) : "إنّ في الصّراط عقبات كؤودا لا يقطعها بسهولة إلّا محمد وآله"؛ فافهم.
ولكن مع ذلك كلّه الرتبة الأدنى وإن بلغ ما بلغ لا ينفك عن استثقال أعباء المرتبة الأعلى في ابتداء التجلي واستعظامها في أول النظر ثم يتعودها شيئا فشيئا، ومثال ذلك حال من يصب عليه ماء بارد فإن حرارة بدنه لا تلائم برودة الماء فيقشعر بدنه من ذلك في ابتداء الانصباب ثم يتعوّده بعد هنيئة فيلتذ من برودة الماء، ومن هنا كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا أراد استنزال الوحي بغير توسّط الأسباب والروابط العادية كجبرئيل وغيره كان يعرق جبينه ويقول زمّلوني دثروني وربما كان تعرضه غشية كما روي الصدوق (رض) في كمال الدين عن الحسن بن أحمد بن أدريس، عن أبيه، عن جعفر بن محمد بن مالك، عن محمد بن الحسين بن زيد ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن ثابت، عن مولانا الصادق (عليه السّلام) :
"أنّه سئل عن الغشية التي كانت تأخذ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أكانت تكون عند هبوط جبرئيل (عليه السّلام) فقال: "لا، إنّ جبرئيل كان إذا أتى النبي صلّى الله عليه وآله لم يدخل عليه حتى يستأذنه وإذا دخل عليه قعد بين يديه قعدة العبد، وإنما ذلك عند مخاطبة الله عز وجل إياه بغير ترجمان وواسطة".
وفي التوحيد عن أبيه (رض) عن سعد بن عبد الله، عن إبراهيم بن هاشم، عن ابن أبي نجران، عن محمد بن سنان، عن إبراهيم والفضل ابني محمد الأشعريين، عن عبيد بن زرارة، عن أبيه، قال:
قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام) : "جعلت فداك الغشية التي كانت تصيب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا أنزل عليه الوحي فقال: ذاك إذا لم يكن بينه وبين الله أحد ذاك إذا تجلى الله له قال ثم قال تلك النبوة يا زرارة وأقبل بتخشّع". انتهى.
وذلك كله لعظم التجليات العلوية القدسية وعدم تحمل اللباس الذي تلبسه لتلك التجليات في ابتداء الظهور إلا بتعب وكد شديد فلما صعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى مقام أو أدنى الذي هو مقامه الأصلي ورأى من آيات ربه الكبرى وهو تجلّي الولاية العلوية له بغير حجاب ثم أخذ في النزول إلى أن وصل إلى مقام الأنبياء وهو مقام إمامة لهم في البيت المعمور وإقامة للصّلاة الّتي هي الولاية في الباطن فيهم عرض في نفسه المجانسة من سنخ الأنبياء التي هي أوّل مقام من مقامات تنزّله شيء مما أوحي إليه في أمر الولاية لعظم ما تجلى له منها في العالم الأول كعروض القشعريرة لمن يصب عليه الماء البارد في ابتداء الورود فقواه الله سبحانه بقوله: "فإن كنت في شك مما أنزلنا" رفعا لتلك القشعريرة التي هي من لوازم المرتبة فما شك وما سأل لأنه كان مجرّد استثقال عرض له فارتفع ولم يستقر إلا كمثل وميض البرق كما كان يعرض لبشريته عند استنزال الوحي من حقيقته فالعارض الذي عرضه في الرتبة التنزيلية ما كان شكا ولا ريبا في أمر الولاية كما يتوهمه من لا أنس له بلحن كلمات أمناء الوحي فإن درجة النبوة المحمدية أعلى من ذلك وأرفع وكيف يشك الأعلى في شأن من هو دونه رتبة وقوله تعالى على طريق الفرض "فإن كنت في شك" الآية، إنما هو كقوله تعالى: "لئن أشركت ليحبطن عملك"؛ فافهم وتبصّر أمرك، فإن المقام لا يسع تفصيلا أزيد من ذلك، وإنما ذكرنا ما سمعت دفعا لوساوس الأوهام المعوجة "فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة". وإلّا فالكتاب ليس بموضوع لكشف أمثال هذه الأسرار".انتهى.


ونختم بهذا الحديث الشّريف
- روى الشّيخ الكليني عن محمّد بن سنان قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام فأجريت اختلاف الشيعة فقال:
"يا محمد إن الله تبارك و تعالى لم يزل متفردا بوحدانيته ثم خلق محمدا وعليّاً وفاطمة فمكثوا ألف دهر ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها وفوّض أمورها إليهم؛ فهم يحلّون ما يشاؤون، ويحرّمون ما يشاؤون، ولن يشاؤوا إلّا أن يشاء الله تبارك وتعالى، ثمّ قال: يا محمّد هذه الديانة الّتي من تقدّمها مَرَق ومن تخلّف عنها مَحَق ومن لزَمَها لَحِق، خُذها إليّك يا محمّد"(5).


ــــــــ


(1) سورة الأحزاب،33/ 45-46.
(2) الكافي الشريف: ج1، ص440، ح3.
(3) المصدر نفسه: ج1، ص440، ح2.
(4) الميرزا محمّد تقي التّبريزي الممقاني، صحيفة الأبرار، (ط2، بيروت، دار المحجّة البيضاء، 1425/ 2004)، ج1، ص502-507.
(5) الكافي الشريف: ج1، ص441، ح5.



والحمد لله ربّ العالمين ،،،
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وعجّل فرجهم والعن عدوّهم ،،،
اللهمّ زدنا تعمّقاً في مقامات أهل البيت عليهم السّلام ،،،