الّذين يَأْلَفُون ويُؤْلَفون

أدب الحوار

New Member
18 أبريل 2010
126
0
0
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآل محمَّد


الّذين يَأْلَفُون ويُؤْلَفون


تُعدُّ مكارمُ الأخلاق من أهمِّ المعاييْر التي يعتمدها العقلاء في تقييم الناس.. فكلَّما كان الإنسان ذا خُلق كريم، كان المجتمع أكثر قبولاً له، وهو ما يؤدِّي إلى نجاح الإنسان..

وقد بلغ الجانب الأخلاقي درجةً من الأهَمِّية، بحيث اعتبره الإسلام – فضلاً عن دعوته إليه – معياراً لتفاضل الناس، وتمييز درجاتِهم في القرب من الله تعالى.

ومكارمُ الأخلاق لها مظاهر عديدة، قد اهتمَّ ببيانِها كلام الله تعالى (القرآن الكريم) ، وكذلك نصوص السنة النبوية المباركة، وأولاها علماء الإسلام أهَمِّية بالغةً..

ونحن في موضوعنا هذا نريد أن نقرأ رواية صحيحةَ السند عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، رويت من طريق أهل بيته عليهم السلام، وهي في كتاب الكافي لثقة الإسلام الشيخ الكليني، ج2 ، ص102 ، برقم 16 ، ومتن الرواية:

"عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: أَفَاضِلُكُمْ أَحْسَنُكُمْ أَخْلاقاً، الْمُوَطَّؤونَ أَكْنَافاً، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ، وَتُوَطَّأُ رِحَالُهُم‏".

ولنترجم الرواية الشريفة بلغة أقرب إلى فهم أهل هذا العصر:

يقول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: إنَّ أفضل الناس عند الله تعالى، هم أحسن الناس من الناحية الأخلاقية، الذين يسهل التعامل معهم، ومن خصائصهم أنَّهم ذوو مكانة في قلوب الناس، فالناس يُحبّونَهم، كما أنّهم هم أيضاً يُحبّون الناس، فعلاقتهم مع المجتمع تتميز بالمودة المتبادلة، ويضعون ما يملكونه تحت أمر الناس، فيخدمون هذا، ويطعمون ذاك، ويمدّون يد العون والكرم للجميع.

هذه هي الرواية. ولنركِّزْ على وصف هؤلاء بأنّهم يَأْلفون ويُؤلَفون، فقد عرفنا أنّ هذا الوصف معناه: أنّ هؤلاء يعيشون حالةً من المودّة المتبادلة مع المجتمع الذي يعيشون فيه. ونحن نريد أن نقف مع هذا الوصف في نقطتين:

النقطة الأولى: أنّنا نستطيع أن نقول: إنَّ حالة المحبة المتبادلة التي يعيشها هؤلاء الأشخاص المتميزون الأفاضل، هي نتيجة لحسن الخلق؛ فالمحبة المتبادلة ليس جزءاً من سلوك شخص ما، ولكنها نتيجة لسلوكه الأخلاقي، فالذي تحسُنُ أخلاقُه، يُحبُّه الناس، فتتكوّن بينه وبينهم علاقة وُدّ متبادلة.

النقطة الثانية: بناء على أنّ المودّة المتبادلة هي نتيجة طبيعية لحسن الخلق، وكونَها (المودة المتبادلة) من خصائص الأفاضل عند الله تعالى، بناء عليه يمكننا أن نجعل المودّة الاجتماعية المتبادلة مؤشِّراً على حُسن الْخُلق.. وهذه نقطة في غاية الأهمية..

لأنّ كثيراً من الناس قد يكونون سيِّئي الأخلاق، ولكنّهم لا يدركون هذا الأمر، ويتصوّرون أنّهم من أفاضل الناس.. فإذا جعلنا (المودّة الاجتماعية) معياراً للتشخيص، يمكن لكلّ واحد منّا أن يعرف مدى التزامه بمكارم الأخلاق..

إنّ كثيراً من الناس يعيشون حالة القطيعة مع بيئتهم الاجتماعية، ويشعرون بالسَّخَط والنُّفور إزاء من يحيط بِهم من أقرباء أو جيران أو زُمَلاء أو غير ذلك.. وحين تحاول أن تستفهمهم (كمُشفق عليهم وحريص على مصلحتهم) عن هذه الحالة السلبية في حياتِهم، يجيبونك: أنّ المجتمع غير صالح، أو أنّهم محسودون، أو غير ذلك من التبريرات المعروفة..

ولكننا إذا تمعنا حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي قرأناه في هذا الموضوع، وكذا العديد من الأحاديث، بل والمرتكزات الاجتماعية العامّة، سنلاحظ أنّ هؤلاء الناس لم يستعملوا المعيار الصحيح لتشخيص المشكلة..

والمعيار الصحيح هو المودّة الاجتماعية المتبادلة، وهي التي تميِّز الفضلاء، ودرجات تفاضلهم.. فكَوْني لا أملك ارتباطاً وُدّياً مع مجتمعي، هو الدليل على أنني غير ناجح أخلاقياً، وبالتالي فلست من الأفاضل عند الله تعالى..

ولكنّ بعض الناس يخطئون في ترتيب تفكيرهم، فيعكسون الفكرة تماماً، فيثبتون أوّلاً (بغير دليل معتبر) أنّهم أفاضل، ثم يحكمون على جميع الناس بأنهم ليسوا فضلاء؛ فقط لأنهم لا يرتبطون معهم بعلاقة المحبة المتبادلة..

إنّه خطأ يقع فيه العديد من الناس؛ لأن الشيطان يريد أن يعزلهم عن المجتمع، فيُصوّر لهم أنّهم فضلاء، ثم يدعوهم إلى تقييم الآخرين، وبأدنى خلل (ولو لم يكن حقيقياً) من قبل الآخرين، تظهر من هؤلاء الفضلاء الوهميين التصرفات الصدامية، ثم يختارون العُزلة بتشجيع من الشيطان أيضاً..

وحين ينعزلون يعانون من آلام الوحدة والغُربة، وإن كانوا لا يعترفون بِهذا علناً.. وهم الذين يخسرون كل شيء في الأخير؛ لأنّ الإنسان الذي لا يستطيع أن يُقيِّم نفسَه بصورة صحيحة، لا يستطيع أن يتقرّب إلى الله تعالى. ومن يختار العزلة بعد الإدانة لعباد الله، يكون بذلك قد أسخط الله، فيزداد عن الله بُعداً يوماً بعد يوم..

وأمّا أفاضل الناس، فهم يتمتعون بالأنس والمحبّة، والحياة بالنسبة إليهم تكتسب بذلك مذاقاً مُتميّزاً، فيُحبّون الناسَ، ويُحبّهم الناسُ.. ويقابلون إحسان الناس بالإحسان، ويدفعون السيئة بالحسنى، ويعفون ويصفحون، وينشغلون بمعالجة عيوب أنفسهم، ويرون أنفسهم أقلّ الناس منْزلةً، ولا يغترّون بعبادة أو فضل فعلوه..

وهم من خلال ذلك يستطيعون أن يكونوا أقرب إلى خدمة عباد الله، وتلمُّس همومهم، ومُهمّات قضاياهم.. فيكونون بذلك مُتقرِّبين إلى الله تعالى، فيزدانون كلَّ حين فضلاً على فضلهم..


الخلاصة:

إنّنا ندعو جميع المؤمنين إلى مراجعة مستواهم الأخلاقي على أساس مدى نجاحهم في الارتباط الإيجابي الوُدّي مع المجتمع الذي يحيط بِهم.. وهذا الأساس والمعيار نستفيده من الحديث النبوي الشريف، بل وغيره من النصوص الدينية المباركة.. وهو الذي يُقرّ به ويدعو إليه مَن جرّب الحياةَ وخَبِرَ الأمورَ من أفاضل الناس..

والله ولي التوفيق.

والحمد لله رب العالمين.