إعترافات خطيرة على لسان عمر بن الخطّاب [وثيقة تاريخيّة]

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

- روى أرباب التّاريخ في أحداث سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، عن ابن عباس قوله:
"بينما عمر بن الخطاب وبعض أصحابه يتذاكرون الشعر فقال بعضهم فلان أشعر وقال بعضهم بل فلان أشعر قال فأقبلت فقال عمر: قد جاءكم أعلم الناس بها.
فقال عمر: من شاعر الشعراء يا ابن عباس؟ قال فقلت: زهير ابن أبي سلمى. فقال عمر: هلمّ من شعره ما نستدل به على ما ذكرت فقلت امتدح قوما من بني عبد الله بن غطفان فقال:
لو كـان يقـعد فـوق الشمس من كرم * قوم بأولهم أو مجدهم قعـدوا
قوم أبوهم سـنـان حيـن تـنسبهم * طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
إنس إذا أمنـوا جـن إذا فزعـوا * مرزءون بها لـيـل إذا حـشـدوا
محسـدون علـى مـا كان من نعم * لا يـنزع الله مـنهم ماله حـسدوا

فقال عمر: أحسن وما أعلم أحدا أولى بهذا الشعر من هذا الحي من بني هاشم لفضل رسول الله (ص) وقرابتهم منه فقلت وفقت يا أمير المؤمنين ولم تزل موفقا فقال: يا ابن عباس أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد؟ فكرهت أن أجيبه؛ فقلت: إن لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني.
فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوّة والخلافة فتبجّحوا على قومكم بجحا بجحا فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت.
فقلت: يا أمير المؤمنين إن تأذن لي في كلام وتمطّ عنّي الغضب تكلّمت.
فقال: تكلّم يا ابن عباس.
فقلت: أما قولك يا أمير المؤمنين اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت؛ فلو أن قريشا اختارت لأنفسها حيث اختار الله عزّ وجل لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود، وأما قولك إنّهم كرهوا أن تكون لنا النبوّة والخلافة فإن الله عزّ وجل وصف قوماً بالكراهية فقال: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم).
فقال عمر: هيهات والله يا ابن عباس قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أفرك عنها فتزيل منزلتك مني؛ فقلت: وما هي، يا أمير المؤمنين؟ فإن كانت حقّاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كانت باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه.
فقال عمر: بلغني أنّك تقول إنّما صرفوها عنّا حسداً وظلماً.
فقلت: أمّا قولك يا أمير المؤمنين ظلماً فقد تبين للجاهل والحليم، وأما قولك حسداً فإن إبليس حسد آدم فنحن ولده المحسودون.
فقال عمر: هيهات أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلا حسداً ما يحول وضغنا وغشّاً ما يزول، فقلت: مهلاً يا أمير المؤمنين، لا تصف قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا بالحسد والغش فإن قلب رسول الله (ص) من قلوب بني هاشم.
فقال عمر: إليك عني يا ابن عباس، فقلت: أفعل، فلمّا ذهبت لأقوم استحيا منّي فقال يا ابن عباس مكانك فوالله إني لراع لحقك محب لما سرك فقلت يا أمير المؤمنين إن لي عليك حقّاً وعلى كلّ مسلم فمن حفظه فحظّه أصاب، ومن أضاعه فحظّه أخطأ، ثم قام فمضى". اهـ.

مصادر الخبر
- محمّد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، تحقيق نواف الجرّاح، (ط3، بيروت، دار صادر، 1429/ 2008)، ج2، 748.
- علي بن أبي الكرم ابن الأثير، الكامل في التّاريخ، تحقيق سمير شمس، (ط1، بيروت، دار صادر، 1429/ 2009)، ج3، ص33-34.
- أخبار العباس وولده لمؤلف من القرن الثالث الهجري (عن مخطوط فريد من مكتبة مدرسة أبي حنيفة - بغداد)، تحقيق عبد العزيز الدوري وعبد الجبّار المطلبي، (بيروت، دار صادر، 1971م)، ص32-33.
- عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، (ط2، لا بلدة، شركة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه، 1378/ 1967)، ج12، ص52-55.


تعليق على النّص
1- الفكرة العامة للوثيقة هي السبب الّذي دعا قريشاً وبالأخصّ أصحاب السقيفة في منع تنفيذ وصيّة رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد استشهاده في تنصيب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السّلام خليفةً من بعده؛ وهذا أحد مصاديق الإنقلاب الّذي أخبرنا به الله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِين). [آل عمران: 144].
وروى ابن بردزبّه البخاري في صحيحه:
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض؛ فأقول: يا رب أصحابي؟ فيقول: إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى). [صحيح البخاري: ج5، ص2407، ح6213].

2- عمر بن الخطاب يقول صراحةً أنّه وحزبه اختاروا لأنفسهم خليفة بعد استشهاد رسول الله صلّى الله عليه وآله وهذا يكشف كذب البكريّة في أنّ رسول الله ترك أمر تولية الخلافة شورى بينهم؛ فبذلك أعلن أصحاب السقيفة وأتباعهم صراحةً على لسان عمر مخالفة قوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب). [الحشر:7]، وقوله جلّ وعلا: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا). [الأحزاب: 36].

3- قول عمر لإبن عبّاس: (بلغني أنّك تقول إنّما صرفوها عنّا حسداً وظلماً) وجواب ابن عبّاس: (أمّا قولك يا أمير المؤمنين ظلماً فقد تبين للجاهل والحليم، وأما قولك حسداً فإن إبليس حسد آدم فنحن ولده المحسودون).
يكشف عن عدّة جوانب، منها:

أ- أنّ بني هاشم وعلى رأسهم سيّدهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السّلام كانوا يعلنون للنّاس أنّ أصحاب السّقيفة اغتصبوا الخلافة ظلماً وعدواناً وأحد أسباب هذا الظلم الحسد الّذي تكنّه قريشاً لهم.
ب- جواب ابن عبّاس يوضّح أنّ مسألة ظلم أهل البيت عليهم السّلام صار الجميع يعرفها، الجاهل من قريش والحليم منهم على حدّ سواء.
ج- مسألة حسد قريش لأهل البيت عليهم السّلام الّتي قالها ابن عبّاس لابن الخطّاب، جاءت باستفاضة في رواياتنا الشّريفة؛ فمنها ما رواه الشّيخ أبو جعفر الصفّار بسند صحيح عن بُريد بن معاوية عن أبي جعفر عليه السّلام: في (قوله تعالى: "أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ". فنحن النّاس المحسودون على ما آتانا الله من الإمامة دون خلق الله جميعاً) [بصائر الدّرجات: ج1، ص90، ح146].

4- بكلّ حقد وجسارة، عمر بن الخطاب يقلب الحقائق بقوله: (أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلا حسداً ما يحول وضغنا وغشّاً ما يزول)؛ فيأتيه جواب ابن عبّاس: (لا تصف قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا بالحسد والغش فإن قلب رسول الله (ص) من قلوب بني هاشم). وهذا إن دلّ فإنّما يدلّ على ان ابن الخطّاب لم يزل يعيش عقليّة الجاهليّة الّتي تعتبر النبوّة والإمامة ما هي إلّا مُلك، ومما يؤيّد ذلك بالإضافة إلى النصّ السابق، ما رواه ابن شبّة النميري قائلاً: (لم يزل شريح عامل رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم على قومه، وعامل أبي بكر، فلمّا قام عمر أتاه بكتاب رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم فأخذه فوضعه تحت قدمه وقال: لا، ما هو إلّا مُلك، انصرف) [تاريخ المدينة: ج2، ص596].

وصدق الله العليّ العظيم بقوله: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم) [الحُجُرات: آية14].

والحمد لله ربّ العالمين
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد والعن أعداءهم ،،،
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف: