الفصل الثاني: في دلالة حديث الغدير:
ويحتوي هذا الفصل على نقاط:
النقطة الأولى: خطبة الغدير.
النقطة الثانية: الولي في كتب اللغة.
النقطة الثالثة: الولاية المطلقة للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله.
النقطة الرابعة: كلام بعض أعلام الشيعة في دلالة حديث الغدير.
النقطة الخامسة: كلام بعض أعلام أهل السنة في دلالة حديث الغدير.
1 – كلام ابن تيمية، ورده.
2 – كلام ابن كثير، ورده.
3 – كلام آخر لابن كثير، ورده.
4 – كلام الألباني، ورده.
النقطة السادسة: المعنى الحقيقي لكلمة (مولى) في حديث الغدير بدلالة القرائن.
النقطة الأولى: خطبة الغدير:
لا شك ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد خَطَبَ في الناس بعد منصرفه من حجة الوداع، في طريق عودته من مكة إلى المدينة، في مكان يدعى "غدير خم" وهذا من الثوابت التاريخية التي لا مجال للتشكيك فيها... فروى مسلم بإسناده عن زيد بن أرقم، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماءٍ يدعى خُمًّا بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وَذَكَّرَ ثم قال: أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثَقَلَيْنِ:
أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به.
فحثَّ على كتاب الله وَرَغَّبَ فيه ثم قال:
وأهلُ بيتي...
أذكركم الله في أهلِ بيتي...
أذكركم الله في أهلِ بيتي...
أذكركم الله في أهلِ بيتي... الحديث
صحيح مسلم ج 7 ص 122
وقد سمع هذه الخطبة الشريفة حوالي (100.000) صحابي، قال ابن حجر: عن أبي زرعة الرازي قال: توفي النبي صلى الله عليه وسلم ومن رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف إنسان من رجل وامرأة كلهم قد روى عنه سماعاً أو رؤية.
قال ابن فتحون في ذيل "الإستيعاب" بعد أن ذكر ذلك: أجاب أبو زرعة بهذا سؤال من سأله عن الرواة خاصة، فكيف بغيرهم؟؟؟
إلى أن قال ابن حجر: وثبت عن الثوري فيما [أخرجه الخطيب بسنده الصحيح إليه، قال:] من قدّم علياً على عثمان فقد أزرى على اثني عشر ألفاً [مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض] فقال النووي: وذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم باثني عشر عاماً بعد أن مات في خلافة أبي بكر في الردة والفتوح الكثير ممن لم يُضبط أسماؤهم، ثم مات في خلافة عمر في الفتوح وفي الطاعون العام وعمواس وغير ذلك من لا يحصى كثرة، وسبب خفاء أسمائهم أن أكثرهم أعراب، وأكثرهم حضروا حجة الوداع، والله أعلم.
الإصابة ج 1 ص 154
أ - مكان وزمان الخطبة:
في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة، أي قبل وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله بسبعين يوماً (70) تقريباً بناءاً على أن وفاة النبي صلى الله عليه وآله كانت في 28 صفر سنة 11هـ أو أربعة وثمانين يوماً (84) بناءاً على أن وفاته صلى الله عليه وآله كانت في 12 ربيع الأول سنة 11هـ...
قال الحموي: وقال الحازمي: "خم" واد بين مكة والمدينة عند الجحفة به غدير، عنده خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم... معجم البلدان ج 2 ص 389
وسيأتي كلام ابن كثير في إثبات هذه الخطبة في المكان والزمان المذكورين إن شاء الله تعالى...
ب - مضمون الخطبة:
المستفاد من مجموع الروايات الصحيحة ان الخطبة قد احتوت على ما يلي:
1 – التحميد والوعظ والتذكير.
2 - نعي النبي صلى الله عليه وآله نفسه للمسلمين، أي أعلن لهم قرب وفاته صلى الله عليه وآله.
3 – ذكر حديث الثقلين.
4 – ذكر حديث الغدير.
والذي يهمنا -في هذا البحث- التركيز على الأمور الثلاثة الأخيرة، وهي أمور ثابتة لا يمكن التشكيك فيها، وقد تضمنت رواية النسائي الصحيحة (وهو الحديث الأول الذي ذكرناه) هذه الأمور الثلاثة جميعاً، وذكرت الروايات الأخرى -ايضاً- هذه الأمور كلاً أو بعضاً، فرواية مسلم اقتصرت على ذكر الأمور الأربعة عدا الأخير، وبعض الروايات اقتصرت على ذكر الأمر الثالث فقط...
وسبب اقتصار بعض الروايات على بعض الفقرات (مضافاً إلى تجنبهم رواية الحادثة بكل تفاصيلها لمخالفتها لمذهبهم) هو ما ذهب إليه جماعة من المحدّثين من جواز تقطيع الحديث وإنقاصه، فروى الخطيب البغدادي بإسناده عن مجاهد قال: انقص من الحديث ولا تزد فيه.
وبإسناده عن خالد بن محمد الصفار قال: سمعت يحيى بن معين يقول: إذا خفت أن تخطئ في الحديث فانقص منه ولا تزد.
الكفاية في علم الرواية ص 223
النقطة الثانية: الولي في كتب اللغة:
يقول ابن الأثير: {ولا} في أسماء اللَّه تعالى (الوَلِيّ) هو النَّاصر.
وقيل: المُتَوَلّي لأمور العَالَم والخَلائِق القائِمُ بها.
ومن أسمائه عز وجل: (الوالِي) وهو مَالِك الأشْياء جَمِيعها، المُتَصَرِّفُ فيها.
وكأنّ الوِلايَة تُشْعِرُ بالتَّدْبِير والقُدْرة والفِعْل، وما لم يَجْتَمِعْ ذلك فيها لم يَنْطَلِق عَليه اسْم الوالِي.
إلى أن قال:
وقد تكرر ذكر (المَوْلَى) في الحديث، وهو اسْمٌ يقَع على جَماعةٍ كَثيِرَة، فهو:
1 – الرَّبُّ.
2 – والمَالكُ.
3 – والسَّيِّد.
4 – والمُنْعِم.
5 – والمُعْتِقُ.
6 – والنَّاصر.
7 – والمُحِبّ.
8 – والتَّابِع.
9 – والجارُ.
10 - وابنُ العَمّ.
11 – والحَلِيفُ.
12 – والعَقيد.
13 – والصِّهْر.
14 – والعبْد.
15 – والمُعْتَقُ.
16 - والمُنْعَم عَلَيه.
وأكْثرها قد جاءت في الحديث، فَيُضاف كُلّ واحِدٍ إلى ما يَقْتَضيه الحديثُ الوَارِدُ فيه.
وكُلُّ مَن وَلِيَ أمْراً أو قام به فَهُو مَوْلاهُ وَوَليُّه.
وقد تَخْتَلِف مَصادرُ هذه الأسْمَاء فالوَلايَةُ بالفَتْح، في النَّسَب والنُّصْرة والمُعْتِق.
والوِلاَية بالكسْر، في الإمَارة.
والوَلاءُ، المُعْتَق والمُوَالاةُ مِن وَالَى القَوْمَ.
ومنه الحديث (مَن كُنْتُ مَوْلاه فَعَليٌّ مَوْلاه) يُحْمَل على أكْثر الأسْمَاء المذْكورة.
قال الشَّافعي رضي اللَّه عنه: يَعْني بذَلِك وَلاء الإسْلام، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ}.
وقول عمر لعَليّ (أصْبَحْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤمِن) أي ولِيَّ كُلِّ مُومن وقيل: سَبب ذلك أنَّ أُسامةَ قال لِعَلِيّ: لَسْتَ مَوْلايَ، إنَّما مَوْلاي رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقال صلى اللَّه عليه وسلم: (مَن كُنْتُ مَوْلاهُ فَعليٌّ مَوْلاه).
النهاية في غريب الحديث ج 5 ص 227
وغير خفي أن أكثر المعاني المذكورة لا يمكن أن يحمل عليها حديث الغدير، خلافاً لما زعمه ابن الأثير!!! إذ يستحيل أن يقصد النبي صلى الله عليه وآله:
من كنت ربه فعلي ربه!!!
أو: من كنت مالكه فعلي مالكه!!!
أو: من كنت جاره فعلي جاره!!!
أو: من كنت صهره فعلي صهره!!!
أو: من كنت معتقه فعلي معتقه!!!
أو: من كنت ابن عمه فعلي ابن عمه!!!
أو: من كنت عبده فعلي عبده!!!
وعلى هذا المنوال...
وحتى نفهم حديث النبي الأعظم صلى الله عليه وآله فلا بد من قراءة الكلمة ضمن القرائن الحافة بالنص، وقد نص ابن الأثير على أمرٍ في غاية الأهمية حين قال: "وكأنّ الوِلايَة تُشْعِرُ بالتَّدْبِير والقُدْرة والفِعْل، وما لم يَجْتَمِعْ ذلك فيها لم يَنْطَلِق عَليه اسْم الوالِي". انتهى
والذي يهون الخطب أن للحديث الشريف قولان اثنان لا ثالث لهما:
القول الأول للشيعة الإمامية: (فعلي مولاه) تعني أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وسيأتي بيانه.
والقول الثاني لأهل السنة: (فعلي مولاه) تعني يحبهم ويحبونه، وسأذكر أقوالهم، ثم أنقضها بمشيئة الله تعالى...
النقطة الثالثة: الولاية المطلقة للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله:
الشيعة الإمامية يعتقدون أن عبارة: (من كنت مولاه فعلي مولاه) تثبت لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من الولاية ما ثبتَ منها لسيدِ المرسلين محمد صلى الله عليه وآله سواء بسواء، بحسب قول الله عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}... وهذا هو ما يعتقده الشيعة الإمامية في حديث الغدير، ومن جملة ما يتفرع على الولاية المذكورة مسئلة الحكم، قال الله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء
وقد ذكر المفسرون من الفريقين -شيعة وسنة- أن الآية الكريمة دالّة على أن للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله الولاية المطلقة على المؤمنين، وهذه جملة من أقوالهم:
1 – قال الشيخ الطوسي قدس سره:
أخبر الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وآله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، بمعنى أحق بتدبيرهم، وبأن يختاروا ما دعاهم إليه. وأحق بأن يحكم فيهم بما لا يحكم به الواحد في نفسه، لوجوب طاعته التي هي مقرونة بطاعة الله، وهو أولى في ذلك وأحق من نفس الإنسان، لأنها ربما دعته إلى اتباع الهوى، ولأن النبي صلى الله عليه وآله لا يدعو إلا إلى طاعة الله، وطاعة الله أولى أن تختار على طاعة غيره.
تفسير التبيان ج 8 ص 317
2 – قال الفيض الكاشاني قدس سره:
{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} يعني أولى بهم في الأمور كلها، فإنه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس، فلذلك أطلق، فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وأمره أنفذ عليهم من أمرها، وشفقتهم عليه أتم من شفقتهم عليها.
التفسير الأصفى ج 2 ص 982
3 – قال السيد الطباطائي قدس سره:
فمعنى كون النبي أولى بهم من أنفسهم أنه أولى بهم منهم، ومعنى الأولوية هو رجحان الجانب إذا دار الأمر بينه وبين ما هو أولى منه، فالمحصل: أن ما يراه المؤمن لنفسه من الحفظ والكلاءة والمحبة والكرامة وإستجابة الدعوة وإنفاذ الإرادة: فالنبي أولى بذلك من نفسه، ولو دار الأمر بين النبي وبين نفسه في شيء من ذلك كان جانب النبي أرجح من جانب نفسه.
تفسير الميزان ج 16 ص 276
4 – قال ابن جرير الطبري:
النبي محمد أولى بالمؤمنين، يقول: أحق بالمؤمنين به من أنفسهم، أن يحكم فيهم بما يشاء من حكم، فيجوز ذلك عليهم.
جامع البيان ج 12 ص 146
5 - قال ابن الجوزي:
قال تعالى: {أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} أي أحق، فله أن يحكم فيهم بما يشاء، قال ابن عباس: إذا دعاهم إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء، كانت طاعته أولى من طاعة أنفسهم، وهذا صحيح فإن أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم والرسول يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم.
زاد المسير ج 6 ص 182
6 - قال ابن كثير:
قد عَلِمَ الله تعالى شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على أمته، ونصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم، وحكمه فيهم كان مقدماً على اختيارهم لأنفسهم كما قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} وفي الصحيح " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين.
تفسير ابن كثير ج 3 ص 476
7 – قال الشوكاني:
ثم ذكر سبحانه لرسول مزية عظيمة وخصوصية جليلة لا يشاركه فيها أحد من العباد، فقال: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} أي هو أحق بهم في كل أمور الدين والدنيا، وأولى بهم من أنفسهم، فضلاً عن أن يكون أولى بهم من غيرهم، فيجب عليهم أن يؤثروه بما أراده من أموالهم وإن كانوا محتاجين إليها، ويجب عليهم أن يحبوه زيادة على حبهم أنفسهم، ويجب عليهم أن يقدموا حكمه عليهم على حكمهم لأنفسهم، وبالجملة فإذا دعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشيء ودعتهم أنفسهم إلى غيره: وجب عليهم أن يقدموا ما دعاهم إليه، ويؤخروا ما دعتهم أنفسهم إليه، ويجب عليهم أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم، ويقدموا طاعته على ما تميل إليه أنفسهم وتطلبه خواطرهم.
فتح القدير ج 4 ص 261
إذا فلأمير المؤمنين عليه السلام -بحسب حديث الغدير- من الولاية الشاملة والمطلقة ما لرسول الله صلى الله عليه وآله بالمعنى المتقدم، وأعني بشمولها: أن لعليٍ عليه السلام الولاية على كل من كان لرسول الله صلى الله عليه وآله الولاية عليه دون استثناء لقوله صلى الله عليه وآله: (من كنت مولاه)... ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وآله أولى (بكل) المؤمنين من أنفسهم دون استثناء...
النقطة الرابعة: كلام بعض أعلام الشيعة في دلالة حديث الغدير:
تحدّث علماء الإمامية قديماً وحديثاً عن دلالة حديث الغدير، واتفقت كلمتهم على دلالته القطعية على الإمامة والخلافة، ولم يخالف في ذلك منهم أحد على الإطلاق، وسأنقل بعض كلماتهم المباركة الواضحة والسهلة التي يفهمها ويقتنع بها كل من يفهم اللغة العربية، ولا عجب من ذلك فإنهم إنما يشرحون حديثاً في غاية الوضوح:
1 - كلام رئيس المحدثين الشيخ الصدوق قدس سره (توفي سنة 381 هـ) :
عقدَ الشيخ الصدوق باباً بعنوان: "معنى قول النبي صلى الله عليه وآله: من كنت مولاه فعلي مولاه" وروى فيه (8) روايات، منها هذه الرواية: حدثنا محمد بن عمر الحافظ الجعابي، قال: حدثني أبو الحسن موسى بن محمد ابن الحسن الثقفي، قال: حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا صفوان بن يحيى بياع السابري، عن يعقوب بن شعيب، عن أبان بن تغلب، قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عليهم السلام عن قول النبي صلى الله عليه وآله: من كنت مولاه فعلي مولاه؟؟؟
فقال: يا أبا سعيد، تسأل عن مثل هذا؟!؟! علّمهم أنه يقوم فيهم مقامه.
ثم قال الشيخ الصدوق:
نحن نستدل على أن النبي صلى الله عليه وآله قد نصّ على علي بن أبي طالب، واستخلفه، وأوجب فرض طاعته على الخلق بالأخبار الصحيحة، وهي قسمان:
قسم: قد جامعنا عليه خصومنا في نقله وخالفونا في تأويله.
وقسم: قد خالفونا في نقله.
فالذي يجب علينا في ما وافقونا في نقله: أن نريهم بتقسيم الكلام ورده إلى مشهور اللغات والإستعمال المعروف أن معناه هو ما ذهبنا إليه من النص والاستخلاف دون ما ذهبوا هم إليه من خلاف ذلك...
إلى أن قال:
ولا أعلمُ عبارة عن معنى فرض الطاعة أوكد من قول النبي صلى الله عليه وآله:
ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟
ثم قوله: فمن كنت مولاه فعلي مولاه.
لأنه كلام مرتب على إقرار المسلمين للنبي صلى الله عليه وآله يعني الطاعة وأنه أولى بهم من أنفسهم ثم قال صلى الله عليه وآله: فمن كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه. لأن معنى "فمن كنت مولاه" هو: فمن كنت أولى به من نفسه، لأنها عبارة عن ذلك بعينه، إذ كان لا يجوز في اللغة غير ذلك...
ثم قال:
ومما يزيد ذلك بياناً أن قوله عليه السلام: "فمن كنت مولاه فعلي مولاه" لو كان لم يرد بهذا أنه أولى بكم من أنفسكم، جاز أن يكون لم يرد بقوله صلى الله عليه وآله: "فمن كنت مولاه" أي من كنت أولى [به] من نفسه، وإن جاز ذلك لزم الكلام الذي من قبل هذا من أنه يكون كلاماً مختلطاً فاسداً غير منتظم ولا مفهم معنى ولا مما يلفظ به حكيم ولا عاقل، فقد لزم بما مر من كلامنا وبينا أن معنى قول النبي صلى الله عليه وآله: "ألست أولى بكم من أنفسكم" أنه يملك طاعتهم، ولزم أن قوله: "فمن كنت مولاه" إنما أراد به: فمن كنت أملك طاعته فعلي يملك طاعته بقوله: "فعلي مولاه" وهذا واضح، والحمد لله على معونته وتوفيقه.
معاني الأخبار ص 66 - 74
2 - كلام شيخ الإمامية المفيد قدس سره (توفي سنة 413 هـ) :
قال: قد أجمعَ حَمَلَةُ الأخبار، واتفق نقلة الآثار، على أن النبي صلى الله عليه وآله جمع الناس بغدير خم، عند مرجعه من حجة الوداع، ثم واجه جماعتهم بالخطاب فقال: ألست أولى بكم منكم؟
فلما أذعنوا له بالإقرار، قال لهم على النسق من غير فصل في الكلام: فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله.
فقررهم صلى الله عليه وآله على فرض طاعته عليهم بصريح الكلام، ثم عطف على اللفظ الخاص بما ينطوي على معناه، وجاء فيه بحرف العطف من "الفاء" التي لا يبتدأ بها الكلام، فدل على أنه الأولى دون ما سواه، لما ثبت من حكمته عليه وآله السلام وأراد به البيان، إذ لو لم يرد ذلك وأراد ما عداه: لكان مستأنفاً لمقال لا تعلق له بالمتقدم، جاعلاً لحرف العطف حرف الاستيناف، وهذا ما لا يقع إلا من أحد نفسين:
أحدهما: جاهل باللغة والكلام.
والآخر: قاصد إلى التعمية والإلغاز.
ورسول الله صلى الله عليه وآله يجل عن الوصفين، وينزه عن النقص في الصفات.
رسالة في أقسام المولى ص 31
3 – كلام السيد المرتضى علم الهدى قدس سره (توفي سنة 436 هـ) :
قال: وقد بينا في الكتاب (الشافي) خاصة وفي غيره من كتبنا عامة، أن هذا الكلام نصٌ عليه بالإمامة وإيجاب لفرض طاعته، لأن النبي صلى الله عليه وآله قرّر أمته بفرض طاعته بما أوجبه له قوله عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} ولا خلاف بين أهل اللغة بأن الأولى هو الأخص الأحق بالشيء الذي قيل وهو أولى به، فإذا قال صلى الله عليه وآله: (من كنت مولاه فعلي مولاه) فقد أتى من لفظة مولى بما يُحتمل معنى أولى، وإن كان محتملاً لغيره من الناصر والحليف والمعتق وابن العم وغير ذلك مما قد سطر وذكر، فلا بد أن يكون إنما أراد من اللفظة المحتملة -وهي لفظة مولى- معنى الأولى الذي تقدم التصريح به، لأن من شأن أهل اللسان إذا عطفوا محتملاً على صريح لم يجز أن يريدوا بالمحتمل إلا معنى الصريح.
ألا ترى أن من له عبيد كثيرون إذا أقبل على جماعة قال: ألستم عارفين بعبدي زيد؟ ثم قال عاطفاً على الكلام: فاشهدوا أن عبدي حر لوجه الله تعالى، لم يجز أن يريد بلفظة عبدي الثانية -وهي مشتركة بين جماعة عبيده- إلا العبد الأول الذي تقدّم التصريح باسمه، ومن أراد غيره كان سفيهاً ملغزاً معمياً. رسائل المرتضى ج 4 ص 131
4 - كلام الشيخ الكراجكي قدس سره (توفي سنة 449 هـ) :
اعلم أنه مما يدل أنه المنصوص بالإمامة عليه: ما نقله الخاص والعام من أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما رجع من حجة الوداع نزل بغدير خم -ولم يكن منزلاً- ثم أمر مناديه فنادى في الناس بالاجتماع، فلما اجتمعوا خطبهم ثم قررهم على ما جعله الله تعالى له عليهم من فرض طاعته، وتصرفهم بين أمره ونهيه بقوله: ألست أولى بكم منكم بأنفسكم؟
فلما أجابوه بالاعتراف، وأعلنوا بالاقرار، رفع بيد أمير المؤمنين عليه السلام وقال -عاطفاً على التقرير الذي تقدم به الكلام-: فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.
فجعل لأمير المؤمنين عليه السلام من الولاء في أعناق الأمة مثل ما جعله الله له عليهم مما أخذ به إقرارهم، لأن لفظة "مولى" تفيد ما تقدم من التقرير من ذكر الأولى، فوجب أن يريد بكلامه الثاني ما قررهم عليه في الأول، وأن يكون المعنى فيهما واحداً حسبما يقتضيه استعمال أهل اللغة وعرفهم في خطابهم.
وهذا يوجب أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام أولى بهم من أنفسهم، ولا يكون أولى بهم إلا وطاعته فرض عليهم وأمره ونهيه نافذ فيهم، وهذه رتبة الإمام في الأنام قد وجبت بالنص لأمير المؤمنين عليه السلام.
دليل النص بخبر الغدير ص 37
5 - كلام المحقق الحلي قدس سره (توفي سنة 676 هـ) :
ومنها قوله عليه السلام: (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه).
والمولى هو الأولى، لاستحالة أن يريد ولي النصرة، يدل عليه وجهان:
الأول: أن عمر قال في ضمن ذلك: "بخٍ بخٍ أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة" وهذا يدل على اختصاص علي -عليه السلام- بما لم يحصل لغيره، والنصرة ثابتة من المسلمين كافة فلا يختص علياً عليه السلام.
والثاني: أن ولاية النصرة ثابتة، فلم تكن حاجة إلى تقريرها بمثل هذه الحال التي احتاج فيها إلى إصلاح المنزل، وجمع الرجال، وتقديم المقدمات، الدالة على اهتمام القوى، فكيف كان ينص عليه في ذلك المكان بأمر عام في المسلمين كلهم؟؟!! هذا مما ينبغي أن ينزه عن مثله منصب النبوة، فتعين أنه أراد الدلالة على أنه أولى من غيره، وأن يثبت له مثل منزلته عليه السلام في الحكم والسيادة، وهذا بيّن لا شبهة فيه على منصف.
المسلك في أصول الدين ص 250
6 - كلام العلامة الحلي قدس سره (توفي سنة 726 هـ) :
الثاني: أنه نقل نقلاً متواتراً أن النبي صلى الله عليه وآله لما رجع من حجة الوداع أمر بالنزول بغدير خم وقت الظهر، ووضعت له الأحمال شبه المنبر، وخطب الناس واستدعى علياً عليه السلام ورفع بيده وقال صلى الله عليه وآله: أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه كيف ما دار.
وكرّر ذلك عليهم ثلاثاً.
والمراد بالمولى هو الأولى، لأن أول الخبر يدل على ذلك، وهو قوله صلى الله عليه وآله: ألست أولى بكم؟
ولقوله تعالى في حق الكفار: {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ} (15) سورة الحديد، أي أولى بكم.
وأيضا فإن غير ذلك من معانيه غير جائز هنا كالجار، والمعتق والحليف، وابن العم، واستحالة أن يقوم النبي صلى الله عليه وآله في ذلك الوقت الشديد الحر، ويدعو الناس ويخبرهم بأشياء لا مزيد فائدة فيها، بأن يقول من كنت جاره أو معتقه أو ابن عمه فعلي عليه السلام كذلك، وإذا كان علي عليه السلام هو الأولى بنا فيكون هو الإمام.
النافع يوم الحشر ص 109
هذا بعض ما ذكره أعلام الإمامية في دلالة الحديث، ولولا خوف الإطالة لنقلت المزيد، وهي كلها تؤدي إلى معنى واحد وحقيقة واحدة وإن اختلفت عباراتهم...
النقطة الخامسة: كلام بعض أعلام أهل السنة في دلالة حديث الغدير:
1 - كلام ابن تيمية:
قال ابن تيمية: وقوله: {من كنت مولاه فعلي مولاه} فمن أهل الحديث من طعن فيه كالبخاري وغيره، ومنهم من حسّنه، فإن كان قاله فلم يرد به ولاية مختصا بها، بل ولاية مشتركة وهي ولاية الإيمان التي للمؤمنين والموالاة ضد المعاداة ولا ريب أنه يجب موالاة المؤمنين على سواهم ففيه رد على النواصب.
مجموع فتاوى ابن تيمية
هذا هو خلاصة رأي ابن تيمية، بل ورأي جمهور أهل السنة، ولم أعثر -حتى الساعة- على رأي آخر لأهل السنة، ويبدو أن هذا هو الرأي الوحيد عندهم، وقد نقل ابن الأثير -كما تقدم- عن الشَّافعي أنه قال: يَعْني بذَلِك وَلاء الإسْلام، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} انتهى.
والحق أن اللغة العربية لا تساعدهم على طرح رأي آخر، وسيتبين ان ما ذهبوا إليه باطل جداً، وإتماماً للفائدة سأنقل ما كتبه ابن تيمية في منهاج سنته على الرغم من طول عبارته!!! قال -بعد أن حاولَ تضعيف الحديث- ما نصه:
ونحن نجيب بالجواب المركّب فنقول: إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فلا كلام، وإن كان قاله فلم يرد به قطعاً الخلافة بعده، إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه، ومثل هذا الأمر العظيم يجب أن يبلّغ بلاغاً مبيناً، وليس في الكلام ما يدل دلالة بينة على أن المراد به الخلافة، وذلك أن المولى كالمولى والله تعالى قال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} وقال: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} فبيّن أن الرسول ولي المؤمنين وأنهم مواليه أيضاً، كما بيّن أن الله وليُ المؤمنين، وأنهم أولياؤهم، وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، فالموالاة ضد المعاداة، وهي تثبت من الطرفين وإن كان أحد المتواليين أعظم قدراً وولايته إحسان وتفضل وولاية الآخر طاعة وعبادة كما أن الله يحب المؤمنين والمؤمنون يحبونه، فإن الموالاة ضد المعاداة والمحاربة والمخادعة، والكفار لا يحبون الله ورسوله ويحادون الله ورسوله ويعادونه، وقد قال تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} وهو يجازيهم على ذلك كما قال تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} وهو ولي المؤمنين وهو مولاهم، يخرجهم من الظلمات إلى النور، وإذا كان كذلك: فمعنى كون الله ولي المؤمنين ومولاهم وكون الرسول وليهم ومولاهم وكون علي مولاهم: هي الموالاة التي هي ضد المعاداة، والمؤمنون يتولون الله ورسوله الموالاة المضادة للمعاداة، وهذا حكم ثابت لكل مؤمن، فعلي رضي الله عنه من المؤمنين الذين يتولون المؤمنين ويتولونه، وفي هذا الحديث إثبات إيمان علي في الباطن، والشهادة له بأنه يستحق المولاة باطناً وظاهراً، وذلك يرد ما يقوله فيه أعداؤه من الخوارج والنواصب، لكن ليس فيه انه ليس للمؤمنين مولى غيره، فكيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم له موالي وهم صالحو المؤمنين؟! فعليٌ أيضاً له مولى بطريق الأولى والأحرى وهم المؤمنون الذين يتولونه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ان أسلم وغفاراً ومزينة وجهينة وقريشاً والأنصار ليس لهم مولى دون الله ورسوله، وجعلهم موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جعل صالح المؤمنين مواليه، والله ورسوله مولاهم.
وفي الجملة: فرق بين الولي والمولى ونحو ذلك وبين الوالي، فباب الولاية التي هي ضد العداوة شيء، وباب الولاية التي هي الإمارة شيء، والحديث إنما هو في الأولى دون الثانية، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: من كنت واليه فعلي واليه، وإنما اللفظ من كنت مولاه فعلي مولاه، وأما كون المولى بمعنى الوالي فهذا باطل، فإن الولاية تثبت من الطرفين، فإن المؤمنين أولياء الله وهو مولاهم، وأما كونه أولى بهم من أنفسهم فلا يثبت إلا من طرفه صلى الله عليه وسلم، وكونه أولى بكل مؤمن من نفسه من خصائص نبوته، ولو قدّر أنه نص على خليفة من بعده لم يكن ذلك موجباً أن يكون أولى بكل مؤمن من نفسه، كما أنه لا يكون أزواجه أمهاتهم، ولو أريد هذا المعنى لقال: من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه، وهذا لم يقله ولم ينقله أحد، ومعناه باطل قطعاً، لأن كون النبي صلى الله عليه وسلم أولى بكل مؤمن من نفسه أمرٌ ثابت في حياته ومماته، وخلافة علي لو قدر وجودها لم تكن إلا بعد موته لم تكن في حياته، فلا يجوز أن يكون علي خليفة في زمنه، فلا يكون حينئذ أولى بكل مؤمن من نفسه، بل ولا يكون مولى أحد من المؤمنين إذا أريد به الخلافة، وهذا مما يدل على أنه لم يرد الخلافة، فإن كونه ولي كل مؤمن وصف ثابت له في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لم يتأخر حكمه إلى الموت، وأما الخلافة فلا يصير خليفة إلا بعد الموت، فعلم أن هذا ليس هذا، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم في حياته وبعد مماته إلى يوم القيامة وإذا استخلف أحداً على بعض الأمور في حياته أو قدّر أنه استخلف أحداً على بعض الأمور في حياته أو قدّر أنه استخلف أحداً بعد موته وصار له خليفة بنص أو إجماع: فهو أولى بتلك الخلافة وبكل المؤمنين من أنفسهم، فلا يكون قط غيره أولى بكل مؤمن من نفسه لا سيما في حياته، وأما كون علي وغيره مولى كل مؤمن فهو وصف ثابت لعلي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته وبعد ممات علي، فعلي اليوم مولى كل مؤمن وليس اليوم متولياً على الناس، وكذلك سائر المؤمنين بعضهم أولياء بعض أحياءً وأمواتاً.
كتاب منهاج السنة الجزء 7 صفحة 321
ويحتوي هذا الفصل على نقاط:
النقطة الأولى: خطبة الغدير.
النقطة الثانية: الولي في كتب اللغة.
النقطة الثالثة: الولاية المطلقة للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله.
النقطة الرابعة: كلام بعض أعلام الشيعة في دلالة حديث الغدير.
النقطة الخامسة: كلام بعض أعلام أهل السنة في دلالة حديث الغدير.
1 – كلام ابن تيمية، ورده.
2 – كلام ابن كثير، ورده.
3 – كلام آخر لابن كثير، ورده.
4 – كلام الألباني، ورده.
النقطة السادسة: المعنى الحقيقي لكلمة (مولى) في حديث الغدير بدلالة القرائن.
النقطة الأولى: خطبة الغدير:
لا شك ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد خَطَبَ في الناس بعد منصرفه من حجة الوداع، في طريق عودته من مكة إلى المدينة، في مكان يدعى "غدير خم" وهذا من الثوابت التاريخية التي لا مجال للتشكيك فيها... فروى مسلم بإسناده عن زيد بن أرقم، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماءٍ يدعى خُمًّا بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وَذَكَّرَ ثم قال: أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثَقَلَيْنِ:
أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به.
فحثَّ على كتاب الله وَرَغَّبَ فيه ثم قال:
وأهلُ بيتي...
أذكركم الله في أهلِ بيتي...
أذكركم الله في أهلِ بيتي...
أذكركم الله في أهلِ بيتي... الحديث
صحيح مسلم ج 7 ص 122
وقد سمع هذه الخطبة الشريفة حوالي (100.000) صحابي، قال ابن حجر: عن أبي زرعة الرازي قال: توفي النبي صلى الله عليه وسلم ومن رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف إنسان من رجل وامرأة كلهم قد روى عنه سماعاً أو رؤية.
قال ابن فتحون في ذيل "الإستيعاب" بعد أن ذكر ذلك: أجاب أبو زرعة بهذا سؤال من سأله عن الرواة خاصة، فكيف بغيرهم؟؟؟
إلى أن قال ابن حجر: وثبت عن الثوري فيما [أخرجه الخطيب بسنده الصحيح إليه، قال:] من قدّم علياً على عثمان فقد أزرى على اثني عشر ألفاً [مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض] فقال النووي: وذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم باثني عشر عاماً بعد أن مات في خلافة أبي بكر في الردة والفتوح الكثير ممن لم يُضبط أسماؤهم، ثم مات في خلافة عمر في الفتوح وفي الطاعون العام وعمواس وغير ذلك من لا يحصى كثرة، وسبب خفاء أسمائهم أن أكثرهم أعراب، وأكثرهم حضروا حجة الوداع، والله أعلم.
الإصابة ج 1 ص 154
أ - مكان وزمان الخطبة:
في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة، أي قبل وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله بسبعين يوماً (70) تقريباً بناءاً على أن وفاة النبي صلى الله عليه وآله كانت في 28 صفر سنة 11هـ أو أربعة وثمانين يوماً (84) بناءاً على أن وفاته صلى الله عليه وآله كانت في 12 ربيع الأول سنة 11هـ...
قال الحموي: وقال الحازمي: "خم" واد بين مكة والمدينة عند الجحفة به غدير، عنده خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم... معجم البلدان ج 2 ص 389
وسيأتي كلام ابن كثير في إثبات هذه الخطبة في المكان والزمان المذكورين إن شاء الله تعالى...
ب - مضمون الخطبة:
المستفاد من مجموع الروايات الصحيحة ان الخطبة قد احتوت على ما يلي:
1 – التحميد والوعظ والتذكير.
2 - نعي النبي صلى الله عليه وآله نفسه للمسلمين، أي أعلن لهم قرب وفاته صلى الله عليه وآله.
3 – ذكر حديث الثقلين.
4 – ذكر حديث الغدير.
والذي يهمنا -في هذا البحث- التركيز على الأمور الثلاثة الأخيرة، وهي أمور ثابتة لا يمكن التشكيك فيها، وقد تضمنت رواية النسائي الصحيحة (وهو الحديث الأول الذي ذكرناه) هذه الأمور الثلاثة جميعاً، وذكرت الروايات الأخرى -ايضاً- هذه الأمور كلاً أو بعضاً، فرواية مسلم اقتصرت على ذكر الأمور الأربعة عدا الأخير، وبعض الروايات اقتصرت على ذكر الأمر الثالث فقط...
وسبب اقتصار بعض الروايات على بعض الفقرات (مضافاً إلى تجنبهم رواية الحادثة بكل تفاصيلها لمخالفتها لمذهبهم) هو ما ذهب إليه جماعة من المحدّثين من جواز تقطيع الحديث وإنقاصه، فروى الخطيب البغدادي بإسناده عن مجاهد قال: انقص من الحديث ولا تزد فيه.
وبإسناده عن خالد بن محمد الصفار قال: سمعت يحيى بن معين يقول: إذا خفت أن تخطئ في الحديث فانقص منه ولا تزد.
الكفاية في علم الرواية ص 223
النقطة الثانية: الولي في كتب اللغة:
يقول ابن الأثير: {ولا} في أسماء اللَّه تعالى (الوَلِيّ) هو النَّاصر.
وقيل: المُتَوَلّي لأمور العَالَم والخَلائِق القائِمُ بها.
ومن أسمائه عز وجل: (الوالِي) وهو مَالِك الأشْياء جَمِيعها، المُتَصَرِّفُ فيها.
وكأنّ الوِلايَة تُشْعِرُ بالتَّدْبِير والقُدْرة والفِعْل، وما لم يَجْتَمِعْ ذلك فيها لم يَنْطَلِق عَليه اسْم الوالِي.
إلى أن قال:
وقد تكرر ذكر (المَوْلَى) في الحديث، وهو اسْمٌ يقَع على جَماعةٍ كَثيِرَة، فهو:
1 – الرَّبُّ.
2 – والمَالكُ.
3 – والسَّيِّد.
4 – والمُنْعِم.
5 – والمُعْتِقُ.
6 – والنَّاصر.
7 – والمُحِبّ.
8 – والتَّابِع.
9 – والجارُ.
10 - وابنُ العَمّ.
11 – والحَلِيفُ.
12 – والعَقيد.
13 – والصِّهْر.
14 – والعبْد.
15 – والمُعْتَقُ.
16 - والمُنْعَم عَلَيه.
وأكْثرها قد جاءت في الحديث، فَيُضاف كُلّ واحِدٍ إلى ما يَقْتَضيه الحديثُ الوَارِدُ فيه.
وكُلُّ مَن وَلِيَ أمْراً أو قام به فَهُو مَوْلاهُ وَوَليُّه.
وقد تَخْتَلِف مَصادرُ هذه الأسْمَاء فالوَلايَةُ بالفَتْح، في النَّسَب والنُّصْرة والمُعْتِق.
والوِلاَية بالكسْر، في الإمَارة.
والوَلاءُ، المُعْتَق والمُوَالاةُ مِن وَالَى القَوْمَ.
ومنه الحديث (مَن كُنْتُ مَوْلاه فَعَليٌّ مَوْلاه) يُحْمَل على أكْثر الأسْمَاء المذْكورة.
قال الشَّافعي رضي اللَّه عنه: يَعْني بذَلِك وَلاء الإسْلام، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ}.
وقول عمر لعَليّ (أصْبَحْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤمِن) أي ولِيَّ كُلِّ مُومن وقيل: سَبب ذلك أنَّ أُسامةَ قال لِعَلِيّ: لَسْتَ مَوْلايَ، إنَّما مَوْلاي رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقال صلى اللَّه عليه وسلم: (مَن كُنْتُ مَوْلاهُ فَعليٌّ مَوْلاه).
النهاية في غريب الحديث ج 5 ص 227
وغير خفي أن أكثر المعاني المذكورة لا يمكن أن يحمل عليها حديث الغدير، خلافاً لما زعمه ابن الأثير!!! إذ يستحيل أن يقصد النبي صلى الله عليه وآله:
من كنت ربه فعلي ربه!!!
أو: من كنت مالكه فعلي مالكه!!!
أو: من كنت جاره فعلي جاره!!!
أو: من كنت صهره فعلي صهره!!!
أو: من كنت معتقه فعلي معتقه!!!
أو: من كنت ابن عمه فعلي ابن عمه!!!
أو: من كنت عبده فعلي عبده!!!
وعلى هذا المنوال...
وحتى نفهم حديث النبي الأعظم صلى الله عليه وآله فلا بد من قراءة الكلمة ضمن القرائن الحافة بالنص، وقد نص ابن الأثير على أمرٍ في غاية الأهمية حين قال: "وكأنّ الوِلايَة تُشْعِرُ بالتَّدْبِير والقُدْرة والفِعْل، وما لم يَجْتَمِعْ ذلك فيها لم يَنْطَلِق عَليه اسْم الوالِي". انتهى
والذي يهون الخطب أن للحديث الشريف قولان اثنان لا ثالث لهما:
القول الأول للشيعة الإمامية: (فعلي مولاه) تعني أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وسيأتي بيانه.
والقول الثاني لأهل السنة: (فعلي مولاه) تعني يحبهم ويحبونه، وسأذكر أقوالهم، ثم أنقضها بمشيئة الله تعالى...
النقطة الثالثة: الولاية المطلقة للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله:
الشيعة الإمامية يعتقدون أن عبارة: (من كنت مولاه فعلي مولاه) تثبت لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من الولاية ما ثبتَ منها لسيدِ المرسلين محمد صلى الله عليه وآله سواء بسواء، بحسب قول الله عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}... وهذا هو ما يعتقده الشيعة الإمامية في حديث الغدير، ومن جملة ما يتفرع على الولاية المذكورة مسئلة الحكم، قال الله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء
وقد ذكر المفسرون من الفريقين -شيعة وسنة- أن الآية الكريمة دالّة على أن للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله الولاية المطلقة على المؤمنين، وهذه جملة من أقوالهم:
1 – قال الشيخ الطوسي قدس سره:
أخبر الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وآله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، بمعنى أحق بتدبيرهم، وبأن يختاروا ما دعاهم إليه. وأحق بأن يحكم فيهم بما لا يحكم به الواحد في نفسه، لوجوب طاعته التي هي مقرونة بطاعة الله، وهو أولى في ذلك وأحق من نفس الإنسان، لأنها ربما دعته إلى اتباع الهوى، ولأن النبي صلى الله عليه وآله لا يدعو إلا إلى طاعة الله، وطاعة الله أولى أن تختار على طاعة غيره.
تفسير التبيان ج 8 ص 317
2 – قال الفيض الكاشاني قدس سره:
{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} يعني أولى بهم في الأمور كلها، فإنه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس، فلذلك أطلق، فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وأمره أنفذ عليهم من أمرها، وشفقتهم عليه أتم من شفقتهم عليها.
التفسير الأصفى ج 2 ص 982
3 – قال السيد الطباطائي قدس سره:
فمعنى كون النبي أولى بهم من أنفسهم أنه أولى بهم منهم، ومعنى الأولوية هو رجحان الجانب إذا دار الأمر بينه وبين ما هو أولى منه، فالمحصل: أن ما يراه المؤمن لنفسه من الحفظ والكلاءة والمحبة والكرامة وإستجابة الدعوة وإنفاذ الإرادة: فالنبي أولى بذلك من نفسه، ولو دار الأمر بين النبي وبين نفسه في شيء من ذلك كان جانب النبي أرجح من جانب نفسه.
تفسير الميزان ج 16 ص 276
4 – قال ابن جرير الطبري:
النبي محمد أولى بالمؤمنين، يقول: أحق بالمؤمنين به من أنفسهم، أن يحكم فيهم بما يشاء من حكم، فيجوز ذلك عليهم.
جامع البيان ج 12 ص 146
5 - قال ابن الجوزي:
قال تعالى: {أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} أي أحق، فله أن يحكم فيهم بما يشاء، قال ابن عباس: إذا دعاهم إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء، كانت طاعته أولى من طاعة أنفسهم، وهذا صحيح فإن أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم والرسول يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم.
زاد المسير ج 6 ص 182
6 - قال ابن كثير:
قد عَلِمَ الله تعالى شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على أمته، ونصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم، وحكمه فيهم كان مقدماً على اختيارهم لأنفسهم كما قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} وفي الصحيح " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين.
تفسير ابن كثير ج 3 ص 476
7 – قال الشوكاني:
ثم ذكر سبحانه لرسول مزية عظيمة وخصوصية جليلة لا يشاركه فيها أحد من العباد، فقال: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} أي هو أحق بهم في كل أمور الدين والدنيا، وأولى بهم من أنفسهم، فضلاً عن أن يكون أولى بهم من غيرهم، فيجب عليهم أن يؤثروه بما أراده من أموالهم وإن كانوا محتاجين إليها، ويجب عليهم أن يحبوه زيادة على حبهم أنفسهم، ويجب عليهم أن يقدموا حكمه عليهم على حكمهم لأنفسهم، وبالجملة فإذا دعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشيء ودعتهم أنفسهم إلى غيره: وجب عليهم أن يقدموا ما دعاهم إليه، ويؤخروا ما دعتهم أنفسهم إليه، ويجب عليهم أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم، ويقدموا طاعته على ما تميل إليه أنفسهم وتطلبه خواطرهم.
فتح القدير ج 4 ص 261
إذا فلأمير المؤمنين عليه السلام -بحسب حديث الغدير- من الولاية الشاملة والمطلقة ما لرسول الله صلى الله عليه وآله بالمعنى المتقدم، وأعني بشمولها: أن لعليٍ عليه السلام الولاية على كل من كان لرسول الله صلى الله عليه وآله الولاية عليه دون استثناء لقوله صلى الله عليه وآله: (من كنت مولاه)... ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وآله أولى (بكل) المؤمنين من أنفسهم دون استثناء...
النقطة الرابعة: كلام بعض أعلام الشيعة في دلالة حديث الغدير:
تحدّث علماء الإمامية قديماً وحديثاً عن دلالة حديث الغدير، واتفقت كلمتهم على دلالته القطعية على الإمامة والخلافة، ولم يخالف في ذلك منهم أحد على الإطلاق، وسأنقل بعض كلماتهم المباركة الواضحة والسهلة التي يفهمها ويقتنع بها كل من يفهم اللغة العربية، ولا عجب من ذلك فإنهم إنما يشرحون حديثاً في غاية الوضوح:
1 - كلام رئيس المحدثين الشيخ الصدوق قدس سره (توفي سنة 381 هـ) :
عقدَ الشيخ الصدوق باباً بعنوان: "معنى قول النبي صلى الله عليه وآله: من كنت مولاه فعلي مولاه" وروى فيه (8) روايات، منها هذه الرواية: حدثنا محمد بن عمر الحافظ الجعابي، قال: حدثني أبو الحسن موسى بن محمد ابن الحسن الثقفي، قال: حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا صفوان بن يحيى بياع السابري، عن يعقوب بن شعيب، عن أبان بن تغلب، قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عليهم السلام عن قول النبي صلى الله عليه وآله: من كنت مولاه فعلي مولاه؟؟؟
فقال: يا أبا سعيد، تسأل عن مثل هذا؟!؟! علّمهم أنه يقوم فيهم مقامه.
ثم قال الشيخ الصدوق:
نحن نستدل على أن النبي صلى الله عليه وآله قد نصّ على علي بن أبي طالب، واستخلفه، وأوجب فرض طاعته على الخلق بالأخبار الصحيحة، وهي قسمان:
قسم: قد جامعنا عليه خصومنا في نقله وخالفونا في تأويله.
وقسم: قد خالفونا في نقله.
فالذي يجب علينا في ما وافقونا في نقله: أن نريهم بتقسيم الكلام ورده إلى مشهور اللغات والإستعمال المعروف أن معناه هو ما ذهبنا إليه من النص والاستخلاف دون ما ذهبوا هم إليه من خلاف ذلك...
إلى أن قال:
ولا أعلمُ عبارة عن معنى فرض الطاعة أوكد من قول النبي صلى الله عليه وآله:
ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟
ثم قوله: فمن كنت مولاه فعلي مولاه.
لأنه كلام مرتب على إقرار المسلمين للنبي صلى الله عليه وآله يعني الطاعة وأنه أولى بهم من أنفسهم ثم قال صلى الله عليه وآله: فمن كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه. لأن معنى "فمن كنت مولاه" هو: فمن كنت أولى به من نفسه، لأنها عبارة عن ذلك بعينه، إذ كان لا يجوز في اللغة غير ذلك...
ثم قال:
ومما يزيد ذلك بياناً أن قوله عليه السلام: "فمن كنت مولاه فعلي مولاه" لو كان لم يرد بهذا أنه أولى بكم من أنفسكم، جاز أن يكون لم يرد بقوله صلى الله عليه وآله: "فمن كنت مولاه" أي من كنت أولى [به] من نفسه، وإن جاز ذلك لزم الكلام الذي من قبل هذا من أنه يكون كلاماً مختلطاً فاسداً غير منتظم ولا مفهم معنى ولا مما يلفظ به حكيم ولا عاقل، فقد لزم بما مر من كلامنا وبينا أن معنى قول النبي صلى الله عليه وآله: "ألست أولى بكم من أنفسكم" أنه يملك طاعتهم، ولزم أن قوله: "فمن كنت مولاه" إنما أراد به: فمن كنت أملك طاعته فعلي يملك طاعته بقوله: "فعلي مولاه" وهذا واضح، والحمد لله على معونته وتوفيقه.
معاني الأخبار ص 66 - 74
2 - كلام شيخ الإمامية المفيد قدس سره (توفي سنة 413 هـ) :
قال: قد أجمعَ حَمَلَةُ الأخبار، واتفق نقلة الآثار، على أن النبي صلى الله عليه وآله جمع الناس بغدير خم، عند مرجعه من حجة الوداع، ثم واجه جماعتهم بالخطاب فقال: ألست أولى بكم منكم؟
فلما أذعنوا له بالإقرار، قال لهم على النسق من غير فصل في الكلام: فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله.
فقررهم صلى الله عليه وآله على فرض طاعته عليهم بصريح الكلام، ثم عطف على اللفظ الخاص بما ينطوي على معناه، وجاء فيه بحرف العطف من "الفاء" التي لا يبتدأ بها الكلام، فدل على أنه الأولى دون ما سواه، لما ثبت من حكمته عليه وآله السلام وأراد به البيان، إذ لو لم يرد ذلك وأراد ما عداه: لكان مستأنفاً لمقال لا تعلق له بالمتقدم، جاعلاً لحرف العطف حرف الاستيناف، وهذا ما لا يقع إلا من أحد نفسين:
أحدهما: جاهل باللغة والكلام.
والآخر: قاصد إلى التعمية والإلغاز.
ورسول الله صلى الله عليه وآله يجل عن الوصفين، وينزه عن النقص في الصفات.
رسالة في أقسام المولى ص 31
3 – كلام السيد المرتضى علم الهدى قدس سره (توفي سنة 436 هـ) :
قال: وقد بينا في الكتاب (الشافي) خاصة وفي غيره من كتبنا عامة، أن هذا الكلام نصٌ عليه بالإمامة وإيجاب لفرض طاعته، لأن النبي صلى الله عليه وآله قرّر أمته بفرض طاعته بما أوجبه له قوله عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} ولا خلاف بين أهل اللغة بأن الأولى هو الأخص الأحق بالشيء الذي قيل وهو أولى به، فإذا قال صلى الله عليه وآله: (من كنت مولاه فعلي مولاه) فقد أتى من لفظة مولى بما يُحتمل معنى أولى، وإن كان محتملاً لغيره من الناصر والحليف والمعتق وابن العم وغير ذلك مما قد سطر وذكر، فلا بد أن يكون إنما أراد من اللفظة المحتملة -وهي لفظة مولى- معنى الأولى الذي تقدم التصريح به، لأن من شأن أهل اللسان إذا عطفوا محتملاً على صريح لم يجز أن يريدوا بالمحتمل إلا معنى الصريح.
ألا ترى أن من له عبيد كثيرون إذا أقبل على جماعة قال: ألستم عارفين بعبدي زيد؟ ثم قال عاطفاً على الكلام: فاشهدوا أن عبدي حر لوجه الله تعالى، لم يجز أن يريد بلفظة عبدي الثانية -وهي مشتركة بين جماعة عبيده- إلا العبد الأول الذي تقدّم التصريح باسمه، ومن أراد غيره كان سفيهاً ملغزاً معمياً. رسائل المرتضى ج 4 ص 131
4 - كلام الشيخ الكراجكي قدس سره (توفي سنة 449 هـ) :
اعلم أنه مما يدل أنه المنصوص بالإمامة عليه: ما نقله الخاص والعام من أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما رجع من حجة الوداع نزل بغدير خم -ولم يكن منزلاً- ثم أمر مناديه فنادى في الناس بالاجتماع، فلما اجتمعوا خطبهم ثم قررهم على ما جعله الله تعالى له عليهم من فرض طاعته، وتصرفهم بين أمره ونهيه بقوله: ألست أولى بكم منكم بأنفسكم؟
فلما أجابوه بالاعتراف، وأعلنوا بالاقرار، رفع بيد أمير المؤمنين عليه السلام وقال -عاطفاً على التقرير الذي تقدم به الكلام-: فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.
فجعل لأمير المؤمنين عليه السلام من الولاء في أعناق الأمة مثل ما جعله الله له عليهم مما أخذ به إقرارهم، لأن لفظة "مولى" تفيد ما تقدم من التقرير من ذكر الأولى، فوجب أن يريد بكلامه الثاني ما قررهم عليه في الأول، وأن يكون المعنى فيهما واحداً حسبما يقتضيه استعمال أهل اللغة وعرفهم في خطابهم.
وهذا يوجب أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام أولى بهم من أنفسهم، ولا يكون أولى بهم إلا وطاعته فرض عليهم وأمره ونهيه نافذ فيهم، وهذه رتبة الإمام في الأنام قد وجبت بالنص لأمير المؤمنين عليه السلام.
دليل النص بخبر الغدير ص 37
5 - كلام المحقق الحلي قدس سره (توفي سنة 676 هـ) :
ومنها قوله عليه السلام: (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه).
والمولى هو الأولى، لاستحالة أن يريد ولي النصرة، يدل عليه وجهان:
الأول: أن عمر قال في ضمن ذلك: "بخٍ بخٍ أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة" وهذا يدل على اختصاص علي -عليه السلام- بما لم يحصل لغيره، والنصرة ثابتة من المسلمين كافة فلا يختص علياً عليه السلام.
والثاني: أن ولاية النصرة ثابتة، فلم تكن حاجة إلى تقريرها بمثل هذه الحال التي احتاج فيها إلى إصلاح المنزل، وجمع الرجال، وتقديم المقدمات، الدالة على اهتمام القوى، فكيف كان ينص عليه في ذلك المكان بأمر عام في المسلمين كلهم؟؟!! هذا مما ينبغي أن ينزه عن مثله منصب النبوة، فتعين أنه أراد الدلالة على أنه أولى من غيره، وأن يثبت له مثل منزلته عليه السلام في الحكم والسيادة، وهذا بيّن لا شبهة فيه على منصف.
المسلك في أصول الدين ص 250
6 - كلام العلامة الحلي قدس سره (توفي سنة 726 هـ) :
الثاني: أنه نقل نقلاً متواتراً أن النبي صلى الله عليه وآله لما رجع من حجة الوداع أمر بالنزول بغدير خم وقت الظهر، ووضعت له الأحمال شبه المنبر، وخطب الناس واستدعى علياً عليه السلام ورفع بيده وقال صلى الله عليه وآله: أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه كيف ما دار.
وكرّر ذلك عليهم ثلاثاً.
والمراد بالمولى هو الأولى، لأن أول الخبر يدل على ذلك، وهو قوله صلى الله عليه وآله: ألست أولى بكم؟
ولقوله تعالى في حق الكفار: {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ} (15) سورة الحديد، أي أولى بكم.
وأيضا فإن غير ذلك من معانيه غير جائز هنا كالجار، والمعتق والحليف، وابن العم، واستحالة أن يقوم النبي صلى الله عليه وآله في ذلك الوقت الشديد الحر، ويدعو الناس ويخبرهم بأشياء لا مزيد فائدة فيها، بأن يقول من كنت جاره أو معتقه أو ابن عمه فعلي عليه السلام كذلك، وإذا كان علي عليه السلام هو الأولى بنا فيكون هو الإمام.
النافع يوم الحشر ص 109
هذا بعض ما ذكره أعلام الإمامية في دلالة الحديث، ولولا خوف الإطالة لنقلت المزيد، وهي كلها تؤدي إلى معنى واحد وحقيقة واحدة وإن اختلفت عباراتهم...
النقطة الخامسة: كلام بعض أعلام أهل السنة في دلالة حديث الغدير:
1 - كلام ابن تيمية:
قال ابن تيمية: وقوله: {من كنت مولاه فعلي مولاه} فمن أهل الحديث من طعن فيه كالبخاري وغيره، ومنهم من حسّنه، فإن كان قاله فلم يرد به ولاية مختصا بها، بل ولاية مشتركة وهي ولاية الإيمان التي للمؤمنين والموالاة ضد المعاداة ولا ريب أنه يجب موالاة المؤمنين على سواهم ففيه رد على النواصب.
مجموع فتاوى ابن تيمية
هذا هو خلاصة رأي ابن تيمية، بل ورأي جمهور أهل السنة، ولم أعثر -حتى الساعة- على رأي آخر لأهل السنة، ويبدو أن هذا هو الرأي الوحيد عندهم، وقد نقل ابن الأثير -كما تقدم- عن الشَّافعي أنه قال: يَعْني بذَلِك وَلاء الإسْلام، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} انتهى.
والحق أن اللغة العربية لا تساعدهم على طرح رأي آخر، وسيتبين ان ما ذهبوا إليه باطل جداً، وإتماماً للفائدة سأنقل ما كتبه ابن تيمية في منهاج سنته على الرغم من طول عبارته!!! قال -بعد أن حاولَ تضعيف الحديث- ما نصه:
ونحن نجيب بالجواب المركّب فنقول: إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فلا كلام، وإن كان قاله فلم يرد به قطعاً الخلافة بعده، إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه، ومثل هذا الأمر العظيم يجب أن يبلّغ بلاغاً مبيناً، وليس في الكلام ما يدل دلالة بينة على أن المراد به الخلافة، وذلك أن المولى كالمولى والله تعالى قال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} وقال: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} فبيّن أن الرسول ولي المؤمنين وأنهم مواليه أيضاً، كما بيّن أن الله وليُ المؤمنين، وأنهم أولياؤهم، وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، فالموالاة ضد المعاداة، وهي تثبت من الطرفين وإن كان أحد المتواليين أعظم قدراً وولايته إحسان وتفضل وولاية الآخر طاعة وعبادة كما أن الله يحب المؤمنين والمؤمنون يحبونه، فإن الموالاة ضد المعاداة والمحاربة والمخادعة، والكفار لا يحبون الله ورسوله ويحادون الله ورسوله ويعادونه، وقد قال تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} وهو يجازيهم على ذلك كما قال تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} وهو ولي المؤمنين وهو مولاهم، يخرجهم من الظلمات إلى النور، وإذا كان كذلك: فمعنى كون الله ولي المؤمنين ومولاهم وكون الرسول وليهم ومولاهم وكون علي مولاهم: هي الموالاة التي هي ضد المعاداة، والمؤمنون يتولون الله ورسوله الموالاة المضادة للمعاداة، وهذا حكم ثابت لكل مؤمن، فعلي رضي الله عنه من المؤمنين الذين يتولون المؤمنين ويتولونه، وفي هذا الحديث إثبات إيمان علي في الباطن، والشهادة له بأنه يستحق المولاة باطناً وظاهراً، وذلك يرد ما يقوله فيه أعداؤه من الخوارج والنواصب، لكن ليس فيه انه ليس للمؤمنين مولى غيره، فكيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم له موالي وهم صالحو المؤمنين؟! فعليٌ أيضاً له مولى بطريق الأولى والأحرى وهم المؤمنون الذين يتولونه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ان أسلم وغفاراً ومزينة وجهينة وقريشاً والأنصار ليس لهم مولى دون الله ورسوله، وجعلهم موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جعل صالح المؤمنين مواليه، والله ورسوله مولاهم.
وفي الجملة: فرق بين الولي والمولى ونحو ذلك وبين الوالي، فباب الولاية التي هي ضد العداوة شيء، وباب الولاية التي هي الإمارة شيء، والحديث إنما هو في الأولى دون الثانية، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: من كنت واليه فعلي واليه، وإنما اللفظ من كنت مولاه فعلي مولاه، وأما كون المولى بمعنى الوالي فهذا باطل، فإن الولاية تثبت من الطرفين، فإن المؤمنين أولياء الله وهو مولاهم، وأما كونه أولى بهم من أنفسهم فلا يثبت إلا من طرفه صلى الله عليه وسلم، وكونه أولى بكل مؤمن من نفسه من خصائص نبوته، ولو قدّر أنه نص على خليفة من بعده لم يكن ذلك موجباً أن يكون أولى بكل مؤمن من نفسه، كما أنه لا يكون أزواجه أمهاتهم، ولو أريد هذا المعنى لقال: من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه، وهذا لم يقله ولم ينقله أحد، ومعناه باطل قطعاً، لأن كون النبي صلى الله عليه وسلم أولى بكل مؤمن من نفسه أمرٌ ثابت في حياته ومماته، وخلافة علي لو قدر وجودها لم تكن إلا بعد موته لم تكن في حياته، فلا يجوز أن يكون علي خليفة في زمنه، فلا يكون حينئذ أولى بكل مؤمن من نفسه، بل ولا يكون مولى أحد من المؤمنين إذا أريد به الخلافة، وهذا مما يدل على أنه لم يرد الخلافة، فإن كونه ولي كل مؤمن وصف ثابت له في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لم يتأخر حكمه إلى الموت، وأما الخلافة فلا يصير خليفة إلا بعد الموت، فعلم أن هذا ليس هذا، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم في حياته وبعد مماته إلى يوم القيامة وإذا استخلف أحداً على بعض الأمور في حياته أو قدّر أنه استخلف أحداً على بعض الأمور في حياته أو قدّر أنه استخلف أحداً بعد موته وصار له خليفة بنص أو إجماع: فهو أولى بتلك الخلافة وبكل المؤمنين من أنفسهم، فلا يكون قط غيره أولى بكل مؤمن من نفسه لا سيما في حياته، وأما كون علي وغيره مولى كل مؤمن فهو وصف ثابت لعلي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته وبعد ممات علي، فعلي اليوم مولى كل مؤمن وليس اليوم متولياً على الناس، وكذلك سائر المؤمنين بعضهم أولياء بعض أحياءً وأمواتاً.
كتاب منهاج السنة الجزء 7 صفحة 321