...أما والله , إني لأعلم أنك حجر , لاتضر ولاتنفع ...!

مسهّر

مسهّر
26 يناير 2011
5
0
0
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

==========

( حدثنا سعيد بن أبي مريم : أخبرنا محمد بن جعفر قال : أخبرني زيد بن أسلم , عن أبيه : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للركن :

, ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استلمك مااستلمتك , فاستلمه , ثم قال : فمالنا وللرمل , إنما كنَّا رأينا به المشركين , وقد أهلكهم الله , ثم قال : شئ صنعه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فلانحبُّ أن نتركه "
)


صحيح البخاري ص 279 كتاب الحج ـ باب : الرمل في الحج والعمرة : حديث رقم 1604
==========

من أبرز سمات العقلية الإسلامية أنها تمتلك القدرة على التمييز بين الأشياء لافي حدود الظاهر فقط , بل يمتد نظرها إلى ماوراء الظاهر , وإلى ماهو خارج حدود الطبيعة , مصدره في ذلك الوحي أو مايطلق عليه الإيمان بالغيب {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } (3) سورة البقرة".

ففي نظر المسلم أن لكل شئ في هذا الوجود حقيقة مشهودة وأخرى غائبة .
والآية الكريمة التي تقول :

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } (74) سورة البقرة

هذه الآية تطرح المسألة بشكل يلفت النظر إلى وجود حقائق بعضها مشهود وبعضها غائب عن الأنظار والحواس :

1ـ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء
2ـ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ

فالحالة الأولى للحجارة تمثِّل ظاهرة طبيعية ملموسة بإمكان الإنسان أن يشاهدها , أما الحالة الثانية فهي من الحالات الغائبة عن حواسنا !
هذا الطرح القرآني يمثل مدرسة تقوم على إعداد المنتسبين إليها إعداد خاصا يعتمد في الدرجة الأولى على تعميق النظرة للوجود كله من الذرة إلى المجرة على أساس أن كل شئ في الوجود مرتبط بالله سبحانه وتعالى :

وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (44) سورة الإسراء

هذا الإعداد الروحي والفكري غايته أن يبني المسلمُ مواقفه من كل شئ في الوجود في ضوء نظرة السماء وتقريرها وحكمها في حق ذلك الموجود , إن كان حقا أو باطلا ,خيرا أو شراً, حسناً أو قبيحا , حلالاً أو حراما ... .

إن من يعطـِ زمام قلبه وعقله لإرشادات الوحي فسيكون قادرا على أن يفقه حقيقة :

{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ }

وإذا تكامل الإنسان في مسيرته نحو الله سبحانه فسيكون قادرا على رؤية ومشاهدة هذا الارتباط وليس فقط الإيمان به :
{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } (75) سورة الأنعام

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } (10) سورة سبأ

من هنا تنشأ روح التدين ومن هنا تكتسب أصالتها , و عليها يـبـني العقلُ معاييـرَه في تصنيف الأشياء وتقديرها , وبه يمتاز الفكر المتدين الحق عن الفكر اللاديني أو المادي .

فالتقدير والتقديس وجميع الانفعالات النفسية تجاه الموجودات إنما الأساس في بروزها ـ عند المؤمن ـ هو الإرشاد الغيبي .

يقابل هذا الميزان ميزان مادي ,لا يراعي في نظرته سوى ما هو محسوس باليد ومشهود بالعين!
وعليها تنبني المواقف المنحرفة :

{ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } (27) سورة هود

فهؤلاء ينظرون إلى الجانب الظاهري المادي للإنسان (النبي ) باعتباره بشرا مثلهم وقيمته في ميزانهم تنحصر في كونه من ( لحم ودم ) فهو بشر والبشر في ثقافة هؤلاء هو كائن ناقص متلوث بالرذيلة أوهو عبد من عبيدهم ., لايرون له أي فضل أو ميزة !!

والنتجية أنهم يرفضون الطاعة والاتباع فهم لا يستطيعون إدراك أي تميز خارج هذه الحدود !
في مقابل هذا يوجد موقف آخر يستمد نظرته من موقف السماء:


{ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } فالمتحكم في هذا الموقف هو عنصر ( الإيمان ) .
هذا التباين الفكري هو السبب في اختلاف المواقف أمام كل شئ في الوجود ـ بما فيها الموقف من الجمادات كالحجر والصخر !

لو رجعنا إلى موقف عمر بن الخاطب السابق في مخاطبته للحجر وسألنا :


ـ ما المقياس الذي بنى عليه عمر تصوُّره و موقفه من الحجر الأسود ؟!

ثـــم:

لماذا لم يــرَ عمر أي ميزة للحجر الأسود على بقية الرمل ولم يعطـِه أي شرف يرفعه عن مستوى حجارة الأصنام التي كانت تعبد في الجاهلية ؟!!

"... فمالنا وللرمل..."!!!

حينما يقف عمر عند الحجر الأسود ولا يستطيع أن يرى فيه أبعد من كونه حجرا !
و عندما ينظر عمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقبِّل الحجر ثمَّ تتداعى عند عمر المعاني فلا يستحضر سوى صورة عبادة الأصنام !


فإن شخصا مثل هذا لا يمكن أن يكون قد تحرر من التبعات الروحية والمعنوية لعبادة الأصنام !
ولايمكن أن يكون قد تفاعل بجدارة مع معطيات الوحي !


حيث لازال تفاعله مع الحجر يقبع في حدود ( الصنمية ) التي يمثلها الحجر!
ولازال يرى في تقبيل الحجر حالة مطابقة لتقديس الأصنام !

إن مخاطبة عمر للحجر الأسود بتلك العبارات لاتكشف عن حالة من التــديـُّن والرهبانية الصافية كما يظن أتباعه حيث يرون فيها شكلا من التوحيد الخالص !

أبـــــــــدًا !
بل هي على العكس تماماً!

أن هذا المستوى العقائدي الذي يتجسد من عمر يكشف أنه لم يتجاوز حركة البدن وانتقاله من بيئة إلى بيئة !
عقيدة لم تنفذ بعمق إلى الداخل لأن التغيير لم يكن جذريا على مستوى الوعي العقائدي !
وهذا مايجعل القرآن يرفض إعلان الأعراب : ({ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } (14) سورة الحجرات


. إن الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام ليس انتقالا من تقديس الأحجار إلى مقاطعة الأحجار !

ولا من خلال مفارقة ما لايضر وما لاينفع مفارقة مادية ( جسدية ) بأن يُترك تقبيله وملامسته .
لأن مجرد التقبيل واللمس لايوقع الإنسان في دائرة الشرك, ولامجرد ترك التقبيل والمصافحة يدخل الإنسان في دائرة الإيمان فليس هذا هو الأصل في العقيدة !

وكذلك لاتفسد عقيدة الإنسان بمجرد اعتقاده بأن الشئ الفلاني يضر أو ينفع فليس مطلق هذا الاعتقاد هو أصل التوحيد !
ليس بهذا تتأسس العقيدة , وليست هذه هي روح الإيمان .

أقول هذا لأن عمر حينما وقف عند الحجر طغت عليه مشاعر مرتابة ومشككة في أن ما يحصل مع الحجر ـ من مصافحة وتقبيل ـ لا يعدو كونه حالة مطابقة لما مضى من عبادة الأصنام .

لو كانت هناك أدنى شائبة من شوائب الشرك يقتضيها وجود الحجرالأسود أو تقبيله ومصافحته لما قبـَّـله رسول الله صلى الله عليه وآله .

لكن الفارق الجوهري بين تقبيل رسول الله صلى الله عليه وآله وتقبيل ـ عمر ـ للحجر هو أن رسول الله صلى الله عليه وآله حينما يقبل الحجر لاتنتابه حالة من الصراع النفسي يزلزل علاقته بالله الواحد الأحد .
لأنه صلى الله عليه وآله لايعبد الله على حرف !

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } (11) سورة الحـج

ليس هناك شئ قادر أن يمس روح الإيمان في قلب رسول الله صلى الله عليه وآله , وليس من شئ يمكن أن يتسرب إلى أعماقه الطاهرة لكي تحصل حالة من التزاحم بين ( الله ) و ( الحجر ) في مساحة العبودية لله وحده !!
فهواجس الشرك لاتتحرك بمقدار ذرة في وعي رسول الله صلى الله عليه وآله , لأنه يتحرك في دائرة التوحيد عن ( علم ويقين )
( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) .

إن حركة النبي صلى الله عليه وآله نحو ( الحجر الأسود ) لابد أنها تأتي في سياق الوعي الكامل بأن كل شئ يسبح لله !

ووعي النبي صلى الله عليه وآله لهذه الحقيقة هو من شاكلة وعي
( إبراهيم و داود عليهما السلام ).
{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } (10) سورة سبأ

وأين وعي عـمــر من هذه الحقائق ؟!
إن ضمير عمر يحتدم فيه الصراع على ساق بين ( الله ) و( الحجر ) !
لأن المسافة في تصوره قريبة جدا بين ( الله ) و( الحجر) !
لذلك هو يرتاب ويتردد !
و يخاف أن يمدَّ يده إلى الحجارة فتختطف الحجارة منه ( معبوده ) وتنفث في جسده ( ألوهيتها ) !

لو كانت الحركة الجسدية في قربها وبعدها عن الحجارة هي الميزان في سلامة التوحيد أو حصول الشرك لما شرّع لنا الله سبحانه وتعالى الطواف حول الكعبة فهي مجموعة أحجار !
ولما أمرنا باتخاذ مقام إبراهيم (ع) مصلَّى فهو مجرد حجارة !
ولما أمرنا بالسعي بين الصفا والمروة وهما جبـــــــــــــــلان !

من هنا أقول إن عمر لا يمكن أن يكون قد تفاعل بجدارة مع معطيات الوحي !

لذا ظلَّ مفتقـــراً للفكر الديني القويم !

إن منظومة المناسك والعبادات التي تمارس في بيت الله الحرام هي منظومة واحدة متماسكة لايشــذُ منها شئ عن شئ في قيمته داخل هذه المنظومة , ولايوجد تناقض بين مفرداتها , ولايوجد هناك تنافر في العلاقة بين ألوان العبادة وأي جزء من بيئة هذا الحرم المقدس!

فالظلال الروحية التي تظلل مشاعر المؤمن وهو يصلي عند المقام هي نفسها التي تظلُّـه وهو يقبـِّـل الحجر أو يطأ بقدميه الصفا والمروة .


فالفكر الذي يقبل الصلاة عند مقام إبراهيم عليه السلام , لا يمكنه أن يتردد في تقبيل الحجر الإسود !
لأن المصدر الذي سطّــر هذه المنظومة هو الوحي .

وكان الأجدر لـ ( عمر ) وقد أجاز لنفسه أن يجتهد ويفتي في حق هذه المقامات الطاهرة أن ينكر الصلاة عند المقام !
لأنه بالقياس !
نجد أن الصلاة عند المقام أشد خطورة من تقبيل الحجر الأسود في تجسيد الخضوع للحجارة !

إن هذه الانتقائية تكشف عن فكر هزيل يفتقد للصبغة الدينية الصحيحة , ومنطق لا يخضع لإرشادات الوحي !
ولو كان ( عمــر ) ينصتُ بخشوع لصوت الوحي لأدرك القيمة الحقيقية لهذه الحجارة ولوقف متواضعا أمام كل ذرة من تراب هذا الحرم الطاهر .

فهذه المقامات التي هي في نظر عمر مجرد حجارة يعبر عنها القرآن بأنها بيت
:
( مبارك ــ وهدى للعالمين ـ فيه آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ـ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ ـ من شعائر الله ــ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا )

{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } (96) سورة آل عمران

{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (125) سورة البقرة

{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } (97) سورة آل عمران

{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } (158) سورة البقرة

إذا كان القرآن الكريم يقرر كل هذه الأوصاف للحجارة !! فما بال عمر يخاطب الحجر فيقول :

"أما والله , إني لأعلم أنك حجر , لاتضر ولاتنفع"

وماباله يقول : " فمالنا وللرمل " ؟!


وهل بعد أن يصف الله جل ذاته هذا البيت بأنه ( مبارك ) يتجرأ عمر ويصف الحجر الذي هو جزء من هذا البيت بأنه ( لايضر ولاينفع )

وهل ( البـَركة ) شئ آخــــر غــير الخير والنفع ؟

وأي نفع أكبر من أن يكون هذا البيت ( هدى للعالمين ) ؟!!

إن الوحي يرشدنا إلى أن من مقتضيات التفاعل النقي والصافي مع هذا ( البيت ) المكوَّن من ( الحجارة ) تقتضي ( الهداية ) وتقتضي حلول ( البركة ) !

لكن الوضع المعنوي عند ـ عمرـ مختلف تماماً فلم يكن مؤهلاً للوصول إلى هذه النتائج !

بل نجد حالة معنوية تعتصر نفسيته وتخلق لديه تداعيات ( عبادة الأصنام ) , وتجسد في ذهنيته
( طقوس الشرك ) فيصدر منه خطاب مشحون تجاه الحجر الأسود :

"... فمالنا وللرمل..." ـــــ " إنما كنَّا رأينا به المشركين , وقد أهلكهم الله .."

حين نضع هذه المقولة إلى جنب قوله تعالى :{ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }

تنكشف المفارقة الكبرى بين الرؤية القرآنية ورؤية ( عمر ) !!
ولسائل أن يسأل :

ــ ما السبب في وجود هذه المفارقة الكبرى بين الرؤيتين ؟!

دمتـم بســلام

مسهّر





بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على محمد وآل محمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وشكرا لكل مؤمن بارك بحضوره هذا الموضوع .​



ما سبق كان دراسة لموقف ـ عمرـ من زاوية ( فكرية ) قرأنا فيها شخصيته التي لم تتفاعل مع مفاهيم ومعطيات الوحي , وسأحاول في هذه الورقة عرض الموقف من زاوية ( نفسية ) .


إن الشخصية ـ أي شخصية كانت هي مزيج عن مجموعة من المواقف والمعارف والانفعالات .
بهذا الخليط من العناصر تكون للشخصية سمة تميزها عن غيرها .

وبعد أن يقطع الإنسان شوطا طويلا في الحياة تكون قد تأصلت فيه سمات خيـِّـرةٌ أو شريرة تكون هي الهوية الكاشفة للشخصية .

فإذا تجذرت سمة التقوى في الشخصية فستكون التقوى هي الأصل ومنها تتفرع السلوكيات والانفعالات , ولن يصدر عن هذه الشخصية إلا ماهو سويٌّ ينسجم تماما مع الأصل الذي هو التقوى.

وإن صدر منها شئ لا يتوافق مع الأصل فإن هذا الفعل سيكون شاذا وطارئا لايمكن تفسير الشخصية من خلاله .

والأمر نفسه مع الشخصية التي تجذرت فيها سمة الشر فإن السلوكيات التي ستتفرع منها ستكون غير سوية , فإن صدر منها شئ لايتوافق مع هذا الأصل ـ أي إذا صدر منها فعل طيب ـ سيكون شاذا وطارئا لايمكن تفسير الشخصية من خلاله .

{ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً } (84) سورة الإسراء

وإذا كان الأمر كذلك فإنَّ الفعل مهما كان صغيرا فهو مرآة حقيقية للشخصية , وهو كالخلية التي تختزن كامل صفات الكائن الحي , لذا يجدر بنا أن نسلط الضوء على الفعل وإن كان صغيرا في حجمه .

فالكلمة الطيبة حين تخرج ممن عـُرف بالتقوى مهما كانت الكلمة صغيرة , هي تختزل شيئا ذا قيمة حقيقية على صعيد التقوى .


{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء} (24) سورة إبراهيم

والكلمة الخبيثة حين تخرج ممن عـُـرف بالدهاء والخبث مهما كانت الكلمة صغيرة فإنها تختزل شيئا خطيرا على أرض الواقع .

{ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } (26) سورة إبراهيم


فإذا كان الفعل الصادر لايتصل ظاهره بجذور الشخصية اتصالا واضحا فإنه بالتأكيد يمثل حالة طارئة
ففي حالة الإنسان (الطيب ) فإن الفعل ( السيئ ) منه غير أصيل :

{ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } (37) سورة الشورى
فالغضب إذا صدر ممن عرف بالتقوى فإن هذا الغضب غلاف يشف عن رحمة تكمن في باطنه !


وكذلك في حالة الإنسان ( السئ ) فإن الفعل ( الطيب ) منه غير أصيل :

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } (204) سورة البقرة

فالقول الطيب الذي يثير الإعجاب إذا صدر ممن هو ليس من أهله فإنه في الحقيقة يغلف وراءه شرا وخطرا ...!

ومع التدبر والتقليب في أمثال هذه الأفعال التي هي في ظاهرها ( طيبة ) سيكتشف المتدبر ملامح الشر بارزة الأنياب وسينكشف القناع عن قبح الصورة :

{ وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} (30) سورة محمد

ولحن القول هو صدور الكلام في سياق غير طبيعي , يختفي وراءه أمر مــا !

لأن عادة الإنسان الذي يظهر عكس ما يبطن يكون خاضعا لضغوط داخلية تتصارع فيها قوى الظهور اللاإرادي وقوى التستر الإرادية !

هذا الوضع يخلق عند الإنسان ما يعرف في علم النفس بــ ( حيل الدفاع ) !

ومن مظاهره ما يعرف بـ ( الإسقاط ) وهي حالة نفسية تقود إلى إلصاق عيوب الذات بالآخرين من أجل الانتصار للذات وتأكيد براءتها وطهارتها !


وتتجلى الحالة التي أمامنا في مخاطبة ـ عمرـ للحجر حين يخاطبه (أما والله , إني لأعلم أنك حجر , لاتضر ولاتنفع) وحين يقول : (إنما وجدنا به المشركين وقد أهلكهم الله ) !

ففي الجملة الأولى يرمي عمر بتهمة عبادة الأصنام إلى الحجر وكأن الحجر هو من دعا إلى عبادة نفسه وليس الناس هم من اتخذوه إلهاً لهم !

وحال عمر هنا كحال الذين نسبوا إلى نبي الله عيسى (ع) وأمه (ع) أنهما دعوا إلى عبادة نفسيهما فبرأه الله من هذه الفرية الكاذبة :
{ وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } (116) سورة المائدة

وفي قوله : ( إنما وجدنا به المشركين وقد أهلكهم الله ) !
ألم يكن عمر هو من ضمن المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام ؟!

إنه مظهر من مظاهر ( الإسقاط ) !

وإليكم الآن ( لحن القول ) :

بتأمل قليل مع مقولة عمر السابقة يمكن لنا الوصول إلى ( لحن القول ) وهو صدور الكلام في سياق غير طبيعي وتبرزه النقاط التالية :


1ـ يخاطب عمر الحجر الأسود بهذا الخطاب مع عدم وجود مناسبة للتصريح بمثل هذه العبارة فالمجتمع هو مجتمع صحابة النبي صلى الله عليه وآله وقد فارقوا عبادة الأصنام مفارقة أبدية وقد أشار النبي لهذه الحقيقة في خطبة الوداع حيث قال :
" ... ألا وإن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ...." من خطبة الوداع

2ـ لو كانت هناك ضرورة تعليمية تستدعيها بعض المظاهر السلبية تتعلق بموضوع تقبيل الحجر لوجب أن يصحب هذا الاستنكار بيان تثقيفي مستوحى من القرآن الكريم يحفظ لهذه المواطن قيمتها الدينية ويبرز فلسفة اختيارها في ضوء آيات القرآن الكريم التي استعرضناها سابقا , وهذا لم يصدر من عمر البتة بل أثبتنا أن عمر لايملك شيئا من هذه الثقافة والمعرفة !

3ـ عدم مراعاة حرمة المكان فهذا الخطاب الجاف يتنافى مع ما خـُصت به هذه الأماكن من آداب ونسك !

4ـ الأسلوب الذي ظهر به عمر عند تقبيل الحجر أسلوب فيه تشويه لروح العبادة فقد أظهرها عمر في صورة ( تقليد أعمى ) وعبادة غير مقترنة بعلم .
والأمر لا يخلو من تشويه لصورة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في جانب تربيته لأصحابه وكأنها مجرد تربية ترتكز على التلقين الأجوف !
بينما الحقيقة خلاف ذلك :

{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ }
(151) سورة البقرة
لكن الطالب المهمل عادة ما يعكس صورة سلبية عن معلمه !


فالمقولة لم تكن في سياق طبيعي !


وإذا مضينا قدما ووضعنا هذه المقولة إلى جانب أخواتها سنجد تطابقا تاما بينها وبين أخواتها وانسجاما تاما بينها وبين جذورها الأصيلة في عمق شخصية عمــر !

فما صدر منه لا يعدو كونه حالة ذاتية وانفعال كبقية انفعالاته المشهورة !
وهي لاتخرج عن دائرة الحسابات الشخصية الضيقة للغاية , فحين نقرأه في سياقه التاريخي للشخصية نجد تفسيرا موضوعيا ومغايرا عما يتصوره المتعصبون لعمر .

* ومن المواقف التاريخية التي تكشف عن هوية الشخصية :

ــ كان يهرب من المعارك كما هرب يوم حنين !
ــ كان يشكك في مواقف النبي ص كما في صلح الحديبية !
ــ كان يعترض على أوامر النبي ص كما حصل حين أراد النبي ص أن يكتب الكتاب :
" إن النبي غلب عليه الوجع "!!!

ـ وموقفه المتشدد من كتابة السنة النبوية وإحراقه للأحاديث التي كانت في أيدي الناس !!
وغيرها من المواقف الكثيرة التي من شأنها إعطاء الصورة الحقيقية للرجل !

هذه المواقف المتناثرة هنا وهناك هي التي تكوِّن هذه الشخصية وما انطوت عليه من نوازع نفسية تدور في فلك الذات والأنا !
في هذا السياق يمكننا أن نشخِّــص أقواله بدقة وموضوعية !

فالهروب من المعارك والتشكيك في مواقف رسول الله ص ومقاومته الشديدة لكتابة الكتاب , ومنعه كتابة السنة الشريفة كل هذا وغيره يكشف عن شخصية كانت تعمل لنفسها وتدور حول ذاتها وتتحرك لتصل إلى موقع رفيع في دولة الإسلام !

وبالفعل حصل له ما أراد وبلغ مقاما رفيعا حين أمسك بالخلافة !

في ضوء ما تقدم ننتهي إلى هذه الخلاصة :

عمر قبل الإسلام له صولة مع الأصنام , فقد ركع وسجد وتقرب لها !
ولكـــن نهاية حياة عمر كانت الإمساك بالخلافة وإمرة المؤمنين !


هذا الفارق الشاسع بين الموقعين والمرحلتين لم يكن من السهل ولا المتيسر عبور المسافة بينهما !

وإن ماضيا ينحدر في عبادة الأصنام , كيف يرفعه إلى خلافة الله في الأرض والإمساك بميراث النبوة ؟!

فمن يكن ذا تطلع وطموح نحو هذا المستقبل سيكون الماضي بالنسبة له ( عائقا ) ولن يجد مطـَّـية شرعية تسير به من هناك إلى هنا !

وسيخلق عنده حالة من ( الاضطراب ) والقلق !

وبالتالي عليه أن ينتزع نفسه من الماضي بافتعال المواقف واصطناع المشاهد !

وعليه أن يبصـُـر بما لم يبصروا به ! من أثر الأئمة والهداة فيصنع لنفسه ومن نفسه ( عجـــلا له خــــوار ) يمتطيه إلى موضع الخلافة والإمرة !!

فصدرت منه كثير من الانفعالات والصيحات الفاقدة للانضباط ولم يكن خلفها سوى ( ضرع الخلافة ) وقد جاء في كلام الإمام علي عليه السلام ما يشخـِّص بإيجاز هذه الشخصية والفلك الذي تدور فيه :
" لشدَّ ماتشطَّـرا ضرعيها ..." يعني الخلافة !

إن عمر أمام الحجر لم يكن يصحح وضعا عقائديا فاسدا عند الناس !
بل يصحح صورة نفسه عند الناس ويحاول استبدالها بصورة الداعي إلى التوحيد !

ليصنع لنفسه قنطرة يعبر عليها إلى المستقبل الذي لايقبل مثل هذه النماذج غير المؤهلة لإمامة الناس :

{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } (124) سورة البقرة

وختاما :

{ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } (8) سورة الزلزلة


دمتم بسـلام

مسهّر