القران الكريم والعلم بالغيب

18 أبريل 2010
6
0
0
بسم الله الرحمن الرحيم
روى الصفار والكليني بسند صحيح عن عبد الله بن أبي يعفور قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام : يا ابن أبي يعفور ! إن الله تبارك وتعالى واحد متوحد بالوحدانية متفرد بأمره ، فخلق خلقا ففردهم لذلك الامر ، فنحن هم يا بن أبي يعفور ، فنحن حجج الله في عباده ، وشهداؤه في خلقه ، وامناؤه وخزانه على علمه ، والدعون الي سبيله ، والقائمون بذلك ، فمن أطاعنا فقد أطاع الله .

قد كان لنا قبل تسع سنوات تقريبا مجموعة من الدروس حول بعض مفردات الزيارة الجامعة ، وقد قام بعض الزملاء الحضور آنذاك بتقرير ما القيناه تحت عنوان ( ارتضاكم لغيبه ) نقتضف لكم احد فصول ما قرره حفظه الله :

الايات النافية للعلم بالغيب
نعم : ربما يتوهم اُحادي النظرة الى عدم امكان اتصاف المخلوق بالعلم بالغيب لبعض الايات النافية لذلك ، كقوله تعالى ( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء )(2) ، اذ الاية تنفي بصراحة علم الغيب لخاتم الانبياء والمرسلين وسر الكون والعالمين ، فاذ كان صلى الله عليه واله لايعلم الغيب فغيره من باب الاولوية القطعية ، لكونه أفضل وأكمل ماخلق الله عز وجل في عالم الوجود والموجود .
وقوله تعالى ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو )(3) ، وقوله ( قل لايعلم من في السموات والارض الغيب الا الله ومايشعرون أيان يبعثون ) وقوله ( إن الله عالم غيب السموات والارض إنه عليم بذات الصدور ) وقوله ( يسئلونك عن الساعة قل إنما علمها عند ربي ) وقوله ( وعنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم مافي الارحام وماتدري نفس ماذا تكسب غذا وماتدرى نفس بأى ارض تموت ) ، وقوله ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ) ، وقوله ( ومن أهل المدينة مردوا على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) الاعراف 188 .
(3) الانعام 59 .


النفاق لاتعلمهم نحن نعلمهم ) وغيرها من الايات النافية للعلم بالغيب عن كل احد سوى الله عز وجل .
الجمع بين الايات
وجوابه : انه هناك آيات كثير تدل بوضوح على امكان بل تحقق العلم بالغيب لكل الانبياء والمرسلين ، فالاخبار عن الله ووجود الملائكة والاخبار عن البرزخ وبما فيه من تنعيم المومنين وتعذيب الكفار والمنافقين ، والاخبار عن اليوم الاخر من المرور على الصراط وتناشر الكتب وعن الجنة والنار ، كل ذلك من الاخبار بالغيب ، فعدم اطلاع الانبياء والرسل عليها مسبقاً معناه عدم إمكانهم الاخبار بذلك مع انهم اخبروا بتفاصيل أحوال البرزخ والقيامة .
اذ كما تقدم أن قوله تعالى ( وماهو على الغيب بضنين )(1) المراد منه الوحي ، فجميع مايوحى للانبياء والرسل ، من أحوال المبدأ والمعاد وقصص السابقين واحوال الامم مع انبيائهم وغيرها ، هو من العلم بالغيب فراجع الايات التي تقدم في أو البحث ، وعليه فهذا خير شاهد على علمهم بالغيب في الجملة وعلى نحو الموجبة الجزئية .
مضافا الى بعض الايات الدالة صراحة على اتصاف الانبياء بالعلم بالغيب ، كقوله تعالى ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول )(2) وقوله على لسان عيسى عليه السلام ( وانبئكم بما تأكلون وماتدخرون في بيوتكم )(3) وقوله ( ذلك من انباء الغيب نوحيه إليه وما كنت لديهم اذ يلقون اقلامهم ايهم يكفل مريم ) .
فالمحصل من ايات الذكر الحكيم انه هناك ايات تنفي علم الغيب عن المخلوقين سواء كانوا أنبياء او رسل أو ائمة ، وآيات اخرى تثبت ذلك ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) علي بن ابراهيم قال : حدثنا جعفر بن احمد عن عبيدالله بن موسى عن الحسن بن علي بن ابي حمزة عن ابيه عن ابي بصير عن ابي عبدالله عليه السلام : قوله تعالى ( وماهو على الغيب بضنين ) قال : وماهو تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه واله بغيبه بضنين عليه .
(2) الجن 26 .
(3) آل عمران 49 .


فربما يوهم ذلك التعارض بين الايات دلالة ومعناً ، ولكن هذا التوهم في غاية الضعف والاحتمالية لمن تدبر آيات الذكر الحكيم واستأنس به تلاوة وتفكراً ، وذلك لعدة من الوجوه :

الوجه الاول : ما بالذات وما بالغير .
أن هذه الطائفتين من الايات تشير الى حقيقة واحدة ، وهي ان علم الغيب والشهادة أولا وبالذات هو لله عز وجل ، فلا يعلم الغيب بالذات وعلى نحو الاستقلال إلا الله عز وجل ، وهذا لاينافي أن يعلم المخلوق الغيب بتعليم منه تعالى .
فوزان هذه الطائفتين من الايات وزان آيات كثيرة في الذكر الحكيم :
كقوله ( الله يتوفي الانفس حين موتها) مع قوله ( قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم )(1) وقوله ( حتى اذا جاء احدكم الموت توفته رسلنا )(2).
وكقوله ( يا أيها الناس أنتم الفقراء الى الله والله هو الغني الحميد )(3)مع قوله ( إلا أن اغناهم الله ورسوله من فضله ) .
وكقوله ( أيبتغون عندهم العزة فلله العزة جميعا )(4) ، وقوله (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا )(5) ، وقوله ( ولايحزنك قولهم ان العزة لله جميعا وهو السميع العليم )(6) ، مع قوله ( ولله العزة ولرسوله والمؤمنين )(7) .
وكقوله ( إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين )(8) ، وقوله ( ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين )(9) ، وقوله ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه )(10) ، مع قوله (فإن جاءوك فاحكم بينهم بالقسط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السجدة 11 .
(2) الانعام 61 .
(3) فاطر 15 .
(4) النساء 139 .
(5) فاطر 10 .
(6) يونس 65 .
(7) المنافقون 8 .
(8) الانعام 57 .
(9) الانعام 62 .
(10) يوسف 40 .


)(1) وقوله ( وإذا حكمت فاحكم بينهم بالقسط )(2) ، وقوله (فاحكم بينهم بما انزل الله )(3) ( ياداود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولاتتبع الهوى )(4) .
وكقوله ( قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السموات والارض )(5) ، مع قوله (لايملكون الشفاعة الا من اتخذ عند الرحمن عهدا )(6) ، وقوله ( ولاتنفع الشفاعة الا لمن اذن له )(7) ، وقوله ( فما تنفعهم شفاعة الشافعين )(8) وغيرها من الايات .
وكقوله ( ان ربك هو القوي العزيز )(9) ، وقوله ( إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين )(10) ، مع قوله ( وإني عليه لقوي أمين )(11) وقوله ( إن خير من استأجرة القوي الامين )(12) ، وقوله (ذي قوة عند ذي العرش مكين )(13) .
فالشفاعة والقوة والملك والعزة والحكم والعلم والحكمة والقدرة وكل الصفات الكمالية والجمالية كلها لله عز وجل أولا وبالذات ، وكونها كذلك لاينافي ان تكون لغيره باقداره تعالى .
فالمنفي في هذه الايات هو ماكانت هذه الصفات الكمالية للمخلوق بنفسه ولنفسه ، والمثبت فيها ماكان من صفات كمال وجمال بالله ومن الله .
وهناك آية جامعة لمعنى كل هذه الاية وهي قوله تعالى ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ، ومارميت إذ رميت ولكن الله رمى ) ففي الاية نفي واثبات ، واشارة الى قانون الامر بين الامرين الذي أسسه الائمة عليهم أفضل الصلاة والسلام بقولهم « لاجبر ولاتفويض وإنما أمر بين أمرين »
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المائدة 42 .
(2) المائدة 42 .
(3) المائدة 48 .
(4) سورة ص : 26 .
(5) الزمر 44 .
(6) مريم 87 .
(7) سبأ 23 .
(8) المدثر 48 .
(9) هود 66 .
(10) الذاريات 58 .
(11) النمل 39 .
(12) القصص 26 .
(13) النجم 5 .


فما من فعل صادر إلا وهو فعل الله عز وجل أولا وبالذات ( وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) وينسب الى فاعله باعتباره واسطة في تحققه ، والتفصيل تجده في «وسائط الفيض الالهي» فراجع .
وعليه : فالعلم بالغيب المنفي في قوله تعالى ( قل لايعلم من في السموات والارض الغيب الا الله ومايشعرون أيان يبعثون ) وبقية الايات هو أن يكون المخلوق والممكن يعلم ذلك بنفسه بلا تعليم واطلاع من الله تعالى ، وليس لها تعرض فيما اذا كان العلم بإفاضة من الغير ، بل هو ثابت بالطائفة الثانية من الايات كما لايخفي .
وهذا التوفيق والتوجيه متعين حتى لو لم يكن في القران الا الطائفة الاولى اذ قوله تعالى ( ولو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير ) مصدّرة بقوله ( قل لاأملك لنفسي نفعا ولا ضرا الا ماشاء الله ولو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير ) فصدر الاية ينفي ان يملك الانسان اي نفع او ضر ، ثم استثنت فيما كان بمشيئة الله ، ومعناه أن الانسان يملك النفع والضر لنفسه إذا شاء الله تعالى ذلك ، فالمنفي في الاية أن يملك الانسان ذلك بلا افاضة من الله تعالى ، اما إذا كان ذلك بافاضة واقدار من الله تعالى فإن الاستثناء وهو قوله تعالى ( إلا ماشاء الله ) يثبته للمخلوق .
فنفي العلم بالغيب بالذات ، واثبات العلم بالغيب بالغير ، لاتنافي بينهما إذ موضوع النفي غير موضوع الاثبات ، والتضاد والتناقض فرع وحدت الموضوع ، فمع اختلاف الموضوع لا تضاد وتناقض ، فلا تناقض في قولنا زيد عالم ، وعمرو جاهل لاختلاف الموضوع .
فالطائفة الاولى من الايات تقرر هذه القضية : العلم بالغيب بالغير يعلمه الانبياء والرسل ، والطائفة الثانية من الايات تقرر هذه القضية : العلم بالغيب بالذات لايعلمه الانبياء والرسل ، فموضوع الطائفة الاولى «الغيب بالغير» وموضوع الطائفة الثانية «الغيب بالذات» وكلا الموضوعين مختلفان ، ومع اختلاف الموضوع لاتحقق للتضاد


والتناقض(1) .
قال العلامة الطباطبائي قدس سره : قوله تعالى ( الا من ارتضى من رسول ) استثناء من قوله ( أحداً ) و ( من رسول ) بيان لقوله ( من ارتضى ) فيفيد ان الله تعالى يظهر رسله على ماشاء من الغيب المختص به ، فالاية إذا انضمت الى الايات التي تخص علم الغيب به تعالى كقوله ( وعنده مفاتح الغيب لايعملها الا هو ) وقوله ( ولله غيب السماوات و الارض ) وقوله ( قل لايعلم من في السماوات والارض الغيب إلا الله ) أفاد ذلك معنى الاصالة والتبعية ، فهو تعالى يعلم الغيب لذاته وغيره يعلمه بتعليم من الله .
فهذه الايات نظير الايات المتعرضة للتوفي كقوله ( الله يتوفى الانفس ) الدال على الحصر وقوله ( قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ) وقوله ( حتى اذا جاء احدكم الموت توفقه رسلنا ) فالتوفي منسوب إليه تعالى على نحو الاصالة والى الملائكة على نحو التبعية لكونهم أسباباً متوسطة مسخرة له تعالى(2) .
فقوله تعالى ( وماادري مايفعل بي ولابكم ) هو نفي للعلم الذاتي ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لتحقق التناقض بين قضيتين يشترط امور ثمانية تسمى بالوحدات الثمان :
1 / وحدة الموضوع ، فلا تناقض بين : العلم نافع ، والجهل ليس بنافع .
2 / وحدة المحمول ، فلا تناقض بين : العلم نافع ، والعلم ليس بضار .
3 / وحدة الزمان ، فلا تناقض بين : الشمس مشرقة في النهار ، والشمس غير مشرقة بالليل .
4 / وحدة المكان ، فلا تناقض بين : الارض مخصبة في الريف ، والارض غير مخصبة في البادية .
5 / القوة والفعل ، فلا تناقض بين : زيد ميت ، أي سيموت ، وزيد ليس بميت ، اي فعلا .
6 / الكل والجزء ، فلا تناقض بين : العرق مخصب أي بعضه ، والعراق ليس بمخصب أي كله .
7 / الشرط ، فلا تناقض بين : الطالب ناجح اخر السنة أي إن اجتهد ، والطالب غير ناجج ، اي اذا لم يجتهد .
8 / الاضافة ، فلا تناقض بين : الاربعة نصف ، اي بالاضافة الى الثمانية ، والاربعة ليست نصف ، اي بالاضافة اتلى العشرة .
وهناك وحدة تاسعة اضافها صدر المتألهين وهي حمل الحقيقة والرقيقة والتفصيل في الاسفار فراجع .
(2) الميزان : ج20/58 .


بقرينة ذيل الاية ( ان اتبع الا مايوحى الي ) ، وقد أخبر صلى الله عليه واله بمستقبل الكفار ومن سيقتل منهم كما حدث بالنسبة لمعركة بدر فقد قال كأني انظر الى مصرع فلان وفلان ، مضافا إلى أنه صلى الله عليه واله لاينطق عن الهوى ، فجميع ماعنده ماهو إلا وحي يوحى .
الوجه الثاني : العلم بالله وبغيره .
تقدم ان العلم بالغيب تارة يكون متعلقه العوالم الامكانية وما سوى الخالق ، مما غاب عن المخلوق بسبب الزمان والمكان ومحدودية الحواس ، واخرى يكون متعلقه الذات الاحدية المقدسة وما يتفرع عليها من معرفة الاسماء والصفات الالهية .
والانسان مهما بلغ كمالا وجمالا ووصل الى اقصوى مايمكن ان يصل اليه المخلوق من شدة وجود ورسوخ في العبودية ، فغاية مايمكن ان يحيط ويعلم به هو ماسوى الخالق ، وأما الخالق فاحاطة الممكن والمخلوق به من الممتنعات ، وهل يعقل احاطة المحدود بالامحدود ، والمتناهي بالامتناهي .
فعليه لايمكن ان نثبت لاي مخلوق ـ مهما كان ـ الموجبة الكلية بالعلم بالغيب ، اذ من الامور الغائبة عن المخلوق ذات الخالق والبارىء والاحاطة والعلم بها من الممتنعات العقلية ، فلا تصح هذه القضية «المخلوق يعلم كل الغيب» إذ من الغيب الذات المقدسة الالهية .
بخلاف الخالق عز وجل فانه يعلم ماسواه ويعلم نفسه ، وإليه اشير على لسان عيسى عليه السلام ( تعلم ما في نفسي ولا اعلم مافي نفسك ) مع ان عيسى عليه السلام يعلم الغيب في الجملة وعلى نحو الموجبة الجزئية ، لقوله ( وانبؤكم بما تأكلون وتدخرون في بيوتكم ) .
فالايات النافية للغيب عن المخلوق بصدد نفي الموجبة الكلية لغير الخالق ، واثباتها بالنسبة للخالق ، ونفي الموجبة الكلية لايناقض ويصادم ويضاد الموجبة الجزئية(1) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فقضية : زيد لايعلم كلَّ الفقه ، لاتنافي جملة : زيد يعلم بعض الفقه ، بل بينهما تمام الملائمة ، إذ القضية الاولى في سالبة جزئية ، والثانية موجبة جزئية ولاتنافي بين الموجبة الجزئية والسالبة الجزئية .
صفحه 26

فقوله تعالى ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه احد ) اثبات الموجبة الكلية له ونفيها عن من سواه ، وقوله ( الا من ارتضى من رسول ) هو اثبات للموجبة الجزئية للمرتضى من الرسول وليس هو اثبات للموجبة الكلية ، إذ المرتضى من الرسول غاية مايمكن ان يتحمل من الغيب هو مايرتبط بالعوالم الامكانية اما الاحاطة بالذات المقدسة فهو من الممتنعات ضرورة .
قال الحكيم ملا هادي السبزواري قدس سره ، في تفسير قوله «يامن لايعلم الغيب إلا هو» :
لايقال : كثير من الانبياء والاولياء كانوا يخبرون بالغيب فكيف هذا الحصر ؟
لأنّا نقول : المراد بالغيب في هذا الاسم الشريف «الغيب المطلق» أعنى كنه ذاته الذي لايعلمه الا هو ، ولهذا يقال له «الغيب المصون» و «الغيب المكنون» وفي الحقيقة هو الغيب الحقيقي دون ماعداه ، فان كل مافي عالم من عوالم الغيب غيب على سكان عالم آخر ، شهادة بالنسبة الى سكان نفسه ، كما أن مدركات الخيال غيب على الحواس الظاهرة لاعلى نفسه او على الأعلى منه ، ومدركات العقل غيب على الحواس الباطنة أيضا ، لا على نفسه أو على الاعلى منه ، بل شهادة في الموضعين ، بل في عالم الشهادة مافي بلدة غيب على مافي بلدة اخرى ، فمن علم شيئا من هذه علم امراً شهادياً لاأمرا غيبياً .
أو نقول : المراد انه لايعلم الممكن الغيب من قبل نفسه ، وهذا لاينافي أن يعلم بتعليم الله وبنوره ، فبالنور الوارد من عند الله اذا علم غيباً ، فهو علمه بالحقيقة لا من ورد عليه النور فذلك العلم وتلك الحالة منه ، وإليه الاشارة بقوله تعالى ( ولايحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) وأما البشر بما هو بشر كما قال تعالى في حق خير البشر ( قل لو كنت أعلم الغيب


لاستكثرت من الخير وما مسني السوء )(1) .

الوجه الثالث : نفي الاقتضاء .
وهو متمم للاول ، أن منصب النبوة والرسالة ـ وكذا الامامة ـ لايقتضي بالضرورة العلم بالغيب والولاية التكوينة وغيرهما ، فكون الانسان رسول لايستلزم ذلك ، وإنما غاية مايستلزم التبشير والانذار ، وإليه اشار تعالى ( رسلاً مبشرين ومنذرين ) ، وتلاوة الآيات وتعليم الكتاب والحكمة وتزكية البشر ، وهو المشار إليه في قوله ( هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم اياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ) ، فمنصب النبوة والرسالة لايقتضي أكثر من ذلك ، فتأمل(2) .
ولتوضيح ذلك أكثر نقول : الانسان من حيث هو هو لايقتضي إلا الناطقية والحيوانية ، ولذلك عرَّف المناطقة الانسان بأنه حيوان ناطق ، وبتخلف إحداهما لاتحقق له في الخارج ، فالناطقية والحيوانية اُخذتا في الانسان «بشرط شيء» ، فالانسان انسان بشرط تحقق الناطقية والحيوانية فيه ، فعدمهما عدم للانسان .
أما كونه عالماً بالغيب فهذا خارج عن مقتضى ذاته ، فقد يتصف بذلك وقد لايتصف بذلك ، فهذا القيد بتعبيرهم «لابشرط» أي لايشترط كونه عالما بالغيب ولايشترط عدم كونه كذلك ، وهناك قيد اخر يعبرون عنه «بشرط لا» أي بشرط عدم كونه حجراً مثلا .
فالناطقية والحيوانية قيد في الانسان وهذا القيد هو «بشرط شيء» ، والجمادية مثلا قيد في الانسان وهذا القيد هو «بشرط لا» أي بشرط عدم الجمادية ، والعلم بالغيب ليس قيداً مطلقا لابشرط شي ولا بشرط لا ، أي لايشترط لتحقق الانسانية ان يكون عالما بالغيب ، ولايشترط أن يكون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح الاسماء : 733 فصل 90 .
(2) وجه التأمل أن منصب النبوة والرسالة فرع الوحي ، والوحي يستلزم بالضرورة العلم بالغيب والقدرة التكوينة ، فقوله تعالى ( قل إنما انا بشر مثلكم ) أي مخلوق ضعيف فقير الى الله تعالى ، وإنما يمتاز عنا ـ كما في الحديث ـ بالاحوال والافعال ، فلكونه يوحى إليه فله قدرة تكوينة واتصال بالغيب ، والتفصيل في «قل انما أنا بشر مثلكم» فراجع .


ليس بعالم بالغيب ، فالعلم بالغيب لابشرط شي ولا بشرط لا ، فهو لابشرط العدم والوجود .
مثال آخر : النار مقتضاها الاولي الظاهري الاحراق والحرارة ، فهي بذاتها لاتقتضي إلا ذلك ، فالاحراق والحرارة لاينفك عن النار حسب النظر الظاهري ، فتحقق النار مشروط بقابليتها للاحراق والحرارة ، ومع عدم هذه القيد عدم للنار ، وقس على ذلك بقية الامثلة .
فعليه : الرسالة أو النبوة من حيث هي هي لاتقتضي بذاتها العلم بالغيب والولاية التكوينة ، وإنما تقتضي ـ كما قلنا ـ التبشير والانذار والتعليم لاغير ، وهذا لايعني اتصاف النبي او الرسول بالعلم بالغيب بتعليم من الله عز وجل كما ذكرنا أكثر من مرة ، فتأمل .
فالايات النافية للعلم بالغيب والولاية التكوينة هي في مقام اثبات ان الرسالة او النبوة لاتقتضي بذاتها ذلك كما هو ظاهرها .
فقوله تعالى ( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الغيب ) هي في مقام نفي كون الرسالة تقتضي العلم بالغيب ، والشاهد عليه ماتقدمها من آيات وهي ( يسئلونك عن الساعة أيان مرساها ، قل إنما علمها عند ربي لايجليها لوقتها الا هو ثقلت في السموات والارض لاتاتيكم الا بغتةً ، يسألونك كأنك حفي عنها ، قل إنما علمها عند الله ولكن اكثر الناس لايعلمون * قل لا أملك لنفسي نفعاً ولاضراً الا ماشاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ومامسني السوء ان أنا الا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) فظاهر الايتان ينفي اقتضاء الرسالة العلم بالساعة وملك الضر والنفع للنفس والعلم بالغيب ، وتثبت كما هو ظاهر ذيلها ان مقتضى الرسالة هو الانذار والتبشير ، وهذا لايعني أن يعلم الرسول علم الساعة والعلم بالغيب والنفع والضر لنفسه بتعليم من الله تعالى ، اذ الايتان تنفي الاقتضاء وتثبت تحقق ذلك بإذن الله كما هو صريح قوله ( إلا ماشاء الله ) فتدبر جيداً .
فخلاصة هذا الوجه : أن الوجودات الذهنية او الخارجية علاقتها مع الصفات لاتخلو من ثلاث نسب :

إما بقيد وشرط الصفة فلا تحقق للشيء الا بتحقق الصفة ، وإما بقيد عدم الصفة فلا تحقق للشيء مع تحققها ، وإما لابقيد أصلا .
فالانسان والبقر والغنم والحصان والاسد والثعلب والشجر والجبال ، اذا نظرنا الى علاقتها مع صفة العلم بالغيب نجد أن هذه الموجودات الخاصة لاتقتضي بذاتها العلم بالغيب ، وهذا لايعني أنها ليس لها قابلية الاتصاف بذلك ، فالانسان مثلا ذاته لاتقتضي العلم بالغيب ، اذ قد يوجد انسان ولايعلم الغيب بل اكثر البشر كذلك ، ولكن لايعني عدم قدرته على العلم بالغيب ، فصفة الغيب بالنسبة له «لابشرط» أي قد يتصف بها وقد لايتصف ، أما الحيوان ـ مثلا ـ أو الجدار فلا يمكنه العلم بالغيب لانه سنخ وجود دائرته أضيق من أن ينال العلم بالغيب ، فهو موجود مقتضى ذاته عدم العلم بالغيب .
فصفة العلم بالغيب بالنسبة للانسان لابشرط الاتصاف ، بمعنى انه قد يتصف وقد لايتصف ، واتصافه وعدمه لابذاته بل لابد ان يكون بالغير ، أما بالنسبة للحيوان والجدار فهذه الصفة بشرط عدم الاتصاف ، أي ان الحيوان والجدار ذاته تقتضي عدم الاتصاف .
ومثال آخر : الانسان ممكن الوجود ، ومعنى ذلك أنك لو وضعت يدك على ذاته فلا هو يقتضي وجود نفسه ولاهو يقتضي عدم نفسه ، فهو لابشرط من حيث الوجود ، فالانسان من حيث هو هو لايستحق أن يحمل عليه «موجود» ولا «معدوم» ، ولكن هذا لاينافى أن يُمنح الوجود من الغير .
فالبشر كانوا يتصورن ان الرسالة والنبوة تقضي العلم بالغيب ، فجاءت الايات تفنيداً لذلك .
قال العلامة الطباطبائي قدس سره : قوله ( ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ) وهو ينفي فيه جهات الامتياز التي كانوا يتوقعونها في الرسول عن نفسه ، بقوله ( ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً ) ما عنه راجع الى الضعفاء الذين آمنوا به من قومه لان الملا ألحقوهم في قوله ( ولانرى لكم علينا من فضل ) .

وتوضيحه : ان معنى قولهم هذا ان اتبعانا لك ولمن آمن بك من هؤلاء الاراذل إنما يستقيم لفضل يتم لكم علينا ولانرى لكم علينا من فضل أما انت فليس معك مايختص به الرسول من قدرة ملكوتية او علم بالغيب او ان تكون ملكاً منزهاً من ألواث المادة والطبيعة ، واما المؤمنون بك فإنما هم أراذلنا الائسون من كرامة الانسانية المحرومون من الرحمة والعناية .
فأجابهم عنهم نوح بما معناه : أما أنا فلا أدعي شيئاً مما تتوقعون من رسالتي فليست للرسول إلا الرسالة(1) .
قال : قوله ( وما أدري مايفعل بي ولابكم ) نفي لعلم الغيب عن نفسه فهو نظير قوله ( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ) والفرق بين الايتين أن قوله ( ولو كنت اعلم الغيب ) نفي للعلم بمطلق الغيب واستشهاد له بمسّ السوء وعدم الاستكثار من الخير ، وقوله ( وما أدري مايفعل بي ولا بكم ) نفي للعلم بغيب خاص وهو مايفعل به وبهم من الحوادث التي يواجهونها جميعاً ، وذلك أنهم كانوا يزعمون أن المتلبس بالنبوة لو كان هناك نبي يجب أن يكون عالماً في نفسه بالغيوب ذا قدرة مطلقة غيبية كما يظهر من اقتراحاتهم المحكية في القران ، فأمر صلى الله عليه واله ان يعترف ـ مصرحاً به ـ أنه لايدري مايفعل به ولابهم فينفي عن نفسه العلم بالغيب ، وأن ما يجري عليه وعليهم من الحوادث خارج عن ارادته واختياره وليس له في شيء منها صنع بل يفعله به وبهم غيره وهو الله سبحانه .
فقوله ( وما ادري مايفعل بي ولا بكم ) كما ينفي عنه العلم بالغيب ينفي عنه القدرة على شيء مما يصيبه ويصيبهم مما هو تحت أستار الغيب .
ونفي الاية العلم بالغيب عنه صلى الله عليه واله لاينافي علمه بالغيب من طريق الوحي كما يصرح تعالى به في مواضع من كلامه كقوله ( ذلك من انباء الغيب نوحيه إليك ) وقوله ( تلك من انباء الغيب نوحيها إليك )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الميزان : ج10/205 .


وقوله ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول ) ، ومن هذا الباب قول المسيح عليه السلام ( وانبئكم بما تأكلون وتدخرون في بيوتكم ) وقول يوسف عليه السلام لصاحبي السجن ( لاياتيكما طعام ترزقانه إلا بنأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ) .
وجه عدم المنافاة أن الايات النافية للعلم بالغيب عنه وعن سائر الانبياء عليهم السلام إنما تنفيه عن طبيعتهم البشرية بمعنى أن تكون لهم طبيعة بشرية أو طبيعة هي أعلى من طبيعة البشر من خاصتها العلم بالغيب بحيث يستعمله في جلب كل نفع ودفع كل شر كما نستعمل مايحصل لنا من طريق الاسباب ، وهذا لاينافي انكشاف الغيب لهم بتعليم إلهي من طريق الوحي كما أن إتيانهم بالمعجزات فيما اتوا بها ليس عن قدرة نفسية فيهم يملكونها لانفسهم بل بإذن من الله وأمر ، قال تعالى ( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا ) جواباً عما اقترحوا عليه من الايات ، وقال ( قل إنما الايات عند الله وإنما أنا نذير مبين ) وقال ( ومكان لرسول أن يأتي بآية إلا باذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق ) .
ويشهد بذلك قوله بعده متصلا به ( إن اتبع إلا مايوحى اليّ ) فان اتصاله بما قبله يعطي أنه في موضع الاضراب ، والمعنى : إني ما أدري شيئاً من هذه الحوادث بالغيب من قبل نفسي وإنما اتبع مايوحى إلي من ذلك .
وقوله ( وما أنا إلا نذير مبين ) تأكيد لجميع ماتقدم في الاية من قوله ( وما كنت بدعاً ) و ( وما أدري ) وقوله ( إن اتبع )(1) .


ارتضاكم لغيبه
هذه الفقرة من الزيارة الجامعة تشير إلى قوله تعالى ( عالمُ الغيبِ فلا يظهرُ على غيبهِ أحداً ، إلا من ارتضى من رسول فانهُ يسلُكُ من بين يديهِ ومن خلفهِ رصدا )(2) فالاية الكريمة أولا نفت إظهار الغيب لاحد من خلقه ، ثم استثنت نمطاً خاصاً من البشر وهم «المرتضى من الرسل» وعلى رأس هؤلاء سر العالمين النبي الامي صلى الله عليه واله ، فهو المصداق الاتم الاكمل لمن ارتضاه الله لغيبه ، وأهل بيته عليهم السلام ورثته في كل شيء ماخلا النبوة المستثناة في قوله صلى الله عليه واله لعلي عليه السلام في الحديث المتواتر بين الخاصة والعامة « إنك مني بمنزلة هارون من موسى إلا إنه لانبي بعدي » .
ففي الحديث الصحيح عن الباقر والصادق عليهما السلام : إن جبرئيل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه واله برمانتين فأكل رسول الله صلى الله عليه واله إحداهما ، وكسر الاخرى بنصفين ، فأكل نصفاً وأطعم علياً نصفاً ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه واله : يا أخي هل تدري ماهاتان الرمانتان ؟ قال : لا ، قال : أما الاولى فالنبوة ، ليس لك فيها نصيب وأما الاخرى فالعلم أنت شريكي فيه .
فقال حمران : أصلحك الله كيف كان ؟! يكون شريكه فيه ؟ قال : لم يعلّم الله محمداً صلى الله عليه واله علماً إلا وأمره أن يعمله علياً عليه السلام ، قال الباقر عليه السلام : ثم انتهى العلم إلينا(3) .
فهم عليهم أفضل الصلاة والسلام ممن ارتضاهم الله لغيبه ، وجعلهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) طه : 108 ، 109 .
(2) الجن : 26 .
(3) الكليني : ج1/263 بسند صحيح علي بن ابراهيم عن ابيه عن ابن ابي عمير عن ابن اذينة عن زرارة ، وبسند آخر عن ابن اذينة عن محمد بن مسلم ، وبسند ثالث عن ابن اذينة عن ابن سليمان عن حمران بن اعين ، والحديث رواه الصفار في البصائر : ج6/باب 11 بخمسة أسانيد .
صفحه 2

خزائن علمه ، وحفظة سره ، وتراجمة وحيه ، وشهداء على خلقه ، وحججاً على عباده ، وآتاهم ما لم يات أحداً من العالمين ، فلذلك طأطأ كل شريف لشرفهم ، وعظيم لعظمتهم .
ونمهد للبحث في اطلاعهم عليهم السلام وظهورهم على الغيب والعلم به بعدة من المطالب .

الغيب لغة .
الغيب مصدر غاب ، فغابت الشمس اي استترت عن العين ، والكلمات المشتقة منه : غيباً وغَيبة وغِيابا وغَياباً وغيوباً وغيبوبة ، والغيوب صيغة مبالغة للغائب .
ويقابل الغيب الشهادة ، فكل مايقع عليه الحس ويتعلق به الادراك فهو شهادة وحضور ، وكل مالايقع عليه ذلك فهو من الغيب .
قال الراغب : الغيب مصدر غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن العين ، يقال : غاب عن كذا ، قال تعالى ( أم كان من الغائبين ) ، واستعمل في كل غائب عن الحاسة ، وعما يغيب عن علم الانسان بمعنى الغائب ، قال تعالى ( وما من غائبة في السماء والارض إلا في كتاب مبين ) ويقال للشيء غيب وغائب باعتباره بالناس لا بالله فإنه لايغيب عنه شيء كما لايعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الارض ، وقوله ( عالم الغيب والشهادة ) أي مايغيب عنكم وماتشهدونه ، والغيب في ( يؤمنون بالغيب ) ما لا يقع تحت الحواس ولاتقتضيه بداية العقول وإنما يعلم بخبر الانبياء عليهم السلام(1) .

الغيب قرانياً .
وكلمة الغيب من المصطلحات القرانية التي كثر تكررها في آيات الذكر الحكيم ، ولكي نتعرف على معنى هذه الكلمة وحدودها قرآنيا نتبرك باستعراض مجموعة من الايات الكريمة .
1 / قوله تعالى ( الذين يؤمنون بالغيب ويقمون الصلاة ومما رزقناهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مفردات الراغب الاصفهاني : مادة غيب 616 .
صفحه 3

ينفقون ) والغيب المقصود به في هذه الاية والذي هو متعلق بكلمة الايمان مصداقه الاتم هو الايمان بالله وبالاخرة كما هو موضع اتفاق المفسرين .
2 / قوله تعالى ( وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الارض ولا أصغر من ذلك ولا اكبر إلا في كتاب مبين ) فالعلم بالساعة هو علم بالغيب .
3 / قوله تعالى ( جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعدُه مأتيا ) فالجنة ومافيها من الغيب .
4 / قوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام ( تعلم مافي نفسي ولا اعلم مافي نفسك إنك أنت علام الغيوب ) فالعلم بما في أنفس الاخرين يعتبر من مصاديق العلم بالغيب كما هو نص الاية الكريمة .
ومثلها دلالة قوله تعالى ( وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وماكان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فامنوا بالله ورسله وان تومنوا وتتقوا فلكم اجر عظيم ) فتمييز الخبيث من الطيب كما يمكن أن يكون بالصبر عند البلاء والامتحان ، كذلك يكون بالاطلاع على الغيب ، والاية الكريمة تنفي ذلك اذ هو من مختصات البارىء تعالى حيث لا يطلع عليه احدا الا المجتبى من العباد والمرتضى من الانام .
5 / قوله تعالى ( وما هو على الغيب بضنين )(1) والمراد بالغيب الوحي النازل عليه صلى الله عليه واله ، ومعنى الاية إنه صلى الله عليه واله لا يبخل بشيء مما يوحى اليه فلا يكتمه ولا يحبسه ولا يغيره بتبديل بعضه أو كله بشيء آخر ، بل يعلم الناس كما علمه الله ويبلغهم مااُمر بتبليغه .
6 / قوله تعالى بعد سرد قصة مريم وحملها بعيسى عليهما السلام (
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التكوير : 24 .
صفحه 4

ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وماكنت لديهم اذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ) ، فالغيب هنا بمعناه اللغوي وهو ما غاب عن الانسان ، ومنشأ الغيب والاستتار في الاية الكريمة هو الزمان والمكان ، فزمان نزول الاية غير زمان ولادة عيسى عليه السلام ، وكذلك المكان .
7 / قوله تعالى بعد سرد قصة نوح عليه السلام وماجرى مع قومة الى اغراقهم ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ماكنت تعلمها أنت ولاقومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ) فالعلم بما جرى بين الانبياء واممهم من مصاديق العلم بالغيب كما هو صريح الاية الكريمة .
ومثلها قوله تعالى في خاتمة سورة يوسف ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك وماكنت لديهم اذ اجمعوا أمرهم وهم يمكرون ) اشارة الى مكر اخوة يوسف عليه السلام .
وقوله في قصة أهل الكهف ( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ، قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مرآءً ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا ـ إلى ان قال ـ قلِ اللهُ أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والارض ) .
وقوله في قصة موت سليمان عليه السلام ( فلما قضينا عليه الموت مادلهم على موته إلا دابة الارض تأكل من منسأته ، فلما خر تبينت الجن أن لو كان يعلمون الغيب مالبثوا في العذاب المهين ) .

النتيجة المتحصلة
فالنتيجة المستحصلة من الايات في معنى الغيب أن كل ما غاب عن الانسان وحواسه فهو من الغيب ، ومنشأ هذا الغيب تارة يكون بسبب الزمان ، وأخرى يكون بسبب المكان ، وثالثة يكون بسبب الحجب ومحدودية الحواس الظاهرة وعدم الاستعانة بالحواس الباطنة اليقينية ، ورابعة بسبب مامر جميعاً .

صفحه 5

نعم في الروايات عن أهل البيت عليهم السلام « ان الغيب ما لم يكن والشهادة ماقد كان » فعن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله عليه السلام في قول الله عز وجل ( عالم الغيب والشهادة ) قال : « الغيب مالم يكن والشهادة ماقد كان » ، والظاهر ان ذلك من باب ذكر بعض المصاديق ، لا أنه اصطلاح خاص والله العالم .
فالخلاصة أن أنواع المغيبات في القران الكريم كثيرة جداً منها مايلي :
1 / مايختص بالله تعالى وصفاته وأسمائه وتجلياته .
2 / مايختص بالبرزخ والنشر والصراط وأحوال يوم القيامة ، والاخبار عن الجنة والنار ، وما فيهما من رحمة وعذاب .
3 / مايختص بالموجودات المجردة ، والملائكة المدبرة للعالم بإذن الله تعالى ، المشار إليها بقوله ( والنازعات غرقا ، والناشطات نشطا ، والسابحات سبحا ، فالسابقات سبقا ، فالمدبرات أمرا )(1) .
4 / الاخبار عن الامم السابقة ، وأحوالها مع الانبياء والرسل والاوصياء والصالحين .
5 / الاخبار ببعض الحوادث المستقبلة ، كالاخبار عن غلبت الروم على الفرس بعد انكسارهم .
6 / الاخبار عن أحوال المنافقين وأفعالهم وخططهم لتضعيف شوكة المؤمنين ، والايات بذلك كثيرة جداً سيّما في سورة البراءة .
7 / الاخبار عن بعض الموجودات والقوانين السائدة في عالم الامكان ، كالاخبار عن زوجية الاشياء مطلقاً في قوله تعالى ( ومن كل شيء خلقنا زوجين اثنين لعلكم تذكرون )(2) .
8 / تنبؤ القران بعجز البشر عن معارضته بمثله بل بسورة من مثله ، والتنبؤ بصيانة القران من التحريف .

متعلق العلم بالغيب .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النازعات : 1 الى 5 .
(2) الذاريات : 49 .
صفحه 6

والعلم بالغيب تارة يكون متعلقه(1) مرتبطاً بالعوالم الامكانية ، سواء ما كان منها أو ماهو كائن او ما سيكون ، فالعلم بالامم السابقة علم بالغيب بما كان ، والعلم بالامم الحاضرة علم بالغيب بما هو كائن ، والعلم بالامم والمخلوقات المستقبلة علم بالغيب بما سيكون .
واخرى يكون متعلق العلم بالغيب ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته ، ونفي هذا النمط من العلم بالغيب لا يعني نفيه عن الاول ، وسيأتي تتمة لهذا الحديث فاحفظه .

العلم بالغيب نسبي .
ومعنى النسبية إنه قد يكون الشيء بالنسبة لي غيب ، ولكنه بالنسبة لك شهادة أو بالعكس .
مثلا ما في نفسي من تصورات وافكار وهموم هي شهادة بالنسبة لي وغيب بالنسبة لك ، وحينما أكون جالساً في المدرسة ، المدرسة والاستاذ وما يلقيه الاستاذ ووضعية التلاميذ حوله ، بالنسبة لي شهادة ، لكن بالنسبة لمن هو في بيته غيب لا شهادة .
مثال آخر : مايدور في القبر والبرزخ ، وما يحدث في عالم الملائكة والارواح المقدسة وبقية العوالم النورانية بالنسبة لي غيب ، ولكن بالنسبة للملائكة شهادة وحضور .
مضافا الى امكان ـ بل تحقق ـ كون الشي الوحد بالنسبة لي الان شهادة وغدا يكون من الغيب ، وبالعكس ، فقد يكون الشيء بالنسبة لي الان غيب وغداً شهادة .
والامثلة على ذلك متعددة وواضحة ، ومنشأ النسبيّة هو الحد الوجودي لكل الكائنات ، فما من كائن الا وله حد ، كان من كان ، فبعض الكائنات والموجودات حدها أوسع من الاخرى ، والانسان له القابلية على أن يكون حده الوجودي أوسع من جميع الكائنات ، بل الانسان في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) متعلق العلم هو المعلوم ، فالمعلوم تارة يكون الحق تعالى واخرى يكون ماسواه عز وجل .
صفحه 7

نشأة واحدة قد يختلف حده الوجودي من حالة إلى أخرى ومن زمان إلى آخر ، وباختلاف حده تختلف درجة معلوماته وأخذه من الغيب الذي لاحد له .

الغيب المطلق .
نعم هناك غيب مطلق لا يعلم به أحد الا الله تعالى ، لا ملك مقرب ولانبي مرسل ، بل لا يعلمه كذلك خاتم الانبياء والمرسلين واوصيائه الميامين ، هذا الغيب المطلق هو الذات الالهية(1) ، لذلك قال الله تعالى حاكيا على لسان عيسى عليه السلام ( تعلم مافي نفسي ولا اعلم مافي نفسك ) ومهما وصل الانسان الذي هو اشرف الكائنات الى درجات رفيعة وشديدة من الوجود والتحقق فان الاحاطة بالذات الالهية ممتنع عقلا ونقلا ، لعدم احاطة المحدود بالامحدود وهذا واضح لاغبار عليه .
فلا يعلم الغيب الا الله ، أي لا يعلم الغيب المطلق إلا الله ، وهذا لاينافي أن يعلم بعض الغيب ـ على نحو الموجبة الجزئية(2) ـ غير الله وستأتي تتمه لهذا الكلام .

معنى عالم الغيب والشهادة .
وليس معنى ان الله عالم الغيب والشهادة ، أنه هناك غيب وشهادة بالنسبة له تعالى وهو يعلم بهما ، بل جميع العوالم الامكانية وما كان وما يكون وماهو كائن شهادة بالنسبة إلى الله تعالى ، إذ هو بكل شيء محيط ، وعلى كل شيء شهيد ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الارض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر الا في كتاب مبين .
فقوله تعالى ( عالم الغيب والشهادة ) وقوله ( علام الغيوب ) وغيرها من الايات ، ليس الغيب بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى إذ لا يتعقل أنه هناك غيب وشهادة بالنسبة له تعالى ، وإنما ماهو غيب وشهادة بالنسبة لنا الله يعلمه على نحو العلم الاحاطي القيّومي .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فالله عالم بنفسه بنفسه ، لابعلم اضافي .
(2) الموجبة الجزئية كقولنا : بعض الانسان كاتب ، والموجبة الكلية : كل إنسان ناطق ، والسالبة الجزئية : بعض الانسان ليس بكاتب ، والسالبة الكلية : كل انسان ليس بحجر .
صفحه 8

فكل شيء بالنسبة له تعالى شهادة وحضور ، وتصور غياب بعض الاشياء عنه تعالى معناه دخولها في دائرة العدم والبطلان المحض ، إذ الوجودات الامكانية محض التعلق والارتباط والفقر إليه تعالى ، فالله هو الغني وجميع الممكنات ذاتها الفقر والحاجة حدوثاً واستدامة .
فتقسيم الاشياء إلى غيب وشهادة يتلاءم ويتناسب مع المحدود ، فما كان في دائرة حدوده فهو شهادة وما كان خارجاً عنها فهو غيب ، وبما أن الله سبحانه وتعالى لا حدَّ له ولا حيّز فهو بكل شيء محيط ، فتصور ماهو خارج عن هيمنته بطلان وفناء وعدم محض ، فشيئية الشيء محفوظة ومتقومة بانتسابها وفقرها إلى الله سبحانه وتعالى .
فإطلاق ان الله عالم الغيب والشهادة فيها تجوز ومسامحة كما لا يخفى ، فليس هناك غيب وشهادة بالنسبة له تعالى ثم يعلم بهما ، إذ كون الشيء غيب لا يكون الا في حق المخلوق والممكن ، والالتزام بذلك في حق الله على نحو الحقيقة اللغوية(1) كفر صريح ، إذ معناه انه هناك غيب لا يعلمه الله ثم علم به ، فالعلم بالغيب فرع الاستتار ، فإذا لم يكن هناك استتار فلا علم بالغيب .
وهل المجاز هنا مجاز في الاسناد أم الكلمة(2) ، قد يقال أنه مجاز في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحقيقة هي استعمال اللفظ فيما وضع له ، والمجاز استعمال اللفظ فيما لم يوضع له ، فالعرب وضعت للحيوان المفترس المعروف لفظ «اسد» فتارة يستعمل هذا اللفظ فيما وضع له فيقال للاستعمال استعمال حقيقي ، كقولنا : رأيت أسدا في حديقة الحيوان ، فان لفظ «اسد» في المثال استعملت في الحيوان المفترس ، واخرى يستعمل هذا اللفظ في الرجل الشجاع ، كقولنا : رأيت أسداً يرمي ، فإن لفظ اسد فى المثال استعمل في الرجل الشجاع لا الحيوان المفترس ، فهذا الاستعمال يقال له استعمال مجازي .
فقولنا : الله يعلم الغيب ، هنا استعمال مجازي في الفعل المضارع كما نبّهنا إليه اما قولنا : زيد يعلم الغيب ، فالاستعمال هنا حقيقي .
(2) مثال المجاز في الكلمة جملة : رأيت أسداً يرمي ، فالمقصود من الاسد في المثال هو الرجل الشجاع بقرينة لفظة «يرمي» ، فاستعمال الكلمة في المثال استعمال مجازي ، إذ لفظة «الاسد» وضعت للحيوان المفترس ، فإذا استعملت في الرجل الشجاع فالاستعمال يكون مجازياً لاحقيقياً .
ومثال المجاز في الاسناد جملة : جرى الميزاب ، فليس هناك تجوز في معنى الجريان والميزاب ، وانما التجوز في نسبة الجريان الى الميزاب ، إذ الميزاب لايتصف بالجريان ، فنسبة الجريان إليه نسبة مجازية ، نعم الماء هو المتصف بالجريان ، وانما نسب الجريان الى الميزان لوجود العلاقة بينه وبين الماء .
صفحه 9

الاسناد ، باعتبار أن المقصود من الغيب هو الغيب بالنسبة للانسان ، لكن الصحيح أنه مجاز في الكلمة ، فقوله تعالى ( قل لا يعلم من في السماء والارض الغيب إلا الله ) هناك مجاز في الكلمة بالنسبة للفعل المضارع «يعلم» إذ الفعل المضارع موضوع لمعنى الحدوث والتجدد ، ولكنه بالنسبة الى الله ينسلخ عن معناه الموضوع له ، فيكون للثبوت والتحقق ، فإذا قلنا : عيسى يعلم الغيب ، أي أن علمه بذلك قد حدث وتجدد بعد أن لم يكن ، أما إذا قلنا : الله يعلم الغيب ، فمعناه أن العلم بذلك متحقق وثابت له ، فنسبة الفعل المضارع للمخلوق معناه التجدد والحدوث ، أما نسبته للخالق فمعناه الثبوت والتحقق كما هو مقتضى البحث اللغوي .
فما في بعض الكلمات من أنه لا يعلم الغيب على نحو الحقيقة إلا الله ، إن كان المقصود الحقيقة اللغوية كما هو ظاهر كلماتهم ، فبطلانه واضح لما قلنا ـ أنفاً ـ من أن نسبة العلم بالغيب لله تعالى نسبة مجازية ، وإن كان المراد من قولهم « لا يعلم الغيب على نحو الحقيقة إلا الله » أي لا يعلم الغيب على نحو الاستقلال وبالذات إلا الله فكلام صحيح ومتقن .
قال الراغب الاصفهاني في كلامه المتقدم : ويقال للشيء غيب وغائب باعتباره بالناس لا بالله ، فإنه لا يغيب عنه شيء ، كما لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الارض ، وقوله ( عالم الغيب والشهادة ) أي مايغيب عنكم وماتشهدونه .

الفرق بين الاطلاع على الغيب والعلم بالغيب .
وليس البحث في العلم بالغيب بحثاً لفظياً حتى يقال بوجود الفرق بين الاطلاع على الغيب والعلم به ، فلا يصح نسبة العلم بالغيب إلى المخلوق ، بينما يصح نسبة الاطلاع على الغيب له ، بل البحث بحثاً عقلياً ، بعيداً عن الالفاظ والمصطلحات ، فالعلم بالغيب ينسب إلى المخلوق والاطلاع ينسب إلى الله تعالى ، أطلعنا الله على الغيب فعلمنا به ، فمع عدم الاطلاع لا علم لنا بالغيب ، ومعه نعلم الغيب .

صفحه 10

بل يمكن أن يقال : بالفرق بين العلم بالغيب والاطلاع على الغيب ، باحتمال كون الجملة الاولى العلم الحصولي أو العلم الحضوري ، إما الاطلاع على الغيب فمادة اللفظة تعطي أنه على نحو العلم الحضوري الاحاطي ، فمن له اطلاع على الغيب له احاطة به(1) ، فإذا قيل : زيد يعلم الغيب ، قد يكون عن طريق أحد الرسل والاوصياء ، اما اذا قيل : زيد أطلع على الغيب فمعناه أنه بنفسه أطلع لا بواسطة رسول أو وصي ، فمن مادة الاطلاع يستشعر منها العلم الحضوري الاحاطي ، فقوله تعالى ( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن يجتبي من رسله من يشاء ) نفي لان يطلع على الغيب البشر العاديين وإنما ذلك مختص باللانبياء ، نعم غيرهم يعلم بالغيب بتعليم من الانبياء ، فتأمل جيداً .