في ظِلال حديث مدينة العلم، وفيه ردٌ على ابن تيمية

قاسم

New Member
18 أبريل 2010
245
0
0
بسم الله الرحمن الرحيم

حديث مدينة العلم:
هو حديث معروف موجود في كتب الشيعة والسنة، فمن ذلك:

روايات الشيعة:
1 - قد رواه الكليني رضي الله عنه عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن مهزم، وبعض أصحابنا، عن محمد بن علي، عن محمد بن إسحاق الكاهلي، وأبو علي الاشعري، عن الحسن بن علي الكوفي، عن العباس بن عامر، عن ربيع بن محمد، جميعا، عن مهزم الاسدي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام ): يا مهزم شيعتنا من لا يعدو صوته سمعه... ... ثم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أنا المدينة وعلي الباب، وكذب من زعم أنه يدخل المدينة إلا من قبل الباب، وكذب من زعم أنه يحبني ويبغض عليا (صلوات الله عليه).
الكافي ج 2 ص 238

2 - وقال الشيخ الصدوق رضي الله عنه: حدثنا أبي (رضي الله عنه) قال: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا أحمد ابن محمد بن خالد، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمد، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله) على منبره: يا علي، إن الله عز وجل وهب لك حب المساكين والمستضعفين في الأرض، فرضيت بهم إخوانا ورضوا بك إماما، فطوبى لمن أحبك وصدق عليك، وويل لمن أبغضك وكذب عليك.
يا علي، أنت العلم لهذه الأمة، من أحبك فاز، ومن أبغضك هلك.
يا علي، أنا مدينة العلم وأنت بابها، وهل تؤتى المدينة إلا من بابها !
الأمالي ص 655

3 - وقال الشيخ المفيد رضي الله عنه: أخبرني أبو بكر محمد بن عمر الجعابي قال: حدثنا أحمد بن عيسى أبو جعفر العجلي قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن خالد قال: حدثنا عبيد الله ابن عمرو الرقي قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل، عن حمزة بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: "أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليقتبسه من علي".
الإرشاد ج 1 ص 33

4 - ورواه الشيخ الطوسي رضي الله عنه قال: وعنه، قال: أخبرنا جماعة، عن أبي المفضل، قال: حدثنا أحمد بن عيسى بن محمد بن الفراء الكبير ببغداد سنة عشر وثلاث مائة، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن عمرو بن مسلم الا حقي الصفار بالبصرة سنة أربع وأربعين ومائتين، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن موسى الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب (عليهم السلام ) قال: قال لي النبي (صلى الله عليه وآله): أنا مدينة العلم وأنت الباب، وكذب من زعم أنه يصل إلى المدينة إلا من قبل الباب. الأمالي ص 577

روايات أهل السنة:
رواه الحاكم النيسابوري قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبد الرحيم الهروي بالرملة، ثنا أبو الصلت عبد السلام بن صالح، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبو الصلت ثقة مأمون، فإني سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب في التاريخ يقول: سمعت العباس ابن محمد الدوري يقول: سألت يحيى بن معين عن أبي الصلت الهروي فقال: ثقة، فقلت: أليس قد حدث عن أبي معاوية عن الأعمش: أنا مدينة العلم ؟
فقال: قد حدث به محمد بن جعفر الفيدي وهو ثقة مأمون.
سمعت أبا نصر احمد بن سهل الفقيه القبانى إمام عصره ببخارى يقول سمعت صالح بن محمد بن حبيب الحافظ يقول وسئل عن ابي الصلت الهروي فقال دخل يحيى بن معين ونحن معه على ابي الصلت فسلم عليه فلما خرج تبعته فقلت له: ما تقول رحمك الله في أبي الصلت ؟
فقال: هو صدوق.
فقلت له: انه يروى حديث الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأتها من بابها ؟
فقال: قد روى هذا، ذاك الفيدي عن أبي معاوية عن الأعمش كما رواه أبو الصلت.
حدثنا بصحة ما ذكره الإمام أبو زكريا ثنا يحيى بن معين ثنا أبو الحسين محمد بن احمد بن تميم القنطري ثنا الحسين بن فهم ثنا محمد بن يحيى بن الضريس ثنا محمد بن جعفر الفيدي ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب.
قال الحسين بن فهم حدثناه أبو الصلت الهروي عن أبي معاوية.
قال الحاكم: ليعلم المستفيد لهذا العلم ان الحسين بن فهم بن عبد الرحمن ثقة مأمون حافظ.
ولهذا الحديث شاهد من حديث سفيان الثوري بإسناد صحيح: حدثني أبو بكر محمد بن علي الفقيه الامام الشاشى القفال ببخارى وانا سألته حدثني النعمان بن الهارون البلدى ببلد من اصل كتابه ثنا أحمد بن عبد الله بن يزيد الحرانى ثنا عبد الرزاق ثنا سفيان الثوري عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن عبد الرحمن بن عثمان التيمى قال سمعت جابر بن عبد الله يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب.
المستدرك ج 3 ص 126


كتاب فتح الملك العلي:
قد استوفى الحافظ أحمد بن الصديق المغربي (توفي سنة 1380هـ) حق الكلام عن أسانيد الحديث في كتاب خاص أسمه: "فتح الملك العلى بصحة حديث باب مدينة العلم علي" وخلص فيه إلى الجزم بصحة الحديث، ورد على كل من طعن في الحديث، وقد نقل عن الحافظ السيوطي انه قال: قد كنت أجيب دهرا عن هذا الحديث بأنه حسن إلى أن وقفت على تصحيح ابن جرير لحديث علي في (تهذيب الآثار) مع تصحيح الحاكم لحديث ابن عباس، فاستخرت الله تعالى وجزمت بإرتقاء الحديث من مرتبة الحسن إلى مرتبة الصحة.
فتح الملك العلي ص 60

ونقل ايضا عن الحافظ العلائي انه قال: وأبو معاوية ثقة مأمون من كبار الشيوخ وحفاظهم المتفق عليهم، وقد تفرد به عن الاعمش فكان ماذا ؟ وأي استحالة في ان يقول النبي صلى الله عليه وآله مثل هذا في حق على رضي الله عنه ؟ ولم يأت كل من تكلم في هذا الحديث وجزم بوضعه بجواب عن الروايات الصحيحة عن ابن معين في توثيقه وتصحيح حديثه، ومع ذلك فله شاهد رواه الترمذي في جامعه وسنده حسن فكيف إذا انضم إلى حديث أبى معاوية ولم يأت ابو الفرج ولا غيره بعلة قادحة سوى دعوى الوضع دفعا بالصدر اه‍ باختصار.
ص 164

وقال الحافظ ابن الصديق المغربي ايضا:
وسئل الحافظ عن هذا الحديث فأجاب بقوله: هذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح، وخالفه أبو الفرج ابن الجوزي فذكره في الموضوعات، وقال: إنه كذب... والصواب خلاف قولهما معا، وأن الحديث من قسم لا يرتقي إلى الصحة ولا ينحط إلى الكذب، وبيان ذلك يستدعي طولا ولكن هذا هو المعتمد في ذلك اه‍.
قال: قلت: لا أشك أن الحافظ لم يستحضر ساعة كتابة هذا الجواب إلا الطرق الموجودة في الحاكم، ولو استحضر غيرها لجزم بارتقائه إلى درجة الصحة، فانه جزم بصحة احاديث في (القول المسدد) لا تبلغ هذا ولا تقاربه، ثم انه بنى حكمه بالحسن على قاعدة ذكرها في اللسان ولكنها غير مطردة ولا لازمة، كما بينته في اصول التخريج.

قال: وقال الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة" بعد ايراد كلام الحفاظ فيه وبعض طرقه الواهية وألفاظه الموضوعة التي فيها ذكر ابى بكر وعمر وعثمان ومعاوية ما نصه: وبالجملة فطرقه كلها ضعيفة وأحسنها حديث ابن عباس بل هو حديث حسن اه‍.

ومما قاله ايضا:
كون الحديث في فضل علي وراويه متهم بالتشيع بل مجرد كون الحديث في الفضائل من أكبر أسباب الطعن عندهم في الرواة، ولو لم يتهموا بتشيع فان من روى ذلك لا يتوقفون في طعنه ولا يتورعون عن جرحه ولو كان أوثق الثقات وأعدل العدول، وقد تقدم عن ابي زرعة أنه قال: كم من خلق افتضحوا بهذا الحديث يعني ان كل من حدث به يحكمون عليه بالضعف ولو كان معروفا عندهم انه ثقة، فدليل الضعف هو التحديث بفضل على عليه السلام، حتى انهم ضعفوا به جماعة من الحفاظ المشاهير ورموهم بالرفض والتشيع:
كمحمد بن جرير الطبري: تكلموا فيه لتصحيحه حديث الموالاة.
والحاكم صاحب المستدرك: لتصحيحه فيه حديث الطير وحديث الموالاة.
والحافظ ابن السفا: لاملائه حديث الطير ووثبوا إليه ساعة الاملاء وأقاموه وغسلوا موضعه.
والحافظ الحسكاني: لتصحيحه حديث رد الشمس.
والحافظ ابن المظفر: لتأليفه في فضائل العباس.
وابراهيم بن عبد العزيز بن الضحاك: لكونه أملى مجالس في فضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلما فرغ قال: نبدأ بعلي أو بعثمان ؟ فتفرقوا عنه وضعفوه، مع أن المسألة خلافية لا تستوجب ذلك كما قال الذهبي.
فتح الملك العلي ص 141

وقال ايضا:
وأما ابن الجوزي: فهو مقلد لمن سبقه، فلا ينبغي أن يمد في الحاكمين على الحديث بالوضع، لأنه لم يقل ذلك عن اجتهاد، فهو بمنزلة العدم كحال كل مقلد، ولو فرضنا انه حكم بذلك اجتهادا فتساهله وتهوره معلوم حتى قال الحافظ فيه: انه حاطب ليل لا يدري ما يخرج من رأسه، وقد كثر اعتراض الناس عليه، وتعقبه فيما حكم عليه من الأحاديث بالوضع والتحذير من الاغترار بكلامه، كما بسطته في غير هذا الموضوع، وقد تعقبوه على هذا الحديث كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى.

وأما الذهبي: فلا ينبغي أن يقبل قوله في الأحاديث الواردة بفضل علي عليه السلام فانه سامحه الله كان إذا وقع نظره عليها اعترته حدة أتلفت شعوره وغضب أذهب وجدانه حتى لا يدري ما يقول وربما سب ولعن من روى فضائل علي عليه السلام كما وقع منه في غير موضع من الميزان وطبقات الحفاظ تحت ستارة ان الحديث موضوع، ولكنه لا يفعل ذلك فيمن يروي الأحاديث الموضوعة في مناقب اعدائه، ولو بسطت المقام في هذا لذكرت لك ما تقضي منه بالعجب من الذهبي رحمه الله تعالى وسترنا عنه آمين. ويكفي في رد كلامه أنه قال في الميزان: عبد السلام بن صالح ابو الصلت الهروي الرجل الصالح إلا أنه شيعي جلد اه‍. فما وصفه بضعف ولا رماه بكذب، ثم عند ذكر الحديث في المستدرك أقسم بالله أن عبد السلام بن صالح ما هو ثقة ولا هو مأمون، فكيف الجمع بين هذا وذاك ؟!
وقد تعقبه الحافظ في حكمه على هذا الحديث بالوضع في ترجمة جعفر بن محمد الفقيه فانه أورد له هذا الحديث وقال: موضوع، فتعقبه الحافظ في اللسان بقوله: وهذا الحديث له طرق كثيرة في مستدرك الحاكم أقل أحوالها أن يكون للحديث أصل فلا ينبغي أن يطلق عليه القول بالوضع اه‍.
وصرح الذهبي ببطلان حديث الطير في نحو عشرين موضعا من الميزان، وضعف به خلائق ليس له على ضعفهم دليل سوى روايته، ثم لم يجد بدا من اعترافه به لكثرة طرقه التي تغلبت على نصبه سامحه الله فصرح بثبوته في تذكرة الحفاظ.
فتح الملك العلي ص 160


هملجة ابن تيمية:
اعتدنا على قراءة اعتراضات ابن تيمية على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله الواردة في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، ومن الطبيعي ان يكب هذا الحديث، أوليس هو القائل أن علياً عليه السلام أخطأ في سبعة عشر موردا ؟ قال ابن تيمية:
وحديث (أنا مدينة العلم وعلي بابها) أضعف وأوهى، ولهذا إنما يعد في الموضوعات وان رواه الترمذي، وذكره ابن الجوزي، وبين أن سائر طرقه موضوعة...
والكذب يعرف من نفس متنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مدينة العلم، ولم يكن لها إلا باب واحد، ولم يبلغ عنه العلم إلا واحد، فسد أمر الإسلام، ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحدا، بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب، وخبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن، وتلك قد تكون منتفية أوخفية عن أكثر الناس فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة...
وإذا قالوا ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخبره: قيل لهم: فلا بد من العلم بعصمته أولاً، وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن يعلم عصمته، فإنه دور، ولا تثبت بالإجماع، فإنه لا إجماع فيها، وعند الإمامية إنما يكون الإجماع حجة لأن فيهم الإمام المعصوم، فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه، فعلم أن عصمته لو كانت حقاً، لا بد أن تعلم بطريق آخر غير خبره...
فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلا هو، لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين، فُعلم أن هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل، ظنه مدحاً، وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام، إذ لم يبلغه إلا واحد...
ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر، فإن جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير علي، أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهما ظاهر وكذلك الشام والبصرة، فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن علي إلا شيئاً قليلاً، وإنما كان غالب علمه في الكوفة، ومع هذا فأهل الكوفة كانوا يعلمون القرآن والسنة قبل أن يتولى عثمان فضلاً عن علي...

كتاب منهاج سنة ابن تيمية ج 7 ص 515


والرد سيكون في نقاط

1 – ابن الجوزي لا يعتمد عليه في التصحيح والتضعيف:
أول ما يلاحظ أن ابن تيمية قد اعتمد على ابن الجوزي في رده لحديث مدينة العلم، وحكمه عليه بالوضع، وهذا خلاف المنهج العلمي، لأن المفروض ان ابن تيمية مجتهد وابن الجوزي كذلك فهل فقد ابن تيمية ملكة الاجتهاد هنا فالتجأ لتقليد ابن الجوزي ؟؟؟

ثم ان ابن الجوزي لا يعتمد عليه في التصحيح والتضعيف لا سيما في الأحاديث الواردة في فضائل أهل البيت عليهم السلام، ولننقل كلمات بعض الحفاظ في ابن الجوزي، قال الذهبي:

قال الذهبي: له وهم كثير في تواليفه، يدخل عليه الداخل من العجلة والتحويل إلى مصنف آخر، ومن أن جل علمه من كتب صحف ما مارس فيها أرباب العلم كما ينبغى.
تذكرة الحفاظ ج 4 ص 1347

وقال ايضا: قال الموفق عبد اللطيف في تأليف له: وكان كثير الغلط فيما يصنفه، فإنه كان يفرغ من الكتاب ولا يعتبره.
قال الذهبي: قلت: هكذا هو، له أوهام وألوان من ترك المراجعة، وأخذ العلم من صحف، وصنف شيئاً لو عاش عمرا ثانيا، لما لحق أن يحرره ويتقنه...
قال الذهبي: وكتب إلي أبو بكر بن طرخان، أخبرنا الإمام موفق الدين، قال: ابن الجوزي إمام أهل عصره في الوعظ، وصنف في فنون العلم تصانيف حسنة، وكان صاحب فنون، كان يصنف في الفقه، ويدرس، وكان حافظا للحديث، إلا أننا لم نرض تصانيفه في السنة، ولا طريقته فيها، وكانت العامة يعظمونه، وكانت تنفلت منه في بعض الأوقات كلمات تنكر عليه في السنة، فيستفتى عليه فيها، ويضيق صدره من أجلها.
قال الذهبي: وقال الحافظ سيف الدين ابن المجد: هو كثير الوهم جدا، فإن في مشيخته مع صغرها أوهاما، قال في حديث: أخرجه البخاري، عن محمد ابن المثنى، عن الفضل بن هشام، عن الأعمش... وإنما هو عن الفضل بن مساور، عن أبي عوانة، عن الأعمش.
وقال في آخر: أخرجه البخاري، عن عبدالله بن منير، عن عبد الرحمان بن عبدالله بن دينار... وبينهما أبو النضر، فأسقطه.
وقال في حديث: أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد الاثرم... وإنما هو محمد بن أحمد.
وقال في آخر: أخرجه البخاري عن الاويسي، عن إبراهيم، عن الزهري... وإنما هو عن إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن الزهري.
وقال في آخر: حدثنا قتيبة، حدثنا خالد بن إسماعيل... وإنما هو حدثنا حاتم.
وفي آخر: حدثنا أبو الفتح محمد بن علي العشاري... وإنما هو أبو طالب.
وقال: حميد بن هلال، عن عفان بن كاهل... وإنما هو هصان بن كاهل.
وقال: أخرجه البخاري، عن أحمد ابن أبي إياس... وإنما هو آدم.
وفي وفاة يحيى بن ثابت، وابن خضير، وابن المقرب ذكر ما خولف فيه.
قال الذهبي: قلت: هذه عيوب وحشة في جزئين.
قال السيف: سمعت ابن نقطة يقول: قيل لابن الأخضر: ألا تجيب عن بعض أوهام ابن الجوزي ؟
قال: إنما يتتبع على من قل غلطه، فأما هذا، فأوهامه كثيرة.
ثم قال السيف: ما رأيت أحدا يعتمد عليه في دينه وعلمه وعقله راضيا عنه.
قلت: إذا رضي الله عنه، فلا اعتبار بهم.
قال: وقال جدي: كان أبو المظفر ابن حمدي ينكر على أبي الفرج كثيرا كلمات يخالف فيها السنة، قال السيف: وعاتبه أبو الفتح ابن المني في أشياء، ولما بان تخليطه أخيرا، رجع عنه أعيان أصحابنا وأصحابه، وكان أبو إسحاق العلثي يكاتبه، وينكر عليه.
سير أعلام النبلاء ج 21 ص 377


2 – دلالة حديث مدينة العلم:
من خلال التدبر في الحديث الشريف سيتضح فساد كلام ابن تيمية، وقد ذكر أحد أعلام أهل السنة وهو السيد علي بن محمد العلوي (من علماء اليمن توفي سنة 1409 هـ) توجيها علمياً جيدا للحديث، يتناسب مع عقيدة أهل السنة، قال:
قوله: (وعلي بابها) يفيد أن جميع ما في المدينة والدار من العلم والحكمة، يكون طريق خروجه من هذا الباب، ولهذا جاء بعده: فمن أراد العلم أو قال الحكمة فليأت الباب.
وهذا فيه حصر ادعائي، وهو يفرض أن ما عدى المقصور عليه في حكم المعدوم، وهو في الحقيقة ليس بمعدوم.
وذلك إذا علم أن أحدا وصل في وصف الغاية والذروة جاز أن يحصر هذا على وجه المبالغة، كأنه وحيد فيه، مع أن الحقيقة غير ذلك، فيكون هذا الباب الذي يخرج منه علم المدينة أو الذي يخرج منه حكمة الدار هو علي عليه السلام، مبالغة، مع أن غير علي يشارك علياً من الأخذ عن طريق هذا الباب من علم المدينة أو حكمة الدار، لكن لما كان أكثر علم هذا الباب يحمله علي عليه السلام، أطلق عليه أنه الباب، ويرجع ذلك إلى أن عليا أعلم الصحابة.
والحصر الادعائي أي على أساس ما ادعاه المتكلم وأراده، لا على أساس الحقيقة، إذ يراد به التعبير عن التعظيم لمن قيل فيه، كأن الصفة مقصورة عليه ليست في غيره، للتنويه بأنه قد حاز قصب السبق والكمال فيها.
والعرب لا تصرف تدقيق ما تقوله على أساس أهل المنطق، وإنما كلامهم تابع لمرادهم، فإنهم يرسلون العام ويريدون الخصوص، ويفهم هذا على حسب العادة أو العقل أو بساط الكلام، كما تقول أمر الأمير الناس بكذا، وأنت تريد من في أمارته فقط، ويقول التلميذ جئت إلى المدرسة أول الناس، وهو يريد أول التلاميذ، وهكذا ترى أن أساس كلامهم على مراد القائل، وكذلك خاطبهم الله على هذا الأساس، فالله سبحانه وتعالى يقول: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ } أي ما هو لازم لهم في إصلاح حياتهم.
ومثله قوله تعالى: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}
وقوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ}
وقال في آخر الانعام: {وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} وإنما يريد النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول أمته. وكذلك قالت السحرة وقد حكى الله ذلك عنهم في قوله عز وجل: {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} وإنما أرادوا أول المؤمنين من قوم فرعون.
وقال سبحانه: {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} يخاطب اليهود المعاصرين له في الجزيرة، ولا شك أن مشركي العرب كفروا به قبلهم.
وقال تعالى شأنه في بني إسرائيل: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي على عالمي زمانهم، وقد فضل أمة سيد الرسل محمد بن عبد الله على جميع الأمم بقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.
فعلى هذا الأساس أي ما يتفاهم به العرب جاء الحصر الإضافي، وهو أن يحصر الوصف في موصوف أو موصوفا في وصف بالنسبة لأمر من الأمور ولا يكون ذلك على سبيل الحقيقة، وهذا النوع من الحصر مشهور في كتاب الله، كقوله تعالى: {إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي إن لله صفة الالوهية والوحدانية، ردا على المشركين الذين يجعلون الأصنام آلهة مع الله تعالى.
ولا يمنع الحصر الإضافي أن يكون لله صفات أخرى تساند صفة الالوهية والوحدانية.
وعلى أساس الحصر الادعائي قال النبي صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة) وقال (الدعاء العبادة) ومن المعلوم أن أركان الحج وشؤونه كثيرة، ولكن أراد النبي صلى الله عليه وسلم التنبيه بأن أهم أركانه إدراك الوقوف بعرفه، وبه يدرك الحج، لان له وقتا محددا يفوت بفوته، فبُولِغَ فيه بأنه كل الحج.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (الدعاء العبادة) فإن من المعلوم أن العبادة أنواع كثيرة، ولكن لما كان الدعاء وقوف العبد لله سبحانه خاضعا خاشعا معترفا بالضعف والعجز والحاجة، وذلك أهم وأقوى ما في العبادة، عبر عنه بأنه كل العبادة.....


ثم قال بعد أن أورد روايات تبين سعة علم أمير المؤمنين عليه السلام:
وحينئذ فعلم علي ومعرفته بعلوم الدين معلوم بالتواتر، فحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها، أو أنا دار الحكمة وعلي بابها، هو على ما فسرناه مضمون هذه الأحاديث والآثار، فلا محل لما يتشاغل به المشاغبون، كما أن ما يقوله المدعون: إن هذا الحديث يحصر الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي لا محل له، فالحديث لا يحصر الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي، بل هو كقوله صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة) بل هو ليس في باب الرواية، بل في فهم الدين كله، كما سمعته مما حررناه.
دفع الارتياب عن حديث الباب ص 11 - 19

3 – ولدينا معنى أرقى من هذا:
المعنى الذي ذكره السيد العلوي المتقدم هو المعنى الذي يتناسب مع عقيدة أهل السنة الذين حكموا بصحة أو حسن الحديث، كيحيى بن معين والطبري والحاكم وابن حجر العسقلاني وابن حجر الهيتمي والسخاوي والسيوطي والمناوي وغيرهم، ولكن في مدرسة أهل البيت يكون المعنى أرقى بكثير...

فإن أهل البيت عليهم السلام وفي طليعتهم أمير المؤمنين عليه السلام، ليسوا رواة أحاديث...

بل هم حجج الله تعالى وهم خزان علمه ومحال معرفته معادن حكمته وحفظة سره وحملة كتابه وتراجمة وحيه، وهم باب الله والسبيل إليه والإدلاء عليه، كما ورد في الزيارة الجامعة وغيرها من الزيارات والروايات... فهل يليق مع وجود إمامٍ اجتمعت فيه هذه الصفات أن نتركه ونرجع لغيره ؟؟؟


{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}

{أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}



فحينئذ يكون المعنى المقصود بحديث مدينة العلم تحديد المرجعية الإلهية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله في شخص أمير المؤمنين عليه السلام، وهذا ما تقتضيه النصوص الأخرى كآية المباهلة وتحديدا قوله تعالى: {وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ} وحديث الغدير وحديث الثقلين... إلخ.

ومن أعجب الأعاجيب: أن يؤخر ذلك الرجل الذي كان نفس النبي صلى الله عليه وآله، ومن هو أولى بكل مؤمن من نفسه، فيكون الرابع في الترتيب !!!

فيا له من ظلم فظيع !!!

ومما تقدم يتبين أن نفس كلام أمير المؤمنين عليه السلام حجة، كما أن كلام رسول الله صلى الله عليه وآله حجة، فيتضح أن قول ابن تيمية: ان الدين يجب أن ينقل بالتواتر، وحديث مدينة العلم يحصر النقل بواحد، يتضح أنه كلام أجنبي وبعيد عن الواقع، لأن المفروض أن هذا الواحد معصوم، والمعصوم لا يحتاج لمساعد يساعده في الحفظ والضبط، وإلا فكيف يكون معصوما !!!

وقد التفت ابن تيمية إلى هذا المعنى فطالب بإثبات العصمة من طريق آخر غير طريق أمير المؤمنين عليه السلام، وهي ثابتة ولله الحمد وأدلتها موجودة في كتب العقيدة والتفسير، ولا شك ان ابن تيمية لديه إطلاع عليها، ولكن قد عميت بصيرته، والله الهادي...

والخلاصة:
ان حديث مدينة العلم يقتضي الحصر كما ذكر السيد العلوي، ولكنه حصرا حقيقيا وليس إضافيا، ويشهد بصحة هذا ما رواه الشيعة والسنة عندما قال رسول الله صلى الله عليه وآله كلمته المشهورة بعد أن بعث أبا بكر ثم رده في قصة سورة براءة والرواية رواها الترمذي قال: حدثنا بندار، أخبرنا عفان بن مسلم و عبد الصمد قالا أخبرنا حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن أنس بن مالك قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم ببراءة مع أبى بكر، ثم دعاه فقال:
لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي، فدعا عليا فأعطاه إياها".
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث أنس.
سنن الترمذي ج 4 ص 339

ورواه أحمد: حدثنا عبد الله ثنا محمد بن سليمان لوين ثنا محمد بن جابر عن سماك عن حنش عن على رضى الله عنه قال: لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه وسلم، دعا النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني النبي صلى الله عليه وسلم فقال لى: أدرك أبا بكر رضي الله عنه، فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه عليهم، فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه، ورجع أبو بكر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله نزل في شيء ؟
قال: لا، ولكن جبريل جاءني فقال: لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك.
مسند أحمد ج 1 ص 151

ورواها الشيخ المفيد أعلى الله مقامه، قال: أخبرني أبو الحسن علي بن خالد المراغي قال: حدثنا أبو القاسم الحسن بن علي الكوفي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن مروان الغزال قال: حدثنا أبي قال: حدثنا عبيد بن خنيس العبدي قال: حدثنا صباح بن يحيى المزني عن عبد الله بن شريك، عن الحارث بن ثعلبة قال: قدم رجلان يريدان مكة والمدينة.... إلى أن قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر ببراءة لينبذ إلى المشركين، فلما سار ليله أو بعض ليله، بعث بعلي بن أبي طالب نحوه فقال: اقبض ببراءة منه واردده إلي. فمضى إليه أمير المؤمنين عليه السلام فقبض براءة منه ورده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما مثل بين يديه عليه السلام بكى، وقال: يا رسول الله أحدث في شيء أم نزل في قرآن ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لم ينزل فيك قرآن [و] لكن جبرئيل عليه السلام جاءني عن الله عز وجل فقال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك، وعلي مني وأنا من علي، ولا يؤدي عني إلا علي".
الأمالي ص 55


والحمد لله أولا وآخرا



**********

شبهة وردها

بسم الله الرحمن الرحيم

طرح الشبهة:
لا يختلف اثنان في ان تبليغ الأحاديث والأحكام عن رسول الله صلى الله عليه وآله جائز، وعلى هذا جرت سيرة كافة المسلمين فحفظوا الأحاديث ودونها، وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وروى الكليني أعلى الله مقامه عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله عليه السلام: أن رسول الله صلى الله عليه وآله خطب الناس في مسجد الخيف، فقال: نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه... الحديث
الكافي ج 1 ص 403

ورواه الشيخ الصدوق أعلى الله مقامه باختلاف يسير جداً، قال: حدثنا أبي رضي الله عنه قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، عن حماد بن عثمان، عن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: خطب رسول الله صلى الله عليه واله الناس بمنى في حجة الوداع في مسجد الخيف فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها، ثم بلغها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه... الحديث
الخصال ص 149

وهذا الحديث مروي في كتب أهل السنة ايضا، قال أبو داود: حدثنا مسدد، ثنا يحيى، عن شعبة، حدثنى عمر بن سليمان من ولد عمر بن الخطاب، عن عبد الرحمن بن أبان، عن أبيه، عن زيد بن ثابت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه.
سنن أبي داود ج 2 ص 179
ورواه الترمذي في سننه ج 4 ص 141 وابن ماجه في ج 1 ص 85


إذا فكيف يصح أن يقال ان التبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وآله لا يكون إلا بواسطة رجل منه، أو بواسطة باب المدينة، وفي نفس الوقت نقول بجواز التبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وآله لكل من سمع كما تقدم ؟؟؟

رد الشبهة:
الوقوف على إشكالات من هذا القبيل يولد لدينا معرفة دقيقة وشاملة، ولذا فإن إثارتها تبعث إلى البحث عن إجابة تروي الغليل، الأمر الذي يزيد المرأ بصيرة... ونحن بين يدي قضيتين ظاهرهما التناقض، لكن الأمر ليس كذلك، فيجب علينا إمعان النظر والتدقيق لنتعرف على طريقة نجمع فيها بين صحة الأمرين معا، والجمع بينهما يقتضي ضرورة التمييز بين معنيين من التبليغ، وقد تكفل العلامة المحقق السيد مرتضى العسكري دام ظله الشريف ببيان ذلك بأتم بيان قال:


الائمة: علي وبنوه عليهم السلام، مبلغون عن رسول الله صلى الله عليه وآله:
حصر القرآن الكريم في عدة آيات وظيفة الرسل في التبليغ، مثل قوله تعالى: {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ}.
وقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}.
وقوله: {أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}.
وقوله: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.
وحصر كذلك وظيفة خاتم الرسل خاصة في التبليغ بقوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ}.
وقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}.

وينقسم التبليغ إلى: تبليغ مباشر، وتبليغ بواسطة.
والى: تبليغ ما حان وقت عمله، وما لم يحن.
مثل حكم الطائفتين المتقاتلتين من المؤمنين، وواجب المسلمين تجاه الحاكم الجائر.

وينقسم ما يبلغه الرسول إلى قسمين:
(أ) ما أوحي إلى الرسول لفظه ومعناه، وهو كتاب الله، ويسمى في هذه الأمة بالقرآن الكريم قال سبحانه: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ}.

(ب) ما أوحي إلى الرسول معناه دون لفظه، وبلغه الرسول بلفظه الشريف، مثل تبليغه تفصيل أحكام الشرع، قال الله سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.

إن الرسول عندما يعين عدد ركعات الصلاة وأذكارها ويبين سائر أحكامها وسائر أحكام الشرع الإسلامي، أو يبلغ أنباء الأمم السابقة والغيوب الآتية في هذه الدنيا أو العالم الآخر، إنما يبلغ ما أوحي إليه في غير القرآن الكريم {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}.
ويسمى هذا النوع من التبليغ في هذه الأمة بالحديث النبوي الشريف.

حصرت الآيات السابقة وظيفة الرسول بالتبليغ، وعلى هذا فإن الصفة المميزة للرسول هي التبليغ، وإذا قال الرسول عن شخص (إنه مني) يعني انه منه في أمر التبليغ، ولا نقول هذا اعتباطاً، بل قد وجدنا الرسول يصرح بذلك في قسم من تلك الأحاديث، مثل ما ورد في قصة تبليغ آيات البراءة التالية...

قصة تبليغ آيات البراءة:
وردت قصة تبليغ سورة البراءة في صحيح الترمذي وتفسير الطبري وخصائص النسائي ومستدرك الصحيحين وغيرها، عن أنس وابن عباس وسعد بن أبي وقاص و عبد الله بن عمر وأبي سعيد الخدري وعمر بن ميمون وعلي بن أبي طالب، وأبي بكر، ونختار هنا ذكر رواية أبي بكر الواردة في مسند أحمد، إلى قوله: قال أبو بكر: "ان النبي بعثه ببراءة لأهل مكة، لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة فأجله إلى مدة، والله برئ من المشركين ورسوله، قال فسار بها ثلاثا ثم قال لعلي: "الحقه فرد علي أبا بكر وبلغها أنت".
قال: ففعل، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر بكى وقال: يا رسول الله حدث في شئ ؟
قال: "ما حدث فيك إلا خير، ولكني أمرت أن لا يبلغه إلا أنا أو رجل مني".
وفي رواية عبد الله بن عمر: "ولكن قيل لي: أنه لا يبلغ عنك إلا أنت أو رجل منك".
وفي رواية أبي سعيد الخدري: "لا يبلغ عني غيري أو رجل مني".

تدلنا القرائن الحالية والمقالية في المقام، ان القصد من التبليغ في هذه الروايات وما شابهها تبليغ ما أوحى الله إلى رسوله من أحكام إلى المكلفين بها في بادئ الأمر، وهذا ما لا يقوم به إلا الرسول أو رجل من الرسول.

ويقابل هذا التبليغ، التبليغ الذي يقوم به المكلفون بتلك الأحكام بعدما بُلِغوا بها بواسطة الرسول أو رجل من الرسول فان لهم عند ذاك أن يقوموا بتبليغها إلى غيرهم، ويطرد جواز هذا التبليغ ورجحانه ويتسلسل مع كل من بلغه الحكم إلى أبد الدهر.

وواضح أن الرسول عنى بقوله: "لا يبلغ عني غيري أو رجل مني التبليغ من النوع الأول".
ويفسر ايضا لفظ: "مني" في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله، حديث المنزلة الآتي...

علي من النبي بمنزلة هارون من موسى:
في صحيح البخاري، ومسلم، ومسند الطيالسي، واحمد، وسنن الترمذي، وابن ماجة وغيرها واللفظ للاول، ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي".
ولفظ مسلم وغيره: "إلا أنه لا نبي بعدي".
وفي رواية ابن سعد في الطبقات عن البراء بن عازب وزيد بن أرقم قالا: لما كان عند غزوة جيش العسرة وهي تبوك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: انه لابد من أن أقيم أو تقيم، فخلفه، فلما فصل رسول الله صلى الله عليه وسلم، غازياً قال ناس: ما خلف علياً إلا لشيء كرهه منه ! فبلغ ذلك علياً فاتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليه فقال له: ما جاء بك يا علي ؟
قال: لا يا رسول الله إلا أني سمعت ناساً يزعمون انك إنما خلفتني لشيء كرهته مني.
فتضاحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا علي أما ترضى أن تكون مني كهارون من موسى غير أنك لست بنبي ؟
قال: بلى يا رسول الله، قال فإنه كذلك.
وقد مر بعض ألفاظ الحديث في باب من استخلفه النبي صلى الله عليه وآله على المدينة في غزواته.

المراد من لفظ: "مني" في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله:
إن لفظ: "مني" في حديث "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" يوضح المراد من هذه اللفظ في احاديث الرسول الأخرى، وذلك أن هارون لما كان شريك موسى في النبوة ووزيره في التبليغ وكان علي من خاتم الأنبياء بمنزلة هارون من موسى باستثناء النبوة يبقى لعلي الوزارة في التبليغ، وعلى هذا فان الرسول فسر لفظ: "مني" في هذه الأحاديث بكل وضوح وجلاء، ان القصد منه انه منه في مقام التبليغ عن الله إلى المكلفين بلا واسطة، ومن ثم يتضح معنى: "مني" في أحاديث أخرى للرسول صلى الله عليه وآله في حق الإمام علي، والذي ورد فيها غير مفسرة، مثل ما ورد في رواية بريدة في خبر الشكوى ان الرسول صلى الله عليه وآله قال له: "لا تقع في علي فانه مني و... ". ورواية عمران بن حصين: "ان عليا مني... ".
في كل هذه الروايات قصد الرسول (ص) أن عليا والائمة (ع) من ولده، من رسول الله صلى الله عليه وآله في حمل أعباء التبليغ إلى المكلفين مباشرة وظيفتهم من نوع وظيفته، وعلى هذا فهم منه وهو منهم، يشتركون في التبليغ ويختلفون في أنه يأخذ الأحكام التي يبلغها من الله عن طريق الوحي، وهم يأخذونها عن طريق رسول الله صلى الله عليه وآله، فهم مبلغون عن رسول الله إلى الأمة، وقد أعدهم الله ورسوله لحمل أعباء التبليغ وذلك بما عصمهم الله من الرجس وطهرهم تطهيرا كما أخبر سبحانه عن ذلك في آية التطهير، وبما أفاض الرسول على الإمام علي خاصة مما أوحى الله إليه ثم ورث الائمة من أبيهم الامام علي ذلك واحدا بعد الآخر كما نصت على ذلك الروايات الآتية...

حامل علوم الرسول صلى الله عليه وآله:
في تفسير الرازي وكنز العمال قال علي: "علمني رسول الله صلى الله عليه وآله ألف باب من العلم وتشعب لي من كل باب ألف باب". وفي تفسير الطبري وطبقات ابن سعد وتهذيب التهذيب وكنز العمال وفتح الباري واللفظ للأخير: عن أبي الطفيل قال: شهدت عليا وهو يخطب وهو يقول: سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم به، وسلوني عن كتاب الله فو الله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل...". ومن هنا قال في حقه رسول الله صلى الله عليه وآله كما رواه جابر بن عبد الله: "أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب" قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد... إلخ

كتاب معالم المدرستين ص 313


إذاً فأهل البيت عليهم السلام هم المبلغون عن الله تعالى بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، ووظيفة التبليغ كما تدل الآيات الكريمة من خصائص رسول الله صلى الله عيه وآله وحده بالأصالة وأهل البيت عليهم السلام بالتبعية، أما وظيفة رواية الأخبار ونقل الأحكام التي بُلِغت فعلا، فهي وظيفة عامة يحق لكل من توفرت فيها صفة الوثاقة والضبط أن يؤديها، وأين هذه من تلك ؟؟؟

فالرواة ينطبق عليه الحديث الشريف: "فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"

أما أهل البيت عليهم السلام فلهم شأن آخر...

والحمد لله رب العالمين