منشور في مجلة تراثنا – العدد 47 و 48
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
تاريخ الحديث وعلومه
[مراحل تدوين الحديث عند الشيعة الاِمامية، ابتداءً من عصر الرسول صلى الله عليه وآله ، وانتهاءً بعصر الشيخ الطوسي]
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الاَنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
تمهيـد:
إنّ السُنّة النبوية ـ قولاً، وفعلاً، وتقريراً ـ هي صنو القرآن الكريم وتالية له، فالقرآن الكريم يشرّع الاَُصول والقوانين، ويؤسّس القواعد الكلية للاَحكام والاَخلاق والآداب، بل لكلّ ما يتّصل بعلوم الدين ومعارفه ومناهجه التربوية والاجتماعية، والسُنّة المطهّرة تتناول تلك الاَُصول والقواعد فتفصّلها، وتوضّح مبهماتها، وتحلّ متشابهاتها، وتبيّن مجملاتها، مع ما تفرّعه عليها، بحيث لم تدع ملحظاً كليّاً أو جزئياً له صلة بالفرد أو المجتمع إلاّ وقد بيّنت حكمه وأرشدت إليه بكلّ دقّة وتفصيل، وبشكل يستحيل معه رفع اليد عن السُنّة النبويّة في فهم القرآن الكريم.
وعليه، فمحاولة فصل السُنّة عن القرآن الكريم: هي بمثابة الاِعراض عن كتاب الله عزّ وجلّ، والتعبير عن اللامبالاة بتعاليمه الآمرة بالاَخذ بمدلول السُنّة الشريفة: (ومَا آتاكمُ الرسولُ فخذوهُ ومَا نَهاكمْ عنه فانتهُوا)(1).
وعلى الرغم من وضوح هذه الحقيقة إلاّ أنّ محاولات فصل السُنّة عن القرآن الكريم قد وُجدت لها الاَعذار من الشريعة نفسها، واختُلقت لها المبرّرات التي سنقف عندها لنرى مدى صدقها وانطباقها مع أسباب ودوافع منع تدوين الحديث الشريف، الذي ظهر بُعَيد وفاة الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمّ اتُّخذ المنع عن كتابة الحديث منهجاً سياسياً طيلة قرنٍ من الزمان، بعدما كان تعاطي الحديث ونشره من قبل الصحابة أمراً طبيعياً جدّاً في العهد النبوي، بل تقتضيه طبيعة رسالة الاِسلام في كلّ حين، لعالميّتها (وَما أَرسلناكَ إلاّ رَحمةً للعالمين)(2).
نعم، لم يُمنع أحدٌ من كتابة الحديث الشريف في العهد النبوي الشريف، كما تدلّ عليه جميع الدراسات الموضوعية الخاصّة بدراسة تاريخ السُنّة المُطهّرة ومراحل تدوين الحديث، فقد جمعت تلك الدراسات أسماء المدوّنين والمدوّنات الحديثية في العهد النبوي، وبشكل مُلفت للنظر؛ لكثرتها في ذلك العصر المتقدّم من عمر الاِسلام، بخلاف ما قد يُظن من نُدرتها تبعاً لظروف التدوين ونُدرة وسائله حينذاك، مع استقراء الروايات الدالّة على إباحة التدوين.
وأمّا الروايات المخالفة لذلك، بنسبة المنع إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فهي
____________
(1) سورة الحشر 59: 7.
(2) سورة الاَنبياء 21: 107.
مكذوبة عليه صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا أصل لها في واقع التشريع، ويكذّبها القرآن الكريم، وتشنّ السُنّة المطهّرة ـ نفسها ـ حرباً شعواء على تلك الروايات وتدفعها؛ لمخالفتها الصريحة لتطلّعات دين الاِسلام نحو الكتابة والتعلّم والسعي في طلبه، وبيان فضله حتّى ورد في الخبر: « عالم يُنتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد»(1) و «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المُهج وخوض اللجج»(2)، فضلاً عن مخالفتها لمقتضيات العقل السليم، وطبيعة الحضارات في كلّ زمان ومكان.
غاية ما في الاَمر.. أنّه ـ وبعد وفاة الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم ـ مرّ حديثه الشريف بأَزْمةٍ خانقة، ومواقف سلبيّة أدّت إلى الحظر عليه روايةً، ومنعه تدويناً، حتّى اتّسمت تلك المواقف بتصرّفات شاذّة، كحرقهم صحائف الحديث الشريف، ودفنهم كتبه، وحبس الصحابة في مركز الخلافة خوفاً من تفشّي الحديث خارج المدينة المنوّرة، مع النهي العامّ عن تعاطي الحديث رواية وتدويناً!!
لقد تركت تلك المواقف آثارها السيّئة على واقع الحديث، إذ غُيّرت السُنّة، ومُحقت الشريعة، وذلك بتمهيد السُبل أمام الاَيدي الآثمة من الزنادقة، وأهل الاَهواء، لاَنْ تعبث بالحديث الشريف، فتضع ما شاء لها الهوى لا سيما مَنْ تَقرّبَ إلى بلاط الاَُمويين باختلاق الروايات التي تؤيّد عروشهم، وتنال من خصومهم السياسيين، كما تشهد عليه الكتب المؤلّفة في الموضوعات والوضّاعين.
وبدلاً من أن تجتمع الكلمة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على صيانة
____________
(1) أُصول الكافي 1: 82 ح 8، باب 2 من كتاب فضل العلم.
(2) أُصول الكافي 1: 85 ح 5، باب 4 من كتاب فضل العلم.
حديثه الشريف من عبث العابثين، حدث العكس تماماً! كما سنرى في المواقف الحكومية الاَُولى من تدوين الحديث الشريف.
في تاريخ الحديث الشريف موقفان متعارضان، تميّز أحدهما بالتزام تدوين الحديث الشريف والحفاظ عليه، ويمثّله أهل البيت عليهم السلام ، وشيعتهم كما سيتّضح في ما بعد.
وتميّز الآخر ـ وهو الخطّ الحاكم الذي برز بعد أحداث السقيفة وامتدّ إلى زمان عمر بن عبدالعزيز الاَُموي (ت 101 هـ) ـ بمواقف سلبية متطرّفة جدّاً، حتّى مُنع الحديث روايةً وتدويناً، واتّخذ المنع صفته الرسمية طيلة تلك الفترة، وسنبتدىَ بدراستها وتقييمها على النحو الآتي:
موقف أبي بكر من الحديث الشريف:
عن عائشة، قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت خمسمائة حديث، فبات ليلته يتقلّب... فلمّا أصبح قال: أي بُنَيَّة، هلمّي الاَحاديث التي عندكِ. قالت: فجئته بها، فدعا بنار فحرقها! فقلت: لِمَ أحرقتها؟!
قال: خشيت أن أموت وهي عندي، فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت [به]، ولم يكن كما حدّثني، فأكون قد نقلت ذلك(1)!!
____________
(1) تذكرة الحفّاظ 1| 5، في ترجمة أبي بكر.
ويلاحظ هنا:
إنّ تصرّف أبي بكر بجمع خمسمائة حديث شاهد على عدم وجود النهي السابق بشأن تدوين الحديث، وإلاّ لكان ذلك الجمع مخالفاً للنهي عنه.
كما إنّ تعليله إحراق الاَحاديث بالنار لم يستند على نهي سابق عن التدوين، بل كان لاَجل خشيته من عدم مطابقة تلك الاَحاديث للواقع، وخوفه من المشاركة في حمل أوزارها.
وهذا ممّا لا يمكن قبوله للاَسباب التالية:
1 ـ إنّ من كان مثل أبي بكر لا يحتاج إلى مثل هذه الطريقة في جمع الاَحاديث قطعاً، إذ بإمكانه ـ وهو الخليفة المطاع أمره ـ أن يُوعِز إلى كبار الصحابة وأجلاّئهم وحفّاظهم بذلك، ويوكل لهم أمر التحرّي عن صدق ما يتناقله الناس من الحديث في عصره، وَيوكل إليهم مهمّة الجمع على غرار ما يروى من أنّه جمع المصحف الشريف، ودوّن بإشرافه.
2 ـ لو تنزّلنا عن ذلك، فإنّه لا يحتاج إلى الواسطة في رواية خمسمائة حديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، بالقياس إلى فترة إسلامه المبكّر، ومن غير المعقول أن لا تكون لاَبي بكر مسموعات بلا واسطة من ضمن المقدار الذي جمعه، إذ من البعيد جدّاً أن يترك ما سمعه بنفسه عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويقتصر على ما سمعه بالواسطة!
فظاهر الحال أنّه أحرق مسموعاته ومسموعات غيره، ولا أجد ـ مع هذا الفرض المقبول ـ تعليلاً في تكذيب الرجل نفسه، ليسوّغ له إحراق ما
سمعه بأُذُنِه.
3 ـ إنّه صرّح بوثاقة الناقل وأمانته في تأدية الحديث، وعليه فلا معنى للشكّ في صدقه أو التأمّل في وثاقته، ولا يبرّر هذا الشكّ حرق الاَحاديث، على أنّه يمكن له التأكّد من سلامتها بعرضها على مجموع الصحابة، فإنْ شهدوا بكذبها جميعاً فعليه التشهير بناقلها وتأديبه كما يقتضيه واجبه الشرعي، وإنْ قالوا بصحّتها فيمضي ما جمعه بلا إحراق؛ ليكون سُنّة حسنة تُقتفى من بعده.
كلّ هذا يدلّ على أنّ وراء حرق الاَحاديث سبب غير معلن، لعدم قبول الاَسباب المعلنة عقلاً.
وفي «تذكرة الحفّاظ» في ترجمة أبي بكر، إنّه جمع الناس بعد وفاة نبيّهم صلى الله عليه وآله وسلم وقال لهم: «إنّكم تحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه»(1).
وفيه:
إنّه عبّر عن رغبته في عدم انتشار الحديث، فنهى عنه بذريعة الاختلاف! ويَرِد عليه ما أوردناه سابقاً من إمكانية إزالة أسباب الاختلاف الحاصل في الاَحاديث بيسر وسهولة قبل أن تتفاقم بَعده، أمّا تركها على ما هي عليه من الاختلاف، والاكتفاء بمجرّد النهي، فليس هو الحلّ الاِسلامي
____________
(1) تذكرة الحفّاظ 1|3 رقم 1.
الذي ينبغي أن يُصار إليه.
ومن ثَمّ فإنّ نهيه عن التحديث المعلّل بوقوع الاختلاف، لو تمّ لزم منه أن يطّرد النهي لاطّراد العلّة، حتّى يشمل النهي القراءات المختلفة للقرآن الكريم التي كانت معروفة في عصره، وهي لا تقلّ خطراً عن اختلاف الحديث.
ثمّ كيف نجد التكييف الشرعي لهذا التصرّف مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم : رحم الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فحَفظها، فبلّغها عنّي»؟! وقوله الكريم بعد كثير من إرشاداته وتبليغاته: «فليبلّغ الشاهد الغائب»؟!
على أنّ هذا الموقف العجيب من السُنّة المطهّرة، قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، منبّهاً على كونه وشيك الوقوع، أي: قريبه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «يوشك الرجل متّكئاً على أريكته يُحَدَّثُ بحديثٍ من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عزّ وجلّ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرّمناه!! ألا وإنّ ما حرّم رسول الله مثل ما حرّم الله»(1).
وقد علمت مَن أقدم على حرق الاَحاديث، وقال مخاطباً أهلها: «بيننا وبينكم كتاب الله»!
موقف عمر من تدوين الحديث الشريف:
لقد استمرّ المنع من الحديث روايةً وتدويناً في عهد أبي بكر، ولمّا
____________
(1) سنن ابن ماجة 1|6 رقم 12، وسنن الترمذي 5|37 حديث 26663، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه من طريق آخر، وسنن أبي داود 4| 200 رقم 4604 و 4605 باب لزوم السُنّة، ومسند أحمد 6|8، والمستدرك على الصحيحين 1|108 قال: وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورواه من طريق آخر وقال: وجدنا للحديث شاهدين بإسنادين صحيحين.
( 202 )
استخلف عمر بعهد الخلافة إليه، جرى عمر على سيرته حذو النعل بالنعل، وفاقه في تعميم المنع الصريح من الحديث روايةً وتدويناً على جميع الاَمصار الاِسلامية.
فعن عروة بن الزبير قال: «إنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله شهراً، ثمّ أصبح يوماً وقد عزم الله له، فقال: إنّي كنت أردت أنْ أكتب السنن، وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها، فتركوا كتاب الله تعالى، وإنّي ـ والله ـ لا ألْبِسُ كتاب الله بشيءٍ أبداً»(1)
.
ثمّ كتب عمر ـ على أثر ذلك ـ إلى المسلمين في جميع الاَمصار الاِسلامية: «من كان عنده منها ـ أي: السنن ـ شيءٌ فليمحه»(2).
كما إنّه عَلِمَ بوجود بعض المدوّنات الحديثيّة في أيدي الصحابة، فأمر أن يأتوه بها، فجاءوا بها إليه وظنّوا أنّه يقوِّمُها من الاِختلاف ثمّ يدوّنها في كتاب واحد، لكنّه أحرقها بالنار ثمّ قال: «أُمنيّة كأُمنيّة أهل الكتاب»(3).
الاقتداء بسنة عمر:
سار عثمان ومن والاه على طريقة عمر، ورأينا في عهدهما جملة من الصحابة كانوا يميثون صحائف الحديث المدوّنة بالماء، ويدفنون كتب الحديث المدوّنة تحت التراب! بلا حجّة ولا مبرّر معقول سوى أمر السلطة
____________
(1) تقييد العلم: 49.
(2) تقييد العلم: 53.
(3) تقييد العلم: 53.
واجتهادها في إبادة حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ولقد تعجّب ابن الجوزي ـ وحقّه أن يتعجّب ـ من هذا الصنيع الشاذّ، فوصفه بأنّه عناد عظيم للشريعة فقال: «فما عوندت الشريعة بمثل هذا»(1)، وأمّا عن دفن الكتب، فقد قال أحمد بن حنبل: «لا أعلم لدفن الكتب معنىً»(2).
ثمّ استمرّ منع الحديث كما يقول أبو زهو: «وقد تتابع الخلفاء على سُنّة عمر.. فلم يشأ أحدٌ منهم أن يدوّن السُنن، ولا أن يأمر الناس بذلك حتّى جاء عمر بن عبدالعزيز»(3).
أقول:
إنّ جميع من تعرّض لدراسة تاريخ السُنّة ومراحل تدوين الحديث الشريف فصّل موقف عثمان الموافق لمن سبقه بشأن الحديث وموقف معاوية المتشدّد إزاء كلّ حديث يروى عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام أو في أهل البيت عليهم السلام وتابعه ملوك الاَُمويّين إلى زمان عمر بن عبدالعزيز الاَُموي.
وقد ارتأينا عدم الخوض في مواقف السلطة في تلك الحقبة الزمنية والاكتفاء بموقف من ذكرنا إزاء الحديث روايةً وتدويناً اختصاراً للكلام ومراعاةً لحجم البحث، مع فسح المجال لحديث أهمّ في صفحاته اللاّحقة.
غير إنّه لا بُدّ من التذكير بتعرّض بعض الصحابة بعد وفاة الرسول إلى
____________
(1) نقد العلماء ـ أو: تلبيس إبليس ـ: 314 ـ 316.
(2) تقييد العلم: 63، وانظر مزيداً من هذه الاَقوال في «تدوين السُنّة الشريفة» للسيّد محمد رضا الحسيني الجلالي، الفصل الخاصّ بالمنع عن التدوين.
(3) الحديث والمحدّثون: 126.
الاستدعاء الرسمي من قبل المانعين الاَوائل لكي يعلموا جيداً اتّجاه السلطة ورغبتها في أن لا يشيع الحديث بين الناس، وقد استجابوا للسلطة على مضض، كأبي هريرة، وأبي مسعود، وابن مسعود، وأبي موسى الاَشعري، وأُبيّ بن كعب، وأبي الدرداء، بل وقد تعرّض بعضهم إلى الاِهانة من قبل السلطة مع تهديدها المباشر لهم إن لم يكفّوا عن إشاعة الحديث الشريف(1)!!
حجج المانعين عن التدوين:
لم تكن لدى المانعين حجّة شرعية يستندون إليها في مقام منع تدوين الحديث، ولكن اختُلقت لهم بعض الحجج في ذلك بنسبة المنع إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، مع أنّ أحداً من المانعين لم ينسب المنع قّط إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، مع كونهم أقرب الناس إلى عصر التشريع، وفي ذلك دليل على اختلاق تلك الروايات وافتعالها لصيانة الواقع التاريخي الذي ساد، وحفـظ كرامة السلف الماضين.
* ومن تلك الروايات، ما رووه عن أبي سعيد الخُدْري أنّه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : «لا تكتبوا عنّي، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه»(2).
وهذا الحديث باطل من وجوه:
أمّا من حيث السند، فقد حكم الحفّاظ بأنّه من الموقوفات على أبي
____________
(1) راجع: تدوين السُنّة الشريفة: 434 تحت عنوان: «عمر يهدّد الصحابة ويهينهم».
(2) صحيح مسلم 4\ 2289 ح 72، باب التثبّت في الحديث من كتاب الزهد.
سعيد الخُدْري، وليس من المرفوعات حتّى يصح الاحتجاج به.
وأمّا من حيث الدلالة، فلم يتّفق لاَحد من علماء الحديث عند العامّة أنّ فهم منه المنع العام عن تدوين الحديث، بل حمل على المنع عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة، خوف اختلاطهما على غير العارف في صدر الاِسلام.
ويكفي أنّ مسلماً ـ صاحب «الصحيح» ـ أورده في باب التثبّت في الحديث، وعنوان الباب صريح بأنّ مسلماً فهم منه مجرّد المحافظة على الحديث.
كما قيل بشذوذ الحديث أيضاً(1).
* ومنها أيضاً، ما رووه عن أبي سعيد كذلك من أنّه استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتابة الحديث فلم يأذن له(2).
وأوّل ما في هذه الرواية هو أنّ المنع خاصّ بأبي سعيد، فكيف يستفاد منها ـ على فرض صحّتها ـ المنع العام عن كتابة الحديث؟!
على أنّ راويها سفيان بن عيينة وهو متّهم بالتدليس.
إلى غير ذلك من الروايات الاَُخرى التي أشبعها السيّد الجلالي في «تدوين السُنّة الشريفة» بحثاً وتمحيصاً وانتهى إلى نتائج باهرة، بحيث يَسّر لغيره الوقوف على حقيقة تلك الروايات ومعرفة قيمتها العلمية سنداً ودلالة(3)،
____________
(1) هذه الوجوه من «تدوين السُنّة الشريفة»: 290 ـ باختصار ـ.
(2) تقييد العلم: 32.
(3) تدوين السُنّة الشريفة: 297 ـ 315.
( 206 )
معارضة المنع لاَحاديث الاِذن بالكتابة وإباحتها:
إنّ أحاديث منع التدوين المرفوعة والموقوفة معارضة لِما ورد في الصحيح الثابت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بشأن تدوين الحديث الشريف.
* من قبيل ما رواه رافع بن خديج قال: «قلت: يا رسول الله، إنّا نسمع منك أشياء، أفنكتبها؟ قال: اكتبوا ولا حرج»(1).
* وكذلك أمر صلى الله عليه وآله وسلم أن تُكتَب خطبته الشريفة عند فتح مكّة، حين طلب أبو شاه ـ رجل من أهل اليمن ـ أن يكتبوا له الخطبة، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : «اكتبو لاَبي شاه»(2).
* ومنها، قول عبدالله بن عمرو بن العاص: «يا رسول الله، إنّا نسمع منك أشياءً لا نحفظها، أفنكتبها؟ قال: بلى، فاكتبوها»(3).
* وعن عبدالله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «قيّدوا العلم بالكتاب»(4).
* وعنه أيضاً، قال: «كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأُريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كلّ شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشر يتكلّم في الرضا والغضب!!؟ قال: أمسكت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أكتب، فوالذي
____________
(1) تقييد العلم: 73.
(2) صحيح البخاري 1: 40 ـ 41، وصحيح الترمذي 5| 39 رقم 2667.
(3) تقييد العلم: 74.
(4) تقييد العلم: 69، ورواه أنس بن مالك في «تقييد العلم»، وابن عبّاس في الكامل ـ لابن عدي ـ 2|792 ،كما في «تدوين السُنّة الشريفة».
نفسي بيده ما خرج منه إلاّ حقّ، وأشار صلى الله عليه وآله وسلم بيده إلى فيه»(1).
* ومنها: حديث أبي هريرة: «ما كان أحد أكثر حديثاً منّي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ ما كان من عبدالله بن عمرو، فإنّه كان يكتب ولم أكن أكتب»(2).
* ومن ذلك أيضاً ما رواه الترمذي بسنده عن أبي هريرة، قال: كان رجل من الاَنصار يجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسمع من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الحديث، فيعجبه ولا يحفظه، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: يا رسول الله، إنّي لاَسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «استعن بيمينك» وأشار بيده إلى الخط(3).
معارضة المنع لاَُمور أُخرى:
كما إنّ أحاديث منع التدوين بالرغم من معارضتها إلى هذه الروايات وكثير غيرها، معارضة أيضاً لاِجماع أهل البيت عليهم السلام على إباحة التدوين، ومعارضة أيضاً لِما قام الدليل القاطع عليه، أعني وجود المدوّنين في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقد عرفوا بأسمائهم وأُفردوا بدراسات خاصّة عند الفريقين، هذا فضلاً عن وجود الخطّ الآخر الملتزم بتدوين الحديث ونشره بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة، مع عدم الرضوخ لاَوامر المنع ومقاومتها بكلّ قوّة كما سننبّه عليه في محلّه.
____________
(1) مسند أحمد 2|162، وتقييد العلم: 80 ـ 81.
(2) صحيح البخاري 1|36 باب كتابة العلم.
(3) صحيح الترمذي 5|39 رقم 2666.
( 208 )
ولاَجل هذه الاَُمور مجتمعة وجد مؤيّدو سياسة المانعين أنفسهم في أمسّ الحاجة إلى البحث عن مبرّرات معقولة ومقبولة تسوّغ ذلك التصرّف المريب إزاء الحديث الشريف رواية وتدويناً، فالتمسوها من أقوال المانعين أنفسهم! ولا بأس هنا من التطرّق اليها؛ لمعرفة قيمتها العلمية، مراعين بذلك الاختصار(1).
____________
(1) في كتاب «تدوين السُنّة الشريفة» للعلاّمة المحقق السيّد محمد رضا الحسينى الجـلالي جهد مميّز في متابعة أزمة منع تدوين الحديث الشريف، واستقراء ما في تاريخها من ملابسات، وما أفرزته تلك الاَزمة من مواقف العلماء والباحثين والمستشرقين حيالها، بما في ذلك مبرّرات المنع ومناقشتها.
ولمّا كان هذا المقال قد أُعدّ في الاَصل كجزء من مدخل لدراسةٍ موسعة عن مناهج المحدّثين، اقتضى الاَمر التنويه بالكتاب والاِشادة بما احتوى عليه من تحقيق، مع الاستفادة المباشرة منه فى أكثر من موضع.
المبرّر الاَوّل ومناقشته:
إنّ المنع عن كتابة الحديث كان لاَجل الحفاظ على القرآن الكريم، بمعنى الخشية من أن تؤدّي عملية تدوين الحديث إلى اختلاط الحديث بالقرآن، بحيث لا يُميّز أحدهما عن الآخر؛ ولهذا كان المنع عن تدوينه موفّقاً، وفي محلّه!
وفيه:
إنّ تصوّر المُراد بالتدوين الذي يُخشى من مغبّة اختلاطه بالقرآن الكريم، يمكن حصره بالتدوين الذي يكون في الصحائف التي دُوّن فيها القرآن الكريم، بحيث يكون الحديث بين الآية وأُختها من غير إشارة إلى أنّ هذا حديث، وهذا قرآن، ففي مثل هذه الحالة يتوجّه ما ذكروه من تبرير ـ بحقّ غير العارف ـ لو كان أمر التدوين محصوراً بها.
أمّـا لـو كان تدوين الحديث على حواشي وهوامش الصحائف القرآنية، متصدّراً ـ مثلاً ـ بقول المدوّن: قال الرسـول صلى الله عليه وآله وسلم كذا، قبيل كـلّ حديـث، فلا معنـى لاحتمـال اختلاطـه ـ مـع هذا الفرض ـ بالقـرآن الكـريـم.
وقد جرى بعض الصحابة على تحشية مصاحفهم بأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً فيما يتّصل من الاَحاديث بالناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، ونحو ذلك، كمصحف ابن عبّاس، ومصحف ابن مسعود، ومصحف أُبيّ بن كعب، بل الثابت عند كثير من الاَعلام، أنّ مصحف أمير المؤمنين عليه السلام كان مليئاً بالاَحاديث الشريفة التي دونّها عليه السلام بيده الشريفة على حواشي مصحفه.
وأمّا لو أُريد به التدوين المستقلّ استقلالاً تامّاً عن صحائف القرآن، بحيث يكتب في صحائف أُخرى ثمّ يُعطى لها عنوان جامع مثل: «أحاديث الرسول» أو «السنن» ونحو هذا... فإنّ بُعد اختلاطها بالقرآن مسلّم لا ريب فيه، وهل سمعت أو رأيت أحداً يقول بضرورة حرق كتب الحديث مثلاً إذ يخشى منها أن تختلط بالقرآن؟!
ثمّ أين ذهب الاِعجاز القرآني الخالد الذي أبهر المشركين وحيّر عقولهم، لمّا سمعوا بعض آياته؟!
وهل يُعقل أن لا يُميّز كتاب الله العزيز عن كلام المخلوق وإنْ كان نبيّاً كنبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
إنّ بلاغة الحديث وإنْ بلغت الذروة، إلاّ أنّها دون بلاغة القرآن الكريم بلا ريب، ولا معنى لدعوى الاختلاط تلك إلاّ المساس بمعجزة الاِسلام الخالدة، بعد إنزال كلام الخالق منزلة كلام المخلوق! وبالتالي ليكون قابلاً للتحدّي المنفي بالاَصل في مواطن كثيرة من الذكر الحكيم.
المبرّر الثاني ومناقشته:
إنّ المنع عن كتابة الحديث جاء للتحرّز من إهمال المسلمين للقرآن
الكريم، وانشغالهم بالحديث الشريف دونه!
وفيه:
1 ـ قد تقدّم في أوّل الكلام أنّ السُنّة المطهّرة شارحة وموضّحة ومفصّلة للقرآن الكريم، وأنّه إذا تُركت، جُهلت أُصول الاِسلام وقوانينه وأنظمته وآدابه وأخلاقه وتعاليمه.
وعليه، فالاشتغال بالسُنّة هو عين الاشتغال بالقرآن، وأنّ فهمه والوقوف على مُراد الله تعالى فيه لا يتمّ دون الرجوع إلى السُنّة المطهّرة بالاِتّفاق.
2 ـ إنّ معنى ذلك ـ لو تمّ ـ هو أنّ القرآن الكريم لم يتغلغل في نفوس الصحابة، وهو اتّهام صريح لهم بأنّهم لم يعرفوا قدر الكتاب العزيز!
هذا، مع أنّهم سمعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مواطن شتّى يحثّهم على تلاوة كتاب الله وتدبّر آياته والنظر فيه، حتّى عُدَّ النظر إلى المصحف عبادة، وكان فيهم الكثير من حفّاظه، فكيف يُعقل اتّفاقهم على إهماله بسبب تدوين الحديث الشريف؟!
3 ـ إنّ قول الصحابة ـ عند العامّة ـ حجّة، ولو فرض أنّ الاشتغال بالحديث ليس هو عين الاشتغال بالقرآن الكريم، فكيف يكون قول من لا يعي قدر القرآن فيهمل آياته ويشتغل بغيرها حجّة؟!
وعليه، فلا بُدّ لهم من رفع اليد عن أحد الاَمرين، وإنْ كان في الواقع عن كليهما.
المبرر الثالث ومناقشته:
إنّ المنع عن تدوين الحديث جاء للحفاظ على مَلَكة الحفظ عند الصحابه؛ لاَنّ تدوين الحديث الشريف يؤدّي إلى ضعف الحافظة عندهم.
وفيه:
1 ـ إنّ مَلَكة الحفظ ليست شرعاً منزلاً يجب على الخليفة صيانتهُ مقابل التفريط بالسُنّة المطهّرة، والعكس هو الصحيح.
2 ـ إنّ بقاء مَلَكة الحفظ قويّة لدى الحفّاظ غير مسلّم، فهي تضعف تدريجياً مع تقدّم العمر، وبالتالي يفقد الحافظ الكثير من محفوظاته، فلو كان إلى جنب حفظه ديوان للحديث الشريف لاستعان به عند ضعف الحافظة، ولوقف على ما نساه، فالتدوين اذن يقوّي الحافظة ولا يضعفها، وقد جاء في الخبر: «إنّ القلب يتّكل على الكتابة»(1).
3 ـ ليس كلّ الصحابة من الحفّاظ كما مر في أحاديث إباحة التدوين. وإذا كان الحافظ في غنىً عن النظر إلى الكتاب، فماذا يصنع غير الحافظ الذي لا يجد من يسأله، وهو مكلّف بأُمور عليه معرفتها؟!
4 ـ إنّ صيانة أيّ علم من العلوم والاِحتفاظ به وتقديمه للاَجيال كما هو عليه من أدنى اختلاف أو زيادة ـ ولو في المعنى ـ لا يكون إلاّ عن طريق الكتابة، ولو كان الحفظ مقدّماً على الكتابة في ذلك؛ لاستعيض بالحفظ عن التدوين بالنسبة إلى القرآن الكريم، بينما نجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد
____________
(1) الكافي 1|42 ح 8.
ركّز اهتمامه على كتابة الآيات أوّلاً بأوّل ولم يتّكل على الحفظ في بقاء القرآن سالماً من الزيادة والنقصان.
هذا، وقد يبرّر بعضهم فعل أبي بكر وعمر، بعدم معرفة المحدّثين من الصحابة للكتابة، كما اختاره ابن حجر(1).
ولا يخفى ما فيه؛ لاَنّ النهي عن الكتابة لا يتوجّه إلى الاَُمّيّين؛ لاَنّه تكليف بمتعذَّر، فالرجل الاَُمّي لا يقال له: لا تكتب، فلا بُدّ من افتراض وجود العارف بالكتابة في مرحلة سابقة على ورود النهي.
ثمّ، كيف لا يوجد في الصحابة من يحسن الكتابة، وقد تعلّموها، وكتبوا المصحف في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ؟! بل كانت لبعضهم مصاحف معروفة، تعرّض لها السجستاني بكتابه «المصاحف».
هذا، فضلاً عن كون التدوين كان معروفاً عند عرب الحيرة والقرشيّين قبل الاِسلام(2).
هذه هي أهمّ المبرّرات التي تذرّع بها المانعون في منطق أنصارهم، وهي كما تقدّم لا تصحّ جميعاً في منطق الشرع والعقل لاَنّ تكون سبباً في إهمال السُنّة النبوية.
الاَسباب الواقعية لمنع تدوين الحديث الشريف:
إنّ الاَسباب الواقعية، والدوافع الحقيقية وراء المنع المذكور، هي أسباب ودوافع سياسية اقتضتها مصلحة السلطة، وخلاصتها محاولة التعتيم
____________
(1) هدي الساري 1| 4.
(2) دراسات في الحديث والمحدّثين: 15 ـ 16.
على منزلة أهل البيت عليهم السلام ، والتقليل من شأنهم، وإبعادهم عن الحكم، وإخفاء حقِّهم واوْلويّتهم في خلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
لاَنّ الناس إذا ما عرفوا ـ من خلال تدوين الاَحاديث الشريفة ـ أنّها تنصّ صراحة بالخلافة على أمير المؤمنين عليه السلام ، وتقديم أهل البيت عليهم السلام على سائر الناس، تأكّد لهم أنّ أحداث السقيفة التي مُني بها الاِسلام والمسلمون فيما بعد، لم تكن أحداثاً عادية، وإنّما أحداثاً خطيرة جدّاً في تاريخ الاِسلام السياسي إذ غيّرت مجرى الاَحداث، وأقصت أهل البيت عليهم السلام عن حقّهم الشرعي في الخلافة.
وهذا ما يشكّل خطراً حقيقياً على السلطة الحاكمة، وإدانة لها، بأنّها مغتصِبة، ويجب شرعاً إزاحتها وإعادة الحقّ إلى أهله، ومن هنا ابتُليت السُنّة المطهّره بالمواقف السابقة.
ويمكن أن يضاف إلى ذلك سببٌ آخر، وهو أنّ الخلفاء الثلاثة منحوا أنفسهم صلاحية واسعة في ميادين الاجتهاد في مقابل نصوص الشريعة الاِسلامية، مع تعرّضهم المستمرّ في بداية الاَمر إلى انتقادات الصحابة وإثبات أن تلك الاجتهادات مخالفة لِما هو ثابت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم (1)، وكان التراجع عمّا اجتهدوا به حليفهم، وباستمرار الحالة، فإنّها أخذت تشكل خطّاً بيانيّاً متصاعداً في الاستياء من تلك الاجتهادات المخالفة لروح الشريعة نصاً ومضموناً، ممّا حملهم على اتّخاذ الاِجراءات الحاسمة لوقف حالة الاعتراض والتذمّر عند رؤوس الصحابة وذلك بحسم مادّتها، وهو الحديث!
____________
(1) راجع «النصّ والاجتهاد» للسيّد شرف الدين، ففيه نماذج كثيرة جدّاً من اجتهادات الخلفاء الثلاثة في مقابل النصّ.
نعم، كان من المناسب جدّاً لبقاء السلطة أن تقوم بفعل كهذا وتبرّره على أساس حفظ القرآن الكريم تارة، وعدم إهماله أُخرى، ومراعاة الحفظ ثالثة؛ لاَنّ التراجع عن الرأي كلّما بان خطأُه، يشكلّ إدانة قويّة لهم في إحتلال مواقع غيرهم.
فلا محيص إذن من القول بمنع تدوين الحديث، لكي لا يكون بيد الصحابة أدنى سلاح حديثي يلوَّح به في وجه السلطة اعتراضاً على نمط سياستها ولون فقهها(1).
____________
(1) السبب الاَوّل من أسباب المنع الحقيقية، بُرهن عليه في أغلب كتب الشيعة وبحوثهم حول تاريخ السُنّة المطهّرة لاسيّما في كتاب تدوين السُنّة الشريفة للسيّد الجلالي، والثاني هو من إفادات السيّد علي الشهرستاني ـ صاحب كتاب «وضوء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم » ـ في بحث خطّيٍّ له عن تدوين السُنّة.
أوّلاً: تاريخ تدوين الحديث الشريف وعلومه عند العامّة:
اختلف المؤرّخون لحركة تدوين الاَحاديث عند العامّة اختلافاً واسعاً في تعيين زمان التدوين الفعلي، بعد اتّفاقهم جميعاً على أنّ بذور التدوين الاَُولى قد غُرست بيد عمر بن عبدالعزيز الاَُموي (ت 101 هـ)، ثمّ نمت تدريجياً وأينعت في القرن الثالث الهجري، حين برزت عندهـم المدوّنـات الحـديثيـة المتداولـة اليوم من المسانيـد والصحاح وغيرها.
فعمر بن عبدالعزيز هو أوّل حاكم أُموي نبّه ـبعد فوات الاَوان ـ على الخطر الحقيقي الذي أحدق بالحديث الشريف نتيجة الحظر المضروب عليه من لدن أسلافه اقتداءً منهم بسُنّة الشيخين! ولهذا فقد أصدر أمراً بتدوينه، ولكن بعد مُضيّ قرن من الزمان على إهماله!
ويبدو أنّه انتدب لهذه المهمّة أكثر من واحد، ففي قول الخطيب البغدادي: أنّه أرسل رسالة إلى أبي بكر بن محمّـد بن عمرو بن حَزْم الاَنصاري الخزرجي، قاضي المدينة (ت 120 هـ) يقول فيها: انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه، فإنّي قد خشيت دروس العلم وذهاب العلماء(1).
____________
(1) تقييد العلم: 106.
( 217 )
وفي قول ابن سعد: أنّه كتب إلى مرّة بن كثير يأمره بذلك(1).
وفي قول القرطبي (ت 124 هـ): أنّه أمر ابن شهاب الزهري بتدوين الحديث(2))ع. كما قيل: أنّه أمر أهل المدينة بذلك.
ويرى البعض منهم تأخّر تدوين الاَحاديث إلى ما بعد وفاة عمر بن عبدالعزيز، فقد صرّح ابن حجر في مقدمة «فتح الباري» بأنّ أوّل من جمع الحديث ودوّنه بمكّة هو ابن جريح (ت 150 هـ).
ثمّ ذكر جماعة من مدوّني الحديث الاَوائل بحسب الاَمصار الاِسلامية التي نشط بها التدوين يومذاك، فكان أوّل من دوّنه منهم بالمدينة المنوّرة: ابن إسحاق (ت 151 هـ)، وبالبصرة حمّاد بن سلمة (ت 157 هـ)، وبواسط هشيم بن بشير السلمي (ت 183 هـ)، وباليمن مُعَمَّر (ت 153 هـ)، وبالريّ جرير بن عبدالحميد الضبّي (ت 188 هـ)، وبخراسان عبدالله بن المبارك (ت 181 هـ).
وهذه هي المرحلة الاَُولى من مراحل التدوين الرسمي للحديث الشريف، وقد اتّسمت تلك المرحلة بتدوين الاَحاديث المنسوبة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، مع أقوال الصحابة وفتاواهم جنباً إلى جنب دونما تنسيق أو تبويب.
ثمّ جاء دور المرحلة الثانية من التدوين:
وفيها أُفردت الاَحاديث المنسوبة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن أقوال الصحابة وفتاواهم، وذلك عن طريق جمع المسانيد وترتيبها، وقد ابتدأت تلك المرحلة من أواخر القرن الثاني
____________
(1) الطبقات الكبرى 7|447.
(2) جامع بيان العلم وفضله 1|76، وانظر تدوين السُنّة الشريفة: 16 ـ 17.
( 218 )
وامتدّت إلى الربع الاَوّل من القرن الثالث الهجري، ومن أعلام المدوّنين فيها عبدالله بن موسى الكوفي، وأسد بن موسى البصري، وأحمد بن حنبل (ت 240 هـ)، وغيرهم.
أمّا المرحلة الثالثة من تدوين الاَحاديث عند العامّة، فقد ابتدأت بعد انتهاء دور المرحلة الثانية، وانتهت في أوائل القرن الرابع الهجري، وقد اتّسمت تلك المرحلة بجمع الاَحاديث وتصنيفها على الاَبواب، بحيث جُعل لكلّ صنف من الاَحاديث التي تدور حول محور واحد باب خاصّ به، كما امتاز التصنيف فيها بجوّدة الترتيب بالقياس إلى المرحلتين السابقتين، هذا مع اختيار المحدّث ما يراه مناسباً للتدوين، كل بما يمليه عليه علمه واجتهاده ومنهجه.
ومن أهمّ كتب هذه المرحلة هي:
صحيح البخاري (ت 256 هـ)، وصحيح مسلم (ت 261 هـ)، وسنن ابن ماجة (ت 273 هـ)، وسنن أبي داود السجستاني (ت 275 هـ)، وسنن الترمذي (ت 279 هـ)، ومجتبى النسائي (ت 303 هـ)، وتسمى هذه الكتب ـ عند العامّة ـ بالصحاح الستّة، ويلحقها ـ في الرتبة والزمان ـ صحيح ابن خزيمة (ت 311 هـ)، وصحيح أبي عوانة (ت 316 هـ) وغيرهما.
ومع أنّ تحرّي الصحيح دون غيره من مستلزمات مدوّني الحديث لا سيّما في هذه المرحلة التي تعدّ من أهمّ مراحل التدوين عند العامّة، وكتبها من أصحّ كتب الحديث عندهم، إلاّ أنّها لم تسلم كغيرها من الاَحاديث الموضوعة، والضعيفة، بسبب الحظر المضروب على الحديث كما مرّ، ولكون أصحاب هذه الكتب اعتمدوا بشكل مباشر على مسموعات
ومدوَّنات المرحلتين السابقتين التي اختلط فيها الغثّ بالسمين نتيجة انفصالهما عن العصر النبوي الشريف فترة طويلة سخّر فيها معاوية وحزبه جملة من الصحابة لوضع الاَحاديث الجمّة في فضائل الثلاثة وتكريس آرائهم، مع النيل من خصومه السياسيّين بكل ما استطاع إليه سبيلاً، ولو بالكذب والبهتان.
ولهذا، فقد أدرك علماؤهم ضرورة البحث الرجالي، فألّفوا كتباً في الرجال، وذلك بعد سنة (260 هـ)؛ لاَنّ أوّل من تكلّم منهم في الرجال هو شعبة ـ المتوفّى في سنة (260 هـ) ـ كما نصّ على ذلك السيوطي في كتابه «الاَوائل»(1)، ثمّ توالى التأليف الرجالي عندهم بعد هذا التاريخ، كما أدركوا حاجتهم إلى علوم الدراية فظهر أوّل كتاب لهم وهو «المحدّث الفاصل» للقاضي أبي محمّد الرامهرمزي (ت 360 هـ)، ولم يكن كتابه جامعاً لعلوم الدراية، ثمّ جاء بعده الحاكم (ت 405 هـ) في «مصطلح الحديث»، ثمّ أبو نعيم الاَصبهاني (ت 430 هـ)، ثمّ الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) في كتابه «الكفاية»، إلى أن جاء ابن الصلاح الشهرزوري (ت 643 هـ) فكتب مقدّمته الشهيرة في علوم الحديث حتّى عُدَّ الخاتمة في هذا الباب(2).
هذا هو مجمل نشاط العامّة في تاريخ تدوين الحديث وما يتّصل به من الدراية والرجال بعد رفع الحظر عن تدوينه، بعيداً عن الاِطناب المملّ،
____________
(1) راجع: تأسيس الشيعة لعلوم الاِسلام: 233.
(2) عُنِيَ العامّة بمقدّمة ابن الصلاح كثيراً، فقد شرحها الحافظ العراقي (ت 806 هـ) وكذلك السخاوي (ت 902 هـ)، واختصرها النووي الشافعي (ت 676 هـ) في كتابه «التقريب» الذي شرحه السيوطي (ت 911 هـ) في «تدريب الراوي»، كما اختصرها ابن كثير (ت 774 هـ) في كتابه «الباعث الحثيث على معرفة علوم الحديث»، وقد ردّ فيه على ابن الصلاح في مواطن كثيرة.
( 220 )
والاِسهاب المخلّ.
ثانياً: تاريخ تدوين الحديث وعلومه عند أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم:
يرجع تاريخ تدوين الحديث الشريف عند الشيعة الاِماميّة إلى وقت مبكّر جدّاً من عصر صدر الاِسلام، إذْ كان موقفهم صريحاً من الحظر المفروض على تدوين الحديث الشريف، فرفضوه رفضاً باتّاً جملة وتفصيلاً، ولم يلزموا أنفسهم به وقاوموه أشّد المقاومة، وسارعوا إلى نقضه، ولم تثن طلائعهم عن المضيّ قُدماً في تدوين السُنّة تلك الاَزمة الخانقة التي عاشها غيرهم مدّة قرن من الزمان أو أكثر، ولم توقف عملية التدوين عندهم تلك العواصف الكثيفة التي حاولت بمكرها ودهائها أن تميت السُنّة المطهّرة في مهدها، وتحجب أنوارها عن المسلمين، بل زاد إيمانهم بأنّ أهداف الحظر لم تكن لاَجل الحفاظ على سلامة القرآن الكريم، وإنّما كانت لصرف الناس عن أهل بيت نبيّهم صلى الله عليه وآله وسلم ، وما يستتبع ذلك من طمس معالم الدين وتعاليمه، وضياع الحقّ، وفقدان الجزء الاَعظم من الشريعة، ومن ثمّ إلباسها لباساً جديداً من البدع التي لا تمتّ بصلة إلى الواقع، فضلاً عن التسامح في الشرع بإضفاء القدسية على تصرّفات ما أنزل الله بها من سلطان.
لقد ترسّم روّاد التشيع في منهجهم هذا المنهج القرآني السـليم، والسُنّة الكريمة الآمرة بالتدوين، مع اقتفاء خطى أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك، فهو الرجل الاَوّل في الاِسلام الذي حرص غاية الحرص على الاَحاديث ودوّنها في حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في كتابين تواتر النقل
( 221 )
عنهما، وهما:
1 ـ الصحيفة الجامعة: إنّ الثابت عن عليٍّ عليه السلام هو أنّه أوّل من دوّن الاَحاديث الشريفة في كتاب، وهو كتاب: (الجامعة) وقد يسمّى بـ: الصحيفة، أو: الصحيفة الجامعة، أو: كتاب عليّ عليه السلام ، وهو من إملاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وخطّ عليّ عليه السلام بيده.
فعن الاِمام الصادق عليه السلام : «إنّ عندنا ما لا نحتاج معه إلى الناس، وإنّ الناس ليحتاجون إلينا، وإنّ عندنا كتاباً إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وخطّ عليّ عليه السلام ، صحيفة فيها كلّ حلال وحرام»(1).
وقد سُميّت هذه الصحيفة بالجامعة كما في روايات «الكافي» «وبصائر الدرجات»، من ذلك قول الاِمام الصادق عليه السلام : «وإنّ عندنا الجامعة، وما يدريهم ما الجامعة؟! صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإملائه من فلق فيه، وخط عليّ بيمينه»(2).
وورد ذكر صحيفة الاِمام عليّ عليه السلام في صحيح البخاري، في باب كتابة العلم، وباب إثم من تبرّأ من مواليه(3) ، وهي غير الصحيفة الجامعة.
وقد اعتمد على كتاب عليّ عليه السلام أئمّة أهل البيت عليهم السلام في مواطن كثيرة، فقد روى عنه كلٌّ من:
الاِمام زين العابدين عليه السلام ، كما في الكافي، والفقيه، والتهذيب(4).
الاِمام الباقر عليه السلام ، كما في الكافي، والخصال، والتهذيب(5).
____________
(1) أُصول الكافي 1|241 ـ 242 ح 6، وبصائر الدرجات: 149 ح 14.
(2) أُصول الكافي 1|239 ح 1، وبصائر الدرجات: 151 ـ 152.
(3) صحيح البخاري 1|40 و 4|289.
(4) الكافي 7|40 ح 1، والفقيه 4|151، والتهذيب 9|211 ح 835.
(5) الكافي 4|135 ـ 136، والخصال: 124، والتهذيب 7|432.
( 222 )
الاِمام الصادق عليه السلام ، كما في الكافي، والفقيه، وعلل الشرائع، والتهذيب، والاستبصار، والوسائل، والبحار(1).
كما صرّح أصحاب الاَئمّة عليهم السلام برؤية الصحيفة الجامعة عند الاَئمّة عليهم السلام ، فقد شهد بذلك أبو بصير بأنّه رأى الصحيفة الجامعة عند الاِمام الباقر عليه السلام ، وسأله عنها، فقال له: «هذه إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط عليّ عليه السلام »(2).
ونظير هذه الشهادة شهادة عبدالملك بن أعين(3)، ومحمّد بن مسلم في مواضع متعدّدة من كتبنا الاَربعة(4).
كما رأى الحكم بن عيينة ـ أو: عتيبة ـ أبو محمّد الكندي الكوفي الزيدي البتري (ت 114 هـ أو 115 هـ) كتاب عليٍّ عليه السلام عند الاِمام أبي جعفر الباقر عليه السلام ، روى ذلك النجاشي في ترجمة محمّد بن عذافر(5).
وتوجد قطعة من هذا الكتاب ـ الذي هو من إملاء الرسول، وخطّ عليٍّ صلوات الله عليهما في أمالي الشيخ الصدوق، أوردها في المجلس السادس والستّين(6).
كما توجد نسخة من صحيفة الاِمام عليّ عليه السلام ـ وهي كتاب في
____________
(1) الكافي 4|9 ح 4 و 4|304 ح 7 و 8، والفقيه 2|117، وعلل الشرائع 2| 160، والتهذيب 5|355 و 9|2، والاستبصار 2|202، و 4|59، والوسائل 9|438 و 16|334، وبحار الاَنوار 10|254.
(2) بصائر الدرجات: 144.
(3) بصائر الدرجات: 162 و 165.
(4) الكافي 7|93 و 113، والفقيه 4|192، والتهذيب 9|270 و 380.
(5) رجال النجاشي: 359 ـ 360 رقم 966.
(6) أمالي الشيخ الصدوق: 344 ـ 352 المجلس رقم 66، والفقيه 4 : 2 | 1.
( 223 )
الديات ـ عند السيّد حسن الصدر؛ إذ صرّح بذلك فقال: «وعندي منه نسخة»(1).
والظاهر أنّ هذه الصحيفة الاَخيرة هي التي روى عنها البخاري كما تقدّم وليست هي الصحيفة الجامعة التي فيها كلّ حلال وحرام حتى ارش الخدش، فهي غيرها وإن اشتبه بها الكثيرون.
2 ـ كتاب الجَفْر: وإلى جانب ذلك، يوجد كتاب آخر لعليٍّ عليه السلام باسم كتاب «الجَفْر»، والجَفْرُ لغةً: من أولاد الشاء إذا عَظُم واستكرش، قال أبو عبيد: إذا بلغ ولد المعزى أربعة أشهر وجَفَرَ جنباه، وفُصل عن أُمه، وأُخذ في الرعي فهو جَفَرٌ(2).
والمراد منه في الحديث على حذف مضاف، أيّ: جلد الجفر، ولعلّه صار كالعلم على جلد مخصوص لثور أو شاة؛ لكثرة الاستعمال(3)، وحقيقة الجَفْر:هو كتاب كُتِب على جلد الجَفْر أيّ: جلد ثور أو شاة، ولذا سمّي بكتاب الجفر، وهو أيضاً من إملاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وخطّ الوصيّ عليه السلام ، وعلى ذلك تضافرت الروايات عند الشيعة.
واعترف بهذا الكتاب بعض علماء العامة أيضاً:
قال الشريف الجرجاني (ت 816 هـ) في«شرح المواقف» لعضدالدين الاِيجي (ت 756 هـ) عن كتاب الجفر والجامعة: «وهما كتابان لعليٍّ رضي الله عنه ـ إلى أن قال: ـ وفي كتاب قبول العهد الذي كتبه عليّ
____________
(1) تأسيس الشيعة لعلوم الاِسلام: 279.
(2) لسان العرب 2|304.
(3) أعيان الشيعة 1|94.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
تاريخ الحديث وعلومه
[مراحل تدوين الحديث عند الشيعة الاِمامية، ابتداءً من عصر الرسول صلى الله عليه وآله ، وانتهاءً بعصر الشيخ الطوسي]
السيّـد ثامر هاشم حبيب العميدي
بسـم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الاَنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
تمهيـد:
إنّ السُنّة النبوية ـ قولاً، وفعلاً، وتقريراً ـ هي صنو القرآن الكريم وتالية له، فالقرآن الكريم يشرّع الاَُصول والقوانين، ويؤسّس القواعد الكلية للاَحكام والاَخلاق والآداب، بل لكلّ ما يتّصل بعلوم الدين ومعارفه ومناهجه التربوية والاجتماعية، والسُنّة المطهّرة تتناول تلك الاَُصول والقواعد فتفصّلها، وتوضّح مبهماتها، وتحلّ متشابهاتها، وتبيّن مجملاتها، مع ما تفرّعه عليها، بحيث لم تدع ملحظاً كليّاً أو جزئياً له صلة بالفرد أو المجتمع إلاّ وقد بيّنت حكمه وأرشدت إليه بكلّ دقّة وتفصيل، وبشكل يستحيل معه رفع اليد عن السُنّة النبويّة في فهم القرآن الكريم.
( 195 )
وعليه، فمحاولة فصل السُنّة عن القرآن الكريم: هي بمثابة الاِعراض عن كتاب الله عزّ وجلّ، والتعبير عن اللامبالاة بتعاليمه الآمرة بالاَخذ بمدلول السُنّة الشريفة: (ومَا آتاكمُ الرسولُ فخذوهُ ومَا نَهاكمْ عنه فانتهُوا)(1).
وعلى الرغم من وضوح هذه الحقيقة إلاّ أنّ محاولات فصل السُنّة عن القرآن الكريم قد وُجدت لها الاَعذار من الشريعة نفسها، واختُلقت لها المبرّرات التي سنقف عندها لنرى مدى صدقها وانطباقها مع أسباب ودوافع منع تدوين الحديث الشريف، الذي ظهر بُعَيد وفاة الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمّ اتُّخذ المنع عن كتابة الحديث منهجاً سياسياً طيلة قرنٍ من الزمان، بعدما كان تعاطي الحديث ونشره من قبل الصحابة أمراً طبيعياً جدّاً في العهد النبوي، بل تقتضيه طبيعة رسالة الاِسلام في كلّ حين، لعالميّتها (وَما أَرسلناكَ إلاّ رَحمةً للعالمين)(2).
نعم، لم يُمنع أحدٌ من كتابة الحديث الشريف في العهد النبوي الشريف، كما تدلّ عليه جميع الدراسات الموضوعية الخاصّة بدراسة تاريخ السُنّة المُطهّرة ومراحل تدوين الحديث، فقد جمعت تلك الدراسات أسماء المدوّنين والمدوّنات الحديثية في العهد النبوي، وبشكل مُلفت للنظر؛ لكثرتها في ذلك العصر المتقدّم من عمر الاِسلام، بخلاف ما قد يُظن من نُدرتها تبعاً لظروف التدوين ونُدرة وسائله حينذاك، مع استقراء الروايات الدالّة على إباحة التدوين.
وأمّا الروايات المخالفة لذلك، بنسبة المنع إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فهي
____________
(1) سورة الحشر 59: 7.
(2) سورة الاَنبياء 21: 107.
( 196 )
مكذوبة عليه صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا أصل لها في واقع التشريع، ويكذّبها القرآن الكريم، وتشنّ السُنّة المطهّرة ـ نفسها ـ حرباً شعواء على تلك الروايات وتدفعها؛ لمخالفتها الصريحة لتطلّعات دين الاِسلام نحو الكتابة والتعلّم والسعي في طلبه، وبيان فضله حتّى ورد في الخبر: « عالم يُنتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد»(1) و «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المُهج وخوض اللجج»(2)، فضلاً عن مخالفتها لمقتضيات العقل السليم، وطبيعة الحضارات في كلّ زمان ومكان.
غاية ما في الاَمر.. أنّه ـ وبعد وفاة الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم ـ مرّ حديثه الشريف بأَزْمةٍ خانقة، ومواقف سلبيّة أدّت إلى الحظر عليه روايةً، ومنعه تدويناً، حتّى اتّسمت تلك المواقف بتصرّفات شاذّة، كحرقهم صحائف الحديث الشريف، ودفنهم كتبه، وحبس الصحابة في مركز الخلافة خوفاً من تفشّي الحديث خارج المدينة المنوّرة، مع النهي العامّ عن تعاطي الحديث رواية وتدويناً!!
لقد تركت تلك المواقف آثارها السيّئة على واقع الحديث، إذ غُيّرت السُنّة، ومُحقت الشريعة، وذلك بتمهيد السُبل أمام الاَيدي الآثمة من الزنادقة، وأهل الاَهواء، لاَنْ تعبث بالحديث الشريف، فتضع ما شاء لها الهوى لا سيما مَنْ تَقرّبَ إلى بلاط الاَُمويين باختلاق الروايات التي تؤيّد عروشهم، وتنال من خصومهم السياسيين، كما تشهد عليه الكتب المؤلّفة في الموضوعات والوضّاعين.
وبدلاً من أن تجتمع الكلمة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على صيانة
____________
(1) أُصول الكافي 1: 82 ح 8، باب 2 من كتاب فضل العلم.
(2) أُصول الكافي 1: 85 ح 5، باب 4 من كتاب فضل العلم.
( 197 )
حديثه الشريف من عبث العابثين، حدث العكس تماماً! كما سنرى في المواقف الحكومية الاَُولى من تدوين الحديث الشريف.
* * *
( 198 )
المواقف الحكومية الاَُولى
من تدوين الحديث الشريف
في تاريخ الحديث الشريف موقفان متعارضان، تميّز أحدهما بالتزام تدوين الحديث الشريف والحفاظ عليه، ويمثّله أهل البيت عليهم السلام ، وشيعتهم كما سيتّضح في ما بعد.
وتميّز الآخر ـ وهو الخطّ الحاكم الذي برز بعد أحداث السقيفة وامتدّ إلى زمان عمر بن عبدالعزيز الاَُموي (ت 101 هـ) ـ بمواقف سلبية متطرّفة جدّاً، حتّى مُنع الحديث روايةً وتدويناً، واتّخذ المنع صفته الرسمية طيلة تلك الفترة، وسنبتدىَ بدراستها وتقييمها على النحو الآتي:
موقف أبي بكر من الحديث الشريف:
عن عائشة، قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت خمسمائة حديث، فبات ليلته يتقلّب... فلمّا أصبح قال: أي بُنَيَّة، هلمّي الاَحاديث التي عندكِ. قالت: فجئته بها، فدعا بنار فحرقها! فقلت: لِمَ أحرقتها؟!
قال: خشيت أن أموت وهي عندي، فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت [به]، ولم يكن كما حدّثني، فأكون قد نقلت ذلك(1)!!
____________
(1) تذكرة الحفّاظ 1| 5، في ترجمة أبي بكر.
( 199 )
ويلاحظ هنا:
إنّ تصرّف أبي بكر بجمع خمسمائة حديث شاهد على عدم وجود النهي السابق بشأن تدوين الحديث، وإلاّ لكان ذلك الجمع مخالفاً للنهي عنه.
كما إنّ تعليله إحراق الاَحاديث بالنار لم يستند على نهي سابق عن التدوين، بل كان لاَجل خشيته من عدم مطابقة تلك الاَحاديث للواقع، وخوفه من المشاركة في حمل أوزارها.
وهذا ممّا لا يمكن قبوله للاَسباب التالية:
1 ـ إنّ من كان مثل أبي بكر لا يحتاج إلى مثل هذه الطريقة في جمع الاَحاديث قطعاً، إذ بإمكانه ـ وهو الخليفة المطاع أمره ـ أن يُوعِز إلى كبار الصحابة وأجلاّئهم وحفّاظهم بذلك، ويوكل لهم أمر التحرّي عن صدق ما يتناقله الناس من الحديث في عصره، وَيوكل إليهم مهمّة الجمع على غرار ما يروى من أنّه جمع المصحف الشريف، ودوّن بإشرافه.
2 ـ لو تنزّلنا عن ذلك، فإنّه لا يحتاج إلى الواسطة في رواية خمسمائة حديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، بالقياس إلى فترة إسلامه المبكّر، ومن غير المعقول أن لا تكون لاَبي بكر مسموعات بلا واسطة من ضمن المقدار الذي جمعه، إذ من البعيد جدّاً أن يترك ما سمعه بنفسه عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويقتصر على ما سمعه بالواسطة!
فظاهر الحال أنّه أحرق مسموعاته ومسموعات غيره، ولا أجد ـ مع هذا الفرض المقبول ـ تعليلاً في تكذيب الرجل نفسه، ليسوّغ له إحراق ما
( 200 )
سمعه بأُذُنِه.
3 ـ إنّه صرّح بوثاقة الناقل وأمانته في تأدية الحديث، وعليه فلا معنى للشكّ في صدقه أو التأمّل في وثاقته، ولا يبرّر هذا الشكّ حرق الاَحاديث، على أنّه يمكن له التأكّد من سلامتها بعرضها على مجموع الصحابة، فإنْ شهدوا بكذبها جميعاً فعليه التشهير بناقلها وتأديبه كما يقتضيه واجبه الشرعي، وإنْ قالوا بصحّتها فيمضي ما جمعه بلا إحراق؛ ليكون سُنّة حسنة تُقتفى من بعده.
كلّ هذا يدلّ على أنّ وراء حرق الاَحاديث سبب غير معلن، لعدم قبول الاَسباب المعلنة عقلاً.
وفي «تذكرة الحفّاظ» في ترجمة أبي بكر، إنّه جمع الناس بعد وفاة نبيّهم صلى الله عليه وآله وسلم وقال لهم: «إنّكم تحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه»(1).
وفيه:
إنّه عبّر عن رغبته في عدم انتشار الحديث، فنهى عنه بذريعة الاختلاف! ويَرِد عليه ما أوردناه سابقاً من إمكانية إزالة أسباب الاختلاف الحاصل في الاَحاديث بيسر وسهولة قبل أن تتفاقم بَعده، أمّا تركها على ما هي عليه من الاختلاف، والاكتفاء بمجرّد النهي، فليس هو الحلّ الاِسلامي
____________
(1) تذكرة الحفّاظ 1|3 رقم 1.
( 201 )
الذي ينبغي أن يُصار إليه.
ومن ثَمّ فإنّ نهيه عن التحديث المعلّل بوقوع الاختلاف، لو تمّ لزم منه أن يطّرد النهي لاطّراد العلّة، حتّى يشمل النهي القراءات المختلفة للقرآن الكريم التي كانت معروفة في عصره، وهي لا تقلّ خطراً عن اختلاف الحديث.
ثمّ كيف نجد التكييف الشرعي لهذا التصرّف مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم : رحم الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فحَفظها، فبلّغها عنّي»؟! وقوله الكريم بعد كثير من إرشاداته وتبليغاته: «فليبلّغ الشاهد الغائب»؟!
على أنّ هذا الموقف العجيب من السُنّة المطهّرة، قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، منبّهاً على كونه وشيك الوقوع، أي: قريبه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «يوشك الرجل متّكئاً على أريكته يُحَدَّثُ بحديثٍ من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عزّ وجلّ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرّمناه!! ألا وإنّ ما حرّم رسول الله مثل ما حرّم الله»(1).
وقد علمت مَن أقدم على حرق الاَحاديث، وقال مخاطباً أهلها: «بيننا وبينكم كتاب الله»!
موقف عمر من تدوين الحديث الشريف:
لقد استمرّ المنع من الحديث روايةً وتدويناً في عهد أبي بكر، ولمّا
____________
(1) سنن ابن ماجة 1|6 رقم 12، وسنن الترمذي 5|37 حديث 26663، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه من طريق آخر، وسنن أبي داود 4| 200 رقم 4604 و 4605 باب لزوم السُنّة، ومسند أحمد 6|8، والمستدرك على الصحيحين 1|108 قال: وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورواه من طريق آخر وقال: وجدنا للحديث شاهدين بإسنادين صحيحين.
( 202 )
استخلف عمر بعهد الخلافة إليه، جرى عمر على سيرته حذو النعل بالنعل، وفاقه في تعميم المنع الصريح من الحديث روايةً وتدويناً على جميع الاَمصار الاِسلامية.
فعن عروة بن الزبير قال: «إنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله شهراً، ثمّ أصبح يوماً وقد عزم الله له، فقال: إنّي كنت أردت أنْ أكتب السنن، وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها، فتركوا كتاب الله تعالى، وإنّي ـ والله ـ لا ألْبِسُ كتاب الله بشيءٍ أبداً»(1)
.
ثمّ كتب عمر ـ على أثر ذلك ـ إلى المسلمين في جميع الاَمصار الاِسلامية: «من كان عنده منها ـ أي: السنن ـ شيءٌ فليمحه»(2).
كما إنّه عَلِمَ بوجود بعض المدوّنات الحديثيّة في أيدي الصحابة، فأمر أن يأتوه بها، فجاءوا بها إليه وظنّوا أنّه يقوِّمُها من الاِختلاف ثمّ يدوّنها في كتاب واحد، لكنّه أحرقها بالنار ثمّ قال: «أُمنيّة كأُمنيّة أهل الكتاب»(3).
الاقتداء بسنة عمر:
سار عثمان ومن والاه على طريقة عمر، ورأينا في عهدهما جملة من الصحابة كانوا يميثون صحائف الحديث المدوّنة بالماء، ويدفنون كتب الحديث المدوّنة تحت التراب! بلا حجّة ولا مبرّر معقول سوى أمر السلطة
____________
(1) تقييد العلم: 49.
(2) تقييد العلم: 53.
(3) تقييد العلم: 53.
( 203 )
واجتهادها في إبادة حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ولقد تعجّب ابن الجوزي ـ وحقّه أن يتعجّب ـ من هذا الصنيع الشاذّ، فوصفه بأنّه عناد عظيم للشريعة فقال: «فما عوندت الشريعة بمثل هذا»(1)، وأمّا عن دفن الكتب، فقد قال أحمد بن حنبل: «لا أعلم لدفن الكتب معنىً»(2).
ثمّ استمرّ منع الحديث كما يقول أبو زهو: «وقد تتابع الخلفاء على سُنّة عمر.. فلم يشأ أحدٌ منهم أن يدوّن السُنن، ولا أن يأمر الناس بذلك حتّى جاء عمر بن عبدالعزيز»(3).
أقول:
إنّ جميع من تعرّض لدراسة تاريخ السُنّة ومراحل تدوين الحديث الشريف فصّل موقف عثمان الموافق لمن سبقه بشأن الحديث وموقف معاوية المتشدّد إزاء كلّ حديث يروى عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام أو في أهل البيت عليهم السلام وتابعه ملوك الاَُمويّين إلى زمان عمر بن عبدالعزيز الاَُموي.
وقد ارتأينا عدم الخوض في مواقف السلطة في تلك الحقبة الزمنية والاكتفاء بموقف من ذكرنا إزاء الحديث روايةً وتدويناً اختصاراً للكلام ومراعاةً لحجم البحث، مع فسح المجال لحديث أهمّ في صفحاته اللاّحقة.
غير إنّه لا بُدّ من التذكير بتعرّض بعض الصحابة بعد وفاة الرسول إلى
____________
(1) نقد العلماء ـ أو: تلبيس إبليس ـ: 314 ـ 316.
(2) تقييد العلم: 63، وانظر مزيداً من هذه الاَقوال في «تدوين السُنّة الشريفة» للسيّد محمد رضا الحسيني الجلالي، الفصل الخاصّ بالمنع عن التدوين.
(3) الحديث والمحدّثون: 126.
( 204 )
الاستدعاء الرسمي من قبل المانعين الاَوائل لكي يعلموا جيداً اتّجاه السلطة ورغبتها في أن لا يشيع الحديث بين الناس، وقد استجابوا للسلطة على مضض، كأبي هريرة، وأبي مسعود، وابن مسعود، وأبي موسى الاَشعري، وأُبيّ بن كعب، وأبي الدرداء، بل وقد تعرّض بعضهم إلى الاِهانة من قبل السلطة مع تهديدها المباشر لهم إن لم يكفّوا عن إشاعة الحديث الشريف(1)!!
حجج المانعين عن التدوين:
لم تكن لدى المانعين حجّة شرعية يستندون إليها في مقام منع تدوين الحديث، ولكن اختُلقت لهم بعض الحجج في ذلك بنسبة المنع إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، مع أنّ أحداً من المانعين لم ينسب المنع قّط إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، مع كونهم أقرب الناس إلى عصر التشريع، وفي ذلك دليل على اختلاق تلك الروايات وافتعالها لصيانة الواقع التاريخي الذي ساد، وحفـظ كرامة السلف الماضين.
* ومن تلك الروايات، ما رووه عن أبي سعيد الخُدْري أنّه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : «لا تكتبوا عنّي، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه»(2).
وهذا الحديث باطل من وجوه:
أمّا من حيث السند، فقد حكم الحفّاظ بأنّه من الموقوفات على أبي
____________
(1) راجع: تدوين السُنّة الشريفة: 434 تحت عنوان: «عمر يهدّد الصحابة ويهينهم».
(2) صحيح مسلم 4\ 2289 ح 72، باب التثبّت في الحديث من كتاب الزهد.
( 205 )
سعيد الخُدْري، وليس من المرفوعات حتّى يصح الاحتجاج به.
وأمّا من حيث الدلالة، فلم يتّفق لاَحد من علماء الحديث عند العامّة أنّ فهم منه المنع العام عن تدوين الحديث، بل حمل على المنع عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة، خوف اختلاطهما على غير العارف في صدر الاِسلام.
ويكفي أنّ مسلماً ـ صاحب «الصحيح» ـ أورده في باب التثبّت في الحديث، وعنوان الباب صريح بأنّ مسلماً فهم منه مجرّد المحافظة على الحديث.
كما قيل بشذوذ الحديث أيضاً(1).
* ومنها أيضاً، ما رووه عن أبي سعيد كذلك من أنّه استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتابة الحديث فلم يأذن له(2).
وأوّل ما في هذه الرواية هو أنّ المنع خاصّ بأبي سعيد، فكيف يستفاد منها ـ على فرض صحّتها ـ المنع العام عن كتابة الحديث؟!
على أنّ راويها سفيان بن عيينة وهو متّهم بالتدليس.
إلى غير ذلك من الروايات الاَُخرى التي أشبعها السيّد الجلالي في «تدوين السُنّة الشريفة» بحثاً وتمحيصاً وانتهى إلى نتائج باهرة، بحيث يَسّر لغيره الوقوف على حقيقة تلك الروايات ومعرفة قيمتها العلمية سنداً ودلالة(3)،
____________
(1) هذه الوجوه من «تدوين السُنّة الشريفة»: 290 ـ باختصار ـ.
(2) تقييد العلم: 32.
(3) تدوين السُنّة الشريفة: 297 ـ 315.
( 206 )
معارضة المنع لاَحاديث الاِذن بالكتابة وإباحتها:
إنّ أحاديث منع التدوين المرفوعة والموقوفة معارضة لِما ورد في الصحيح الثابت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بشأن تدوين الحديث الشريف.
* من قبيل ما رواه رافع بن خديج قال: «قلت: يا رسول الله، إنّا نسمع منك أشياء، أفنكتبها؟ قال: اكتبوا ولا حرج»(1).
* وكذلك أمر صلى الله عليه وآله وسلم أن تُكتَب خطبته الشريفة عند فتح مكّة، حين طلب أبو شاه ـ رجل من أهل اليمن ـ أن يكتبوا له الخطبة، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : «اكتبو لاَبي شاه»(2).
* ومنها، قول عبدالله بن عمرو بن العاص: «يا رسول الله، إنّا نسمع منك أشياءً لا نحفظها، أفنكتبها؟ قال: بلى، فاكتبوها»(3).
* وعن عبدالله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «قيّدوا العلم بالكتاب»(4).
* وعنه أيضاً، قال: «كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأُريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كلّ شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشر يتكلّم في الرضا والغضب!!؟ قال: أمسكت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أكتب، فوالذي
____________
(1) تقييد العلم: 73.
(2) صحيح البخاري 1: 40 ـ 41، وصحيح الترمذي 5| 39 رقم 2667.
(3) تقييد العلم: 74.
(4) تقييد العلم: 69، ورواه أنس بن مالك في «تقييد العلم»، وابن عبّاس في الكامل ـ لابن عدي ـ 2|792 ،كما في «تدوين السُنّة الشريفة».
( 207 )
نفسي بيده ما خرج منه إلاّ حقّ، وأشار صلى الله عليه وآله وسلم بيده إلى فيه»(1).
* ومنها: حديث أبي هريرة: «ما كان أحد أكثر حديثاً منّي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ ما كان من عبدالله بن عمرو، فإنّه كان يكتب ولم أكن أكتب»(2).
* ومن ذلك أيضاً ما رواه الترمذي بسنده عن أبي هريرة، قال: كان رجل من الاَنصار يجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسمع من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الحديث، فيعجبه ولا يحفظه، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: يا رسول الله، إنّي لاَسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «استعن بيمينك» وأشار بيده إلى الخط(3).
معارضة المنع لاَُمور أُخرى:
كما إنّ أحاديث منع التدوين بالرغم من معارضتها إلى هذه الروايات وكثير غيرها، معارضة أيضاً لاِجماع أهل البيت عليهم السلام على إباحة التدوين، ومعارضة أيضاً لِما قام الدليل القاطع عليه، أعني وجود المدوّنين في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقد عرفوا بأسمائهم وأُفردوا بدراسات خاصّة عند الفريقين، هذا فضلاً عن وجود الخطّ الآخر الملتزم بتدوين الحديث ونشره بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة، مع عدم الرضوخ لاَوامر المنع ومقاومتها بكلّ قوّة كما سننبّه عليه في محلّه.
____________
(1) مسند أحمد 2|162، وتقييد العلم: 80 ـ 81.
(2) صحيح البخاري 1|36 باب كتابة العلم.
(3) صحيح الترمذي 5|39 رقم 2666.
( 208 )
ولاَجل هذه الاَُمور مجتمعة وجد مؤيّدو سياسة المانعين أنفسهم في أمسّ الحاجة إلى البحث عن مبرّرات معقولة ومقبولة تسوّغ ذلك التصرّف المريب إزاء الحديث الشريف رواية وتدويناً، فالتمسوها من أقوال المانعين أنفسهم! ولا بأس هنا من التطرّق اليها؛ لمعرفة قيمتها العلمية، مراعين بذلك الاختصار(1).
* * *
____________
(1) في كتاب «تدوين السُنّة الشريفة» للعلاّمة المحقق السيّد محمد رضا الحسينى الجـلالي جهد مميّز في متابعة أزمة منع تدوين الحديث الشريف، واستقراء ما في تاريخها من ملابسات، وما أفرزته تلك الاَزمة من مواقف العلماء والباحثين والمستشرقين حيالها، بما في ذلك مبرّرات المنع ومناقشتها.
ولمّا كان هذا المقال قد أُعدّ في الاَصل كجزء من مدخل لدراسةٍ موسعة عن مناهج المحدّثين، اقتضى الاَمر التنويه بالكتاب والاِشادة بما احتوى عليه من تحقيق، مع الاستفادة المباشرة منه فى أكثر من موضع.
( 209 )
مبررات منع تدوين الحديث
«مناقشة وتقييم»
«مناقشة وتقييم»
المبرّر الاَوّل ومناقشته:
إنّ المنع عن كتابة الحديث كان لاَجل الحفاظ على القرآن الكريم، بمعنى الخشية من أن تؤدّي عملية تدوين الحديث إلى اختلاط الحديث بالقرآن، بحيث لا يُميّز أحدهما عن الآخر؛ ولهذا كان المنع عن تدوينه موفّقاً، وفي محلّه!
وفيه:
إنّ تصوّر المُراد بالتدوين الذي يُخشى من مغبّة اختلاطه بالقرآن الكريم، يمكن حصره بالتدوين الذي يكون في الصحائف التي دُوّن فيها القرآن الكريم، بحيث يكون الحديث بين الآية وأُختها من غير إشارة إلى أنّ هذا حديث، وهذا قرآن، ففي مثل هذه الحالة يتوجّه ما ذكروه من تبرير ـ بحقّ غير العارف ـ لو كان أمر التدوين محصوراً بها.
أمّـا لـو كان تدوين الحديث على حواشي وهوامش الصحائف القرآنية، متصدّراً ـ مثلاً ـ بقول المدوّن: قال الرسـول صلى الله عليه وآله وسلم كذا، قبيل كـلّ حديـث، فلا معنـى لاحتمـال اختلاطـه ـ مـع هذا الفرض ـ بالقـرآن الكـريـم.
( 210 )
وقد جرى بعض الصحابة على تحشية مصاحفهم بأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً فيما يتّصل من الاَحاديث بالناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، ونحو ذلك، كمصحف ابن عبّاس، ومصحف ابن مسعود، ومصحف أُبيّ بن كعب، بل الثابت عند كثير من الاَعلام، أنّ مصحف أمير المؤمنين عليه السلام كان مليئاً بالاَحاديث الشريفة التي دونّها عليه السلام بيده الشريفة على حواشي مصحفه.
وأمّا لو أُريد به التدوين المستقلّ استقلالاً تامّاً عن صحائف القرآن، بحيث يكتب في صحائف أُخرى ثمّ يُعطى لها عنوان جامع مثل: «أحاديث الرسول» أو «السنن» ونحو هذا... فإنّ بُعد اختلاطها بالقرآن مسلّم لا ريب فيه، وهل سمعت أو رأيت أحداً يقول بضرورة حرق كتب الحديث مثلاً إذ يخشى منها أن تختلط بالقرآن؟!
ثمّ أين ذهب الاِعجاز القرآني الخالد الذي أبهر المشركين وحيّر عقولهم، لمّا سمعوا بعض آياته؟!
وهل يُعقل أن لا يُميّز كتاب الله العزيز عن كلام المخلوق وإنْ كان نبيّاً كنبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
إنّ بلاغة الحديث وإنْ بلغت الذروة، إلاّ أنّها دون بلاغة القرآن الكريم بلا ريب، ولا معنى لدعوى الاختلاط تلك إلاّ المساس بمعجزة الاِسلام الخالدة، بعد إنزال كلام الخالق منزلة كلام المخلوق! وبالتالي ليكون قابلاً للتحدّي المنفي بالاَصل في مواطن كثيرة من الذكر الحكيم.
المبرّر الثاني ومناقشته:
إنّ المنع عن كتابة الحديث جاء للتحرّز من إهمال المسلمين للقرآن
( 211 )
الكريم، وانشغالهم بالحديث الشريف دونه!
وفيه:
1 ـ قد تقدّم في أوّل الكلام أنّ السُنّة المطهّرة شارحة وموضّحة ومفصّلة للقرآن الكريم، وأنّه إذا تُركت، جُهلت أُصول الاِسلام وقوانينه وأنظمته وآدابه وأخلاقه وتعاليمه.
وعليه، فالاشتغال بالسُنّة هو عين الاشتغال بالقرآن، وأنّ فهمه والوقوف على مُراد الله تعالى فيه لا يتمّ دون الرجوع إلى السُنّة المطهّرة بالاِتّفاق.
2 ـ إنّ معنى ذلك ـ لو تمّ ـ هو أنّ القرآن الكريم لم يتغلغل في نفوس الصحابة، وهو اتّهام صريح لهم بأنّهم لم يعرفوا قدر الكتاب العزيز!
هذا، مع أنّهم سمعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مواطن شتّى يحثّهم على تلاوة كتاب الله وتدبّر آياته والنظر فيه، حتّى عُدَّ النظر إلى المصحف عبادة، وكان فيهم الكثير من حفّاظه، فكيف يُعقل اتّفاقهم على إهماله بسبب تدوين الحديث الشريف؟!
3 ـ إنّ قول الصحابة ـ عند العامّة ـ حجّة، ولو فرض أنّ الاشتغال بالحديث ليس هو عين الاشتغال بالقرآن الكريم، فكيف يكون قول من لا يعي قدر القرآن فيهمل آياته ويشتغل بغيرها حجّة؟!
وعليه، فلا بُدّ لهم من رفع اليد عن أحد الاَمرين، وإنْ كان في الواقع عن كليهما.
( 212 )
المبرر الثالث ومناقشته:
إنّ المنع عن تدوين الحديث جاء للحفاظ على مَلَكة الحفظ عند الصحابه؛ لاَنّ تدوين الحديث الشريف يؤدّي إلى ضعف الحافظة عندهم.
وفيه:
1 ـ إنّ مَلَكة الحفظ ليست شرعاً منزلاً يجب على الخليفة صيانتهُ مقابل التفريط بالسُنّة المطهّرة، والعكس هو الصحيح.
2 ـ إنّ بقاء مَلَكة الحفظ قويّة لدى الحفّاظ غير مسلّم، فهي تضعف تدريجياً مع تقدّم العمر، وبالتالي يفقد الحافظ الكثير من محفوظاته، فلو كان إلى جنب حفظه ديوان للحديث الشريف لاستعان به عند ضعف الحافظة، ولوقف على ما نساه، فالتدوين اذن يقوّي الحافظة ولا يضعفها، وقد جاء في الخبر: «إنّ القلب يتّكل على الكتابة»(1).
3 ـ ليس كلّ الصحابة من الحفّاظ كما مر في أحاديث إباحة التدوين. وإذا كان الحافظ في غنىً عن النظر إلى الكتاب، فماذا يصنع غير الحافظ الذي لا يجد من يسأله، وهو مكلّف بأُمور عليه معرفتها؟!
4 ـ إنّ صيانة أيّ علم من العلوم والاِحتفاظ به وتقديمه للاَجيال كما هو عليه من أدنى اختلاف أو زيادة ـ ولو في المعنى ـ لا يكون إلاّ عن طريق الكتابة، ولو كان الحفظ مقدّماً على الكتابة في ذلك؛ لاستعيض بالحفظ عن التدوين بالنسبة إلى القرآن الكريم، بينما نجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد
____________
(1) الكافي 1|42 ح 8.
( 213 )
ركّز اهتمامه على كتابة الآيات أوّلاً بأوّل ولم يتّكل على الحفظ في بقاء القرآن سالماً من الزيادة والنقصان.
هذا، وقد يبرّر بعضهم فعل أبي بكر وعمر، بعدم معرفة المحدّثين من الصحابة للكتابة، كما اختاره ابن حجر(1).
ولا يخفى ما فيه؛ لاَنّ النهي عن الكتابة لا يتوجّه إلى الاَُمّيّين؛ لاَنّه تكليف بمتعذَّر، فالرجل الاَُمّي لا يقال له: لا تكتب، فلا بُدّ من افتراض وجود العارف بالكتابة في مرحلة سابقة على ورود النهي.
ثمّ، كيف لا يوجد في الصحابة من يحسن الكتابة، وقد تعلّموها، وكتبوا المصحف في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ؟! بل كانت لبعضهم مصاحف معروفة، تعرّض لها السجستاني بكتابه «المصاحف».
هذا، فضلاً عن كون التدوين كان معروفاً عند عرب الحيرة والقرشيّين قبل الاِسلام(2).
هذه هي أهمّ المبرّرات التي تذرّع بها المانعون في منطق أنصارهم، وهي كما تقدّم لا تصحّ جميعاً في منطق الشرع والعقل لاَنّ تكون سبباً في إهمال السُنّة النبوية.
الاَسباب الواقعية لمنع تدوين الحديث الشريف:
إنّ الاَسباب الواقعية، والدوافع الحقيقية وراء المنع المذكور، هي أسباب ودوافع سياسية اقتضتها مصلحة السلطة، وخلاصتها محاولة التعتيم
____________
(1) هدي الساري 1| 4.
(2) دراسات في الحديث والمحدّثين: 15 ـ 16.
( 214 )
على منزلة أهل البيت عليهم السلام ، والتقليل من شأنهم، وإبعادهم عن الحكم، وإخفاء حقِّهم واوْلويّتهم في خلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
لاَنّ الناس إذا ما عرفوا ـ من خلال تدوين الاَحاديث الشريفة ـ أنّها تنصّ صراحة بالخلافة على أمير المؤمنين عليه السلام ، وتقديم أهل البيت عليهم السلام على سائر الناس، تأكّد لهم أنّ أحداث السقيفة التي مُني بها الاِسلام والمسلمون فيما بعد، لم تكن أحداثاً عادية، وإنّما أحداثاً خطيرة جدّاً في تاريخ الاِسلام السياسي إذ غيّرت مجرى الاَحداث، وأقصت أهل البيت عليهم السلام عن حقّهم الشرعي في الخلافة.
وهذا ما يشكّل خطراً حقيقياً على السلطة الحاكمة، وإدانة لها، بأنّها مغتصِبة، ويجب شرعاً إزاحتها وإعادة الحقّ إلى أهله، ومن هنا ابتُليت السُنّة المطهّره بالمواقف السابقة.
ويمكن أن يضاف إلى ذلك سببٌ آخر، وهو أنّ الخلفاء الثلاثة منحوا أنفسهم صلاحية واسعة في ميادين الاجتهاد في مقابل نصوص الشريعة الاِسلامية، مع تعرّضهم المستمرّ في بداية الاَمر إلى انتقادات الصحابة وإثبات أن تلك الاجتهادات مخالفة لِما هو ثابت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم (1)، وكان التراجع عمّا اجتهدوا به حليفهم، وباستمرار الحالة، فإنّها أخذت تشكل خطّاً بيانيّاً متصاعداً في الاستياء من تلك الاجتهادات المخالفة لروح الشريعة نصاً ومضموناً، ممّا حملهم على اتّخاذ الاِجراءات الحاسمة لوقف حالة الاعتراض والتذمّر عند رؤوس الصحابة وذلك بحسم مادّتها، وهو الحديث!
____________
(1) راجع «النصّ والاجتهاد» للسيّد شرف الدين، ففيه نماذج كثيرة جدّاً من اجتهادات الخلفاء الثلاثة في مقابل النصّ.
( 215 )
نعم، كان من المناسب جدّاً لبقاء السلطة أن تقوم بفعل كهذا وتبرّره على أساس حفظ القرآن الكريم تارة، وعدم إهماله أُخرى، ومراعاة الحفظ ثالثة؛ لاَنّ التراجع عن الرأي كلّما بان خطأُه، يشكلّ إدانة قويّة لهم في إحتلال مواقع غيرهم.
فلا محيص إذن من القول بمنع تدوين الحديث، لكي لا يكون بيد الصحابة أدنى سلاح حديثي يلوَّح به في وجه السلطة اعتراضاً على نمط سياستها ولون فقهها(1).
***
____________
(1) السبب الاَوّل من أسباب المنع الحقيقية، بُرهن عليه في أغلب كتب الشيعة وبحوثهم حول تاريخ السُنّة المطهّرة لاسيّما في كتاب تدوين السُنّة الشريفة للسيّد الجلالي، والثاني هو من إفادات السيّد علي الشهرستاني ـ صاحب كتاب «وضوء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم » ـ في بحث خطّيٍّ له عن تدوين السُنّة.
تاريخ تدوين الحديث الشريف وعلومه
أوّلاً: تاريخ تدوين الحديث الشريف وعلومه عند العامّة:
اختلف المؤرّخون لحركة تدوين الاَحاديث عند العامّة اختلافاً واسعاً في تعيين زمان التدوين الفعلي، بعد اتّفاقهم جميعاً على أنّ بذور التدوين الاَُولى قد غُرست بيد عمر بن عبدالعزيز الاَُموي (ت 101 هـ)، ثمّ نمت تدريجياً وأينعت في القرن الثالث الهجري، حين برزت عندهـم المدوّنـات الحـديثيـة المتداولـة اليوم من المسانيـد والصحاح وغيرها.
فعمر بن عبدالعزيز هو أوّل حاكم أُموي نبّه ـبعد فوات الاَوان ـ على الخطر الحقيقي الذي أحدق بالحديث الشريف نتيجة الحظر المضروب عليه من لدن أسلافه اقتداءً منهم بسُنّة الشيخين! ولهذا فقد أصدر أمراً بتدوينه، ولكن بعد مُضيّ قرن من الزمان على إهماله!
ويبدو أنّه انتدب لهذه المهمّة أكثر من واحد، ففي قول الخطيب البغدادي: أنّه أرسل رسالة إلى أبي بكر بن محمّـد بن عمرو بن حَزْم الاَنصاري الخزرجي، قاضي المدينة (ت 120 هـ) يقول فيها: انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه، فإنّي قد خشيت دروس العلم وذهاب العلماء(1).
____________
(1) تقييد العلم: 106.
( 217 )
وفي قول ابن سعد: أنّه كتب إلى مرّة بن كثير يأمره بذلك(1).
وفي قول القرطبي (ت 124 هـ): أنّه أمر ابن شهاب الزهري بتدوين الحديث(2))ع. كما قيل: أنّه أمر أهل المدينة بذلك.
ويرى البعض منهم تأخّر تدوين الاَحاديث إلى ما بعد وفاة عمر بن عبدالعزيز، فقد صرّح ابن حجر في مقدمة «فتح الباري» بأنّ أوّل من جمع الحديث ودوّنه بمكّة هو ابن جريح (ت 150 هـ).
ثمّ ذكر جماعة من مدوّني الحديث الاَوائل بحسب الاَمصار الاِسلامية التي نشط بها التدوين يومذاك، فكان أوّل من دوّنه منهم بالمدينة المنوّرة: ابن إسحاق (ت 151 هـ)، وبالبصرة حمّاد بن سلمة (ت 157 هـ)، وبواسط هشيم بن بشير السلمي (ت 183 هـ)، وباليمن مُعَمَّر (ت 153 هـ)، وبالريّ جرير بن عبدالحميد الضبّي (ت 188 هـ)، وبخراسان عبدالله بن المبارك (ت 181 هـ).
وهذه هي المرحلة الاَُولى من مراحل التدوين الرسمي للحديث الشريف، وقد اتّسمت تلك المرحلة بتدوين الاَحاديث المنسوبة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، مع أقوال الصحابة وفتاواهم جنباً إلى جنب دونما تنسيق أو تبويب.
ثمّ جاء دور المرحلة الثانية من التدوين:
وفيها أُفردت الاَحاديث المنسوبة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن أقوال الصحابة وفتاواهم، وذلك عن طريق جمع المسانيد وترتيبها، وقد ابتدأت تلك المرحلة من أواخر القرن الثاني
____________
(1) الطبقات الكبرى 7|447.
(2) جامع بيان العلم وفضله 1|76، وانظر تدوين السُنّة الشريفة: 16 ـ 17.
( 218 )
وامتدّت إلى الربع الاَوّل من القرن الثالث الهجري، ومن أعلام المدوّنين فيها عبدالله بن موسى الكوفي، وأسد بن موسى البصري، وأحمد بن حنبل (ت 240 هـ)، وغيرهم.
أمّا المرحلة الثالثة من تدوين الاَحاديث عند العامّة، فقد ابتدأت بعد انتهاء دور المرحلة الثانية، وانتهت في أوائل القرن الرابع الهجري، وقد اتّسمت تلك المرحلة بجمع الاَحاديث وتصنيفها على الاَبواب، بحيث جُعل لكلّ صنف من الاَحاديث التي تدور حول محور واحد باب خاصّ به، كما امتاز التصنيف فيها بجوّدة الترتيب بالقياس إلى المرحلتين السابقتين، هذا مع اختيار المحدّث ما يراه مناسباً للتدوين، كل بما يمليه عليه علمه واجتهاده ومنهجه.
ومن أهمّ كتب هذه المرحلة هي:
صحيح البخاري (ت 256 هـ)، وصحيح مسلم (ت 261 هـ)، وسنن ابن ماجة (ت 273 هـ)، وسنن أبي داود السجستاني (ت 275 هـ)، وسنن الترمذي (ت 279 هـ)، ومجتبى النسائي (ت 303 هـ)، وتسمى هذه الكتب ـ عند العامّة ـ بالصحاح الستّة، ويلحقها ـ في الرتبة والزمان ـ صحيح ابن خزيمة (ت 311 هـ)، وصحيح أبي عوانة (ت 316 هـ) وغيرهما.
ومع أنّ تحرّي الصحيح دون غيره من مستلزمات مدوّني الحديث لا سيّما في هذه المرحلة التي تعدّ من أهمّ مراحل التدوين عند العامّة، وكتبها من أصحّ كتب الحديث عندهم، إلاّ أنّها لم تسلم كغيرها من الاَحاديث الموضوعة، والضعيفة، بسبب الحظر المضروب على الحديث كما مرّ، ولكون أصحاب هذه الكتب اعتمدوا بشكل مباشر على مسموعات
( 219 )
ومدوَّنات المرحلتين السابقتين التي اختلط فيها الغثّ بالسمين نتيجة انفصالهما عن العصر النبوي الشريف فترة طويلة سخّر فيها معاوية وحزبه جملة من الصحابة لوضع الاَحاديث الجمّة في فضائل الثلاثة وتكريس آرائهم، مع النيل من خصومه السياسيّين بكل ما استطاع إليه سبيلاً، ولو بالكذب والبهتان.
ولهذا، فقد أدرك علماؤهم ضرورة البحث الرجالي، فألّفوا كتباً في الرجال، وذلك بعد سنة (260 هـ)؛ لاَنّ أوّل من تكلّم منهم في الرجال هو شعبة ـ المتوفّى في سنة (260 هـ) ـ كما نصّ على ذلك السيوطي في كتابه «الاَوائل»(1)، ثمّ توالى التأليف الرجالي عندهم بعد هذا التاريخ، كما أدركوا حاجتهم إلى علوم الدراية فظهر أوّل كتاب لهم وهو «المحدّث الفاصل» للقاضي أبي محمّد الرامهرمزي (ت 360 هـ)، ولم يكن كتابه جامعاً لعلوم الدراية، ثمّ جاء بعده الحاكم (ت 405 هـ) في «مصطلح الحديث»، ثمّ أبو نعيم الاَصبهاني (ت 430 هـ)، ثمّ الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) في كتابه «الكفاية»، إلى أن جاء ابن الصلاح الشهرزوري (ت 643 هـ) فكتب مقدّمته الشهيرة في علوم الحديث حتّى عُدَّ الخاتمة في هذا الباب(2).
هذا هو مجمل نشاط العامّة في تاريخ تدوين الحديث وما يتّصل به من الدراية والرجال بعد رفع الحظر عن تدوينه، بعيداً عن الاِطناب المملّ،
____________
(1) راجع: تأسيس الشيعة لعلوم الاِسلام: 233.
(2) عُنِيَ العامّة بمقدّمة ابن الصلاح كثيراً، فقد شرحها الحافظ العراقي (ت 806 هـ) وكذلك السخاوي (ت 902 هـ)، واختصرها النووي الشافعي (ت 676 هـ) في كتابه «التقريب» الذي شرحه السيوطي (ت 911 هـ) في «تدريب الراوي»، كما اختصرها ابن كثير (ت 774 هـ) في كتابه «الباعث الحثيث على معرفة علوم الحديث»، وقد ردّ فيه على ابن الصلاح في مواطن كثيرة.
( 220 )
والاِسهاب المخلّ.
ثانياً: تاريخ تدوين الحديث وعلومه عند أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم:
يرجع تاريخ تدوين الحديث الشريف عند الشيعة الاِماميّة إلى وقت مبكّر جدّاً من عصر صدر الاِسلام، إذْ كان موقفهم صريحاً من الحظر المفروض على تدوين الحديث الشريف، فرفضوه رفضاً باتّاً جملة وتفصيلاً، ولم يلزموا أنفسهم به وقاوموه أشّد المقاومة، وسارعوا إلى نقضه، ولم تثن طلائعهم عن المضيّ قُدماً في تدوين السُنّة تلك الاَزمة الخانقة التي عاشها غيرهم مدّة قرن من الزمان أو أكثر، ولم توقف عملية التدوين عندهم تلك العواصف الكثيفة التي حاولت بمكرها ودهائها أن تميت السُنّة المطهّرة في مهدها، وتحجب أنوارها عن المسلمين، بل زاد إيمانهم بأنّ أهداف الحظر لم تكن لاَجل الحفاظ على سلامة القرآن الكريم، وإنّما كانت لصرف الناس عن أهل بيت نبيّهم صلى الله عليه وآله وسلم ، وما يستتبع ذلك من طمس معالم الدين وتعاليمه، وضياع الحقّ، وفقدان الجزء الاَعظم من الشريعة، ومن ثمّ إلباسها لباساً جديداً من البدع التي لا تمتّ بصلة إلى الواقع، فضلاً عن التسامح في الشرع بإضفاء القدسية على تصرّفات ما أنزل الله بها من سلطان.
لقد ترسّم روّاد التشيع في منهجهم هذا المنهج القرآني السـليم، والسُنّة الكريمة الآمرة بالتدوين، مع اقتفاء خطى أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك، فهو الرجل الاَوّل في الاِسلام الذي حرص غاية الحرص على الاَحاديث ودوّنها في حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في كتابين تواتر النقل
( 221 )
عنهما، وهما:
1 ـ الصحيفة الجامعة: إنّ الثابت عن عليٍّ عليه السلام هو أنّه أوّل من دوّن الاَحاديث الشريفة في كتاب، وهو كتاب: (الجامعة) وقد يسمّى بـ: الصحيفة، أو: الصحيفة الجامعة، أو: كتاب عليّ عليه السلام ، وهو من إملاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وخطّ عليّ عليه السلام بيده.
فعن الاِمام الصادق عليه السلام : «إنّ عندنا ما لا نحتاج معه إلى الناس، وإنّ الناس ليحتاجون إلينا، وإنّ عندنا كتاباً إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وخطّ عليّ عليه السلام ، صحيفة فيها كلّ حلال وحرام»(1).
وقد سُميّت هذه الصحيفة بالجامعة كما في روايات «الكافي» «وبصائر الدرجات»، من ذلك قول الاِمام الصادق عليه السلام : «وإنّ عندنا الجامعة، وما يدريهم ما الجامعة؟! صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإملائه من فلق فيه، وخط عليّ بيمينه»(2).
وورد ذكر صحيفة الاِمام عليّ عليه السلام في صحيح البخاري، في باب كتابة العلم، وباب إثم من تبرّأ من مواليه(3) ، وهي غير الصحيفة الجامعة.
وقد اعتمد على كتاب عليّ عليه السلام أئمّة أهل البيت عليهم السلام في مواطن كثيرة، فقد روى عنه كلٌّ من:
الاِمام زين العابدين عليه السلام ، كما في الكافي، والفقيه، والتهذيب(4).
الاِمام الباقر عليه السلام ، كما في الكافي، والخصال، والتهذيب(5).
____________
(1) أُصول الكافي 1|241 ـ 242 ح 6، وبصائر الدرجات: 149 ح 14.
(2) أُصول الكافي 1|239 ح 1، وبصائر الدرجات: 151 ـ 152.
(3) صحيح البخاري 1|40 و 4|289.
(4) الكافي 7|40 ح 1، والفقيه 4|151، والتهذيب 9|211 ح 835.
(5) الكافي 4|135 ـ 136، والخصال: 124، والتهذيب 7|432.
( 222 )
الاِمام الصادق عليه السلام ، كما في الكافي، والفقيه، وعلل الشرائع، والتهذيب، والاستبصار، والوسائل، والبحار(1).
كما صرّح أصحاب الاَئمّة عليهم السلام برؤية الصحيفة الجامعة عند الاَئمّة عليهم السلام ، فقد شهد بذلك أبو بصير بأنّه رأى الصحيفة الجامعة عند الاِمام الباقر عليه السلام ، وسأله عنها، فقال له: «هذه إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط عليّ عليه السلام »(2).
ونظير هذه الشهادة شهادة عبدالملك بن أعين(3)، ومحمّد بن مسلم في مواضع متعدّدة من كتبنا الاَربعة(4).
كما رأى الحكم بن عيينة ـ أو: عتيبة ـ أبو محمّد الكندي الكوفي الزيدي البتري (ت 114 هـ أو 115 هـ) كتاب عليٍّ عليه السلام عند الاِمام أبي جعفر الباقر عليه السلام ، روى ذلك النجاشي في ترجمة محمّد بن عذافر(5).
وتوجد قطعة من هذا الكتاب ـ الذي هو من إملاء الرسول، وخطّ عليٍّ صلوات الله عليهما في أمالي الشيخ الصدوق، أوردها في المجلس السادس والستّين(6).
كما توجد نسخة من صحيفة الاِمام عليّ عليه السلام ـ وهي كتاب في
____________
(1) الكافي 4|9 ح 4 و 4|304 ح 7 و 8، والفقيه 2|117، وعلل الشرائع 2| 160، والتهذيب 5|355 و 9|2، والاستبصار 2|202، و 4|59، والوسائل 9|438 و 16|334، وبحار الاَنوار 10|254.
(2) بصائر الدرجات: 144.
(3) بصائر الدرجات: 162 و 165.
(4) الكافي 7|93 و 113، والفقيه 4|192، والتهذيب 9|270 و 380.
(5) رجال النجاشي: 359 ـ 360 رقم 966.
(6) أمالي الشيخ الصدوق: 344 ـ 352 المجلس رقم 66، والفقيه 4 : 2 | 1.
( 223 )
الديات ـ عند السيّد حسن الصدر؛ إذ صرّح بذلك فقال: «وعندي منه نسخة»(1).
والظاهر أنّ هذه الصحيفة الاَخيرة هي التي روى عنها البخاري كما تقدّم وليست هي الصحيفة الجامعة التي فيها كلّ حلال وحرام حتى ارش الخدش، فهي غيرها وإن اشتبه بها الكثيرون.
2 ـ كتاب الجَفْر: وإلى جانب ذلك، يوجد كتاب آخر لعليٍّ عليه السلام باسم كتاب «الجَفْر»، والجَفْرُ لغةً: من أولاد الشاء إذا عَظُم واستكرش، قال أبو عبيد: إذا بلغ ولد المعزى أربعة أشهر وجَفَرَ جنباه، وفُصل عن أُمه، وأُخذ في الرعي فهو جَفَرٌ(2).
والمراد منه في الحديث على حذف مضاف، أيّ: جلد الجفر، ولعلّه صار كالعلم على جلد مخصوص لثور أو شاة؛ لكثرة الاستعمال(3)، وحقيقة الجَفْر:هو كتاب كُتِب على جلد الجَفْر أيّ: جلد ثور أو شاة، ولذا سمّي بكتاب الجفر، وهو أيضاً من إملاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وخطّ الوصيّ عليه السلام ، وعلى ذلك تضافرت الروايات عند الشيعة.
واعترف بهذا الكتاب بعض علماء العامة أيضاً:
قال الشريف الجرجاني (ت 816 هـ) في«شرح المواقف» لعضدالدين الاِيجي (ت 756 هـ) عن كتاب الجفر والجامعة: «وهما كتابان لعليٍّ رضي الله عنه ـ إلى أن قال: ـ وفي كتاب قبول العهد الذي كتبه عليّ
____________
(1) تأسيس الشيعة لعلوم الاِسلام: 279.
(2) لسان العرب 2|304.
(3) أعيان الشيعة 1|94.