بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
يبحث المجلد الخامس من (جواهر التاريخ) في سيرة الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق عليهما السلام والتحولات الكبيرة التي حدثت في عصرهما ، حيث نشأت الحركة الحسنية لإسقاط الدولة الأموية بقيادة عبدالله بن الحسن المثنى ، وانضمَّ اليها أبناء محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، وبايعوا محمد بن عبدالله بن الحسن وسموه المهدي .
( قال عمير بن الفضل الخثعمي: رأيت أبا جعفر المنصور يوماً وقد خرج محمد بن عبد الله بن الحسن من دار ابنه ، وله فرس واقف على الباب مع عبد له أسود ، وأبو جعفر ينتظره ، فلما خرج وثب أبو جعفر فأخذ بردائه حتى ركب ، ثم سوى ثيابه على السرج ومضى محمد . فقلت وكنت حينئذ أعرفه ولا أعرف محمداُ: من هذا الذي أعظمته هذا الإعظام حتى أخذت بركابه ، وسويت عليه ثيابه؟ قال: أوما تعرفه ؟ قلت: لا . قال: هذا محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن مهدينا أهل البيت). ( مقاتل الطالبيين/161) .
وبعد سنين من عملهم السري انقلب عليهم العباسيون وأقنعوا قائد الثورة الميداني أبا مسلم الخراساني بأن يبايعهم ، فاستشاط الحسنيون غضباً وثاروا عليهم بقيادة المهدي محمد بن عبدالله بن الحسن ، الذي كتب للمنصور: ( فإن الحق حقنا ، وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا، وخرجتم له بشيعتنا وحظيتم بفضلنا وإن أبانا علياً كان الوصي وكان الإمام ، فكيف ورثتم ولايته ووُلده أحياء ! ثم قد علمت أنه لم يطلب هذا الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا. لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء ! وليس يمت أحد من بني هاشم بمثل الذي نمتُّ به من القرابة والسابقة والفضل) (الطبري:1/196) .
ويقصد باللعناء والطرداء آل أبي سفيان ، وآل مروان ، وبالطلقاء آل العباس ، لأن النبي صلى الله عليه وآله أسر العباس في بدر ، وأطلقه بفدية ، وكان معروفاً عند المسلمين أن الخلافة لاتحل للطلقاء ولا لأولادهم .
روى في الطبقات:3/342 ، عن عمر قال: ( هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد ، ثم في أهل أحد ما بقي منهم أحد ، وفي كذا وكذا ، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شئ). وابن حجر في فتح الباري:13/178، وتاريخ دمشق:59/145 ، وأسد الغابة: 4/387 ، وكنز العمال: 5/735 ، و: 12/681 ، عن ابن سعد ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي/113 ، والغدير: 7/144 ، و 10/30 ، ونفحات الأزهار: 5/350 .
وقد أفتى كبار فقهاء المدينة ومنهم أبو حنيفة ومالك بن أنس بالخروج مع محمد بن عبدالله بن الحسن ، وسيطر على الحجاز ، وحارب جيش المنصور العباسي حتى قُتل وانتصر عليه المنصور .
وبعد قتله ، ثار أخوه إبراهيم بن عبدالله بن الحسن في البصرة ، وهاجم الكوفة بسبعين ألف مقاتل ، وكاد ينتصر لولا أن سهماً طائشاً أصابه فقتله ، وانكسر جيشه ، وانتصر عليه أبو جعفر الدوانيقي ، وأفرط بعد انتصاره في البطش بالحسنيين والعلويين ، حتى قتل من ذرية الزهراء عليها السلام أكثر من ألف رجل ، واضطهد الإمام الصادق عليه السلام وضيق عليه حتى قتله بالسم ! ومن جهة أخرى تمكن المنصور بدهائه أن يقتل أبا مسلم الخراساني ، الذي قاد لهم الثورة وقتل من المسلمين من أجلهم أكثر من ست مائة ألف مسلم ! (الطبري:6/137) .
كان المنصور جبار بني العباس كما وصفه الإمام الباقر عليه السلام ! ولم يقتصر جبروته على كثرة القتل ، بل كان مهندس دولة بني العباس ومؤسس مذاهبها ، وراسم خط سيرها الى يومنا هذا !
قال البياضي في الصراط المستقيم:3/204: ( لما وقع بينه وبين العلوية خلاف قال: والله لأرغمن أنفي وأنوفهم ، ولأرفعن عليهم بني تيم وعدي ، وذكر الصحابة في خطبته، واستمرت البدعة إلى الآن ) .
ولم يكتف المنصور بذلك ، بل قرر أن يبعد المسلمين عن مرجعية أهل البيت^الفقهية والعقائدية ، فأسس مقابلهم المذاهب ! وكان أولها مذهب مالك بن أنس ، فقد استحضره المنصور واسترضاه ، بعدما حبسه واليه في المدينة وجلده لأنه أفتى بالخروج مع محمد بن عبدالله بن الحسن ، وقال له المنصور: (يا أبا عبد الله إنه لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك ، وإني قد شغلتني الخلافة فضع أنت للناس كتاباً ينتفعون به ، تجنب فيه رخص ابن عباس ، وشدائد ابن عمر ، ووطئه للناس توطئة . قال مالك: فوالله لقد علمني التصنيف يومئذ ) ! (مقدمة ابن خلدون/18، وتاريخه:1/17، وسير الذهبي:8/111) .
قال مالك: (فقلت له:إن أهل العراق لا يرضون علمنا ! فقال أبو جعفر: يُضرب عليه عامَّتُهم بالسيف ، وتقطع عليه ظهورهم بالسياط) !(ترتيب المدارك لعياض/124) .
(وشرط عليه أن لا يروي في كتابه عن علي) ! (مستدرك الوسائل:1/20) .
في تلك الفترة كان الإمامان الباقر والصادق عليهما السلام يقاومان تحريف بني أمية للإسلام ، ويؤسسان لمقاومة التحريف القادم من الثوار الهاشميين !
فقد كانت للإمامين عليهما السلام مكانة محترمة في الأمة مكنتهما من مقاومة كثير من التحريف والإنحراف ، فهما الوارثان لأمجاد أهل البيت النبوي ، علي ، والحسن والحسين ، وزين العابدين عليهم السلام ، ولهم موقعٌ خاصٌّ في نفوس الثائرين من الحسنيين والعباسيين ، فهم بنو عمهم الأدنوْن ، الذين كان آباؤهم أتباعاً لآبائهم الأئمة الطاهرين عليهم السلام ، الذين أسسوا الثورة على الأمويين .
وفي عصرهما عليهما السلام فتح زيد بن علي رحمه الله باب الثورة المسلحة على الدولة الأموية الهرمة ، فثار في الكوفة واستشهد سنة121 .
وكان زيد في عُمْر عبدالله بن الحسن الذي ثار أولاده ، وعُمْر محمد بن علي بن عبدالله بن عباس ، والد المنصور وإخوته . وكان الحسنيون والعباسيون عند شهادة زيد في بداية التفكير في الحركة ، ولذا جعلوا شعارهم الأخذ بثار الحسين عليه السلام وثار حفيده زيد رحمه الله .
من هنا لم يستطع الحسنيون أن يزايدوا على الأئمة من بني الحسين عليهم السلام في مكانتهم ، ولا في الثورة على بني أمية ، لأن الحسينيين أصلها وفرعها .
أما العباسيون فبايعوا الحسنيين وكانوا تبعاً لهم ، ثم ادعوا بعد ذلك أنهم ورثوا الإمامة والخلافة من وصية أبي هاشم بن محمد بن الحنفية لأبيهم محمد بن علي بن عبدالله بن عباس !
قال في وفيات الأعيان:4/186: (وكان سبب انتقال الأمر إليه: أن محمد بن الحنفية كانت الشيعة تعتقد إمامته بعد أخيه الحسين ، فلما توفي محمد بن الحنفية انتقل الأمر إلى ولده أبي هاشم ، وكان عظيم القدر وكانت الشيعة تتوالاه ، فحضرته الوفاة بالشام في سنة ثمان وتسعين للهجرة ولا عقب له فأوصى إلى محمد بن علي المذكور وقال له: أنت صاحب هذا الأمر وهو في ولدك ، ودفع إليه كتبه وصرف الشيعة نحوه . ولما حضرت محمداً المذكور الوفاة بالشام أوصى إلى ولده إبراهيم المعروف بالإمام... وحبسه مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية بمدينة حران ، فتحقق أن مروان يقتله فأوصى إلى أخيه السفاح ، وهو أول من ولي الخلافة من أولاد العباس... وذكر ابن حمدون في كتاب التذكرة أن محمداً المذكور مولده في سنة اثنتين وستين للهجرة ، وتوفي محمد المذكور في سنة ست وعشرين) . انتهى.
وروى في شرح النهج:7/148 ، عن المبرد في الكامل (/360 ، طبع أوروبا) أنه لما ولد لعبدالله بن عباس ولد سماه أمير المؤمنين عليه السلام باسمه علياً وكناه أبا الحسن ، وقال له: خذ اليك أبا الأملاك... سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد فقلت له: من أي طريق عرف بنو أمية أن الأمر سينتقل عنهم وأنه سيليه بنو هاشم...؟
فقال: أصل هذا كله محمد بن الحنفية ثم ابنه عبد الله المكنى أبا هاشم . قلت له: أفكان محمد بن الحنفية مخصوصاً من أمير المؤمنين بعلم يستأثر به على أخويه حسن وحسين؟ قال: لا ، ولكنهما كتما وأذاع .
ثم قال: قد صحت الرواية عندنا عن أسلافنا وعن غيرهم من أرباب الحديث أن علياً لما قبض أتى محمد ابنه أخويه حسناً وحسيناً ، فقال لهما: أعطياني ميراثي من أبي ، فقالا له: قد علمت أن أباك لم يترك صفراء ولا بيضاء ، فقال: قد علمت ذلك وليس ميراث المال أطلب ، إنما أطلب ميراث العلم . قال أبو جعفر: فروى أبان بن عثمان عمن يروى له ذلك عن جعفر بن محمد قال: فدفعا إليه صحيفة لو أطلعاه على أكثر منها لهلك ، فيها ذكر دولة بنى العباس ! قال أبو جعفر: وقد روى أبو الحسن علي بن محمد النوفلي ، قال: حدثني عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس قال: لما أردنا الهرب من مروان بن محمد ، لما قبض على إبراهيم الإمام جعلنا نسخة الصحيفة التي دفعها أبو هاشم بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، وهي التي كان آباؤنا يسمونها صحيفة الدولة ، في صندوق من نحاس صغير ، ثم دفناه تحت زيتونات بالشراة (قرب معان بالأردن) لم يكن بالشراة من الزيتون غيرهن ، فلما أفضى السلطان إلينا وملكنا الأمر ، أرسلنا إلى ذلك الموضع فبُحث وحُفر ، فلم يوجد فيه شئ ! فأمرنا بحفر جريب من الأرض في ذلك الموضع حتى بلغ الحفر الماء ولم نجد شيئاً ! قال أبو جعفر: وقد كان محمد بن الحنفية صرح بالأمر لعبد الله بن العباس وعرفه تفصيله ، ولم يكن أمير المؤمنين عليه السلام قد فصل لعبد الله بن العباس الأمر ، وإنما أخبره به مجملاً ) . انتهى.
وفي تهذيب الكمال:26/153: (وكان أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية أوصى إليه ودفع إليه كتبه ، وكان محمد بن علي وصي أبي هاشم ، وقال له أبو هاشم: إن هذا الأمر في ولدك ، فكانت الشيعة الذين كانوا يأتون أبا هاشم ويختلفون إليه صاروا بعد ذلك إلى محمد بن علي ، وكان أبو هاشم عالماً ، قد سمع وقرأ الكتب... كان ابتداء دعاة بني العباس إلى محمد بن علي وتسميتهم إياه بالإمام ومكاتبتهم له ، وطاعتهم لأمره . وكان ابتداء ذلك في خلافة الوليد سنة سبع وثمانين ، ولم يزل الأمر في ذلك ينمى ويقوى ويتزايد إلى أن توفي سنة أربع وعشرين ومئة ، وقد انتشرت دعوته وكثرت شيعته وبلغ من السن نيفاً وستين سنة ، وهو أسن ولد أبيه علي ، وكان أول من نطق بهذه الدعوة العباسية ومات قبل تمامها ، وأوصى إلى ابنه إبراهيم بن محمد ، وقيل كان بين وفاته ووفاة أبيه سبع سنين) . انتهى.
وهذه الروايات التي حرص عليها العباسيون ، ليس فيها وصية من علي عليه السلام الى محمد بن الحنفية وابنه أبي هاشم ، ولا لبني عباس ! بل فيها إخبار بما سيكون من ملك بني عباس ، وظلمهم لبني علي وفاطمة عليهما السلام ، ولبقية الأمة !
مكانة الإمامين الباقر والصادق عليها السلام في الأمة
كان جميع قادة الحركات الثائرة يقرون بالمكانة المحترمة للإمامين الصادقين عليهما السلام ، مع أنهما لم يشاركا في أي حركة منها ، وإن كانا يتعاطفان مع الثائرين من بني هاشم ضد بني أمية ، ويتعاطفان مع المظلوم منهم ضد الظالم !
لكن أهم أمر عزَّزَ مكانة الإمامين عليهما السلام في قلوب قادة هذه الحركات أنهما أخبراهم بما سيكون ، فتحقق ما قالاه حرفاً بحرف !
روى في الكافي:8/210، بسند صحيح عن أبي بصير قال:
(كنت مع أبي جعفر عليه السلام جالساً في المسجد إذ أقبل داود بن علي وسليمان بن خالد وأبو جعفر عبد الله بن محمد أبو الدوانيق ، فقعدوا ناحية من المسجد فقيل لهم: هذا محمد بن علي جالس ، فقام إليه داود بن علي وسليمان بن خالد ، وقعد أبو الدوانيق مكانه حتى سلموا على أبي جعفر ، فقال لهم أبو جعفر: ما منع جباركم من أن يأتيني ؟ فعذَّروه عنده ، فقال: أما والله لا تذهب الليالي والأيام حتى يملك ما بين قطريها ، ثم ليطان الرجال عقبه ، ثم لتذلن له رقاب الرجال ، ثم ليملكن ملكاً شديداً ! فقال له داود بن علي: وإن ملكنا قبل ملككم؟ قال: نعم يا داود إن ملككم قبل ملكنا وسلطانكم قبل سلطاننا ، فقال له داود: أصلحك الله ، فهل له من مدة ؟ فقال: نعم يا داود والله لا يملك بنو أمية يوماً إلا ملكتم مثليه ، ولا سنة إلا ملكتم مثليها ، وليتلقفها الصبيان منكم كما تلقف الصبيان الكرة ! فقام داود بن علي من عند أبي جعفر فرحاً ، يريد أن يخبر أبا الدوانيق بذلك ، فلما نهضا جميعاً هو وسليمان بن خالد ، ناداه أبو جعفر من خلفه: يا سليمان بن خالد: لا يزال القوم في فسحة من ملكهم ما لم يصيبوا منا دماً حراماً ، وأومأ بيده إلى صدره ، فإذا أصابوا ذلك الدم فبطن الأرض خير لهم من ظهرها ، فيومئذ لا يكون لهم في الارض ناصر ولا في السماء عاذر ، ثم انطلق سليمان بن خالد فأخبر أبا الدوانيق فجاء أبو الدوانيق إلى أبي جعفر فسلم عليه ، ثم أخبره بما قال له داود بن علي وسليمان بن خالد ، فقال له: نعم يا أبا جعفر دولتكم قبل دولتنا وسلطانكم قبل سلطاننا ، سلطانكم شديد عسر لا يسر فيه ، وله مدة طويلة والله لا يملك بنو أمية يوماً إلا ملكتم مثليه ولا سنة إلا ملكتم مثليها ، ليتلقفها صبيان منكم فضلاً عن رجالكم كما يتلقف الصبيان الكرة ! أفهمت ؟! ثم قال عليه السلام : لا تزالون في عنفوان الملك ترغدون فيه ما لم تصيبوا منا دماً حراماً ، فإذا أصبتم ذلك الدم غضب الله عز وجل عليكم فذهب بملككم وسلطانكم وذهب بريحكم ، وسلط الله عز وجل عليكم عبداً من عبيده أعور وليس بأعور من آل أبي سفيان ، يكون استيصالكم على يديه وأيدي أصحابه . ثم قطع الكلام) !
وفي دلائل الإمامة للطبري/219، بسند صحيح عن الأعمش قال: (قال لي المنصور: كنت هارباً من بني أمية أنا وأخي أبو العباس ، فمررنا بمسجد المدينة ومحمد بن علي الباقر جالس ، فقال لرجل إلى جانبه: كأني بهذا الأمر وقد صار إلى هذين ! فأتى الرجل فبشرنا به فملنا إليه وقلنا: يا بن رسول الله ما الذي قلت؟ فقال: هذا الأمر صائر إليكم عن قريب ولكنكم تسيئون إلى ذريتي وعترتي فالويل لكم عن قريب ! فما مضت الأيام حتى ملك أخي وملكتها ) .
وكان الإمام الصادق يؤكد للمنصور قول أبيه الباقر عليهما السلام ، ففي منهاج الكرامة/56 للعلامة الحلي رحمه الله:
(وكان عبد الله بن الحسن جمع أكابر العلويين للبيعة لولده فقال له الصادق عليه السلام : إن هذا الأمر لا يتم ! فاغتاظ من ذلك فقال عليه السلام : إنه لصاحب القباء الأصفر ، وأشار بذلك إلى المنصور . فلما سمع المنصور بذلك فرح لعلمه بوقوع ما يُخبر به وعلم أن الأمر يصل إليه . ولما هرب المنصور: ( من جيش ابراهيم بن عبدالله بن الحسن) كان يقول: أين قول صادقهم ؟! وبعد ذلك انتهى الأمر إليه ) .
لذلك كان المنصور في خلافته يذكر الإمام الباقر عليه السلام بإجلال ، ليقينه بأن ما يقوله عليه السلام من علم النبوة الذي خصهم الله به !
روى في الكافي:8/209 ، عن سيف بن عميرة قال: كنت عند أبي الدوانيق فسمعته يقول ابتداء من نفسه: يا سيف بن عميرة: لابد من مناد ينادي باسم رجل من ولد أبي طالب ! قلت: يرويه أحد من الناس؟ قال: والذي نفسي بيده لسمعتْ أذني منه يقول: لابد من مناد ينادي باسم رجل . قلت: يا أمير المؤمنين إن هذا الحديث ما سمعت بمثله قط! فقال لي: يا سيف إذا كان ذلك فنحن أول من يجيبه ، أما إنه أحد بني عمنا ! قلت: أي بني عمكم؟ قال: رجل من ولد فاطمة عليها السلام . ثم قال: يا سيف لولا أني سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقوله ثم حدثني به أهل الأرض ما قبلته منهم ، ولكنه محمد بن علي) !!
مقدمة
يبحث المجلد الخامس من (جواهر التاريخ) في سيرة الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق عليهما السلام والتحولات الكبيرة التي حدثت في عصرهما ، حيث نشأت الحركة الحسنية لإسقاط الدولة الأموية بقيادة عبدالله بن الحسن المثنى ، وانضمَّ اليها أبناء محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، وبايعوا محمد بن عبدالله بن الحسن وسموه المهدي .
( قال عمير بن الفضل الخثعمي: رأيت أبا جعفر المنصور يوماً وقد خرج محمد بن عبد الله بن الحسن من دار ابنه ، وله فرس واقف على الباب مع عبد له أسود ، وأبو جعفر ينتظره ، فلما خرج وثب أبو جعفر فأخذ بردائه حتى ركب ، ثم سوى ثيابه على السرج ومضى محمد . فقلت وكنت حينئذ أعرفه ولا أعرف محمداُ: من هذا الذي أعظمته هذا الإعظام حتى أخذت بركابه ، وسويت عليه ثيابه؟ قال: أوما تعرفه ؟ قلت: لا . قال: هذا محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن مهدينا أهل البيت). ( مقاتل الطالبيين/161) .
وبعد سنين من عملهم السري انقلب عليهم العباسيون وأقنعوا قائد الثورة الميداني أبا مسلم الخراساني بأن يبايعهم ، فاستشاط الحسنيون غضباً وثاروا عليهم بقيادة المهدي محمد بن عبدالله بن الحسن ، الذي كتب للمنصور: ( فإن الحق حقنا ، وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا، وخرجتم له بشيعتنا وحظيتم بفضلنا وإن أبانا علياً كان الوصي وكان الإمام ، فكيف ورثتم ولايته ووُلده أحياء ! ثم قد علمت أنه لم يطلب هذا الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا. لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء ! وليس يمت أحد من بني هاشم بمثل الذي نمتُّ به من القرابة والسابقة والفضل) (الطبري:1/196) .
ويقصد باللعناء والطرداء آل أبي سفيان ، وآل مروان ، وبالطلقاء آل العباس ، لأن النبي صلى الله عليه وآله أسر العباس في بدر ، وأطلقه بفدية ، وكان معروفاً عند المسلمين أن الخلافة لاتحل للطلقاء ولا لأولادهم .
روى في الطبقات:3/342 ، عن عمر قال: ( هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد ، ثم في أهل أحد ما بقي منهم أحد ، وفي كذا وكذا ، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شئ). وابن حجر في فتح الباري:13/178، وتاريخ دمشق:59/145 ، وأسد الغابة: 4/387 ، وكنز العمال: 5/735 ، و: 12/681 ، عن ابن سعد ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي/113 ، والغدير: 7/144 ، و 10/30 ، ونفحات الأزهار: 5/350 .
وقد أفتى كبار فقهاء المدينة ومنهم أبو حنيفة ومالك بن أنس بالخروج مع محمد بن عبدالله بن الحسن ، وسيطر على الحجاز ، وحارب جيش المنصور العباسي حتى قُتل وانتصر عليه المنصور .
وبعد قتله ، ثار أخوه إبراهيم بن عبدالله بن الحسن في البصرة ، وهاجم الكوفة بسبعين ألف مقاتل ، وكاد ينتصر لولا أن سهماً طائشاً أصابه فقتله ، وانكسر جيشه ، وانتصر عليه أبو جعفر الدوانيقي ، وأفرط بعد انتصاره في البطش بالحسنيين والعلويين ، حتى قتل من ذرية الزهراء عليها السلام أكثر من ألف رجل ، واضطهد الإمام الصادق عليه السلام وضيق عليه حتى قتله بالسم ! ومن جهة أخرى تمكن المنصور بدهائه أن يقتل أبا مسلم الخراساني ، الذي قاد لهم الثورة وقتل من المسلمين من أجلهم أكثر من ست مائة ألف مسلم ! (الطبري:6/137) .
كان المنصور جبار بني العباس كما وصفه الإمام الباقر عليه السلام ! ولم يقتصر جبروته على كثرة القتل ، بل كان مهندس دولة بني العباس ومؤسس مذاهبها ، وراسم خط سيرها الى يومنا هذا !
قال البياضي في الصراط المستقيم:3/204: ( لما وقع بينه وبين العلوية خلاف قال: والله لأرغمن أنفي وأنوفهم ، ولأرفعن عليهم بني تيم وعدي ، وذكر الصحابة في خطبته، واستمرت البدعة إلى الآن ) .
ولم يكتف المنصور بذلك ، بل قرر أن يبعد المسلمين عن مرجعية أهل البيت^الفقهية والعقائدية ، فأسس مقابلهم المذاهب ! وكان أولها مذهب مالك بن أنس ، فقد استحضره المنصور واسترضاه ، بعدما حبسه واليه في المدينة وجلده لأنه أفتى بالخروج مع محمد بن عبدالله بن الحسن ، وقال له المنصور: (يا أبا عبد الله إنه لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك ، وإني قد شغلتني الخلافة فضع أنت للناس كتاباً ينتفعون به ، تجنب فيه رخص ابن عباس ، وشدائد ابن عمر ، ووطئه للناس توطئة . قال مالك: فوالله لقد علمني التصنيف يومئذ ) ! (مقدمة ابن خلدون/18، وتاريخه:1/17، وسير الذهبي:8/111) .
قال مالك: (فقلت له:إن أهل العراق لا يرضون علمنا ! فقال أبو جعفر: يُضرب عليه عامَّتُهم بالسيف ، وتقطع عليه ظهورهم بالسياط) !(ترتيب المدارك لعياض/124) .
(وشرط عليه أن لا يروي في كتابه عن علي) ! (مستدرك الوسائل:1/20) .
في تلك الفترة كان الإمامان الباقر والصادق عليهما السلام يقاومان تحريف بني أمية للإسلام ، ويؤسسان لمقاومة التحريف القادم من الثوار الهاشميين !
فقد كانت للإمامين عليهما السلام مكانة محترمة في الأمة مكنتهما من مقاومة كثير من التحريف والإنحراف ، فهما الوارثان لأمجاد أهل البيت النبوي ، علي ، والحسن والحسين ، وزين العابدين عليهم السلام ، ولهم موقعٌ خاصٌّ في نفوس الثائرين من الحسنيين والعباسيين ، فهم بنو عمهم الأدنوْن ، الذين كان آباؤهم أتباعاً لآبائهم الأئمة الطاهرين عليهم السلام ، الذين أسسوا الثورة على الأمويين .
وفي عصرهما عليهما السلام فتح زيد بن علي رحمه الله باب الثورة المسلحة على الدولة الأموية الهرمة ، فثار في الكوفة واستشهد سنة121 .
وكان زيد في عُمْر عبدالله بن الحسن الذي ثار أولاده ، وعُمْر محمد بن علي بن عبدالله بن عباس ، والد المنصور وإخوته . وكان الحسنيون والعباسيون عند شهادة زيد في بداية التفكير في الحركة ، ولذا جعلوا شعارهم الأخذ بثار الحسين عليه السلام وثار حفيده زيد رحمه الله .
من هنا لم يستطع الحسنيون أن يزايدوا على الأئمة من بني الحسين عليهم السلام في مكانتهم ، ولا في الثورة على بني أمية ، لأن الحسينيين أصلها وفرعها .
أما العباسيون فبايعوا الحسنيين وكانوا تبعاً لهم ، ثم ادعوا بعد ذلك أنهم ورثوا الإمامة والخلافة من وصية أبي هاشم بن محمد بن الحنفية لأبيهم محمد بن علي بن عبدالله بن عباس !
قال في وفيات الأعيان:4/186: (وكان سبب انتقال الأمر إليه: أن محمد بن الحنفية كانت الشيعة تعتقد إمامته بعد أخيه الحسين ، فلما توفي محمد بن الحنفية انتقل الأمر إلى ولده أبي هاشم ، وكان عظيم القدر وكانت الشيعة تتوالاه ، فحضرته الوفاة بالشام في سنة ثمان وتسعين للهجرة ولا عقب له فأوصى إلى محمد بن علي المذكور وقال له: أنت صاحب هذا الأمر وهو في ولدك ، ودفع إليه كتبه وصرف الشيعة نحوه . ولما حضرت محمداً المذكور الوفاة بالشام أوصى إلى ولده إبراهيم المعروف بالإمام... وحبسه مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية بمدينة حران ، فتحقق أن مروان يقتله فأوصى إلى أخيه السفاح ، وهو أول من ولي الخلافة من أولاد العباس... وذكر ابن حمدون في كتاب التذكرة أن محمداً المذكور مولده في سنة اثنتين وستين للهجرة ، وتوفي محمد المذكور في سنة ست وعشرين) . انتهى.
وروى في شرح النهج:7/148 ، عن المبرد في الكامل (/360 ، طبع أوروبا) أنه لما ولد لعبدالله بن عباس ولد سماه أمير المؤمنين عليه السلام باسمه علياً وكناه أبا الحسن ، وقال له: خذ اليك أبا الأملاك... سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد فقلت له: من أي طريق عرف بنو أمية أن الأمر سينتقل عنهم وأنه سيليه بنو هاشم...؟
فقال: أصل هذا كله محمد بن الحنفية ثم ابنه عبد الله المكنى أبا هاشم . قلت له: أفكان محمد بن الحنفية مخصوصاً من أمير المؤمنين بعلم يستأثر به على أخويه حسن وحسين؟ قال: لا ، ولكنهما كتما وأذاع .
ثم قال: قد صحت الرواية عندنا عن أسلافنا وعن غيرهم من أرباب الحديث أن علياً لما قبض أتى محمد ابنه أخويه حسناً وحسيناً ، فقال لهما: أعطياني ميراثي من أبي ، فقالا له: قد علمت أن أباك لم يترك صفراء ولا بيضاء ، فقال: قد علمت ذلك وليس ميراث المال أطلب ، إنما أطلب ميراث العلم . قال أبو جعفر: فروى أبان بن عثمان عمن يروى له ذلك عن جعفر بن محمد قال: فدفعا إليه صحيفة لو أطلعاه على أكثر منها لهلك ، فيها ذكر دولة بنى العباس ! قال أبو جعفر: وقد روى أبو الحسن علي بن محمد النوفلي ، قال: حدثني عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس قال: لما أردنا الهرب من مروان بن محمد ، لما قبض على إبراهيم الإمام جعلنا نسخة الصحيفة التي دفعها أبو هاشم بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، وهي التي كان آباؤنا يسمونها صحيفة الدولة ، في صندوق من نحاس صغير ، ثم دفناه تحت زيتونات بالشراة (قرب معان بالأردن) لم يكن بالشراة من الزيتون غيرهن ، فلما أفضى السلطان إلينا وملكنا الأمر ، أرسلنا إلى ذلك الموضع فبُحث وحُفر ، فلم يوجد فيه شئ ! فأمرنا بحفر جريب من الأرض في ذلك الموضع حتى بلغ الحفر الماء ولم نجد شيئاً ! قال أبو جعفر: وقد كان محمد بن الحنفية صرح بالأمر لعبد الله بن العباس وعرفه تفصيله ، ولم يكن أمير المؤمنين عليه السلام قد فصل لعبد الله بن العباس الأمر ، وإنما أخبره به مجملاً ) . انتهى.
وفي تهذيب الكمال:26/153: (وكان أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية أوصى إليه ودفع إليه كتبه ، وكان محمد بن علي وصي أبي هاشم ، وقال له أبو هاشم: إن هذا الأمر في ولدك ، فكانت الشيعة الذين كانوا يأتون أبا هاشم ويختلفون إليه صاروا بعد ذلك إلى محمد بن علي ، وكان أبو هاشم عالماً ، قد سمع وقرأ الكتب... كان ابتداء دعاة بني العباس إلى محمد بن علي وتسميتهم إياه بالإمام ومكاتبتهم له ، وطاعتهم لأمره . وكان ابتداء ذلك في خلافة الوليد سنة سبع وثمانين ، ولم يزل الأمر في ذلك ينمى ويقوى ويتزايد إلى أن توفي سنة أربع وعشرين ومئة ، وقد انتشرت دعوته وكثرت شيعته وبلغ من السن نيفاً وستين سنة ، وهو أسن ولد أبيه علي ، وكان أول من نطق بهذه الدعوة العباسية ومات قبل تمامها ، وأوصى إلى ابنه إبراهيم بن محمد ، وقيل كان بين وفاته ووفاة أبيه سبع سنين) . انتهى.
وهذه الروايات التي حرص عليها العباسيون ، ليس فيها وصية من علي عليه السلام الى محمد بن الحنفية وابنه أبي هاشم ، ولا لبني عباس ! بل فيها إخبار بما سيكون من ملك بني عباس ، وظلمهم لبني علي وفاطمة عليهما السلام ، ولبقية الأمة !
مكانة الإمامين الباقر والصادق عليها السلام في الأمة
كان جميع قادة الحركات الثائرة يقرون بالمكانة المحترمة للإمامين الصادقين عليهما السلام ، مع أنهما لم يشاركا في أي حركة منها ، وإن كانا يتعاطفان مع الثائرين من بني هاشم ضد بني أمية ، ويتعاطفان مع المظلوم منهم ضد الظالم !
لكن أهم أمر عزَّزَ مكانة الإمامين عليهما السلام في قلوب قادة هذه الحركات أنهما أخبراهم بما سيكون ، فتحقق ما قالاه حرفاً بحرف !
روى في الكافي:8/210، بسند صحيح عن أبي بصير قال:
(كنت مع أبي جعفر عليه السلام جالساً في المسجد إذ أقبل داود بن علي وسليمان بن خالد وأبو جعفر عبد الله بن محمد أبو الدوانيق ، فقعدوا ناحية من المسجد فقيل لهم: هذا محمد بن علي جالس ، فقام إليه داود بن علي وسليمان بن خالد ، وقعد أبو الدوانيق مكانه حتى سلموا على أبي جعفر ، فقال لهم أبو جعفر: ما منع جباركم من أن يأتيني ؟ فعذَّروه عنده ، فقال: أما والله لا تذهب الليالي والأيام حتى يملك ما بين قطريها ، ثم ليطان الرجال عقبه ، ثم لتذلن له رقاب الرجال ، ثم ليملكن ملكاً شديداً ! فقال له داود بن علي: وإن ملكنا قبل ملككم؟ قال: نعم يا داود إن ملككم قبل ملكنا وسلطانكم قبل سلطاننا ، فقال له داود: أصلحك الله ، فهل له من مدة ؟ فقال: نعم يا داود والله لا يملك بنو أمية يوماً إلا ملكتم مثليه ، ولا سنة إلا ملكتم مثليها ، وليتلقفها الصبيان منكم كما تلقف الصبيان الكرة ! فقام داود بن علي من عند أبي جعفر فرحاً ، يريد أن يخبر أبا الدوانيق بذلك ، فلما نهضا جميعاً هو وسليمان بن خالد ، ناداه أبو جعفر من خلفه: يا سليمان بن خالد: لا يزال القوم في فسحة من ملكهم ما لم يصيبوا منا دماً حراماً ، وأومأ بيده إلى صدره ، فإذا أصابوا ذلك الدم فبطن الأرض خير لهم من ظهرها ، فيومئذ لا يكون لهم في الارض ناصر ولا في السماء عاذر ، ثم انطلق سليمان بن خالد فأخبر أبا الدوانيق فجاء أبو الدوانيق إلى أبي جعفر فسلم عليه ، ثم أخبره بما قال له داود بن علي وسليمان بن خالد ، فقال له: نعم يا أبا جعفر دولتكم قبل دولتنا وسلطانكم قبل سلطاننا ، سلطانكم شديد عسر لا يسر فيه ، وله مدة طويلة والله لا يملك بنو أمية يوماً إلا ملكتم مثليه ولا سنة إلا ملكتم مثليها ، ليتلقفها صبيان منكم فضلاً عن رجالكم كما يتلقف الصبيان الكرة ! أفهمت ؟! ثم قال عليه السلام : لا تزالون في عنفوان الملك ترغدون فيه ما لم تصيبوا منا دماً حراماً ، فإذا أصبتم ذلك الدم غضب الله عز وجل عليكم فذهب بملككم وسلطانكم وذهب بريحكم ، وسلط الله عز وجل عليكم عبداً من عبيده أعور وليس بأعور من آل أبي سفيان ، يكون استيصالكم على يديه وأيدي أصحابه . ثم قطع الكلام) !
وفي دلائل الإمامة للطبري/219، بسند صحيح عن الأعمش قال: (قال لي المنصور: كنت هارباً من بني أمية أنا وأخي أبو العباس ، فمررنا بمسجد المدينة ومحمد بن علي الباقر جالس ، فقال لرجل إلى جانبه: كأني بهذا الأمر وقد صار إلى هذين ! فأتى الرجل فبشرنا به فملنا إليه وقلنا: يا بن رسول الله ما الذي قلت؟ فقال: هذا الأمر صائر إليكم عن قريب ولكنكم تسيئون إلى ذريتي وعترتي فالويل لكم عن قريب ! فما مضت الأيام حتى ملك أخي وملكتها ) .
وكان الإمام الصادق يؤكد للمنصور قول أبيه الباقر عليهما السلام ، ففي منهاج الكرامة/56 للعلامة الحلي رحمه الله:
(وكان عبد الله بن الحسن جمع أكابر العلويين للبيعة لولده فقال له الصادق عليه السلام : إن هذا الأمر لا يتم ! فاغتاظ من ذلك فقال عليه السلام : إنه لصاحب القباء الأصفر ، وأشار بذلك إلى المنصور . فلما سمع المنصور بذلك فرح لعلمه بوقوع ما يُخبر به وعلم أن الأمر يصل إليه . ولما هرب المنصور: ( من جيش ابراهيم بن عبدالله بن الحسن) كان يقول: أين قول صادقهم ؟! وبعد ذلك انتهى الأمر إليه ) .
لذلك كان المنصور في خلافته يذكر الإمام الباقر عليه السلام بإجلال ، ليقينه بأن ما يقوله عليه السلام من علم النبوة الذي خصهم الله به !
روى في الكافي:8/209 ، عن سيف بن عميرة قال: كنت عند أبي الدوانيق فسمعته يقول ابتداء من نفسه: يا سيف بن عميرة: لابد من مناد ينادي باسم رجل من ولد أبي طالب ! قلت: يرويه أحد من الناس؟ قال: والذي نفسي بيده لسمعتْ أذني منه يقول: لابد من مناد ينادي باسم رجل . قلت: يا أمير المؤمنين إن هذا الحديث ما سمعت بمثله قط! فقال لي: يا سيف إذا كان ذلك فنحن أول من يجيبه ، أما إنه أحد بني عمنا ! قلت: أي بني عمكم؟ قال: رجل من ولد فاطمة عليها السلام . ثم قال: يا سيف لولا أني سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقوله ثم حدثني به أهل الأرض ما قبلته منهم ، ولكنه محمد بن علي) !!
لماذا بشر به جده صلى الله عليه وآله
وسماه باقر علم النبوة
1- اشتهر عليه السلام بهذا الإسم ورواه المؤالف والمخالف
أشهر ألقابه عليه السلام الباقر ، وباقر العلم . قال في القاموس: ( والباقر: محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم ، لتبحره في العلم) .
وقال الزبيدي:6/105: (وفي اللسان: لأنه بقر العلم وعرف أصله واستنبط فرعه . قلت: وقد ورد في بعض الآثار عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي (ص) قال له: يوشك أن تبقى حتى تلقى ولداً لي من الحسين يقال له محمد ، يبقر العلم بقراً ، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام . خرَّجه أئمة النسب ) . انتهى.
أقول: يقصد الزبيدي حديث النبي صلى الله عليه وآله الذي بَشَّر فيه بحفيده الباقرعليه السلام وبعث اليه سلامه مع جابر بن عبد الله الأنصاري رحمه الله !
ففي الكافي:1/469 ، عن الصادق عليه السلام بسند صحيح قال:
( إن رسول الله قال ذات يوم لجابر بن عبد الله الأنصاري: يا جابر إنك ستبقى حتى تلقى وَلَدي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، المعروف في التوراة بالباقر ، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام ، فدخل جابر إلى علي بن الحسين عليهما السلام فوجد محمد بن علي عنده غلاماً فقال له: يا غلام أقبل فأقبل ، ثم قال: أدبر فأدبر ، فقال جابر: شمائل رسول الله صلى الله عليه وآله ورب الكعبة ، ثم أقبل علي بن الحسين فقال له: من هذا ؟ قال: هذا ابني وصاحب الأمر بعدي محمد الباقر ، فقام جابر فوقع على قدميه يقبلهما ويقول: نفسي لنفسك الفداء يا ابن رسول الله ، إقبل سلام أبيك. إن رسول الله يقرأ عليك السلام . قال: فدمعت عينا أبي جعفر ثم قال: يا جابر على أبي رسول الله السلام ما دامت السماوات والأرض ، وعليك السلام يا جابر بما بلغت ) .
وقال في مناقب آل أبي طالب:3/328:
(وحديث جابر مشهور معروف ، رواه فقهاء المدينة والعراق كلهم.. بطرق كثيرة عن سعيد بن المسيب ، وسليمان الأعمش ، وأبان بن تغلب ، ومحمد بن مسلم ، وزرارة بن أعين ، وأبي خالد الكابلي..) .
وقال المفيد في الإرشاد:2/159:
(وسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وعرفه بباقر العلم على ما رواه أصحاب الآثار ، وبما روي عن جابر بن عبد الله في حديث مجرد أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله : يوشك أن تبقى حتى تلقى ولداً لي من الحسين يقال له محمد ، يبقر علم الدين بقراً ، فإذا لقيته فاقرئه مني السلام) . والمستجاد/170 .
وفي مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان:2/275:
(تلقى رجلاً من ولدي يقال له محمد بن علي بن الحسين، يهب الله له النور والحكمة، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام) .
وفي تاريخ اليعقوبي:2/320:
(وكان يسمى أبا جعفر الباقر لأنه بقر العلم . قال جابر بن عبد الله الأنصاري: قال لي رسول الله: إنك ستبقى حتى ترى رجلاً من ولدي أشبه الناس بي إسمه على اسمي ، إذا رأيته لم يخف عليك فاقرئه مني السلام ! فلما كبرت سن جابر وخاف الموت جعل يقول: يا باقر يا باقر أين أنت؟ حتى رآه فوقع عليه يقبل يديه ورجليه وهو يقول: بأبي وأمي ، شبيه أبيه رسول الله ! إن أباك يقرؤك السلام ) .
وأوردناه في معجم أحاديث الإمام المهدي:3/326 ، عن أمالي الطوسي:2/249 وغيره بلفظ آخر مفصل ، وفيه:
(فأتى جابر بن عبد الله باب علي بن الحسين عليهما السلام وبالباب أبو جعفر محمد بن علي ، في أغيلمة من بني هاشم قد اجتمعوا هناك ، فنظر جابر إليه مقبلاً فقال: هذه مشية رسول الله وسجيته ، فمن أنت يا غلام ؟ قال: فقال: أنا محمد بن علي بن الحسين ، فبكى جابر بن عبد الله ثم قال: أنت والله الباقر عن العلم حقاً ، أدن مني بأبي أنت وأمي ، فدنا منه فحل جابر إزاره ووضع يده على صدره فقبله وجعل عليه خده ووجهه وقال له: أقرؤك عن جدك رسول الله السلام... وفي آخره: فأقبل جابر على من حضر وقال: والله ما رؤي في أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوبعليهما السلام ، والله لذرية علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب ، إن منهم لمن يملأ الأرض عدلا كما ملئت جوراً ) . راجع أيضاً: أمالي الصدوق/434 وعلل الشرائع:1/233، وإعلام الورى:1/505 والثاقب في المناقب/104 ، والخرائج:2/892 ، وعمدة الطالب/194 ، وروضة الواعظين/202 ، والهداية الكبرى/241، بسند صحيح في عدد منها .
وروت مصادرنا أحاديث تسمية النبي صلى الله عليه وآله له بالباقرعليه السلام ، وقد أوردنا أحدها في معجم أحاديث الإمام المهدي عليه السلام :3/194، برقم:716 ، عن الإمام زين العابدين عليه السلام ، وفيه: (واسمه في صحف الأولين باقر ، يبقر العلم بقراً ) .
ومنها حديث في كفاية الأثر/81 ،عن أبي هريرة قال:(كنت عند النبي وأبو بكر وعمر والفضل بن العباس وزيد بن حارثة وعبد الله بن مسعود ، إذ دخل الحسين بن علي.... وفيه: يخرج من صلبه ولد مبارك سميُّ جده علي يسمى العابد ونور الزهاد ، ويخرج من صلب علي ولد إسمه إسمي وأشبه الناس بي ، يبقر العلم بقراً ، وينطق بالحق ويأمر بالصواب ، ويخرج الله من صلبه كلمة الحق ولسان الصدق . فقال له ابن مسعود: فما إسمه يا نبي الله ؟ قال: فقال له: جعفر ، صادق في قوله وفعاله ) .
2- روى علماء السنة حديث بشارة النبي
صلى الله عليه وآله بالباقر عليه السلام
فقد رواه أبو نصر البخاري من حديث جابر في سر السلسلة العلوية/32 ، ونصه:
(يا جابر ، إنك ستعيش حتى تدرك رجلاً من أولادي إسمه إسمي ، يبقر العلم بقراً ، فإذا رأيته فاقرأه منى السلام ، ففعل ذلك جابر رحمه الله ... ووفد زيد بن علي على هشام (الأحول) بن عبد الملك فقال له هشام: ما فعل أخوك البقرة ، يعني الباقر ؟! فقال زيد: لَشَدَّ ما خالفت رسول الله (ص) ! سماه رسول الله الباقر ، وتسميه البقرة ! لتخالفنه في يوم القيامة فيدخل الجنة وتدخل النار ، القصة بطولها..
وهو أول من اجتمعت له ولادة الحسن والحسين، أبوه علي بن الحسين وأمه أم عبد الله بنت الحسن ، وفيه يقول القرظي: يا باقر العلم لأهل التقى وخير من لبَّى على الأجْبُلِ
وفيه يقول مالك بن أعين الجهني:
إذا طلب الناس علم القران كانت قريشٌ عليه عيالا
وإن قيل هذا ابن بنت النبي نال بذاك فروعاً طوالا
نجومٌ تهلل للمدلجين جبالٌ تورث علماٌ جبالا) . انتهى.
ولحديث زيد رحمه الله مع هشام مصادر عديدة تاريخية وحديثية يأتي ذكرها ، وهو كاف لتصحيح حديث جابر رحمه الله حتى عند المتشددين السنيين في الجرح .
كما رواه محمد بن طلحة الشافعي في مطالب السؤول/81 وطبعة425، فقال:
( الإمام محمد الباقر: هو باقر العلم وجامعه ، وشاهر علمه ورافعه ، ومتفوق دره وواضعه ، ومنمق دره وراضعه ، صفا قلبه وزكا عمله ، وطهرت نفسه ، وشرفت أخلاقه ، وعمرت بطاعة الله أوقاته ، ورسخت في مقام التقوى قدمه ، وظهرت عليه سمات الإزدلاف ، وطهارة الإجتباء ، فالمناقب تسبق إليه ، والصفات تشرف به..
ثمروى حديث جابر في/431:
(كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله والحسين في حجره وهو يلاعبه ، فقال: يا جابر يولد لابني الحسين ابن يقال له علي ، إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم سيد العابدين . فيقوم علي بن الحسين ، ويولد لعلي ابن يقال له محمد ، يا جابر إن رأيته فاقرءه مني السلام ، واعلم أن بقاءك بعد رؤيته يسير . فلم يعش جابر بعد ذلك إلا قليلا) .
ورواه مرسلاً وصححه ابنُ أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج:15/277، قال:
(وهو سيد فقهاء الحجاز ، ومنه ومن ابنه جعفر تعلم الناس الفقه ، وهو الملقب بالباقر ، باقر العلم ، لقبه به رسول الله (ص) ولم يُخلق بعد ، وبشر به ووعد جابر بن عبد الله برؤيته ، وقال: ستراه طفلاًً ، فإذا رأيته فأبلغه عني السلام ! فعاش جابر حتى رآه ، وقال له ما وُصِّيَ به ) .
ورواه ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة:2/882 ، وفيه:
(يبقر العلم بقراً ، أي يفجره تفجيراً ، فإذا رأيته فاقرأه عني السلام ) .
ورواه الزرندي الشافعي في معارج الوصول إلى معرفة فضل آل الرسول/122، قال:
(سماه رسول الله (ص) الباقر ، وأهدى إليه سلامه على لسان جابر بن عبد الله فقال: ( يا جابر إنك تعيش حتى تدرك رجلاً من أولادي إسمه إسمي يبقر العلم بقراً ، فإذا رأيته فاقرأه مني السلام . فأدركه جابر بن عبد الله الأنصاري وهو صبي في الكتاب فأقرأه عن رسول الله (ص) السلام المستطاب ، وقال: هكذا أمرني رسول الله (ص) . وهذه منقبة لم يشركه فيها أحد من الآل والأصحاب ) .
ورواه ابن حجر الهيتمي في الصواعق:2/585 ، قال:
(أبو جعفر محمد الباقر سمي بذلك من بقر الأرض أي شقها وأثار مخبئاتها ومكامنها ، فكذلك هو أظهر من مخبئات كنوز المعارف وحقائق الأحكام والحكم واللطائف ما لا يخفى ، إلا على منطمس البصيرة أو فاسد الطوية السريرة ، ومن ثم قيل فيه: هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ، عمرت أوقاته بطاعة الله وله من الرسوخ في مقامات العارفين ما تكل عنه ألسنة الواصفين ، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة وكفاه شرفاً أن ابن المديني روى عن جابر أنه قال له وهو صغير: رسول الله يسلم عليك ، فقيل له وكيف ذاك؟ قال: كنت جالساً عنده والحسين في حجره وهو يداعبه فقال: يا جابر يولد له مولود اسمه علي إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم سيد العابدين ، فيقوم ولده . ثم يولد له ولد اسمه محمد الباقر ، فإن أدركته يا جابر فاقرئه مني السلام ) .
وذكر في هامش نهج الحق/257 ، أن الخطيب في تاريخ بغداد:2/204، روى قول النبي صلى الله عليه وآله لجابر:أنت تدرك ولدي محمد الباقر ، إنه يبقر العلم بقراً فإذا رأيته ، فاقرأه عني السلام) . ولم أجده هناك ، ولعل يد المحرفين حذفته من المطبوع !
3- قبل المتعصبون لقب الباقر وسكتوا عن حديث جابر !
في شرح مسلم للنووي:6/137:
(ومنه سميَ محمد الباقر رضي الله عنه ، لأنه بقر العلم ودخل فيه مدخلاً بليغاً ووصل منه غاية مرضية ) .
وفي عمدة القاري بشرح البخاري للعيني:3/52:
(أما محمد بن علي فهو: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، الهاشمي المدني ، أبو جعفر المعروف بالباقر ، سمي به لأنه بقر العلم أي شقه بحيث عرف حقائقه ، وهو أحد الأعلام التابعين الأجلاء) .
وفي تفسير القرطبي:1/446:
(ومنه الباقر لأبي جعفر محمد بن علي زين العابدين ، لأنه بقر العلم وعرف أصله ، أي شقه ) .
وفي تذكرة حفاظ الذهبي:1/124:
( أبو جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين الإمام الثبت الهاشمي العلوي المدني... وكان سيد بني هاشم في زمانه . اشتهر بالباقر من قولهم بقر العلم ، يعني شقه فعلم أصله وخفيه ) . وبنحو هذا فسر لقب (الباقر) عامة من ترجم للإمامعليه السلام من علمائهم .
4- شهد مخالفو الإمام عليه السلام وأعداؤه بعلمه وقداسته !
قال سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص/347:
(عن عطاء المكي قال: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين ! ولقد رأيت الحكم بن عيينة مع جلالته في القوم بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه ! وكان جابر بن يزيد الجعفي إذا روى عن محمد بن علي شيئاً قال: حدثني وصيُّ الأوصياء ، ووارث علم الأنبياء: محمد بن علي بن الحسين) .
وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب:9/313:
(قال الزبير ابن بكار: كان يقال لمحمد باقر العلم . وقال محمد بن المنكدر: ما رأيت أحداً يفضل على علي بن الحسين حتى رأيت ابنه محمداً ، أردت يوماً أن أعظه فوعظني) .
وقال محمد بن طلحة الشافعي في مطالب السؤول/436:
(نقل عنه الحديث واستفاد منه العلم جماعة من الأئمة وأعلامهم ، مثل يحيى بن سعيد الأنصاري ، وابن جريح ، ومالك بن أنس ، والثوري ، وابن عيينة ، وشعبة ، وأيوب السجستاني وغيرهم ، وعدوا أخذهم عنه منقبة شرفوا بها وفضيلة اكتسبوها ) .
وقال الحافظ أبو نعيم: (ومنهم الإمام الحاضر الذاكر الخاشع الصابر ، أبو جعفر محمد بن علي الباقر ، وكان من سلالة النبوة ، وجمع حسب الدين والأبوة ، تكلم في العوارض والخطرات ، وسفح الدموع والعبرات ، ونهى عن المراء والخصومات ) . (كشف الغمة:2/344) .
وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق:54/268:
(محمد بن علي بن الحسين.. باقر العلم من أهل المدينة ، أوفده عمر بن عبد العزيز عليه (أي طلب أن يفد اليه) حين ولي الخلافة يستشيره في بعض أموره... لما وليَ بعث إلى الفقهاء فقربهم ، وكانوا أخص الناس به ، بعث إلى محمد بن علي بن حسين أبي جعفر ، وبعث إلى عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وكان من عباد أهل الكوفة وفقهائهم ، فقدم عليه وبعث إلى محمد بن كعب القرظي ، وكان من أهل المدينة من أفاضلهم وفقهائهم ، فلما قدم أبو جعفر محمد بن علي على عمر بن عبد العزيز وأراد الإنصراف إلى المدينة قال: بينما هو جالس في الناس ينتظرون الدخول على عمر ، إذ أقبل ابن حاجب عمر وكان أبوه مريضاً فقال: أين أبو جعفر ليدخل! فأشفق محمد بن علي أن يقوم فلا يكون هو الذي دعا به ، فنادى ثلاث مرات ، قال: لم يحضر يا أمير المؤمنين ! قال بلى قد حضر حدثني بذلك الغلام ، قال: فقد ناديته ثلاث مرات ، قال: كيف قلت؟ قال قلت: أين أبو جعفر ؟! قال: ويحك أخرج فقل: أين محمد بن علي ، فخرج ، فقام فدخل فحدثه ساعة وقال إني: أريد الوداع يا أمير المؤمنين ، قال عمر فأوصني يا أبا جعفر ، قال: أوصيك بتقوى الله واتخذ الكبير أباً والصغير ولداً والرجل أخاً ، فقال: رحمك الله جمعت لنا والله ما إن أخذنا به وأماتنا الله عليه استقام لنا الخير إن شاء الله . ثم خرج ، فلما انصرف إلى رحله أرسل إليه عمر: إني أريد أن آتيك فاجلس في إزار ورداء ، فبعث إليه: لا بل أنا آتيك ، فأقسم عليه عمر فأتاه عمر فالتزمه ووضع صدره على صدره وأقبل يبكي ثم جلس بين يديه ، ثم قام وليس لأبي جعفر حاجة سأله إياها إلا قضاها له ، وانصرف فلم يلتقيا حتى ماتا جميعاً ) .
ونقل الطبري في تاريخه:6/197، رسالة المنصور العباسي الى محمد بن عبدالله بن الحسن الذي خرج عليه ، وجاء فيها:
(وزعمت أنك أوسط بني هاشم نسباً وأصرحهم أماً وأباً... وما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله (ص) أفضل من علي بن حسين وهو لأم ولد ، ولهو خير من جدك حسن بن حسن ، وما كان فيكم بعده مثل ابنه محمد بن علي ، وجدته أم ولد ولهو خير من أبيك ، ولا مثل ابنه جعفر وجدته أم ولد ، ولهو خير منك) . وتاريخ الذهبي:9/23 .
وقال ابن سعد في الطبقات:5/320:
( أبو جعفر محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ، وأمه أم عبد الله بنت حسن بن علي... معاوية بن عبد الكريم قال: رأيت على محمد بن علي أبي جعفر جبة خز ومطرف خز... عن جابر عن محمد بن علي قال: إنا آل محمد نلبس الخز واليمنة والمعصفرات والممصرات.. عن عبد الأعلى أنه رأى محمد بن علي يرسل عمامته خلفه... حكيم بن عباد بن حنيف قال: رأيت أبا جعفر متكئاً على طيلسان مطوي في المسجد ، قال محمد بن عمر: ولم يزل ذلك من فعل الأشراف وأهل المروءة عندنا ، الذين يلزمون المسجد يتكئون على طيالسة مطوية سوى طيلسانه وردائه الذي عليه.. عن عبد الأعلى قال: سألت محمد بن علي عن الوسمة فقال: هو خضابنا أهل البيت.. عبد الله بن قشير الجعفي قال: قال لي أبو جعفر إخضب بالوسمة... المعيصي قال: رأيت محمد بن علي على جبهته وأنفه أثر السجود ليس بالكثير... أوصى أن يكفن في قميصه الذي كان يصلي فيه... سألت جعفراً: في أي شئ كفنت أباك؟ قال: أوصاني في قميصه وأن أقطع أزراره ، وفي ردائه الذي كان يلبس ، وأن أشتري برداً يمانياً ، فإن النبي صلى الله عليه وآله كُفِّن في ثلاثة أثواب أحدها برد يمان... وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: توفي بالمدينة سنة أربع عشرة ومائة ، وكان ثقة كثير العلم والحديث ) .
وقال ابن كثير في النهاية:9/339:
(وسمي الباقر لبقره العلوم واستنباطه الحكم ، كان ذاكراً خاشعاً صابراً ، وكان من سلالة النبوة رفيع النسب عالي الحسب ، وكان عارفاً بالخطرات كثير البكاء والعبرات معرضاً عن الجدال والخصومات... عن زيد بن خيثمة عن أبي جعفر قال: الصواعق تصيب المؤمن وغير المؤمن ولا تصيب الذاكر... وقال جابر الجعفي: قال لي محمد بن علي: يا جابر إني لمحزون وإني لمشتغل القلب ! قلت: وما حزنك وشغل قلبك ؟ قال: يا جابر إنه من دخل قلبه صافي دين الله عز وجل شغله عما سواه ، يا جابر ما الدنيا وما عسى أن تكون ؟ هل هي إلا مركباً ركبته ، أو ثوباً لبسته ، أو امرأةً أصبتها ؟! يا جابر ، إن المؤمنين لم يطمئنوا إلى الدنيا لبقاء فيها.. فأنزلوا الدنيا حيث أنزلها مليكهم كمنزل نزلوه ثم ارتحلوا عنه وتركوه ، وكماء أصبته في منامك ، فلما استيقظت إذا ليس في يدك منه شئ ، فاحفظ الله فيما استرعاك من دينه وحكمته..) .
5- ملاحظات على بشارة النبي صلى الله عليه وآله به
وتسميته بالباقر عليه السلام
1- اتضح بما تقدم صحة بشارة النبي صلى الله عليه وآله بالإمام الباقر صلى الله عليه وآله وتسميته بباقر العلم . فلماذا لم تنعكس هذه البشارة بحجمها على عامة المسلمين وأجيالهم ؟!
فلو كانت من نبي آخر بَشَّرَ أمته بأنه سيكون من عترته بعد نصف قرن من يبقر لها علم النبوة ، لعظَّمَته أمته ، والتفَّتْ حوله ودَوَّنَتْ علومه .
لكن هذه الحقيقة كغيرها من الحقائق المرتبطة بأهل البيت عليهم السلام ، رأت الخلافة أن من المصلحة تغييبها وعدم نشرها في المسلمين ! وإن عرفوها من رواة ساذجين أو غير منضبطين ، فعلى علماء السلطة أن يهوِّنوا من أمرها !
أما لو كان الذي بشر النبي صلى الله عليه وآله بأنه سيبقر علم النبوة ، شخصاً من بني أمية ، أو من بني تيم وعدي ، لرأيت تطبيلهم وتزميرهم ، وتعظيمهم لباقر علم النبوة !
2- يتبادر الى ذهن المسلم سؤال الى نبيه صلى الله عليه وآله :
ألست أنت يارسول الله باقر العلم؟ علم الكتاب والحكمة وبقية الوحي الذي أنزله الله عليك ، فبقرته للناس وبينته ؟ فكيف صار حفيدك باقر العلم ، وأعطاه الله هذا الإسم في التوراة ؟
ولا جواب على هذا السؤال إلا بالقول إن النبي صلى الله عليه وآله شق العلم وبينه للناس ، ولكن الحكومات المنحرفة بعده ستغيبه وتخفيه ، وستحتاج الأمة بعد نصف قرن الى من يشقه من جديد ، وهو ولده الباقر عليه السلام ! لذلك لا تعجب إن أخفوا هذه البشارة النبوية ، بل اعجب لمن رواها منهم وفيها إدانة لحكوماتهم وثقافتهم !
3- والسؤال الأشد عليهم: هل صدق رسول الله صلى الله عليه وآله في بشارته بحفيده أم لا ؟ فإن صدق صلى الله عليه وآله فأين علم النبوة الذي شقه حفيده الإمام الباقر عليه السلام وبينه للأمة ؟!
أما الخليفة الأموي هشام الأحول فيقول: كذب النبي صلى الله عليه وآله ! فقد رووا عنه أنه لما دخل عليه زيد أخ الإمام الباقر عليه السلام أهانه وقال له: ما فعل أخوك البقرة؟! فأجابه زيد رحمه الله : سماه رسول الله باقر العلم وأنت تسميه بقرة ؟ لشدَّ ما اختلفتما إذن ، ولتخالفنّه في الآخرة كما خالفته في الدّنيا فيرد الجنّة وترد النّار !
فقال هشام: خذوا بيد هذا الأحمق المائق ! فأخرجوه.. ومعه نفر يسير حتى طردوه عن حدود الشام ) .( رواها ابن قتيبة في عيون الأخبار:1/212 ، ورواها آخرون بصيغ متعددة كالطبقات:5/325 ، وتاريخ دمشق:19/468 ، وتاريخ الطبري:5/486 ، وذيل تاريخ الطبري/130 ، والوافي:15/21 والكامل:4/445 ، وسير الذهبي:5/447 ، والعقد الفريد/837 ، ومواعظ المقريزي/1872 ، ومناقب آل أبي طالب:3/328 ، وعمدة الطالب/194، والفرق والمذاهب/46 ، وسر السلسلة العلوية/33 ، وشرح النهج:3/285 ، وأنساب الأشراف/825 ،ووفيات الأعيان:3/317 ، وسمط النجوم/848 .
وجاء في بعضها: (أذن له بعد حبس طويل وهشام في عليَّة له فرقى زيد إليها ، وقد أمر هشام خادماً له أنًََ يتبعه حيث لا يراه زيد ، ويسمع ما يقول ، فصعد زيد وكان بادناً فوقف في بعض الدرجة ، فسمعه الخادم وهو يقول: ما أحبَّ الحياة إلا من ذَل ، فأخبر الخادم هشاماً بذلك ، فلما قعد زيد بين يدي هشام وحدثه حلف له على شئ فقال هشام: لا أصدقك . فقال زيد: إن الله لا يرفع أحداً عن أن يرضى بالله ، ولم يضع أحداً عن أن يرضى بذلك منه . قال له هشام: إنه بلغني أنك تذكر الخلافة وتتمناها ولست هناك لأنك ابن أمة فقال زيد: إن لك جواباً ! قال: تكلم قال: إنه ليس أحد أولى بالله ولا أرفع درجة عنده من نبي ابتعثه ، وهو إسماعيل بن إبراهيم وهو ابن أمة ، قد اختاره الله لنبوته وأخرج منه خير البشر . فقال هشام: فما يصنع أخوك البقرة ؟! فغضب زيد حتى كاد يخرج من إهابه ثم قال: سماه رسول الله صلى الله عليه وآله الباقر ، وتسميه أنت البقرة ! لشد ما اختلفتما ، لتخالفنه في الآخرة كما خالفته في الدنيا ، فيرد الجنة وترد النار ) .
يقصد هشام أنك إذا كنت أنت تصلح للخلافة ، فما هو دور أخيك الباقر ؟
وفي طبقات الشعراء لابن المعتز/262:
(قال زيد بن علي لرجل سبَّه عند هشام بن عبد الملك: إني والله ما أنا بالوشيظة المستلحقة ، ولا الحقيبة المستردفة ، ولا أنت بعبدي فأضربك ، ولا بكُفْئي فأسبُّك ) !
أقول: الوشيظ الوشيظة: الملحق بالقبيلة والحقيب والحقيبة الكيس أو الشخص الذي يحتقبه الراكب خلفه ، فهو ملحق ايضاً . (لسان العرب:7/466 ، و:1/325) .
أقول:
يتضح لك من كلام هشام أن الحكام الأمويين لم يكونوا يخجلون من تكذيب النبي صلى الله عليه وآله والسخرية بكلامه ! أما علماؤهم فيختلفون عنهم بالشكل دون المضمون ! وسترى أن الذهبي وهو من كبار أئمتهم يزعم عدم صدق النبي صلى الله عليه وآله في بشارته بحفيده الباقر عليه السلام !
4- أما السؤال الأكثر إحراجاً لأتباع الحكومات القرشية ،
فهو عن العلم الذي كان مغيباً مغطى من عقيدة الإسلام وشريعته ، فبقره الإمام عليه السلام وبينه للأمة ؟!
وجوابنا: أن الحكومات المتعاقبة قامت بتغييب علم النبوة في الألوهية ، فأخذت بمتشابه القرآن بدل محكماته ، وبأساطير اليهود بدل أحاديث النبي صلى الله عليه وآله ، وتعمدت أن تنشر عقيدة التجسيم لله تعالى ، واللامنطقية في أفعاله !
كما غيبت عصمة النبي صلى الله عليه وآله الكاملة الشاملة ، في منطقه وفعله ، واستبدلته بنبي يشك في نبوته فيقرر أن يلقي بنفسه من شاهق وينتحر ، حتى يطمئنه قسيس هو ورقة بن نوفل (أول حديث في صحيح بخاري) ! أو نبي مسحور يتخيل أنه فعل الشي ولم يفعله ! أو نبي يخطئ فيصحح له أخطاءه عمر بن الخطاب وينزل الوحي مؤيداً لعمر موبخاً للنبي صلى الله عليه وآله ! أو نبي عصبي يظلم قادة قريش ويلعنهم بغير حق ، ثم يندم فيطلب أن يجعل الله لعنته عليهم رحمة وبركة وزكاة ومغفرة !
كما غيبت مكانة أهل البيت النبوي عليهم السلام التي أعطاها لهم الإسلام في إمامة الأمة وحفظ الدين ، واستبدلته بقيادة اللعناء والطرداء والطلقاء ، الذين حذر النبي صلى الله عليه وآله الأمة من شرهم فلم تطعه ! فوقعت في فتنتهم وذاقت الويلات من تسلطهم !
أقول: إن هذه الحقائق الكبرى بعض دلالات هذا العمل النبوي الإعجازي ، ومفرداتها كثيرة ، لكن أول ما توجب علينا الإعتراف بانحراف الوضع الثقافي في عصر الإمام الباقر عليه السلام ، وبأن ما قدمه عليه السلام كان بقراً للعلم النبوي ، وإخراجاً لجواهر علوم الإسلام ، خاصة في العقيدة والفقه !
فهذه هي النظرة الصحيحة التي يجب أن ننظر بها الى أحاديث الإمام الباقر عليه السلام ، لا كما يزعم الذهبي الناصبي ، فيفضل عليه وعلى علمه أصحاب الإحتمالات والظنون والآراء الهوائية .
6- لماذا غصَّ الذهبي وابن تيمية بحديث جابر؟!
قال الذهبي في سيره:4/401 ، في ترجمة الإمام الباقر عليه السلام :
( هو السيد الإمام ، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي ، العلوي الفاطمي ، المدني ، وَلَد زين العابدين ، وُلد سنة ست وخمسين في حياة عائشة وأبي هريرة . أرخ ذلك أحمد بن البرقي . روى عن جديه النبي وعلي مرسلاً ، وعن جديه الحسن والحسين مرسلاً أيضاً.. وليس هو بالمكثر ، هو في الرواية كأبيه وابنه جعفر ، ثلاثتهم لا يبلغ حديث كل واحد منهم جزءاَ ضخماَ ، ولكن لهم مسائلُ وفتاوى... وكان أحد من جمع بين العلم والعمل والسؤدد والشرف والثقة والرزانة ، وكان أهلا للخلافة . وهو أحد الأئمة الاثني عشر الذين تبجلهم الشيعة الإمامية وتقول بعصمتهم وبمعرفتهم بجميع الدين ، فلا عصمة إلا للملائكة والنبيين ، وكل أحد يصيب ويخطئ ، ويؤخذ من قوله ويُترك ، سوى النبي (ص) فإنه معصوم ، مؤيد بالوحي . وشُهر أبو جعفر بالباقر ، من بقر العلم ، أي شقه فعرف أصله وخفيَّه . ولقد كان أبو جعفر إماماً مجتهداً ، تالياً لكتاب الله ، كبير الشأن ، ولكن لا يبلغ في القرآن درجة ابن كثير ونحوه ، ولا في الفقه درجه أبي الزناد وربيعة ، ولا في الحفظ ومعرفة السنن درجة قتادة وابن شهاب ، فلا نحابيه ولا نحيف عليه ، ونحبه في الله لما تجمع فيه من صفات الكمال) . انتهى.
هذه خلاصة كلام الذهبي ورأيه في الإمام الباقر عليه السلام ، وهو يقدم لك نفسه على أنه كاتبٌ موضوعي بريئ ، وأنه ترجم لإمام من أهل البيت عليهم السلام وأنصفه . مع أنه ارتكب التعتيم والبتر والتزوير جميعاً !
1- ارتكب تعمد التعتيم ، عندما روى في نفس الترجمة ، عن الزبير بن بكار بيت القرظي: يا باقر العلم لأهل التقى وخير من لبَّى على الأجْبُلِ.. ثم أبيات الجهني: إذا طلب الناس علم القُرَان...الخ. ثم تعامى عن قصة زيد رحمه الله مع هشام بن عبد الملك ، مع أن عدداً من المؤلفين قبله ، رووها مع الأبيات .
2- تعمد تغييب حديث البشارة النبوية عندما روى حديثاً بسند صحيح، قال: ( ابن عقدة: حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي نجيح ، حدثنا علي بن حسان القرشي، عن عمه عبد الرحمن بن كثير، عن جعفر بن محمد ، قال: قال أبي: أجلسني جدي الحسين في حجره وقال لي: رسول الله يقرؤك السلام) .انتهى.
ولم يسأل نفسه: لماذا أرسل النبي صلى الله عليه وآله سلامه الى حفيده الباقر عليه السلام ، ولم يورد البشارة النبوية مع أن مصادرنا روتها ، ورواها غيرنا من علمائهم ؟!
3- ارتكب الإنتقاء الكيفي ، الذي لايخلو من خباثة ، حيث روى في نفس الترجمة/404، صيغةًمستهجنةً لحديث جابر رحمه الله للطعن فيه وفي الإمام عليه السلام ! قال: (عن أبان بن تغلب ، عن محمد بن علي قال: أتاني جابر بن عبد الله وأنا في الكتَّاب فقال لي: إكشف عن بطنك ، فكشفت ، فألصق بطنه ببطني ثم قال: أمرني رسول الله أن أقرئك منه السلام . قال ابن عدي: لا أعلم رواه عن أبان غير المفضل بن صالح أبي جميلة النحاس) . وأوسط الطبراني:6/13. والمعقول فيه ما رواه اليعقوبي:2/320: (حتى رآه فوقع عليه يقبل يديه ورجليه ، ويقول: بأبي وأمي شبيه أبيه صلى الله عليه وآله ) .
ومع أن الذهبي ضعَّف الحديث كغيره من النقاد ، لكنه غمض عينيه عن أصله الصحيح المروي في كتب العلماء قبله ، كبشارة المصطفى لمحمد بن علي الطبري/113 ، وهو من علماء القرن الرابع ، والذهبي من القرن الثامن ! وجاء فيه: (فأتى جابر بن عبد الله باب علي بن الحسين ، وبالباب أبو جعفر محمد بن علي في أغيلمة من بني هاشم قد اجتمعوا هناك ، فنظر جابر بن عبد الله إليه مقبلاً فقال: هذه مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسمته ، فمن أنت يا غلام؟ قال: أنا محمد بن علي بن الحسين ، فبكى جابر وقال: أنت والله الباقر عن العلم حقاً ، أدنُ مني بأبي أنت ، فدنا منه فحل جابر أزراره ثم وضع يده على صدره فقبله وجعل عليه خده ووجهه ، وقال: أقرؤك عن جدك رسول الله السلام ، وقد أمرني أن أفعل بك ما فعلت ، وقال لي: يوشك أن تعيش وتبقى حتى تلقى من ولدي من اسمه محمد بن علي ، يبقر العلم بقراً ) . انتهى.
ويظهر أن ما نسبه حديث الذهبي الى جابر ، محرَّفٌ عن حديث مشابه لأبي هريرة رواه الحاكم:3/168، وصححه ، وأحمد:2/427 ، أن (أبا هريرة لقي الحسن فقال له إكشف عن بطنك حتى أقبل حيث رأيت رسول الله (ص) يقبِّل منه . قال: فكشف عن بطنه فقبَّله) . وتاريخ دمشق:13/220، وقال في الزوائد:9/177: رواه أحمد والطبراني.. ورجالهما رجال الصحيح ، غير عمير بن إسحاق وهو ثقة) .
ثم إن الحديث الذي رووه وضعفوه بالمفضل النحاس أو النخاس ، مروي بواسطة آخرين عن أبان بن تغلب رحمه الله ، وأبان من كبار القراء والمحدثين ، ومروياته معروفة لأمثال الذهبي ، وقد ترجمت له المصادر الرجالية الشيعية والسنية وترجم له الذهبي في الكاشف:1/205،وقال: ثقة ، شيعي . وفي سير أعلام النبلاء:6/308 ، وقال: (أبان بن تغلب الإمام المقرئ أبو سعد... وهو صدوق في نفسه ، عالم كبير ، وبدعته خفيفة ، لا يتعرض للكبار ، وحديثه يكون نحو المئة ، لم يخرج له البخاري ، توفي في سنة إحدى وأربعين ومئة) .
وقال عنه في ميزان الإعتدال:1/5: (شيعي جلد ، لكنه صدوق ، فلنا صدقه وعليه بدعته . وقد وثقه أحمد بن حنبل ، وابن معين ، وأبو حاتم . وأورده ابن عدي وقال: كان غالياً في التشيع . وقال السعدي: زائغ مجاهر . فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع وحد الثقة العدالة والاتقان ؟ فكيف يكون عدلا من هو صاحب بدعة ؟ وجوابه أن البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيع ، أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف ، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق . فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية ، وهذه مفسدة بينة . ثم بدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه ، والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والدعاء إلى ذلك ، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة) .
راجع رواية أبان في تسمية النبي صلى الله عليه وآله للإمام بالباقر عليه السلام في الكافي:1/469 ، وفي ترجمته في رجال الطوسي:1/217، وقد نقل الذهبي عن هذا الكتاب في مؤلفاته كثيراً .
4- ولم يكتف الذهبي بما فعله ، حتى انتقص من الإمام الباقر عليه السلام وطعن فيه ، بل طعن في قول النبي صلى الله عليه وآله وتسميته إياه باقر العلم عليه السلام ! فكأن الذهبي يقول: نعم أرسل النبي سلامه الى حفيده الباقر ، وقد يكون سماه باقر العلم لكن قوله صلى الله عليه وآله لم يتحقق مع الأسف ! فلم يبقر محمد بن علي علم الأنبياء عليهم السلام ولاشق علوم القرآن لأن الإمام ابن كثير زميل الذهبي كتب في التفسير أفضل مما بينه محمد الباقر عليه السلام ، كما أن الباقر لم يشق علم الفقه والشريعة ، لأن ربيعة الرأي وأبا الزناد أعلم منه في الفقه ! وأبو الزناد ابن أخ أبي لؤلؤة قاتل عمر. (كاشف الذهبي:1/549) .
5- ثم أفاض الذهبي في موقف الإمام الباقر وابنه الإمام الصادقعليهما السلام من أبي بكر وعمر ، وروى مكذوبات عليهما في مديحهما ، كما سيأتي !
7- ابن تيمية فهم لقب الباقر عليه السلام أكثر من الذهبي
فهم ابن تيمية مدلول تسمية النبي صلى الله عليه وآله لحفيده بالباقر عليه السلام ، وقدر لوازمها أكثر من الذهبي ، ولذلك بادر الى تكذيب الحديث بدون أن يراجعه !
قال السيد الميلاني في دراسات في منهاج السنة/367 ، ما خلاصته:(ذكرنا طرفاً من كلمات أعلام أهل السنة المتقدمين منهم والمتأخرين في مدح الأئمة عليهم السلام والإعتراف بفضائلهم ومناقبهم... إلا أنك تجد في المقابل من يتجاسر على أهل البيت عليهم السلام ويحط من شأنهم ويكذب عليهم.. حتى أن قائلاً منهم قال إن الحسين عليه السلام قتل بسيف جده صلى الله عليه وآله ! وبعضهم قدح في وثاقة بعض الأئمة الأطهار عليهم السلام وقال إن في نفسه منه شيئاً ! ولعل أشهر هؤلاء ابن تيمية ، فقد أطلق في كتابه لسانه البذئ عليهم ، فحاول سلبهم فضائلهم كلها ، وجعلهم كأناس عاديين لا يجوز تفضيلهم بعلم ولا زهد ، بل كذب وافترى عليهم ! وقد ردَّ أن أبا حنيفة درس عند الإمام الصادق عليه السلام ، وادعي أن الإمام السجادعليه السلام تعلم من مروان بن الحكم ! وتراه يعظم الجنيد وسهلاً التستري وأمثالهما ويصفهم بالزهد بينما ينفي أن يكون الحسن والحسينعليهما السلام أزهد الناس في عصرهما ! ويكذِّب أن النبي صلى الله عليه وآله لقب أحدهم "زين العابدين" وأحدهم "الباقر" وينفي حتى توبة "بشر الحافي" بواسطة أحدهم ، وأن معروفاً الكرخي كان خادماً لأحدهم ! فحتى مثل هذه الأمور لم يتحملها ابن تيمية !
ثم ذكر السيد الميلاني نفي ابن تيمية حديث تسمية النبي صلى الله عليه وآله للإمام بالباقر ، فقد قال في منهاج السنة:4/51: (لا أصل له عند أهل العلم ، بل هو من الأحاديث الموضوعة ، وكذلك حديث تبليغ جابر له السلام ، هو من الموضوعات عند أهل العلم بالحديث) .ثم رد عليه السيد الميلاني برواية ابن قتيبة في احتجاج زيد عليه السلام على هشام وبقول ابن شهراشوب: (حديث جابر مشهور معروف ، رواه فقهاء المدينة والعراق كلهم) . ثم تعجب من زعم ابن تيمية أن الزهري أعلم من الإمام الباقر عليه السلام ، وأنه أخذ العلم من أبي هريرة ! وإنكاره تعلم أبي حنيفة من الصادق عليه السلام حتى مسألة واحدة ، مع اعتراف علماء قومه بتتلمذه على الإمام عليه السلام . قال ابن تيمية: (وكان علي بن الحسين وابنه أبو جعفر وابنه جعفر بن محمد ، يعلمون الناس ما علمهم الله ، كما علمه علماء زمانهم ، وكان في زمنهم من هو أعلم منهم وأنفع للأمة) . ثم تساءل السيد الميلاني: فمن هذا الأعلم والأنفع ؟ لا بد أنه يقصد الزهري! ثم يقول: " وفي الاثني عشر من هو مشهور بالعلم والدين ، كعلي بن الحسين وابنه أبي جعفر ، وابنه جعفر بن محمد . وهؤلاء لهم حكم أمثالهم ، ففي الأمة خلق كثير مثل هؤلاء وأفضل منهم) !
لكنه لم يذكر أحداً من هذا الخلق الكثير ! ثم نقد قول ابن تيمية إن الأئمة عليهم السلام كانوا يتعلمون من علماء زمانهم ، واستدلاله الركيك على ذلك !
قال ابن تيمية: ( ومن المعلوم أن علي بن الحسين وأبا جعفر محمد بن علي وابنه جعفر بن محمد ، كانوا هم العلماء الفضلاء ، وأن من بعدهم من الإثني عشر لم يعرف عنه من العلم ما عرف من هؤلاء . ومع هذا فكانوا يتعلمون من علماء زمانهم ويرجعون إليهم ، حتى قال أبو عمران بن الأسس القاضي البغدادي: أخبرنا أصحابنا أنه ذكر ربيعة بن أبي عبد الرحمن جعفر بن محمد وأنه تعلم العلوم ، فقال ربيعة: إنه اشترى حائطاً من حيطان المدينة ، فبعث إلي حتى أكتب له شرطاً في ابتياعه . نقله عنه محمد بن حاتم ابن ريحوته البخاري ، في كتاب إثبات إمامة الصديق) ! انتهى. ولم يعرف حتى شراح ابن تيمية من هو أبوعمران الأسس ، ولا ابن ريحوتة البخاري ، ولا كتابه في إمامة أبي بكر ، ولا طلب الإمام الصادق عليه السلام من ربيعة أن يكتب له وثيقة شراء البستان !
وختم السيد الميلاني بقوله: (فبالله عليك ! هل هذا استدلال عاقل فاهم ، على أن هؤلاء الأئمة كانوا يتعلمون من علماء زمانهم ويرجعون إليهم)؟!
ولعل ابن تيمية شعر بأنه أفرط في تحامله على أئمة أهل البيت عليهم السلام فقال في منهاجه:4/110، كالمعتذر عن عدم روايتهم عنهم ، وتفضيل نكرات في العلم والفقه عليهم: ( لكن المنقول الثابت عن بعض هؤلاء من الحديث والفتيا قد يكون أكثر من المنقول الثابت عن الآخر ، فتكون شهرته لكثرة علمه أو لقوة حجته أو نحو ذلك . وإلا فلا يقول أهل السنة إن يحيى بن سعيد وهشام بن عروة وأبا الزناد أولى بالإتباع من جعفر بن محمد ، ولا يقولون إن الزهري ويحيى بن أبي كثير وحماد بن أبي سليمان ومنصور بن المعتمر أولى بالاتباع من أبيه أبي جعفر الباقر ، ولا يقولون إن القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله أولى بالإتباع من على بن الحسين ، بل كل واحد من هؤلاء ثقة فيما ينقله مصدق في ذلك) .
تابع السيد الميلاني:لكن كلامه هذا لايجبر ماكسره في الإنتقاص من مقامهم عليهم السلام وهو كثير حتى حكم عليه بعض علماء المذاهب بأنه ناصبي مبغض لعلي عليه السلام ) ! انتهى.
أقول: للذهبي كلام من نوع كلام ابن تيمية هذا ، يحاول فيه جبر انتقاصه لحقهم ، كالذي فقد قال في سيره:13/120
فسبطا رسول الله (ص) وسيدا شباب أهل الجنة ، لو استخلفا لكانا أهلاً لذلك . وزين العابدين كبير القدر من سادة العلماء العاملين ، يصلح للإمامة وله نظراء ، وغيره أكثر فتوى منه وأكثر رواية .
وكذلك ابنه أبو جعفر الباقر: سيدٌ ، إمام ، فقيه ، يصلح للخلافة .
وكذا ولده جعفر الصادق: كبير الشأن من أئمة العلم ، كان أولى بالأمر من أبي جعفر المنصور . وكان ولده موسى كبير القدر جيد العلم ، أولى بالخلافة من هارون ، وله نظراء في الشرف والفضل .
وابنه علي بن موسى الرضا كبير الشأن له علم وبيان ووقع في النفوس ، صيره المأمون ولي عهده لجلالته ، فتوفي سنة ثلاث ومئتين . وابنه محمد الجواد من سادة قومه ، لم يبلغ رتبة آبائه في العلم والفقه . وكذلك ولده الملقب بالهادي شريف جليل . وكذلك ابنه الحسن بن علي العسكري . رحمهم الله تعالى) .
لكن ملاحظة ما فعله الذهبي من التحريف والتزوير لانتقاص حقوق أئمة العترة النبوية عليهم السلام ، تكشف عن أن كلامه هذا للتغطية لا أكثر !
وسماه باقر علم النبوة
1- اشتهر عليه السلام بهذا الإسم ورواه المؤالف والمخالف
أشهر ألقابه عليه السلام الباقر ، وباقر العلم . قال في القاموس: ( والباقر: محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم ، لتبحره في العلم) .
وقال الزبيدي:6/105: (وفي اللسان: لأنه بقر العلم وعرف أصله واستنبط فرعه . قلت: وقد ورد في بعض الآثار عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي (ص) قال له: يوشك أن تبقى حتى تلقى ولداً لي من الحسين يقال له محمد ، يبقر العلم بقراً ، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام . خرَّجه أئمة النسب ) . انتهى.
أقول: يقصد الزبيدي حديث النبي صلى الله عليه وآله الذي بَشَّر فيه بحفيده الباقرعليه السلام وبعث اليه سلامه مع جابر بن عبد الله الأنصاري رحمه الله !
ففي الكافي:1/469 ، عن الصادق عليه السلام بسند صحيح قال:
( إن رسول الله قال ذات يوم لجابر بن عبد الله الأنصاري: يا جابر إنك ستبقى حتى تلقى وَلَدي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، المعروف في التوراة بالباقر ، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام ، فدخل جابر إلى علي بن الحسين عليهما السلام فوجد محمد بن علي عنده غلاماً فقال له: يا غلام أقبل فأقبل ، ثم قال: أدبر فأدبر ، فقال جابر: شمائل رسول الله صلى الله عليه وآله ورب الكعبة ، ثم أقبل علي بن الحسين فقال له: من هذا ؟ قال: هذا ابني وصاحب الأمر بعدي محمد الباقر ، فقام جابر فوقع على قدميه يقبلهما ويقول: نفسي لنفسك الفداء يا ابن رسول الله ، إقبل سلام أبيك. إن رسول الله يقرأ عليك السلام . قال: فدمعت عينا أبي جعفر ثم قال: يا جابر على أبي رسول الله السلام ما دامت السماوات والأرض ، وعليك السلام يا جابر بما بلغت ) .
وقال في مناقب آل أبي طالب:3/328:
(وحديث جابر مشهور معروف ، رواه فقهاء المدينة والعراق كلهم.. بطرق كثيرة عن سعيد بن المسيب ، وسليمان الأعمش ، وأبان بن تغلب ، ومحمد بن مسلم ، وزرارة بن أعين ، وأبي خالد الكابلي..) .
وقال المفيد في الإرشاد:2/159:
(وسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وعرفه بباقر العلم على ما رواه أصحاب الآثار ، وبما روي عن جابر بن عبد الله في حديث مجرد أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله : يوشك أن تبقى حتى تلقى ولداً لي من الحسين يقال له محمد ، يبقر علم الدين بقراً ، فإذا لقيته فاقرئه مني السلام) . والمستجاد/170 .
وفي مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان:2/275:
(تلقى رجلاً من ولدي يقال له محمد بن علي بن الحسين، يهب الله له النور والحكمة، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام) .
وفي تاريخ اليعقوبي:2/320:
(وكان يسمى أبا جعفر الباقر لأنه بقر العلم . قال جابر بن عبد الله الأنصاري: قال لي رسول الله: إنك ستبقى حتى ترى رجلاً من ولدي أشبه الناس بي إسمه على اسمي ، إذا رأيته لم يخف عليك فاقرئه مني السلام ! فلما كبرت سن جابر وخاف الموت جعل يقول: يا باقر يا باقر أين أنت؟ حتى رآه فوقع عليه يقبل يديه ورجليه وهو يقول: بأبي وأمي ، شبيه أبيه رسول الله ! إن أباك يقرؤك السلام ) .
وأوردناه في معجم أحاديث الإمام المهدي:3/326 ، عن أمالي الطوسي:2/249 وغيره بلفظ آخر مفصل ، وفيه:
(فأتى جابر بن عبد الله باب علي بن الحسين عليهما السلام وبالباب أبو جعفر محمد بن علي ، في أغيلمة من بني هاشم قد اجتمعوا هناك ، فنظر جابر إليه مقبلاً فقال: هذه مشية رسول الله وسجيته ، فمن أنت يا غلام ؟ قال: فقال: أنا محمد بن علي بن الحسين ، فبكى جابر بن عبد الله ثم قال: أنت والله الباقر عن العلم حقاً ، أدن مني بأبي أنت وأمي ، فدنا منه فحل جابر إزاره ووضع يده على صدره فقبله وجعل عليه خده ووجهه وقال له: أقرؤك عن جدك رسول الله السلام... وفي آخره: فأقبل جابر على من حضر وقال: والله ما رؤي في أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوبعليهما السلام ، والله لذرية علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب ، إن منهم لمن يملأ الأرض عدلا كما ملئت جوراً ) . راجع أيضاً: أمالي الصدوق/434 وعلل الشرائع:1/233، وإعلام الورى:1/505 والثاقب في المناقب/104 ، والخرائج:2/892 ، وعمدة الطالب/194 ، وروضة الواعظين/202 ، والهداية الكبرى/241، بسند صحيح في عدد منها .
وروت مصادرنا أحاديث تسمية النبي صلى الله عليه وآله له بالباقرعليه السلام ، وقد أوردنا أحدها في معجم أحاديث الإمام المهدي عليه السلام :3/194، برقم:716 ، عن الإمام زين العابدين عليه السلام ، وفيه: (واسمه في صحف الأولين باقر ، يبقر العلم بقراً ) .
ومنها حديث في كفاية الأثر/81 ،عن أبي هريرة قال:(كنت عند النبي وأبو بكر وعمر والفضل بن العباس وزيد بن حارثة وعبد الله بن مسعود ، إذ دخل الحسين بن علي.... وفيه: يخرج من صلبه ولد مبارك سميُّ جده علي يسمى العابد ونور الزهاد ، ويخرج من صلب علي ولد إسمه إسمي وأشبه الناس بي ، يبقر العلم بقراً ، وينطق بالحق ويأمر بالصواب ، ويخرج الله من صلبه كلمة الحق ولسان الصدق . فقال له ابن مسعود: فما إسمه يا نبي الله ؟ قال: فقال له: جعفر ، صادق في قوله وفعاله ) .
2- روى علماء السنة حديث بشارة النبي
صلى الله عليه وآله بالباقر عليه السلام
فقد رواه أبو نصر البخاري من حديث جابر في سر السلسلة العلوية/32 ، ونصه:
(يا جابر ، إنك ستعيش حتى تدرك رجلاً من أولادي إسمه إسمي ، يبقر العلم بقراً ، فإذا رأيته فاقرأه منى السلام ، ففعل ذلك جابر رحمه الله ... ووفد زيد بن علي على هشام (الأحول) بن عبد الملك فقال له هشام: ما فعل أخوك البقرة ، يعني الباقر ؟! فقال زيد: لَشَدَّ ما خالفت رسول الله (ص) ! سماه رسول الله الباقر ، وتسميه البقرة ! لتخالفنه في يوم القيامة فيدخل الجنة وتدخل النار ، القصة بطولها..
وهو أول من اجتمعت له ولادة الحسن والحسين، أبوه علي بن الحسين وأمه أم عبد الله بنت الحسن ، وفيه يقول القرظي: يا باقر العلم لأهل التقى وخير من لبَّى على الأجْبُلِ
وفيه يقول مالك بن أعين الجهني:
إذا طلب الناس علم القران كانت قريشٌ عليه عيالا
وإن قيل هذا ابن بنت النبي نال بذاك فروعاً طوالا
نجومٌ تهلل للمدلجين جبالٌ تورث علماٌ جبالا) . انتهى.
ولحديث زيد رحمه الله مع هشام مصادر عديدة تاريخية وحديثية يأتي ذكرها ، وهو كاف لتصحيح حديث جابر رحمه الله حتى عند المتشددين السنيين في الجرح .
كما رواه محمد بن طلحة الشافعي في مطالب السؤول/81 وطبعة425، فقال:
( الإمام محمد الباقر: هو باقر العلم وجامعه ، وشاهر علمه ورافعه ، ومتفوق دره وواضعه ، ومنمق دره وراضعه ، صفا قلبه وزكا عمله ، وطهرت نفسه ، وشرفت أخلاقه ، وعمرت بطاعة الله أوقاته ، ورسخت في مقام التقوى قدمه ، وظهرت عليه سمات الإزدلاف ، وطهارة الإجتباء ، فالمناقب تسبق إليه ، والصفات تشرف به..
ثمروى حديث جابر في/431:
(كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله والحسين في حجره وهو يلاعبه ، فقال: يا جابر يولد لابني الحسين ابن يقال له علي ، إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم سيد العابدين . فيقوم علي بن الحسين ، ويولد لعلي ابن يقال له محمد ، يا جابر إن رأيته فاقرءه مني السلام ، واعلم أن بقاءك بعد رؤيته يسير . فلم يعش جابر بعد ذلك إلا قليلا) .
ورواه مرسلاً وصححه ابنُ أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج:15/277، قال:
(وهو سيد فقهاء الحجاز ، ومنه ومن ابنه جعفر تعلم الناس الفقه ، وهو الملقب بالباقر ، باقر العلم ، لقبه به رسول الله (ص) ولم يُخلق بعد ، وبشر به ووعد جابر بن عبد الله برؤيته ، وقال: ستراه طفلاًً ، فإذا رأيته فأبلغه عني السلام ! فعاش جابر حتى رآه ، وقال له ما وُصِّيَ به ) .
ورواه ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة:2/882 ، وفيه:
(يبقر العلم بقراً ، أي يفجره تفجيراً ، فإذا رأيته فاقرأه عني السلام ) .
ورواه الزرندي الشافعي في معارج الوصول إلى معرفة فضل آل الرسول/122، قال:
(سماه رسول الله (ص) الباقر ، وأهدى إليه سلامه على لسان جابر بن عبد الله فقال: ( يا جابر إنك تعيش حتى تدرك رجلاً من أولادي إسمه إسمي يبقر العلم بقراً ، فإذا رأيته فاقرأه مني السلام . فأدركه جابر بن عبد الله الأنصاري وهو صبي في الكتاب فأقرأه عن رسول الله (ص) السلام المستطاب ، وقال: هكذا أمرني رسول الله (ص) . وهذه منقبة لم يشركه فيها أحد من الآل والأصحاب ) .
ورواه ابن حجر الهيتمي في الصواعق:2/585 ، قال:
(أبو جعفر محمد الباقر سمي بذلك من بقر الأرض أي شقها وأثار مخبئاتها ومكامنها ، فكذلك هو أظهر من مخبئات كنوز المعارف وحقائق الأحكام والحكم واللطائف ما لا يخفى ، إلا على منطمس البصيرة أو فاسد الطوية السريرة ، ومن ثم قيل فيه: هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ، عمرت أوقاته بطاعة الله وله من الرسوخ في مقامات العارفين ما تكل عنه ألسنة الواصفين ، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة وكفاه شرفاً أن ابن المديني روى عن جابر أنه قال له وهو صغير: رسول الله يسلم عليك ، فقيل له وكيف ذاك؟ قال: كنت جالساً عنده والحسين في حجره وهو يداعبه فقال: يا جابر يولد له مولود اسمه علي إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم سيد العابدين ، فيقوم ولده . ثم يولد له ولد اسمه محمد الباقر ، فإن أدركته يا جابر فاقرئه مني السلام ) .
وذكر في هامش نهج الحق/257 ، أن الخطيب في تاريخ بغداد:2/204، روى قول النبي صلى الله عليه وآله لجابر:أنت تدرك ولدي محمد الباقر ، إنه يبقر العلم بقراً فإذا رأيته ، فاقرأه عني السلام) . ولم أجده هناك ، ولعل يد المحرفين حذفته من المطبوع !
3- قبل المتعصبون لقب الباقر وسكتوا عن حديث جابر !
في شرح مسلم للنووي:6/137:
(ومنه سميَ محمد الباقر رضي الله عنه ، لأنه بقر العلم ودخل فيه مدخلاً بليغاً ووصل منه غاية مرضية ) .
وفي عمدة القاري بشرح البخاري للعيني:3/52:
(أما محمد بن علي فهو: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، الهاشمي المدني ، أبو جعفر المعروف بالباقر ، سمي به لأنه بقر العلم أي شقه بحيث عرف حقائقه ، وهو أحد الأعلام التابعين الأجلاء) .
وفي تفسير القرطبي:1/446:
(ومنه الباقر لأبي جعفر محمد بن علي زين العابدين ، لأنه بقر العلم وعرف أصله ، أي شقه ) .
وفي تذكرة حفاظ الذهبي:1/124:
( أبو جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين الإمام الثبت الهاشمي العلوي المدني... وكان سيد بني هاشم في زمانه . اشتهر بالباقر من قولهم بقر العلم ، يعني شقه فعلم أصله وخفيه ) . وبنحو هذا فسر لقب (الباقر) عامة من ترجم للإمامعليه السلام من علمائهم .
4- شهد مخالفو الإمام عليه السلام وأعداؤه بعلمه وقداسته !
قال سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص/347:
(عن عطاء المكي قال: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين ! ولقد رأيت الحكم بن عيينة مع جلالته في القوم بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه ! وكان جابر بن يزيد الجعفي إذا روى عن محمد بن علي شيئاً قال: حدثني وصيُّ الأوصياء ، ووارث علم الأنبياء: محمد بن علي بن الحسين) .
وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب:9/313:
(قال الزبير ابن بكار: كان يقال لمحمد باقر العلم . وقال محمد بن المنكدر: ما رأيت أحداً يفضل على علي بن الحسين حتى رأيت ابنه محمداً ، أردت يوماً أن أعظه فوعظني) .
وقال محمد بن طلحة الشافعي في مطالب السؤول/436:
(نقل عنه الحديث واستفاد منه العلم جماعة من الأئمة وأعلامهم ، مثل يحيى بن سعيد الأنصاري ، وابن جريح ، ومالك بن أنس ، والثوري ، وابن عيينة ، وشعبة ، وأيوب السجستاني وغيرهم ، وعدوا أخذهم عنه منقبة شرفوا بها وفضيلة اكتسبوها ) .
وقال الحافظ أبو نعيم: (ومنهم الإمام الحاضر الذاكر الخاشع الصابر ، أبو جعفر محمد بن علي الباقر ، وكان من سلالة النبوة ، وجمع حسب الدين والأبوة ، تكلم في العوارض والخطرات ، وسفح الدموع والعبرات ، ونهى عن المراء والخصومات ) . (كشف الغمة:2/344) .
وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق:54/268:
(محمد بن علي بن الحسين.. باقر العلم من أهل المدينة ، أوفده عمر بن عبد العزيز عليه (أي طلب أن يفد اليه) حين ولي الخلافة يستشيره في بعض أموره... لما وليَ بعث إلى الفقهاء فقربهم ، وكانوا أخص الناس به ، بعث إلى محمد بن علي بن حسين أبي جعفر ، وبعث إلى عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وكان من عباد أهل الكوفة وفقهائهم ، فقدم عليه وبعث إلى محمد بن كعب القرظي ، وكان من أهل المدينة من أفاضلهم وفقهائهم ، فلما قدم أبو جعفر محمد بن علي على عمر بن عبد العزيز وأراد الإنصراف إلى المدينة قال: بينما هو جالس في الناس ينتظرون الدخول على عمر ، إذ أقبل ابن حاجب عمر وكان أبوه مريضاً فقال: أين أبو جعفر ليدخل! فأشفق محمد بن علي أن يقوم فلا يكون هو الذي دعا به ، فنادى ثلاث مرات ، قال: لم يحضر يا أمير المؤمنين ! قال بلى قد حضر حدثني بذلك الغلام ، قال: فقد ناديته ثلاث مرات ، قال: كيف قلت؟ قال قلت: أين أبو جعفر ؟! قال: ويحك أخرج فقل: أين محمد بن علي ، فخرج ، فقام فدخل فحدثه ساعة وقال إني: أريد الوداع يا أمير المؤمنين ، قال عمر فأوصني يا أبا جعفر ، قال: أوصيك بتقوى الله واتخذ الكبير أباً والصغير ولداً والرجل أخاً ، فقال: رحمك الله جمعت لنا والله ما إن أخذنا به وأماتنا الله عليه استقام لنا الخير إن شاء الله . ثم خرج ، فلما انصرف إلى رحله أرسل إليه عمر: إني أريد أن آتيك فاجلس في إزار ورداء ، فبعث إليه: لا بل أنا آتيك ، فأقسم عليه عمر فأتاه عمر فالتزمه ووضع صدره على صدره وأقبل يبكي ثم جلس بين يديه ، ثم قام وليس لأبي جعفر حاجة سأله إياها إلا قضاها له ، وانصرف فلم يلتقيا حتى ماتا جميعاً ) .
ونقل الطبري في تاريخه:6/197، رسالة المنصور العباسي الى محمد بن عبدالله بن الحسن الذي خرج عليه ، وجاء فيها:
(وزعمت أنك أوسط بني هاشم نسباً وأصرحهم أماً وأباً... وما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله (ص) أفضل من علي بن حسين وهو لأم ولد ، ولهو خير من جدك حسن بن حسن ، وما كان فيكم بعده مثل ابنه محمد بن علي ، وجدته أم ولد ولهو خير من أبيك ، ولا مثل ابنه جعفر وجدته أم ولد ، ولهو خير منك) . وتاريخ الذهبي:9/23 .
وقال ابن سعد في الطبقات:5/320:
( أبو جعفر محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ، وأمه أم عبد الله بنت حسن بن علي... معاوية بن عبد الكريم قال: رأيت على محمد بن علي أبي جعفر جبة خز ومطرف خز... عن جابر عن محمد بن علي قال: إنا آل محمد نلبس الخز واليمنة والمعصفرات والممصرات.. عن عبد الأعلى أنه رأى محمد بن علي يرسل عمامته خلفه... حكيم بن عباد بن حنيف قال: رأيت أبا جعفر متكئاً على طيلسان مطوي في المسجد ، قال محمد بن عمر: ولم يزل ذلك من فعل الأشراف وأهل المروءة عندنا ، الذين يلزمون المسجد يتكئون على طيالسة مطوية سوى طيلسانه وردائه الذي عليه.. عن عبد الأعلى قال: سألت محمد بن علي عن الوسمة فقال: هو خضابنا أهل البيت.. عبد الله بن قشير الجعفي قال: قال لي أبو جعفر إخضب بالوسمة... المعيصي قال: رأيت محمد بن علي على جبهته وأنفه أثر السجود ليس بالكثير... أوصى أن يكفن في قميصه الذي كان يصلي فيه... سألت جعفراً: في أي شئ كفنت أباك؟ قال: أوصاني في قميصه وأن أقطع أزراره ، وفي ردائه الذي كان يلبس ، وأن أشتري برداً يمانياً ، فإن النبي صلى الله عليه وآله كُفِّن في ثلاثة أثواب أحدها برد يمان... وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: توفي بالمدينة سنة أربع عشرة ومائة ، وكان ثقة كثير العلم والحديث ) .
وقال ابن كثير في النهاية:9/339:
(وسمي الباقر لبقره العلوم واستنباطه الحكم ، كان ذاكراً خاشعاً صابراً ، وكان من سلالة النبوة رفيع النسب عالي الحسب ، وكان عارفاً بالخطرات كثير البكاء والعبرات معرضاً عن الجدال والخصومات... عن زيد بن خيثمة عن أبي جعفر قال: الصواعق تصيب المؤمن وغير المؤمن ولا تصيب الذاكر... وقال جابر الجعفي: قال لي محمد بن علي: يا جابر إني لمحزون وإني لمشتغل القلب ! قلت: وما حزنك وشغل قلبك ؟ قال: يا جابر إنه من دخل قلبه صافي دين الله عز وجل شغله عما سواه ، يا جابر ما الدنيا وما عسى أن تكون ؟ هل هي إلا مركباً ركبته ، أو ثوباً لبسته ، أو امرأةً أصبتها ؟! يا جابر ، إن المؤمنين لم يطمئنوا إلى الدنيا لبقاء فيها.. فأنزلوا الدنيا حيث أنزلها مليكهم كمنزل نزلوه ثم ارتحلوا عنه وتركوه ، وكماء أصبته في منامك ، فلما استيقظت إذا ليس في يدك منه شئ ، فاحفظ الله فيما استرعاك من دينه وحكمته..) .
5- ملاحظات على بشارة النبي صلى الله عليه وآله به
وتسميته بالباقر عليه السلام
1- اتضح بما تقدم صحة بشارة النبي صلى الله عليه وآله بالإمام الباقر صلى الله عليه وآله وتسميته بباقر العلم . فلماذا لم تنعكس هذه البشارة بحجمها على عامة المسلمين وأجيالهم ؟!
فلو كانت من نبي آخر بَشَّرَ أمته بأنه سيكون من عترته بعد نصف قرن من يبقر لها علم النبوة ، لعظَّمَته أمته ، والتفَّتْ حوله ودَوَّنَتْ علومه .
لكن هذه الحقيقة كغيرها من الحقائق المرتبطة بأهل البيت عليهم السلام ، رأت الخلافة أن من المصلحة تغييبها وعدم نشرها في المسلمين ! وإن عرفوها من رواة ساذجين أو غير منضبطين ، فعلى علماء السلطة أن يهوِّنوا من أمرها !
أما لو كان الذي بشر النبي صلى الله عليه وآله بأنه سيبقر علم النبوة ، شخصاً من بني أمية ، أو من بني تيم وعدي ، لرأيت تطبيلهم وتزميرهم ، وتعظيمهم لباقر علم النبوة !
2- يتبادر الى ذهن المسلم سؤال الى نبيه صلى الله عليه وآله :
ألست أنت يارسول الله باقر العلم؟ علم الكتاب والحكمة وبقية الوحي الذي أنزله الله عليك ، فبقرته للناس وبينته ؟ فكيف صار حفيدك باقر العلم ، وأعطاه الله هذا الإسم في التوراة ؟
ولا جواب على هذا السؤال إلا بالقول إن النبي صلى الله عليه وآله شق العلم وبينه للناس ، ولكن الحكومات المنحرفة بعده ستغيبه وتخفيه ، وستحتاج الأمة بعد نصف قرن الى من يشقه من جديد ، وهو ولده الباقر عليه السلام ! لذلك لا تعجب إن أخفوا هذه البشارة النبوية ، بل اعجب لمن رواها منهم وفيها إدانة لحكوماتهم وثقافتهم !
3- والسؤال الأشد عليهم: هل صدق رسول الله صلى الله عليه وآله في بشارته بحفيده أم لا ؟ فإن صدق صلى الله عليه وآله فأين علم النبوة الذي شقه حفيده الإمام الباقر عليه السلام وبينه للأمة ؟!
أما الخليفة الأموي هشام الأحول فيقول: كذب النبي صلى الله عليه وآله ! فقد رووا عنه أنه لما دخل عليه زيد أخ الإمام الباقر عليه السلام أهانه وقال له: ما فعل أخوك البقرة؟! فأجابه زيد رحمه الله : سماه رسول الله باقر العلم وأنت تسميه بقرة ؟ لشدَّ ما اختلفتما إذن ، ولتخالفنّه في الآخرة كما خالفته في الدّنيا فيرد الجنّة وترد النّار !
فقال هشام: خذوا بيد هذا الأحمق المائق ! فأخرجوه.. ومعه نفر يسير حتى طردوه عن حدود الشام ) .( رواها ابن قتيبة في عيون الأخبار:1/212 ، ورواها آخرون بصيغ متعددة كالطبقات:5/325 ، وتاريخ دمشق:19/468 ، وتاريخ الطبري:5/486 ، وذيل تاريخ الطبري/130 ، والوافي:15/21 والكامل:4/445 ، وسير الذهبي:5/447 ، والعقد الفريد/837 ، ومواعظ المقريزي/1872 ، ومناقب آل أبي طالب:3/328 ، وعمدة الطالب/194، والفرق والمذاهب/46 ، وسر السلسلة العلوية/33 ، وشرح النهج:3/285 ، وأنساب الأشراف/825 ،ووفيات الأعيان:3/317 ، وسمط النجوم/848 .
وجاء في بعضها: (أذن له بعد حبس طويل وهشام في عليَّة له فرقى زيد إليها ، وقد أمر هشام خادماً له أنًََ يتبعه حيث لا يراه زيد ، ويسمع ما يقول ، فصعد زيد وكان بادناً فوقف في بعض الدرجة ، فسمعه الخادم وهو يقول: ما أحبَّ الحياة إلا من ذَل ، فأخبر الخادم هشاماً بذلك ، فلما قعد زيد بين يدي هشام وحدثه حلف له على شئ فقال هشام: لا أصدقك . فقال زيد: إن الله لا يرفع أحداً عن أن يرضى بالله ، ولم يضع أحداً عن أن يرضى بذلك منه . قال له هشام: إنه بلغني أنك تذكر الخلافة وتتمناها ولست هناك لأنك ابن أمة فقال زيد: إن لك جواباً ! قال: تكلم قال: إنه ليس أحد أولى بالله ولا أرفع درجة عنده من نبي ابتعثه ، وهو إسماعيل بن إبراهيم وهو ابن أمة ، قد اختاره الله لنبوته وأخرج منه خير البشر . فقال هشام: فما يصنع أخوك البقرة ؟! فغضب زيد حتى كاد يخرج من إهابه ثم قال: سماه رسول الله صلى الله عليه وآله الباقر ، وتسميه أنت البقرة ! لشد ما اختلفتما ، لتخالفنه في الآخرة كما خالفته في الدنيا ، فيرد الجنة وترد النار ) .
يقصد هشام أنك إذا كنت أنت تصلح للخلافة ، فما هو دور أخيك الباقر ؟
وفي طبقات الشعراء لابن المعتز/262:
(قال زيد بن علي لرجل سبَّه عند هشام بن عبد الملك: إني والله ما أنا بالوشيظة المستلحقة ، ولا الحقيبة المستردفة ، ولا أنت بعبدي فأضربك ، ولا بكُفْئي فأسبُّك ) !
أقول: الوشيظ الوشيظة: الملحق بالقبيلة والحقيب والحقيبة الكيس أو الشخص الذي يحتقبه الراكب خلفه ، فهو ملحق ايضاً . (لسان العرب:7/466 ، و:1/325) .
أقول:
يتضح لك من كلام هشام أن الحكام الأمويين لم يكونوا يخجلون من تكذيب النبي صلى الله عليه وآله والسخرية بكلامه ! أما علماؤهم فيختلفون عنهم بالشكل دون المضمون ! وسترى أن الذهبي وهو من كبار أئمتهم يزعم عدم صدق النبي صلى الله عليه وآله في بشارته بحفيده الباقر عليه السلام !
4- أما السؤال الأكثر إحراجاً لأتباع الحكومات القرشية ،
فهو عن العلم الذي كان مغيباً مغطى من عقيدة الإسلام وشريعته ، فبقره الإمام عليه السلام وبينه للأمة ؟!
وجوابنا: أن الحكومات المتعاقبة قامت بتغييب علم النبوة في الألوهية ، فأخذت بمتشابه القرآن بدل محكماته ، وبأساطير اليهود بدل أحاديث النبي صلى الله عليه وآله ، وتعمدت أن تنشر عقيدة التجسيم لله تعالى ، واللامنطقية في أفعاله !
كما غيبت عصمة النبي صلى الله عليه وآله الكاملة الشاملة ، في منطقه وفعله ، واستبدلته بنبي يشك في نبوته فيقرر أن يلقي بنفسه من شاهق وينتحر ، حتى يطمئنه قسيس هو ورقة بن نوفل (أول حديث في صحيح بخاري) ! أو نبي مسحور يتخيل أنه فعل الشي ولم يفعله ! أو نبي يخطئ فيصحح له أخطاءه عمر بن الخطاب وينزل الوحي مؤيداً لعمر موبخاً للنبي صلى الله عليه وآله ! أو نبي عصبي يظلم قادة قريش ويلعنهم بغير حق ، ثم يندم فيطلب أن يجعل الله لعنته عليهم رحمة وبركة وزكاة ومغفرة !
كما غيبت مكانة أهل البيت النبوي عليهم السلام التي أعطاها لهم الإسلام في إمامة الأمة وحفظ الدين ، واستبدلته بقيادة اللعناء والطرداء والطلقاء ، الذين حذر النبي صلى الله عليه وآله الأمة من شرهم فلم تطعه ! فوقعت في فتنتهم وذاقت الويلات من تسلطهم !
أقول: إن هذه الحقائق الكبرى بعض دلالات هذا العمل النبوي الإعجازي ، ومفرداتها كثيرة ، لكن أول ما توجب علينا الإعتراف بانحراف الوضع الثقافي في عصر الإمام الباقر عليه السلام ، وبأن ما قدمه عليه السلام كان بقراً للعلم النبوي ، وإخراجاً لجواهر علوم الإسلام ، خاصة في العقيدة والفقه !
فهذه هي النظرة الصحيحة التي يجب أن ننظر بها الى أحاديث الإمام الباقر عليه السلام ، لا كما يزعم الذهبي الناصبي ، فيفضل عليه وعلى علمه أصحاب الإحتمالات والظنون والآراء الهوائية .
6- لماذا غصَّ الذهبي وابن تيمية بحديث جابر؟!
قال الذهبي في سيره:4/401 ، في ترجمة الإمام الباقر عليه السلام :
( هو السيد الإمام ، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي ، العلوي الفاطمي ، المدني ، وَلَد زين العابدين ، وُلد سنة ست وخمسين في حياة عائشة وأبي هريرة . أرخ ذلك أحمد بن البرقي . روى عن جديه النبي وعلي مرسلاً ، وعن جديه الحسن والحسين مرسلاً أيضاً.. وليس هو بالمكثر ، هو في الرواية كأبيه وابنه جعفر ، ثلاثتهم لا يبلغ حديث كل واحد منهم جزءاَ ضخماَ ، ولكن لهم مسائلُ وفتاوى... وكان أحد من جمع بين العلم والعمل والسؤدد والشرف والثقة والرزانة ، وكان أهلا للخلافة . وهو أحد الأئمة الاثني عشر الذين تبجلهم الشيعة الإمامية وتقول بعصمتهم وبمعرفتهم بجميع الدين ، فلا عصمة إلا للملائكة والنبيين ، وكل أحد يصيب ويخطئ ، ويؤخذ من قوله ويُترك ، سوى النبي (ص) فإنه معصوم ، مؤيد بالوحي . وشُهر أبو جعفر بالباقر ، من بقر العلم ، أي شقه فعرف أصله وخفيَّه . ولقد كان أبو جعفر إماماً مجتهداً ، تالياً لكتاب الله ، كبير الشأن ، ولكن لا يبلغ في القرآن درجة ابن كثير ونحوه ، ولا في الفقه درجه أبي الزناد وربيعة ، ولا في الحفظ ومعرفة السنن درجة قتادة وابن شهاب ، فلا نحابيه ولا نحيف عليه ، ونحبه في الله لما تجمع فيه من صفات الكمال) . انتهى.
هذه خلاصة كلام الذهبي ورأيه في الإمام الباقر عليه السلام ، وهو يقدم لك نفسه على أنه كاتبٌ موضوعي بريئ ، وأنه ترجم لإمام من أهل البيت عليهم السلام وأنصفه . مع أنه ارتكب التعتيم والبتر والتزوير جميعاً !
1- ارتكب تعمد التعتيم ، عندما روى في نفس الترجمة ، عن الزبير بن بكار بيت القرظي: يا باقر العلم لأهل التقى وخير من لبَّى على الأجْبُلِ.. ثم أبيات الجهني: إذا طلب الناس علم القُرَان...الخ. ثم تعامى عن قصة زيد رحمه الله مع هشام بن عبد الملك ، مع أن عدداً من المؤلفين قبله ، رووها مع الأبيات .
2- تعمد تغييب حديث البشارة النبوية عندما روى حديثاً بسند صحيح، قال: ( ابن عقدة: حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي نجيح ، حدثنا علي بن حسان القرشي، عن عمه عبد الرحمن بن كثير، عن جعفر بن محمد ، قال: قال أبي: أجلسني جدي الحسين في حجره وقال لي: رسول الله يقرؤك السلام) .انتهى.
ولم يسأل نفسه: لماذا أرسل النبي صلى الله عليه وآله سلامه الى حفيده الباقر عليه السلام ، ولم يورد البشارة النبوية مع أن مصادرنا روتها ، ورواها غيرنا من علمائهم ؟!
3- ارتكب الإنتقاء الكيفي ، الذي لايخلو من خباثة ، حيث روى في نفس الترجمة/404، صيغةًمستهجنةً لحديث جابر رحمه الله للطعن فيه وفي الإمام عليه السلام ! قال: (عن أبان بن تغلب ، عن محمد بن علي قال: أتاني جابر بن عبد الله وأنا في الكتَّاب فقال لي: إكشف عن بطنك ، فكشفت ، فألصق بطنه ببطني ثم قال: أمرني رسول الله أن أقرئك منه السلام . قال ابن عدي: لا أعلم رواه عن أبان غير المفضل بن صالح أبي جميلة النحاس) . وأوسط الطبراني:6/13. والمعقول فيه ما رواه اليعقوبي:2/320: (حتى رآه فوقع عليه يقبل يديه ورجليه ، ويقول: بأبي وأمي شبيه أبيه صلى الله عليه وآله ) .
ومع أن الذهبي ضعَّف الحديث كغيره من النقاد ، لكنه غمض عينيه عن أصله الصحيح المروي في كتب العلماء قبله ، كبشارة المصطفى لمحمد بن علي الطبري/113 ، وهو من علماء القرن الرابع ، والذهبي من القرن الثامن ! وجاء فيه: (فأتى جابر بن عبد الله باب علي بن الحسين ، وبالباب أبو جعفر محمد بن علي في أغيلمة من بني هاشم قد اجتمعوا هناك ، فنظر جابر بن عبد الله إليه مقبلاً فقال: هذه مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسمته ، فمن أنت يا غلام؟ قال: أنا محمد بن علي بن الحسين ، فبكى جابر وقال: أنت والله الباقر عن العلم حقاً ، أدنُ مني بأبي أنت ، فدنا منه فحل جابر أزراره ثم وضع يده على صدره فقبله وجعل عليه خده ووجهه ، وقال: أقرؤك عن جدك رسول الله السلام ، وقد أمرني أن أفعل بك ما فعلت ، وقال لي: يوشك أن تعيش وتبقى حتى تلقى من ولدي من اسمه محمد بن علي ، يبقر العلم بقراً ) . انتهى.
ويظهر أن ما نسبه حديث الذهبي الى جابر ، محرَّفٌ عن حديث مشابه لأبي هريرة رواه الحاكم:3/168، وصححه ، وأحمد:2/427 ، أن (أبا هريرة لقي الحسن فقال له إكشف عن بطنك حتى أقبل حيث رأيت رسول الله (ص) يقبِّل منه . قال: فكشف عن بطنه فقبَّله) . وتاريخ دمشق:13/220، وقال في الزوائد:9/177: رواه أحمد والطبراني.. ورجالهما رجال الصحيح ، غير عمير بن إسحاق وهو ثقة) .
ثم إن الحديث الذي رووه وضعفوه بالمفضل النحاس أو النخاس ، مروي بواسطة آخرين عن أبان بن تغلب رحمه الله ، وأبان من كبار القراء والمحدثين ، ومروياته معروفة لأمثال الذهبي ، وقد ترجمت له المصادر الرجالية الشيعية والسنية وترجم له الذهبي في الكاشف:1/205،وقال: ثقة ، شيعي . وفي سير أعلام النبلاء:6/308 ، وقال: (أبان بن تغلب الإمام المقرئ أبو سعد... وهو صدوق في نفسه ، عالم كبير ، وبدعته خفيفة ، لا يتعرض للكبار ، وحديثه يكون نحو المئة ، لم يخرج له البخاري ، توفي في سنة إحدى وأربعين ومئة) .
وقال عنه في ميزان الإعتدال:1/5: (شيعي جلد ، لكنه صدوق ، فلنا صدقه وعليه بدعته . وقد وثقه أحمد بن حنبل ، وابن معين ، وأبو حاتم . وأورده ابن عدي وقال: كان غالياً في التشيع . وقال السعدي: زائغ مجاهر . فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع وحد الثقة العدالة والاتقان ؟ فكيف يكون عدلا من هو صاحب بدعة ؟ وجوابه أن البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيع ، أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف ، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق . فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية ، وهذه مفسدة بينة . ثم بدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه ، والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والدعاء إلى ذلك ، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة) .
راجع رواية أبان في تسمية النبي صلى الله عليه وآله للإمام بالباقر عليه السلام في الكافي:1/469 ، وفي ترجمته في رجال الطوسي:1/217، وقد نقل الذهبي عن هذا الكتاب في مؤلفاته كثيراً .
4- ولم يكتف الذهبي بما فعله ، حتى انتقص من الإمام الباقر عليه السلام وطعن فيه ، بل طعن في قول النبي صلى الله عليه وآله وتسميته إياه باقر العلم عليه السلام ! فكأن الذهبي يقول: نعم أرسل النبي سلامه الى حفيده الباقر ، وقد يكون سماه باقر العلم لكن قوله صلى الله عليه وآله لم يتحقق مع الأسف ! فلم يبقر محمد بن علي علم الأنبياء عليهم السلام ولاشق علوم القرآن لأن الإمام ابن كثير زميل الذهبي كتب في التفسير أفضل مما بينه محمد الباقر عليه السلام ، كما أن الباقر لم يشق علم الفقه والشريعة ، لأن ربيعة الرأي وأبا الزناد أعلم منه في الفقه ! وأبو الزناد ابن أخ أبي لؤلؤة قاتل عمر. (كاشف الذهبي:1/549) .
5- ثم أفاض الذهبي في موقف الإمام الباقر وابنه الإمام الصادقعليهما السلام من أبي بكر وعمر ، وروى مكذوبات عليهما في مديحهما ، كما سيأتي !
7- ابن تيمية فهم لقب الباقر عليه السلام أكثر من الذهبي
فهم ابن تيمية مدلول تسمية النبي صلى الله عليه وآله لحفيده بالباقر عليه السلام ، وقدر لوازمها أكثر من الذهبي ، ولذلك بادر الى تكذيب الحديث بدون أن يراجعه !
قال السيد الميلاني في دراسات في منهاج السنة/367 ، ما خلاصته:(ذكرنا طرفاً من كلمات أعلام أهل السنة المتقدمين منهم والمتأخرين في مدح الأئمة عليهم السلام والإعتراف بفضائلهم ومناقبهم... إلا أنك تجد في المقابل من يتجاسر على أهل البيت عليهم السلام ويحط من شأنهم ويكذب عليهم.. حتى أن قائلاً منهم قال إن الحسين عليه السلام قتل بسيف جده صلى الله عليه وآله ! وبعضهم قدح في وثاقة بعض الأئمة الأطهار عليهم السلام وقال إن في نفسه منه شيئاً ! ولعل أشهر هؤلاء ابن تيمية ، فقد أطلق في كتابه لسانه البذئ عليهم ، فحاول سلبهم فضائلهم كلها ، وجعلهم كأناس عاديين لا يجوز تفضيلهم بعلم ولا زهد ، بل كذب وافترى عليهم ! وقد ردَّ أن أبا حنيفة درس عند الإمام الصادق عليه السلام ، وادعي أن الإمام السجادعليه السلام تعلم من مروان بن الحكم ! وتراه يعظم الجنيد وسهلاً التستري وأمثالهما ويصفهم بالزهد بينما ينفي أن يكون الحسن والحسينعليهما السلام أزهد الناس في عصرهما ! ويكذِّب أن النبي صلى الله عليه وآله لقب أحدهم "زين العابدين" وأحدهم "الباقر" وينفي حتى توبة "بشر الحافي" بواسطة أحدهم ، وأن معروفاً الكرخي كان خادماً لأحدهم ! فحتى مثل هذه الأمور لم يتحملها ابن تيمية !
ثم ذكر السيد الميلاني نفي ابن تيمية حديث تسمية النبي صلى الله عليه وآله للإمام بالباقر ، فقد قال في منهاج السنة:4/51: (لا أصل له عند أهل العلم ، بل هو من الأحاديث الموضوعة ، وكذلك حديث تبليغ جابر له السلام ، هو من الموضوعات عند أهل العلم بالحديث) .ثم رد عليه السيد الميلاني برواية ابن قتيبة في احتجاج زيد عليه السلام على هشام وبقول ابن شهراشوب: (حديث جابر مشهور معروف ، رواه فقهاء المدينة والعراق كلهم) . ثم تعجب من زعم ابن تيمية أن الزهري أعلم من الإمام الباقر عليه السلام ، وأنه أخذ العلم من أبي هريرة ! وإنكاره تعلم أبي حنيفة من الصادق عليه السلام حتى مسألة واحدة ، مع اعتراف علماء قومه بتتلمذه على الإمام عليه السلام . قال ابن تيمية: (وكان علي بن الحسين وابنه أبو جعفر وابنه جعفر بن محمد ، يعلمون الناس ما علمهم الله ، كما علمه علماء زمانهم ، وكان في زمنهم من هو أعلم منهم وأنفع للأمة) . ثم تساءل السيد الميلاني: فمن هذا الأعلم والأنفع ؟ لا بد أنه يقصد الزهري! ثم يقول: " وفي الاثني عشر من هو مشهور بالعلم والدين ، كعلي بن الحسين وابنه أبي جعفر ، وابنه جعفر بن محمد . وهؤلاء لهم حكم أمثالهم ، ففي الأمة خلق كثير مثل هؤلاء وأفضل منهم) !
لكنه لم يذكر أحداً من هذا الخلق الكثير ! ثم نقد قول ابن تيمية إن الأئمة عليهم السلام كانوا يتعلمون من علماء زمانهم ، واستدلاله الركيك على ذلك !
قال ابن تيمية: ( ومن المعلوم أن علي بن الحسين وأبا جعفر محمد بن علي وابنه جعفر بن محمد ، كانوا هم العلماء الفضلاء ، وأن من بعدهم من الإثني عشر لم يعرف عنه من العلم ما عرف من هؤلاء . ومع هذا فكانوا يتعلمون من علماء زمانهم ويرجعون إليهم ، حتى قال أبو عمران بن الأسس القاضي البغدادي: أخبرنا أصحابنا أنه ذكر ربيعة بن أبي عبد الرحمن جعفر بن محمد وأنه تعلم العلوم ، فقال ربيعة: إنه اشترى حائطاً من حيطان المدينة ، فبعث إلي حتى أكتب له شرطاً في ابتياعه . نقله عنه محمد بن حاتم ابن ريحوته البخاري ، في كتاب إثبات إمامة الصديق) ! انتهى. ولم يعرف حتى شراح ابن تيمية من هو أبوعمران الأسس ، ولا ابن ريحوتة البخاري ، ولا كتابه في إمامة أبي بكر ، ولا طلب الإمام الصادق عليه السلام من ربيعة أن يكتب له وثيقة شراء البستان !
وختم السيد الميلاني بقوله: (فبالله عليك ! هل هذا استدلال عاقل فاهم ، على أن هؤلاء الأئمة كانوا يتعلمون من علماء زمانهم ويرجعون إليهم)؟!
ولعل ابن تيمية شعر بأنه أفرط في تحامله على أئمة أهل البيت عليهم السلام فقال في منهاجه:4/110، كالمعتذر عن عدم روايتهم عنهم ، وتفضيل نكرات في العلم والفقه عليهم: ( لكن المنقول الثابت عن بعض هؤلاء من الحديث والفتيا قد يكون أكثر من المنقول الثابت عن الآخر ، فتكون شهرته لكثرة علمه أو لقوة حجته أو نحو ذلك . وإلا فلا يقول أهل السنة إن يحيى بن سعيد وهشام بن عروة وأبا الزناد أولى بالإتباع من جعفر بن محمد ، ولا يقولون إن الزهري ويحيى بن أبي كثير وحماد بن أبي سليمان ومنصور بن المعتمر أولى بالاتباع من أبيه أبي جعفر الباقر ، ولا يقولون إن القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله أولى بالإتباع من على بن الحسين ، بل كل واحد من هؤلاء ثقة فيما ينقله مصدق في ذلك) .
تابع السيد الميلاني:لكن كلامه هذا لايجبر ماكسره في الإنتقاص من مقامهم عليهم السلام وهو كثير حتى حكم عليه بعض علماء المذاهب بأنه ناصبي مبغض لعلي عليه السلام ) ! انتهى.
أقول: للذهبي كلام من نوع كلام ابن تيمية هذا ، يحاول فيه جبر انتقاصه لحقهم ، كالذي فقد قال في سيره:13/120
وكذلك ابنه أبو جعفر الباقر: سيدٌ ، إمام ، فقيه ، يصلح للخلافة .
وكذا ولده جعفر الصادق: كبير الشأن من أئمة العلم ، كان أولى بالأمر من أبي جعفر المنصور . وكان ولده موسى كبير القدر جيد العلم ، أولى بالخلافة من هارون ، وله نظراء في الشرف والفضل .
وابنه علي بن موسى الرضا كبير الشأن له علم وبيان ووقع في النفوس ، صيره المأمون ولي عهده لجلالته ، فتوفي سنة ثلاث ومئتين . وابنه محمد الجواد من سادة قومه ، لم يبلغ رتبة آبائه في العلم والفقه . وكذلك ولده الملقب بالهادي شريف جليل . وكذلك ابنه الحسن بن علي العسكري . رحمهم الله تعالى) .
لكن ملاحظة ما فعله الذهبي من التحريف والتزوير لانتقاص حقوق أئمة العترة النبوية عليهم السلام ، تكشف عن أن كلامه هذا للتغطية لا أكثر !
كيف ضيعت السلطة وأتباعها
علم العترة النبوية عليهم السلام ؟
1- أجيالٌ من الرواة والعلماء
خَرَّجَها الإمامان الباقر والصادق عليهما السلام
لايمكن إحصاء تلاميذ الإمامين الباقرين عليهما السلام ، كما أن ترجمة المعروفين منهم تحتاج الى مجلدات ! ويكفي أن تعرف أن ابن عقدة رحمه الله ألف كتاباً من عدة مجلدات ، أورد فيه أربعة آلاف عالم وطالب رووا عن الإمام الصادق عليه السلام ، وذكر بعد كل واحد منهم ما رواه ! قال العلامة الحلي في ترجمته في خلاصة الأقوال/322: ( له كتب ذكرناها في كتابنا الكبير ، منها كتاب أسماء الرجال الذين رووا عن الصادق عليه السلام أربعة آلاف رجل ، وأخرج فيه لكل رجل الحديث الذي رواه ، مات بالكوفة سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة) . انتهى.
وقد روينا قسماً كبيراً من فقهنا وعقائدنا وثقافتنا عن الإمامين محمد الباقر وابنه جعفر الصادق عليهما السلام حتى عرف مذهبنا بالمذهب الجعفري . واليك حجم ما رواه بعض تلاميذهما عليهما السلام : ففي رجال النجاشي/12، (عن سليم بن أبي حية قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فلما أردت أن أفارقه ودعته وقلت: أحب أن تزودني ، فقال: أنت أبان بن تغلب فإنه قد سمع مني حديثاً كثيراً ، فما روى لك فاروه عني .
وقال عليه السلام لأبان بن عثمان: (إن أبان بن تغلب روى عني ثلاثين ألف حديث ، فاروها عنه) . وفي رجال ابن داود/29: ( قال له أبو جعفر عليه السلام : أجلس في مسجد الكوفة وأفت الناس ، إني أحب أن يرى في شيعتي مثلك . وكان إذا دخل على أبي عبد الله ثنى له وسادة وصافحه ، وكان إذا قدم المدينة تقوضت إليه الحلق وأخليت له سارية النبي صلى الله عليه وآله . مات سنة إحدى وأربعين ومائة ، وترحم عليه أبو عبد الله عليه السلام وقال: لقد أوجع قلبي موت أبان ! وكان قد أخبره بموته ) .
وفي رجال الطوسي:1/386 ، عن محمد بن مسلم الثقفي رحمه الله قال: ما شجر في رأيي شئ قط الا سألت عنه أبا جعفر عليه السلام حتى سألته عن ثلاثين ألف حديث ، وسألت أبا عبد الله عليه السلام ، عن ستة عشر ألف حديث) .
وقال السيد الخوئي في كتاب الإجتهاد والتقليد/15: (حتى أن أبان بن تغلب وهو راو واحد حدَّثَ عن أبي عبد الله عليه السلام بثلاثين ألف حديث . وتظافر النقل أن أربعة آلاف رجل من المشتهرين بالعلم جمعوا من أجوبة مسائله أربعمائة كتاب عرفت بالأصول الأربعمائة ، كلهم من أهل العراق والحجاز والشام وخراسان . وهذا غير ما دون عن السجاد والباقر والأئمة بعد الصادق عليهم السلام ، فقد جمع أصحابهم فيما تحملوه من أحاديثهم ما يزيد على الأصول الأربعمائة بكثير ، ولم تزل تلكم الأحاديث محتفظاً بها في موسوعات هامة كالأصول الأربعة) .
وفي رجال الطوسي:2/438 ، عن ذريح المحاربي قال: ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن جابر الجعفي وما روى فلم يجبني ، فسألته الثالثة؟ فقال لي: يا ذريح دع ذكر جابر ، فإن السفلة إذا سمعوا بأحاديثه شنعوا... عن جابر رحمه الله قال: حدثني أبو جعفر بسبعين ألف حديث لم أحدث بها أحداً قط ، ولا أحدث بها أحداً أبداً ، قال جابر: فقلت لأبي جعفر: جعلت فداك إنك قد حملتني وقراً عظيماً بما حدثتني به من سركم الذي لا أحدث به أحداً ، فربما جاش في صدري حتى يأخذني منه شبه الجنون ، قال: يا جابر فإذا كان ذلك فاخرج إلى الجبان فاحفر حفيرة ودلِّ رأسك فيها ثم قل: حدثني محمد بن علي بكذا وكذا ) .
قال أبو جعفر عليه السلام : (يا جابر حديثنا صعب مستصعب ، أمرد ، ذكوار ، وعر ، أجرد ، لا يحتمله والله إلا نبي مرسل ، أو ملك مقرب ، أو مؤمن ممتحن ، فإذا ورد عليك يا جابر شئ من أمرنا فلان له قلبك فاحمد الله ، وان أنكرته فرده إلينا أهل البيت ، ولا تقل كيف جاء هذا ، وكيف كان وكيف هو ، فإن هذا والله الشرك بالله العظيم . وقال جابر رحمه الله : دفع إليَّ (الباقر عليه السلام )كتاباً وقال لي: إن أنت حدثت به حتى تهلك بنو أمية فعليك لعنتي ولعنة آبائي ، وإذا أنت كتمت منه شيئاً بعد هلاك بني أمية فعليك لعنتي ولعنة آبائي ، ثم دفع إليَّ كتاباً آخر ، ثم قال: وهاك هذا ، فإن حدثت بشئ منه أبداً فعليك لعنتي ولعنة آبائي) !
أقول: في الحديث الأخير إخبار بأن زوال ملك بني أمية سيكون في حياة جابر بن يزيد الجعفي رحمه الله ، وهذا ما حصل ، وهو من معجزات الإمام الباقر عليه السلام !
ومعنى أن حديثهم عليهم السلام صعب مستصعب.. أنه صعب بذاته على الفهم العادي للناس ، مستصعب على بعض الأذهان والقلوب ، وهو يشبه العود الأمرد الذي لاورق له ليمسك به ، والذكوار مثل المذكار ، يقال حديد مذكر ومؤنث ، وسيف مذكار وذكر ، أي صلب حاد الشفرة صارم ، والحديث الذكوار هو الصلب الصارم ، كما أن حديثهم عليهم السلام يشبه الأرض الوعرة على سالكها ، ويشبه في ظاهره الأرض الجرداء من النبات ! فهو يحتاج الى يقين بأنه من الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله ، يوجب تعقله والتعبد بقبوله ، ولذا يصعب الإيمان به إلا على الأنبياء والملائكة عليهم السلام ، والمؤمنين الذين امتحن الله قلوبهم للإيمان .
وأصل الحديث لأمير المؤمنين عليه السلام كما في الدر النظيم/616، قال الإمام الباقر عليه السلام : (يا أبا الربيع حديث تمضغه الشيعة بألسنتها لا تدري ما كنهه ! قلت: ما هو؟ قال: قول علي بن أبي طالب عليه السلام : أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان . يا أبا الربيع ، ألا ترى أنه يكون ملك ولا يكون مقرباً ، ولا يحتمله إلا المقرب ، وقد يكون نبي وليس بمرسل فلا يحتمله إلا المرسل ، وقد يكون مؤمن وليس بممتحن فلا يحتمله إلا مؤمن قد امتحن الله قلبه للإيمان ) !
2- شهادات علمائهم بأن الباقر عليه السلام
قد نشر علمه !
ذكرنا في الفصل الثاني شهادات عدد من أئمة الفقه والحديث السنيين ، بعلم الإمام الباقر عليه السلام وقداسته . وهذه بعض شهاداتهم في أنه عليه السلام نشر علمه !
قال مسلم في صحيحه:1/15: ( سمعت جريراً يقول: لقيت جابر بن يزيد الجعفي فلم أكتب عنه . كان يؤمن بالرجعة.. سمعت جابراً يقول عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر عن النبي (ص) كلها.. قال جابر: إن عندي لخمسين ألف حديث ما حدثت منها بشئ ! قال ثم حدث يوماً بحديث فقال هذا من الخمسين ألفاً...حدثنا سفيان قال سمعت جابراً يحدث بنحو من ثلاثين ألف حديث ، ما أستحل أن أذكر منها شيئاً وأن لي كذا وكذا ) !
وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب:9/311: (الستة: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي ، أبو جعفر الباقر ، أمه بنت الحسن بن علي بن أبي طالب.. روى عنه ابنه جعفر ، وإسحاق السبيعي ، والأعرج ، والزهري ، وعمرو بن دينار ، وأبو جهضم موسى بن سالم ، والقاسم بن الفضل ، والأوزاعي ، وابن جريج ، والأعمش ، وشيبة ابن نصاح ، وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم وعبد الله بن عطاء ، وبسام الصيرفي ، وحرب بن سريج ، وحجاج بن أرطاة ومحمد بن سوقة ، ومكحول بن راشد ، ومعمر بن يحيى بن بسام ، وآخرون . قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث ، وليس يروي عنه من يحتج به . وقال العجلي: مدني تابعي ثقة.. ) .
وقال المزي في تهذيب الكمال:26/136: ( محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي ، أبو جعفر الباقر.. روى عنه: أبان بن تغلب الكوفي ، وأبيض بن أبان ، وبسام الصيرفي (س) وأبو حمزة ثابت بن أبي صفية الثمالي (ت) وجابر بن يزيد الجعفي ، وابنه جعفر بن محمد الصادق (بخ/4) والحجاج بن أرطاة ، وحرب بن سريج (عس) والحكم بن عتيبة ، وربيعة بن أبي عبد الرحمان وسدير بن حكيم بن صهيب والد حنان بن سدير الصيرفي ، وسليمان الأعمش (قد) وشيبة بن نصاح (س) وعبد الله بن أبي بكر بن حزم (ت) وعبد الله بن عطاء ، وعبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ، وعبد الرحمان بن طلحة الخزاعي (عس) إن كان محفوظاً ، وعبد الرحمان بن عمرو الأوزاعي (م) وعبد الرحمان بن هرمز الأعرج وهو أسن منه ، وعبد الملك بن جريج ، وعبيد الله بن طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي (د) على خلاف فيه ، وعبيد الله بن الوليد الوصافي ، وعطاء بن أبي رباح ، وعلقمة بن مرثد (س) وعمرو بن دينار (خ م د س) والقاسم بن الفضل الحداني (ق) وقرة بن خالد السدوسي ، وكثير النواء ، وليث بن أبي سليم ومحمد بن سوقة (ق) ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، ومخول بن راشد (خ س) ومعمر بن يحيى بن سام (خ) ، وأبو جهضم موسى ابن سالم (س) ، وموسى بن عمير القرشي ، وواصل مولى أبي عيينة (د) ويحيى بن أبي كثير ، ويحيى الكندي (خت)وأبو إسحاق السبيعي (خ) .
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ:1/124: (محمد بن علي بن الحسين ، الإمام الثبت الهاشمي العلوي المدني ، أحد الاعلام . حدث عنه ابنه جعفر بن محمد ، وعمرو بن دينار ، والأعمش والأوزاعي ، وابن جريج ، وقرة بن خالد ، وخلقٌ.. ) .
وقال في سيره:4/401: (وليس هو بالمكثر ، هو في الرواية كأبيه وابنه جعفر ، ثلاثتهم لا يبلغ حديث كل واحد منهم جزءً ضخماً ، ولكن لهم مسائل وفتاو! حدث عنه ابنه وعطاء بن أبي رياح والأعرج مع تقدمهما ، وعمرو ابن دينار ، وأبو إسحاق السبيعي ، والزهري ، ويحيى بن أبي كثير ، وربيعة الرأي ، وليث بن أبي سليم، وابن جريج، وقرة بن خالد، وحجاج بن أرطاة، والأعمش، ومخول بن راشد، وحرب بن سريج، والقاسم بن الفضل الحداني، والأوزاعي ، وآخرون...
وكان أحد من جمع بين العلم والعمل والسؤدد والشرف والثقة والرزانة ، وكان أهلا للخلافة . وهو أحد الأئمة الاثني عشر الذين تبجلهم الشيعة الإمامية وتقول بعصمتهم وبمعرفتهم بجميع الدين ) . انتهى.
قال الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء:3/192: (عمرو بن المقدام قال: كنت إذا نظرت الى أبي جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين) .
3- طبقات أصحاب الإمامين الباقرين عليهما السلام
وثروة كتبهم العظيمة
قال الحر العاملي رحمه الله في وسائل الشيعة لتحصيل علوم الشريعة:20/79:
(الفائدة السابعة: في ذكر أصحاب الإجماع وأمثالهم ، كأصحاب الأصول ونحوهم ، والجماعة الذين وثقهم الأئمة عليهم السلام وأثنوا عليهم وأمروا بالرجوع إليهم والعمل برواياتهم ، والذين عُرفت عدالتهم بالتواتر ، فيحصل بوجودهم في السند قرينة توجب ثبوت النقل والوثوق وإن رووا بواسطة . قال الشيخ الثقة الجليل أبو عمرو الكشي في كتاب الرجال ماهذا لفظه: أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأولين من أصحاب أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام وانقادوا لهم بالفقه فقالوا: أفقه الأولين ستة: زرارة ومعروف بن خربوذ ، وبريد ، وأبو بصير الأسدي ، والفضيل بن يسار ، ومحمد بن مسلم الطائفي . قالوا: وأفقه الستة زرارة ، وقال بعضهم مكان أبي بصير الأسدي: أبو بصير المرادي وهو ليث بن البختري.انتهى. ثم أورد أحاديث كثيرة في مدحهم وجلالتهم وعلو منزلتهم والأمر بالرجوع إليهم ، تقدم بعضها في كتاب القضاء . ثم قال: تسمية الفقهاء من أصحاب أبي عبد الله عليه السلام : أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عن هؤلاء وتصديقهم لما يقولون وأقروا لهم بالفقه من دون أولئك الستة الذين عددناهم وسميناهم ستة نفر: جميل بن دراج وعبد الله بن مسكان ، وعبد الله بن بكير ، وحماد بن عيسى ، وحماد بن عثمان ، وأبان بن عثمان قالوا: وزعم أبو إسحاق الفقيه يعني ثعلبة بن ميمون أن أفقه هؤلاء جميل بن دراج ، وهم أحداث أصحاب أبي عبد الله عليه السلام .
ثم قال بعد ذلك: تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم ، وأبي الحسن الرضا: أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عن هؤلاء وتصديقهم وأقروا لهم بالفقه والعلم وهم ستة نفر آخرين... ثم ذكر أكثر من ثمانين مؤلفاً للأصول من أصحاب الأئمة عليهم السلام ... وأما الجماعة الذين وثقهم الأئمة عليهم السلام وأثنوا عليهم وأمروا بالرجوع إليهم والعمل برواياتهم ، ونصبوهم وكلاء وجعلوهم مرجعاً للشيعة ، فهم كثيرون ونحن نذكر جملة منهم... ومما يؤيد قول الشهيد الثاني إنه قد نقل حصول وضع الحديث في زمان ظهور الأئمة عليهم السلام من بعض الضعفاء ، وكان الثقات يعرضون ما يشكون فيه على الأئمة عليهم السلام وعلى الكتب المعتمدة ، وكان الأئمة يخبرونهم بالحديث الموضوع ابتداء غالباً، ولم ينقل أنه وقع وضع حديث في زمان الغيبة من أحد من مشهوري الشيعة ونسب إلى الأئمة عليهم السلام أصلاً) .
هذا ، وقد أطلق أهل البيت عليهم السلام على بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وأصحابهم إسم (الحواريين) ، ففي رجال الطوسي:1/39 ، عن الإمام الكاظم عليه السلام قال: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين حواري محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وآله الذين لم ينقضوا العهد ومضوا عليه؟ فيقوم سلمان والمقداد وأبو ذر ؟ ثم ينادي مناد أين حواري علي بن أبي طالب عليه السلام وصي محمد بن عبد الله رسول الله ؟ فيقوم عمرو بن الحمق الخزاعي ومحمد بن أبي بكر وميثم بن يحيى التمار مولى بني أسد وأويس القرني . قال: ثم ينادي المنادي: أين حواري الحسن بن علي بن فاطمة بنت محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فيقوم سفيان بن أبي ليلى الهمداني وحذيفة بن أسيد الغفاري . قال: ثم ينادي المنادي أين حواري الحسين بن علي عليه السلام ؟ فيقوم كل من استشهد معه ولم يتخلف عنه . قال ، ثم ينادي المنادي أين حواري علي بن الحسين عليه السلام ؟ فيقوم جبير بن مطعم ويحيى بن أم الطويل وأبو خالد الكابلي وسعيد بن المسيب . ثم ينادي المنادي: أين حواري محمد بن علي وحواري جعفر بن محمد عليهما السلام ؟ فيقوم عبد الله بن شريك العامري وزرارة بن أعين وبريد بن معاوية العجلي ومحمد بن مسلم وأبو بصير ليث بن البختري المرادي وعبد الله بن أبي يعفور وعامر بن عبد الله بن جداعة وحجر بن زائدة وحمران بن أعين . ثم ينادي سائر الشيعة مع سائر الأئمة عليهم السلام يوم القيامة ، فهؤلاء المتحورة أول السابقين ، وأول المقربين ، وأول المتحورين من التابعين) .
قال الكشي في رجاله تحت عنوان: تسمية أصحاب أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام : أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأولين من أصحاب أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام وانقادوا لهم بالفقه فقالوا: أفقه الأولين ستة: زرارة ، ومعروف بن خربوذ ، وبريد ، وأبو بصير الأسدي ، والفضيل بن يسار ، ومحمد بن مسلم الطائفي . قالوا: وأفقه الستة: زرارة ، وقال بعضهم مكان أبي بصير الأسدي: أبو بصير المرادي ، وهو ليث البختري . وقال تحت عنوان: تسمية الفقهاء من أصحاب أبي عبد الله عليه السلام : أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عن هؤلاء وتصديقهم لما يقولون وأقروا لهم بالفقه ، من دون أولئك الستة الذين عددناهم وسميناهم ، ستة نفر: جميل بن دراج وعبد الله بن مسكان وعبد الله بن بكير وحماد بن عيسى وحماد بن عثمان وأبان بن عثمان . قالوا: وزعم أبو إسحاق الفقيه يعني ثعلبة بن ميمون أن أفقه هؤلاء جميل بن دراج . وهم أحداث أصحاب أبي عبد الله عليه السلام .
وقال تحت عنوان: تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم وأبي الحسن الرضا عليهما السلام : أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عن هؤلاء وتصديقهم ، وأقروا لهم بالفقه والعلم، وهم ستة نفر أخر دون الستة نفر الذين ذكرناهم في أصحاب أبي عبد الله عليه السلام ، منهم: يونس بن عبد الرحمن ، وصفوان بن يحيى بياع السابري ومحمد ابن أبي عمير ، وعبد الله بن المغيرة ، والحسن بن محبوب ، وأحمد بن محمد بن أبي نصر . قال بعضهم مكان الحسن بن محبوب: الحسن بن علي بن فضال ، وفضالة بن أيوب . وقال بعضهم مكان ابن فضال: عثمان بن عيسى . وأفقه هؤلاء: يونس بن عبد الرحمن وصفوان بن يحيى . وهؤلاء الثمانية عشر هم المعبر عنهم بأصحاب الإجماع .
4- يقدسون الأئمة عليهم السلام
ويشهدون بأنهم أعلم ولا يروون عنهم !
تقدم في سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام أن تلميذه الزهري كان يذوب فيه حباً وتقديساً ، ويشهد بأنه أفقه من رآه ، لكنه لما اختاره البلاط الأموي وكلفوه أن يكتب لهم السنة لينشروها في الناس، لم يحدث عن أستاذه الإمام عليه السلام ولا عن أهل البيت عليهم السلام إرضاءً لبني أمية ! وقد عوتب على ذلك فقال كاذباً إن الإمام زين العابدين عليه السلام قليل الحديث ! (عن معمر قال: قلت للزهري: مالك لا تكثر الرواية عن علي بن حسين؟ فقال: كنت أكثر مجالسته ولكنه كان قليل الحديث) . (تاريخ دمشق:41/376) . ( ابن عيينة عن الزهري قال: كان أكثر مجالستي مع علي بن الحسين ، وما رأيت أحداً كان أفقه منه ، ولكنه كان قليل الحديث) . (سير الذهبي:4/389 ، وتهذيب الكمال:20/382 ، وتاريخ الإسلام:6/435 ، والنهاية:9/124، وعامة من ترجم له من السنيين ) .
وقلنا كذب الزهري ! لأن شهد بأن زين العابدين عليه السلام أفقه الناس في عصره والفقه مبني على الكتاب والسنة ، فكيف يكون أفقه أهل عصره قليلَ الحديث ؟! بل سمع الزهري من الإمام عليه السلام الكثير وكتبه ، لكنه أخفاه ولم يحدث به خوفاً من أسياده !
قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم:1/76: (سمعت ابن شهاب يحدث سعد بن إبراهيم: أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن ، فكتبناها دفتراً دفتراً ، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتراً ) . (قال علي بن المديني: له (الزهري) نحوٌ من ألفي حديث. وقال أبو داود: حديثه ألفان ومئتا حديث ) . (سير الذهبي:5/328) .
إن هذا الموقف من الزهري والسلطة ، يضع يدك على خط الإنحراف عن أهل البيت عليهم السلام ! ونفس السياسة استعملوها مع الإمام الباقر عليه السلام مع أن علماهم شهدوا بأنه نشر علمه كما أخبر جده صلى الله عليه وآله حيث سماه باقر علم النبوة .
وهذه ملاحظات أخرى على الموضوع:
1- من التناقضات الناطقة عند مخالفي أهل البيت عليهم السلام أنهم يقولون إنهم يحبونهم ويطيعون فيهم وصية النبي صلى الله عليه وآله : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروني بمَ تخلفوني فيهما . (مسند أحمد:3/17) . فإذا وصلوا الى تلقي دينهم منهم أعرضوا ونفروا !
وتحججوا تارة ، بأنهم رووا عنهم بضعة أحاديث ، كما رأيت في كلام ابن حجر في ترجمة الإمام الباقر عليه السلام في تهذيب التهذيب وقوله روى عنه الستة ، مع أن مجموع ما رووه عنه لايبلغ مئتي حديث ! فأين الخمسون ألف حديث التي رواها عنه جابر الجعفي وحده ! وهي تبلغ عشرة أضعاف كتاب صحيح بخاري ، الذي لا تزيد أحاديثه إذا حذفت مكرراتها عن أربعة آلاف حديث ؟!
وتحججوا أخرى ، بكذبة الزهري المتقدمة بأن الإمام زين العابدين عليه السلام قليل الحديث ، مع أنه شهد بأنه أفقه من رأى ، ولا فقه بدون حديث عن النبي صلى الله عليه وآله ! ومثلها كذبة الذهبي الآنفة في سيره: (وليس هو بالمكثر ، هو في الرواية كأبيه وابنه جعفر ، ثلاثتهم لا يبلغ حديث كل واحد منهم جزءً ضخماً ولكن لهم مسائل وفتاو) ! مع أن الذهبي قرأ ما قاله ابن حجر وابن سعد: (كان ثقة كثير الحديث ، وليس يروي عنه من يحتج به) ! (تهذيب التهذيب:9/311) .
وتحججوا ثالثة: بأنه لا يروي عنه ثقات يحتج بهم ، وقد يكون هذا مقصود الذهبي ! ويكفي في تكذيبهم أنهم وثقوا جابراً الجعفي الذي روى عن الإمام الباقر عليه السلام خمسين ألف حديث أو سبعين ألفاً ! ووثقوا أبان بن تغلب الذي روى عن ولده الصادق عليه السلام ثلاثين ألف حديث ! ووثقوا الأعمش وهو يروي أربعة آلاف حديث ! (جامع بيان العلم لابن عبد البر:2/34) . ووثقوا ابن عقدة وقد روى عن أهل البيت عليهم السلام مئتي ألف حديث ! (الصوارم المهرقة للشهيد التستري/214، وغيره ) . ومحمد بن مسلم الثقفي (وثقه ابن حبان:9/36) وقد روى عن الباقر والصادق عليهما السلام ستاً وأربعين ألف حديث ! فكم رووا عن هؤلاء الذين وثقوهم ، وبعضهم عندهم أئمة أجلاء؟!
2- يتضح لك مما تقدم كيف ضيَّع أتباع الحكومات القرشية ورواتها ثروة السنة النبوية التي رواها أهل البيت عليهم السلام ، بعد أن ضيعوا السنة بمنع تدوينها ومجرد التحديث بها وجعله جريمة يعاقب فاعلها ، من عهد أبي بكر الى زمن الزهري !
ثم لم يكتفوا بالإعراض عن أحاديث أهل البيت عليهم السلام حتى اضطهدوا رواتها والمؤلفين فيها ، والمتداولين بها ، وطاردوهم وقتلوهم ! فكيف نصدق قولهم إنهم يحبون أهل البيت عليهم السلام ويطيعون وصية نبيهم صلى الله عليه وآله فيهم !
وما الفرق بين هؤلاء العلماء والخلفاء ، وبين جيش يزيد الذين سفكوا دم الحسين وأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ، ثم صلوا في صلاتهم على النبي وأهل بيته عليهم السلام فقد كانوا يقولون إنهم يحبونهم ويطيعون وصية نبيهم فيهم !!
قال السيد ابن طاووس رحمه الله في الطرائف/191: (أنظر رحمك كيف حرموا أنفسهم الإنتفاع برواية سبعين ألف حديث عن نبيهم صلى الله عليه وآله برواية أبي جعفر عليه السلام ، الذي هو من أعيان أهل بيته الذين أمرهم بالتمسك بهم) . انتهى.
أقول: وأسوأ منه أن بعض أئمتهم أراد أن يبرر إعراضه عن أهل البيت عليهم السلام فطعن فيهم ولم يستطع أن يخفي كرهه لهم ! فقال إن في نفسه شيئاً من الإمام جعفر الصادق عليه السلام ! قال ابن حجر في تهذيب التهذيب:2/88 في ترجمته عليه السلام : (قال ابن أبي حاتم عن أبيه ثقة لا يسأل عن مثله... وقال ابن سعد: كان كثير الحديث ولا يحتج به ويستضعف ! سئل مرة سمعت هذه الأحاديث من أبيك؟ فقال: نعم ، وسئل مرة فقال: إنما وجدتها في كتبه . قلت: يحتمل أن يكون السؤالان وقعا عن أحاديث مختلفة فذكر فيما سمعه أنه سمعه ، وفيما لم يسمعه أنه وجده ، وهذا يدل على تثبته . وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان من سادات أهل البيت فقهاً وعلماً وفضلاً . يحتج بحديثه من غير رواية أولاده عنه ! وقد اعتبرت حديث الثقات عنه فرأيت أحاديث مستقيمة ليس فيها شئ يخالف حديث الإثبات ، ومن المحال أن يلصق به ما جناه غيره . وقال الساجي كان صدوقاً مأموناً ، إذا حدث عنه الثقات فحديثه مستقيم . قال أبو موسى كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث عن سفيان ، وكان يحيى بن سعيد يحدث عنه ، وقال النسائي في الجرح والتعديل: ثقة . وقال مالك: اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصل ، وإما صائم ، وإما يقرأ القرآن . وما رأيته يحدث إلا على طهارة ) . وقال الذهبي عنه في ميزان الإعتدال:1/414: (أحد الأئمة الأعلام ، برٌّ صادق كبير الشأن ، لم يحتج به البخاري... سئل يحيى بن سعيد القطان عن الصادق فقال: مجالد أحب إليَّ منه ، في نفسي منه شئ ! لم يرو مالك عن جعفر حتى ظهر أمر بنى العباس) . انتهى.
أقول: بلغ من تعصب بخاري أنه لم يرو أي حديث عن الإمام الصادق عليه السلام مع أنه روى عن أشد النواصب من أعداء أهل البيت عليهم السلام ! قال أبو بكر الحضرمي:
قضية أشبه بالمرزئة... هذا البخاري إمام الفئة
بالصادق الصديق ما احتج في...صحيحة واحتج بالمرجئة
ومثل عمران بن حطان أو... مروان وابن المرأة المخطئة
مشكلة ذات عوار إلى... حيرة أرباب النهى ملجئة
وحق بيت يممته الورى... مغذة في السير أو مبطئة
إن الإمام الصادق المجتبى... بفضله الأي أتت منبئة
أجل من في عصره رتبة... لم يقترف في عمره سيئة
قُلامةٌ من ظفر إبهامه... تعدلُ من مثل البخاري مئة
(النصائح الكافية لمن يتولى معاوية)/119للحافظ محمد بن عقيل) .
3- ولو أنهم اتبعوا منهجاً واحداً لخفَّ تناقضهم ، لكن اتبعوا الإنتقاء الكيفي فهم يبحثون عما يوافق هواهم ولا يهمهم أن يكون راويه موثقاً عندهم أو مجروجاً ! بل لايهمهم أن يكون الحديث موضوعاً ، كحديث ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) الذي شهد نقاد الحديث منهم بأنه موضوع ، لكنهم كانوا وما زالوا يستدلون به ، في منابرهم ، ومعاهدهم ، ومناظراتهم للشيعة وفي علم الفقه ، والتفسير ، والعقائد وغيرها !
وعملاً بهذا الإنتقاء الهوائي ، رووا عن مئات الرواة الشيعة منهم أكثر من مئة راو في أسانيد صحيح بخاري ومسلم ، وبرروا ذلك بأنهم مضطرون الى ذلك !
قال الذهبي في ميزان الإعتدال:1/5 ، في ترجمة أبان بن تغلب رحمه الله : (شيعيٌّ جَلِد ، لكنه صدوق ، فلنا صدقه وعليه بدعته ، وقد وثقه أحمد بن حنبل ، وابن معين ، وأبو حاتم ، وأورده ابن عدي ، وقال: كان غالياً في التشيع . وقال السعدي: زائغ مجاهر . فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع وحد الثقة العدالة والإتقان ، فكيف يكون عدلاً من هو صاحب بدعة ؟ وجوابه: أن البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيع ، أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف ، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم ، مع الدين والورع والصدق ، فلو رُدَّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية ، وهذه مفسدة بينة . ثم بدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والدعاء إلى ذلك ، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة... ولم يكن أبان بن تغلب يعرض للشيخين أصلاً ، بل قد يعتقد علياً أفضل منهما) .
أقول: لاتصدقهم عندما يمدحون راوياً شيعياً بأنه كان معتدلاً في موقفه من أهل السقيفة ، فقد كان رأي أبان رحمه الله فيهم شديداً كما تجد في بصائر الدرجات/294، وهو من مصنفات الشيعة في عصر الأئمة عليهم السلام ، ولابد أن الذهبي اطلع عليه !
4- من السهل عليك أن تكتشف سر القوم ، وأن مقياسهم للراوي أن يتولي أبا بكر وعمر ، ولا يكون فيما يرويه شئ ضدهما ولو صغيراً ، وإلا فهو مخالف للدين مبتدع ، يجب الإعراض عنه والطعن فيه !
قال الشهيد نور الله التستري رحمه الله في الصوارم المهرقة/214: (إن أهل بغداد أجمعوا على أنه لم يظهر من زمان ابن مسعود إلى زمان ابن عقدة من يكون أبلغ منه في حفظ الحديث . وأيضاً قال الدارقطني: سمعت منه أنه قال: قد ضبطت ثلاثمائة ألف حديث من أحاديث أهل البيت وبني هاشم عليهم السلام ، وحفظت مائة ألف حديث بأسانيدها . ونقل الذهبي عن عبد الغني بن سعيد أنه قال: سمعت عن الدارقطني قال: إن ابن عقدة يعلم ما عند الناس ولا يعلم الناس ما عنده . وقال الثلاثة: إن ابن عقدة كان يقعد في جامع براثا من الكوفة ويذكر مثالب الشيخين عند الناس ، فلهذا تركوا بعض أحاديثه ! وإلا فلا كلام في صدقه) . انتهى.
وكم لهذا العالم النابغة من مثيل ! وهذا باب واسع ملئ بالأمثلته من مصادر الحديث عندهم والتفسير والتاريخ والفقه والعقائد ، وقد كتب فيه العلماء بحوثاً ومؤلفات منها كتاب: العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل ، للحافظ محمد بن عقيل ، أثبت فيه أن هوى النقاد كان وراء تضعيف الرواة عن أهل البيت عليهم السلام وتضييع الثروة العظيمة التي رووها !
ونكتفي هنا من بمثال الحارث بن حصيرة الأزدي ، الذي يروي عن جابر بن يزيد الجعفي رحمه الله عن الباقر عليه السلام . قال عنه في تهذيب التهذيب:2/121: (البخاري في الأدب المفرد والنسائي وفي خصائص علي... قال جرير: شيخ طويل السكوت يصر على أمر عظيم ، رواها مسلم في مقدمة صحيحه عن جرير . وقال أبو أحمد الزبيري: كان يؤمن بالرجعة . وقال ابن معين ثقة..خشبي ينسبونه إلى خشبة زيد بن علي التي صلب عليها وقال النسائي ثقة وقال أبو حاتم لولا أن الثوري روى عنه لترك حديثه وقال ابن عدي عامة روايات الكوفيين عنه في فضائل أهل البيت وإذا روى عنه البصريون فرواياتهم أحاديث متفرقة وهو أحد من يعد من المحترقين بالكوفة في التشيع وعلى ضعفه يكتب حديثه . قلت: علق البخاري أثراً لعلى في المزارعة وهو من رواية هذا ... وقال الدارقطني شيخ للشيعة يغلو في التشيع . وقال الآجري: عن أبي داود شيعي صدوق . ووثقه العجلي وابن نمير وقال العقيلي: له غير حديث منكر.. وقال الأزدي: زائغ ، سألت أبا العباس بن سعيد عنه فقال: كان مذموم المذهب فاسده ، وذكر ابن حبان في الثقات) .
وفي ميزان الإعتدال:4/272: (صدوق لكنه رافضي) . وفي:1/432: (كان يؤمن بالرجعة . وقال يحيى بن معين: ثقة.. وقال النسائي: ثقة . وقال ابن عدي: يكتب حديثه على ضعفه وهو من المحترقين في التشيع . وقال زنيج: سألت جريراً: أرأيت الحارث بن حصيرة؟ قال: نعم، رأيته شيخاً كبيراً طويل السكوت يصر على أمر عظيم) ! وتاريخ الذهبي:9/95 ، وتهذيب الكمال:5/225 والإصابة:1/191..الخ.
أقول: الأمر العظيم المستنكر الذي يصر عليه هذا الشيخ الصامت الصدوق ، والذي يثير هؤلاء المتعصبة خدام الحكومات ، ليس إيمانه بالرجعة ، بل ما رواه في فضائل علي عليه السلام وفي عاقبة بعض الصحابة المرتدين على أعقابهم ، كما في الخصال/457 ، بسنده عن الحارث بن حصيرة ، عن صخر بن الحكم الفزاري ، عن حيان بن الحارث الأزدي ، عن الربيع بن جميل الضبي، عن مالك بن ضمرة الرواسي قال: لما سُيِّر أبو ذر رحمه الله (أي نفاه عثمان) اجتمع هو وعلي عليه السلام ، والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر ، وحذيفة بن اليمان ، وعبد الله بن مسعود ، فقال أبو ذر: حدثوا حديثاً نذكر به رسول الله صلى الله عليه وآله ونشهد له وندعو له ونصدقه بالتوحيد ، فقال علي عليه السلام : ما هذا زمان حديثي! قالوا: صدقت... فقال أبو ذر رحمه الله : أنا أحدثكم بحديث قد سمعته ومن سمعه منكم: قال رسول الله صلى الله عليه وآله : شر الأولين والآخرين اثنا عشر ، ستة من الأولين وستة من الآخرين ، ثم سمى الستة من الأولين: ابن آدم الذي قتل أخاه ، وفرعون ، وهامان ، وقارون ، والسامري ، والدجال اسمه في الأولين ويخرج في الآخرين... الى أن قال صلى الله عليه وآله : إن أمتي ترد عليَّ الحوض على خمس رايات: أولها راية العجل ، فأقوم فآخذ بيده فإذا أخذت بيده اسودَّ وجهه ورجفت قدماه وخفقت أحشاؤه ، ومن فعل فعله يتبعه فأقول: بماذا خلفتموني في الثقلين من بعدي؟ فيقولون: كذبنا الأكبر واضطهدنا الأصغر وأخذنا حقه ! فأقول: أسلكوا ذات الشمال فينصرفون ظماءَ مظمئين ، قد اسودت وجوههم لا يطعمون منه قطرة . ثم ترد علي راية فرعون أمتي وهم أكثر الناس ومنهم المبهرجون... ثم ترد علي راية هامان أمتي... ثم ترد علي راية أمير المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين فأقوم فآخذ بيده ، فإذا أخذت بيده ابيضَّ وجهه ووجوه أصحابه فأقول: بما خلفتموني في الثقلين من بعدي قال فيقولون: اتبعنا الأكبر وصدقناه ، ووازرنا الأصغر ونصرناه ، وقاتلنا معه ، فأقول: ردوا رواء مرويين ، فيشربون شربة لا يظمأون بعدها أبداً ، وجه إمامهم كالشمس الطالعة ، ووجوه أصحابه كالقمر ليلة البدر وكأضوأ نجم في السماء) .
5- كيف أبادوا كتب علمائنا..وكتب ابن عقدة نموذجاً
إن الثروة الثقافية المميزة والغنية التي يملكها الشيعة اليوم ، إنما هي البقية الباقية من غارات الحكومات القرشية على كتب الشيعة وإحراقها وإتلافها ، أو مصادرتها وسرقة مضامينها ونسبتها الى غيرهم .
ويكفينا مثالاً على ذلك كُتب ابن عقدة رحمه الله التي فقد نسخها عند علمائنا بسبب تشريدهم وتقتيلهم ومصادرتهم ! بينما كان علماء السلطة يحتفظون بما سلم منها ويستفيدون منها سراً ، وينقلون عنها أحياناً صريحاً !
فقد عدد الشيخ حرز الدين في مقدمة كتاب الولاية لابن عقدة/58 ، مجموعة كتبه ومنها التاريخ الكبير ، الذي نقل منه الخطيب فقال في تاريخ بغداد:3/307: (وذكره ابن عقدة في تاريخه الكبير) . ونحوه ابن حجر في تهذيبه:9/259/487 . وذكر له ابن ماكولا في الإكمال:2/550 ، كتاب أخبار أبي حنيفة ومسنده ، وسماه مرة بالرواة عن أبي حنيفة:1/316 . وله كتاب: الشيعة من أصحاب الحديث ، ذكره النجاشي في رجاله ، والشيخ الطوسي في الفهرست ، وابن شهرآشوب في معالم العلماء ، ونقل عنه ابن حجر في تهذيبه:1/380 ، والذهبي في لسان الميزان:1/359 ، وكتاب: تاريخ وفيات الشيوخ ، ذكره في هامش الإكمال:1/563 ، و:3/399 ، وكتاب: أصل ، نقل عنه في الإكمال:4/369 ، و:4/123، وكتاب الصحابة ، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة:1/367 ، وفي:2/77 , وإجازة ابن عقدة لابن السقاء ، ذكرها الخطيب في كتابه الكفاية في علم الرواية/349 ، قال: وقرأت بخط أبي العباس أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي الحافظ المعروف بابن عقدة ، إجازة قد كتبها لأبي محمد عبد الله بن محمد بن عثمان الواسطي الحافظ المعروف بابن السقاء نسختها... وإجازة ابن عقدة لأبي الحسن محمد بن أحمد بن سفيان الحافظ ذكرها الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد:5/22. وذكر له في تاريخ بغداد:5/16، جزء في صلة الرحم . هذا فقط ما كان من كتبه عند علماء السلطة ونقلوا منه !
وعدد الشيخ الطوسي رحمه الله كتبه في الفهرست/73، ومنها: (كتاب السنن وهو عظيم قيل إنه حمل بهيمة ، لم يجتمع لأحد .. كتاب من روى عن أمير المؤمنين عليه السلام ومسنده ، كتاب من روى عن الحسن والحسين عليهما السلام ، كتاب من روى عن علي بن الحسين عليه السلام وأخباره ، كتاب من روى عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام وأخباره.. كتاب الرجال ، وهو كتاب من روى عن جعفر بن محمد عليه السلام ) . وذكر له أبو نصر البخاري في السلسلة العلوية/86 ، كتاب: تفسير الباقر عليه السلام .
أما كتب الشيعة التي رواها ابن عقدة ونقل منها ، فهي أصول كثيرة لا يمكن حصرها ، وقد أخذ أكثرها من مؤلفيها مباشرةً ! قال الطوسي رحمه الله في رجاله/409: روى ابن عقدة جميع كتب أصحابنا ومصنفاتهم ، وذكر أصولهم . ثم أورد عدداً كبيراً منها ، ومن ذلك: كتب غريب القرآن لأبان بن تغلب ، ومحمد بن السائب الكلبي ، وأبي روق بن عطية بن الحارث جمع عبد الرحمن بن محمد الأزدي الكوفي . كتاب الفضائل كتاب القراءة كتاب صفين لأبان بن تغلب . كتب المبدأ والمغازي والوفاة والردة والنواد ، لأبان بن عثمان الأحمر البجلي . وكتاب خطب علي عليه السلام لإبراهيم بن الحكم بن ظهير الفزاري . كتاب النوادر لإبراهيم بن عبد الحميد الأسدي . كتاب مبوب في الحلال والحرام لإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن أبي عبد الله عليه السلام .كتاب إبراهيم بن مهزم الأسدي . كتاب السنن والأحكام والقضايا ، لأبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله . كتاب النوادر: لأحمد بن الحسين بن سعيد بن عثمان القرشي . مقتل الحسين بن علي عليهما السلام للأصبغ بن نباتة. كتاب بريه العبادي . كتاب بسطام بن الحصين بن عبد الرحمن الجعفي . كتاب تليد بن سليمان المحاربي . كتاب الفضائل , تفسير جابر بن يزيد الجعفي . كتاب جحدر بن المغيرة الطائي . كتاب المشيخة ، كتاب الصلاة ، كتاب المكاسب ، كتاب الصيد ، كتاب الذبائح لجعفر بن بشير الوشاء البجلي . كتاب جفير بن الحكم العبدي . كتاب حجاج بن رفاعة الخشاب. كتاب فضائل القرآن للحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني كتاب التفسير ، كتاب جامع العلم: للحسين بن مخارق السلولي .كتاب حفص بن غياث بن طلق . كتاب الديات: للحكم ومشمعل ابني سعد الأسدي الناشري . كتاب خليد بن أوفى أبو الربيع الشامي العنزي . كتاب زياد بن أبي غياث . تفسير القرآن: لزياد بن المنذر أبو الجارود ، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام ... رسالة أبي جعفر عليه السلام الى كتاب سعد بن طريف الحنظلي . كتاب سويد مولى محمد بن مسلم . كتاب عاصم بن حميد الحناط . كتاب الحج ، كتاب الصلاة ، كتاب الصوم ، كتاب المثالب ، كتاب جامع الحلال والحرام ، كتاب الغيبة ، كتاب نوادر: للعباس بن هشام الناشري الأسدي . كتاب الوضوء ، كتاب الصلاة لعبد الله بن المغيرة البجلي . كتاب عبد الكريم بن هلال الجعفي الخزاز . كتاب القضايا والأحكام ، كتاب الوصايا ، كتاب الصلاة لعثمان ابن عيسى العامري الكلابي الرؤاسي . كتاب التوحيد ، كتاب الإمامة ، كتاب حديث الشورى لعمرو بن أبي المقدام . كتاب البداء ، كتاب الإحتجاج في الإمامة ، كتاب الحج ، كتاب فضائل الحج لمحمد بن أبي عمير زياد بن عيسى أبو أحمد الأزدي . كتاب الرجال: لمحمد بن الحسن بن علي أبو عبد الله المحاربي . كتاب الغيبة ، كتاب الكوفة ، كتاب الملاحم ، كتاب المواعظ ، كتاب البشارات ، كتاب الطب، كتاب إثبات إمامة عبد الله ، كتاب أسماء آلات رسول الله صلى الله عليه وآله وأسماء سلاحه ، كتاب العلل ، كتاب وفاة النبي صلى الله عليه وآله ، كتاب عجائب بني إسرائيل ، كتاب الرجال ، كتاب ما روي في الحمام ، كتاب التفسير ، كتاب الجنة والنار ، كتاب الدعاء ، كتاب المثالب ، كتاب العقيقة لعلي بن الحسن بن علي بن فضال . كتاب التفسير لمحمد بن علي بن أبي شعبة الحلبي . كتاب التقية لمحمد بن مفضل بن إبراهيم بن قيس بن رمانة الأشعري . كتاب السنن ، كتاب الجمل لمصبح بن الهلقام بن علوان العجلي..الخ. وبعد كل كتاب سند رواية ابن عقدة له عن مؤلفه مباشرة أو بواسطة ، وتاريخ إجازة سماعه !
وتلاحظ في ترجمة السنيين لابن عقدة أنهم يتفقون على نبوغه وجلالته وتميزه وكثرة مؤلفاته . وفي مجلة تراثنا:21/180: (أفرد الذهبي رسالة عن حياته ، مذكورة في مؤلفاته في مقدمة سير أعلام النبلاء باسم: ترجمة ابن عقدة:. ترجم له أعلام العامة بكل تجلة وتبجيل ووثقوه وأثنوا على علمه وحفظه وخبرته وسعة اطلاعه ، وأرخوا ولادته ليلة النصف من المحرم سنة249 ووفاته في7 ذي القعدة سنة332 . ومن المؤسف أن هذا الرجل العظيم لم يبق من مؤلفاته الكثيرة الكبيرة سوى وريقات توجد في دار الكتب الظاهرية بدمشق ، ضمن المجموعة رقم4581 ، باسم: جزء من حديث ابن عقدة ، من الورقة 9-15) !!
ولم نجد ترجمة الذهبي لابن عقدة فلعلهم أخفوها ! وهذا بعض ما قاله فيه في سيره:15/340: (أبو العباس الكوفي الحافظ العلامة ، أحد أعلام الحديث ونادرة الزمان وصاحب التصانيف على ضعف فيه (لأنه شيعي !)وهو المعروف بالحافظ ابن عقدة . وعُقْدَة لقب لأبيه النحوي البارع محمد بن سعيد..كان قبل الثلاث مئة .
وولد أبو العباس في سنة تسع وأربعين ومئتين بالكوفة ، وطلب الحديث سنة بضع وستين ومئتين وكتب منه ما لا يحد ولا يوصف ، عن خلق كثير بالكوفة وبغداد ومكة... روى عنه الطبراني ، وابن عدي ، وأبو بكر بن الجعابي ، وابن المظفر ، وأبو علي النيسابوري ، وأبو أحمد الحاكم ، وابن المقرئ ، وابن شاهين وعمر بن إبراهيم الكتاني ، وأبو عبيد الله المرزباني ، وابن جميع الغساني ، وإبراهيم بن عبد الله خرشيذ قوله ، وأبو عمر بن مهدي ، وأبو الحسين أحمد بن المتيم ، وأحمد بن محمد بن الصلت الأهوازي . وخلائق . ووقع لي حديثه بعلو..
قال أبو أحمد الحاكم: قال لي ابن عقدة: دخل البرديجي الكوفة فزعم أنه أحفظ مني فقلت: لا تطوِّل ، نتقدم إلى دكان وراق ونضع القبان ونزن من الكتب ما شئت ثم يلقى علينا فنذكره ! قال: فبقي !
سمعت علي بن عمر وهو الدارقطني يقول: أجمع أهل الكوفة أنه لم يُرَ من زمن عبد الله بن مسعود إلى زمن أبي العباس بن عقدة ، أحفظ منه.. ابن عقدة يعلم ما عند الناس ولا يعلم الناس ما عنده .
محمد بن عمر بن يحيى العلوي يقول: حضر ابن عقدة عند أبي فقال له: يا أبا العباس قد أكثر الناس في حفظك للحديث فأحب أن تخبرني بقدر ما تحفظ؟ فامتنع وأظهر كراهية لذلك فأعاد أبي المسألة ، وقال: عزمت عليك إلا أخبرتني ! فقال أبو العباس: أحفظ مئة ألف حديث بالإسناد والمتن ، وأذاكر بثلاث مئة ألف حديث... عرفة البرقاني: أقمت مع إخوتي بالكوفة عدة سنين نكتب عن ابن عقدة ، فلما أردنا الإنصراف ودعناه فقال: قد اكتفيتم بما سمعتم مني !
أبو سعد الماليني: أراد ابن عقدة أن ينتقل فاستأجر من يحمل كتبه ، وشارط الحمالين أن يدفع إلى كل واحد دانقاً قال: فوزن لهم أجورهم مئة درهم ، وكانت كتبه ست مئة حملة...
روى ابن صاعد ببغداد حديثاً أخطأ في إسناده ، فأنكر عليه ابن عقدة فخرج عليه أصحاب ابن صاعد (وهم غوغاء أهل الحديث الذين أسسهم المتوكل) وارتفعوا إلى الوزير علي بن عيسى وحبس ابن عقدة ، فقال الوزير: من نسأل ونرجع إليه؟ فقالوا: ابن أبي حاتم ، فكتب إليه الوزير يسأله ، فنظر وتأمل فإذا الحديث على ما قال ابن عقدة ، فكتب إليه بذلك فأطلق ابن عقدة وارتفع شأنه .
سمعت ابن الجعابي يقول: دخل ابن عقدة بغداد ثلاث دفعات ، سمع في الأولى من إسماعيل القاضي ونحوه ، ودخل الثانية في حياة ابن منيع ، فطلب مني شيئاً من حديث ابن صاعد لينظر فيه فجئت إلى ابن صاعد فسألته فدفع إلي " مسند " علي فتعجبت من ذلك ، وقلت في نفسي: كيف دفع إلي هذا وابن عقدة أعرف الناس به ! مع اتساعه في حديث الكوفيين ، وحملته إلى ابن عقدة ، فنظر فيه ، ثم رده عليَّ فقلت: أيها الشيخ هل فيه شئ يستغرب؟ فقال: نعم فيه حديث خطأ ! فقلت: أخبرني به فقال: لا والله لا عرفتك ذلك حتى أجاوز قنطرة الياسرية وكان يخاف من أصحاب ابن صاعد ، فطالت علي الأيام انتظاراً لوعده ، فلما خرج إلى الكوفة سرت معه فلما أردت مفارقته قلت: وعدك؟ قال: نعم ، الحديث عن أبي سعيد الأشج ، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، ومتى سمع منه؟ وإنما ولد أبو سعيد في الليلة التي مات فيها يحيى بن زكريا ! فودعته وجئت إلى ابن صاعد فأعلمته بذلك فقال: لأجعلن على كل شجرة من لحمه قطعة ، يعني ابن عقدة ! ثم رجع يحيى إلى الأصول فوجده عنده الحديث عن شيخ غير الأشج ، عن ابن أبي زائدة فجعله على الصواب..
قال الخطيب: سمعت من يذكر أن الحفاظ كانوا إذا أخذوا في المذاكرة ، شرطوا أن يعدلوا عن حديث ابن عقدة لاتساعه وكونه مما لا ينضبط . ثم عدد الذهبي بعض كتبه نقلاً عن الشيخ الطوسي+. ثم نقل عن أبي عمر بن حياة قال: كان ابن عقدة في جامع براثا يملي مثالب الصحابة أو قال: الشيخين ، فلم أحدث عنه بشئ . وقيل: إن الدارقطني كذب من يتهمه بالوضع ، وإنما بلاؤه من روايته بالوجادات ومن التشيع) . انتهى.
أقول: لاحظ أنهم يمدحون علمه وكتبه ويتعجبون من جودتها وكثرتها ، ثم لايذكرون أين صارت هذه الثروة العلمية ، ولماذا حُرم المسلمون منها ؟
السبب الوحيد أنه شيعي ! وقد صرح صاحبهم ابن حياة بأنه كان يروي روايات فيها مثالب أي عيوب لبعض الصحابة ، أو لأبي بكر وعمر !
ثم لم يقفوا عند مصادرة الكتب وإحراقها ، بل أفتوا بأن كل من روى رواية فيها نقد لأبي بكر وعمر ، فحكمه أن يحفروا له بئراً ويدفنوه فيه حياً !
قال الذهبي في ميزان الإعتدال:2/75: (قال عبد الله بن أحمد: سألت ابن معين عنه فقال: رجل سوء يحدث بأحاديث سوء.. قلت: فقد قال لي: إنك كتبت عنه ؟ فحول وجهه وحلف بالله إنه لا أتاه ولا كتب عنه . وقال: يستأهل أن يحفر له بئر فيلقى فيها )! والعلل لأحمد بن حنبل:3/8 ، وضعفاء العقيلي:2/86 ، وابن عدي:3/215 ، وغيرها .
فهل يجوز أن تخسر أجيال الأمة ثروة علمية عظيمة بسبب بعض روايات تنتقد ببعض الصحابة ؟ أما كان الأصلح أن يرووها ويفندوها ؟!
6- سؤال يبقى بلا جواب:
لماذا لاتتلقون دينكم من أئمة العترة عليهم السلام ؟!
من عجائب أعمال سلطة الخلافة واتباعهم من أئمة المذاهب وعلمائهم ، أئهم أبادوا أكثر الثروة العلمية لأهل البيت عليهم السلام ورواتهم ، وصادروا ما بقي ، وأخفوه عندهم فهم ينقلون منه ما ينتقونه انتقاءً ، كما رأيت في كتب ابن عقدة رحمه الله !
وبقيت من ثروة أهل البيت عليهم السلام بقية حفظنا منها الكثير ، وحفظوا القليل بما فيه المحرف والمكذوب ! وعندما تسألهم عن الإمام الباقر أو الصادق أو غيرهم من الأئمة عليهم السلام يمدحونهم مدحاً كثيراً، وينقلون لك مدح أئمتهم وكبار علمائهم لهم!
وقد وجهنا الى علمائهم سؤالين:
الأول: ما دام أهل البيت عليهم السلام عندكم في هذا المقام العظيم الذي ترويه صحاحكم ، وما دمتم تعتقدون بأن الله تعالى فضلهم وفرض مودتهم على المسلمين والصلاة عليهم في الصلاة مع النبي صلى الله عليه وآله ؟
فلماذا لاتخرجون فضائلهم من كتبكم الى خطابكم للمسلمين ووسائل الإعلام ، ومناهجكم الدراسية في المعاهد الدينية والمدارس؟!
والسؤال الثاني: مادام أئمة أهل البيت عليهم السلام علماء عظماء عندكم ، وتعترفون لأن غيرهم ليس أولى بالإتباع منهم ، فلماذا لا تتلقون عنهم معالم دينكم وفقهمكم؟!
وغاية جوابهم أن يقولوا إن مذهبكم الذي تروونه عنهم لم يثبت عندنا !
وبقطع النظر عن تحميل أسلافهم مسؤولية تضييعهم لسنة النبي صلى الله عليه وآله وأحاديث أهل بيته عليهم السلام ، فقد قلنا لهم: إنكم تروون بأحداديث صحيحة مذهبهم عليهم السلام في كثير من الأحكام الشرعية ، وتتعمدون مخالفتها الى الآن !
وفي نقاش للأخ سراج الدين (1/7/-2004) كتب له الشيخ السلفي حسن حسان:
(ehaj.bounceme.net/~hajr/hajrvb/showthread.php?t=402743259)
(لا دليل يدل على عدم جواز اتباع غير أئمة المذاهب ، ونحن نعمل بقول جعفر بن محمد الصادق . وجعفر بن محمد كان من المجتهدين الكبار ويجوز اتباعه ، ولكن ما يدعي الشيعة من المسائل بأنه قول جعفر بن محمد غير ثابت .
فأجابه سراج الدين: إن الشيعة يقولون إنا إذا سألنا الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية ، وقلنا لهم من أين عرفتم أن ما تعملون به قول هؤلاء المجتهدين؟ لقال كل واحد من هذه الطوائف الأربعة: إن مشايخنا نقلوا عن مشايخهم ، وهكذا إلى المجتهد الذي نعمل برأيه ، فثبت بالنقل المشهور مذهب المجتهد الذي نعمل برأيه ، وهكذا نحن علمنا بالنقل المشهور عن مشايخنا طبقة عن طبقة ، أن ما نعمل به قول جعفر بن محمد عليهما السلام .
فكتب له السلفي: إذا كان هذا فهم من أهل النجاة ، وأقسم أنه لو ثبت له قول عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام لعمل به .
فكتبتُ له: الأخ حسن ، بناء على قسمك بأنك تتبع الإمام جعفر الصادق عليه السلام فيما صح عنه ، حتى لو خالف المذاهب الأربعة ، فقد صح عنه عند رواتكم ورواتنا الجهر بالبسملة في الصلاة ، فتوكل على الله والتزم بذلك ، واجهر بصلاتك في مسجد فيه سلفية إن استطعت ! وهذا نموذج من اعتراف فقهاء المذاهب بذلك: في المجموع للنووي:3/342: ( وفي كتاب الخلافيات للبيهقي عن جعفر بن محمد قال اجتمع آل محمد(ص) على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، ونقل الخطيب عن عكرمة أنه كان لا يصلي خلف من لا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم . وقال أبو جعفر محمد بن علي: لاينبغي الصلاة خلف من لايجهر) .
فكتب السلفي: ولا يهمك شيخ العاملي سوف أجهر بالبسملة... فإن تعارضت عندي أقوال الفقهاء قدمت قول جعفر على أبي حنيفة ومالك وأحمد والشافعي .
فكتبتُ له: ألف تحية للأخ البار بيمينه الشيخ حسن حسان ، وأعانك الله على التحمل من المتعصبين في جهرك بأعظم آية من كتاب الله تعالى . وأخبرك يا أخ حسن ، بأن الثابت عندنا من مذهب الإمام الصادق عليه السلام فيها هو وجوب الجهر بها في صلاة الصبح والمغرب والعشاء ، واستحباب الجهر بها في صلاتي الظهر والعصر ، هذا على الرجال ، أما النساء فلا جهر عليهن ، بل يتخيرين في الجهرية إن لم يكن أجنبي.. أخذ الله بيدك وقلبك الى نور النبي صلى الله عليه وآله ونور أهل بيته الطاهرين عليهم السلام ، وهو واحد وليس متعدداً .
وكتب له الأخ المرتضى: الله أكبر هل هذا قولٌ وفعلٌ أم قولٌ فقط؟ إذا كان قولاً وفعلاً فافتح موضوعاً وانشره في كل المنتديات ، واجهر بها أمام كل الناس إن كنت صادقاً ! وكتب له الأخ قاسم: إن كان حسن حسان جاداً ، فهو بحق رجل .
وكتب له فتى الحرمان: الله أكبر , حسن حسان سيجهر بالبسملة أمام السلفية !
أقول: يظهر أن هذا الشيخ السلفي فشل في الوفاء بوعده باتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام في مسألة واحدة ، مع أنها بسملة القرآن التي أنكر قرآنيتها أئمة المذاهب جهاراً نهاراً من أجل قريش ، وأسقطوها من الصلاة ومن القرآن !
إنه القرار القرشي الذي صدر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله ، وقد ربَّتْ عليه الحكومات أئمة المذاهب ، فربوا عليه أتباعهم وجعلوا مخالفة أهل بيته عليهم السلام ديناً يدينون به !
الوضع السياسي في عصر الإمامين
الباقر والصادق عليهما السلام
1- الجبارون في عصر الإمام عليه السلام كالجبارين في عصر هود عليه السلام
كان الإمام الباقر عليه السلام أبرز شخصيات بني هاشم على الإطلاق ، مُهاباً من الدولة محترماً من الثائرين ، يقوم بثورته على طريقته ، فيرسخ معالم الإسلام كما نزل من عند الله تعالى على جده صلى الله عليه وآله ، ويفضح التحريف الحكومي ومؤامرة قريش على أئمة العترة النبوية ، الذين اختارهم الله ورسوله لإمامة الأمة .
لذلك كان منطقه عليه السلام هادراً قوياً كمنطق نبي الله هود عليه السلام لأن معاصريهما جبابرة أشداء فوجب أن يكون منطقهما عليهما السلام كاسحاً لأفكارهم الباطلة وغرورهم !
وقوم هود عليه السلام هم عاد الأولى والثانية ، أصحاب حضارة بعد قوم نوح عليه السلام وعاصمتهم الأحقاف في اليمن والجزيرة ، وكانوا جبارين ذوي ثروة وأجسام ضخمة ، وكان لابد لمنطق نبيهم عليه السلام أن يتناسب مع حالتهم في القوة والشدة !
قال الله تعالى في سورة الأعراف:
قَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ . قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ . أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَاتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ . قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِى فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ . فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِين)َ .
وقال تعالى في سورة فُصِّلَتْ: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ . إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لانْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ . فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَأَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ . فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ .
وقال في سورة الحاقة: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ . سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) .
والآيات فيهم كثيرة ، ومثَلُهُم في أمتنا الجبارون المعاصرون للنبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام ، فهم فراعنة قال الله تعالى لهم: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً. (المزمل:15) ، وقال فيهم النبي صلى الله عليه وآله بعد أن اضطروا لخلع سلاحهم وإعلان إسلامهم: (يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين ! قد امتحن الله قلبه على الإيمان !
قالوا: من هو يا رسول الله؟ فقال له أبو بكر: من هو يا رسول الله؟ وقال عمر: من هو يا رسول الله؟ قال هو خاصف النعل ، وكان أعطى علياً نعله يخصفها) . (الترمذي:5/298، وصححه ، ونحوه أبو داود:1/611 . راجع صراع قريش مع النبي صلى الله عليه وآله للمؤلف/50) .
وهم أنفسهم الذي جاهدهم علي والأئمة من أبنائه عليهم السلام !
لذلك نرى أن منطق الإمام الباقر عليه السلام كان معهم قوياً كاسحاً قاصعاً ، كمنطق نبي الله هود عليه السلام ، وأن أحاديثه تميز بجرأتها وصراحتها في كشف مؤامرة قريش وشرح فريضة ولاية أهل البيت النبوي عليهم السلام والبراءة من ظالميهم وأعدائهم . ولتسميته بالباقر علاقة بذلك ، حيث لبَّد المحرفون سماء ثقافة الأمة بغيوم الجاهلية الأموية واليهودية ، فاحتاجت الى من يفجر النور ويبددها .
2- الإمام يصف حالة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم في زمن بني أمية
وصف الإمام الباقر عليه السلام اضطهاد بني أمية لأهل البيت عليهم السلام وشيعتهم ، فقال لبعض أصحابه كما في شرح النهج:11/43:
(يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيانا وتظاهرهم علينا؟! وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس؟! إن رسول الله صلى الله عليه وآله قبض وقد أخبر أنا أولى الناس بالناس ، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه ، واحتجَّت على الأنصار بحقنا وحجتنا ! ثم تداولتها قريش واحد بعد واحد ، حتى رجعت إلينا فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا ، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتى قتل ، فبويع الحسن ابنه وعوهد ، ثم غدر به وأسلم ، ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه ، ونهبت عسكره وعولجت خلاليل أمهات أولاده ! فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته وهم قليل حق قليل !
ثم بايع الحسين عليه السلام من أهل العراق عشرون ألفاً ثم غدروا به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم ، وقتلوه ! ثم لم نزل أهل البيت نستذل ونستضام ، ونقصى ونمتهن ، ونحرم ونقتل ونخوف ! ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا !
ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة ، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ، ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله ليبغضونا إلى الناس ! وكان عِظَمُ ذلك وكِبْرُه زمن معاوية بعد موت الحسن عليه السلام ، فقتلت شيعتنا بكل بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة ، وكان من يذكر بحبنا والإنقطاع إلينا سجن أو نهب ماله ، أو هدمت داره !
ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين عليه السلام .
ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة ، وأخذهم بكل ظنة وتهمة ، حتى إن الرجل ليقال له زنديق أو كافر ، أحب إليه من أن يقال شيعة علي عليه السلام !
وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير ولعله يكون ورعاً صدوقاً ، يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها ولا كانت ولا وقعت ! وهو يحسب أنها حق ، لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع ) ! انتهى.
كما وصف الإمام الجواد عليه السلام اضطهاد تلاميذ الإمام زين العابدين عليه السلام وكيف نجا بعضهم من القتل ، قال: ( أما يحيى بن أم الطويل فكان يظهر الفتوة ، وكان إذا مشى في الطريق وضع الخلوق على رأسه ويمضغ اللبان ويطول ذيله ، وطلبه الحجاج فقال تلعن أبا تراب وأمر بقطع يديه ورجليه وقتله . وأما سعيد بن المسيب فنجا وذلك أنه كان يفتي بقول العامة وكان آخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فنجا . وأما أبو خالد الكابلي فهرب إلى مكة واخفى نفسه فنجا . وأما عامر بن واثلة فكانت له يد عند عبد الملك بن مروان فلهى عنه . وأما جابر بن عبد الله الأنصاري فكان رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يتعرض له وكان شيخاً قد أسن . وأما أبو حمزة الثمالي وفرات بن أحنف ، فبقوا إلى أيام أبي عبد الله ، وبقي أبو حمزة إلى أيام أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام ) . (رجال الطوسي:1/338 ) .
أقول: تبلغ مفردات الإضطهاد والظلم التي ذكرها الإمام عليه السلام والتي لم يذكرها مجلدات ، لأنها تغطي قرناً كاملاً من يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله الى عصره عليه السلام .
3- الجبابرة ومشاريع الجبابرة الذين عاصرهم الإمام عليه السلام
عاصر الإمام عليه السلام سنوات حكم يزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم ، وعبد الملك الذي توفي سنة86 ، وأبناء عبد الملك: الوليد قاتل الإمام زين العابدين عليه السلام سنة94 ، وتوفي الوليد سنة 96 ، ثم سليمان ، وتوفي سنة99 ، ثم عمر بن عبد العزيز وتوفي سنة101، ثم يزيد بن عبد الملك وتوفي105 .
كما أدرك الإمام الباقر عليه السلام تسع سنين من حكم الطاغية هشام بن عبد الملك ، الذي ارتكب جريمة قتل الإمام عليه السلام سنة114 ، ثم هلك هشام سنة125، وبعد سبع سنوات من هلاكه انهار النظام الأموي بثورة العباسيين .
ونقصد بمشاريع الجبابرة: الشخصيات التي كانت تعمل للثورة على بني أمية وأخذ السلطة ، وتتبنى نفس منهج بني أمية في قتل من خالفها واضطهادهم ، وظلم المسلمين والإستئثار بثرواتهم !
إن احترام النص النبوي ، أو احترام إرادة الأمة في اختيار حكامها ، واحترام دمائها وكرامتها وملكيتها وحقوقها الفردية والعامة ، أمورٌ غائبةٌ عن منهج هؤلاء الثوار ، حتى لو رفعوها شعارات براقة ، لجذب الجمهور المرهق المسكين !
وكذلك شعار يالثارات الحسين عليه السلام ، وشعار تطبيق العدالة الإسلامية ورد ظلامات المسلمين الى أهلها..كلها كلام كاذب عند أولئك الثوار ، فحكمهم نفس الحكم الجبري الأموي ، وقائدهم طاغ جبار وإن تسمى بخليفة النبي صلى الله عليه وآله ، وانتسب بالقرابة الى النبي صلى الله عليه وآله !
هكذا كانت نظرة الإمام الباقر عليه السلام الى مشاريع الثورة على بني أمية ، التي أخذت في عصره تتشكل في حركات سرية ، لكن أخبارها علنية !
كان الإمام عليه السلام ينظر الى الفقهاء بأنهم مرتزقة غير صادقين، ومثلهم السياسيون ! فقد سأله رجل عن مسألة فأجابه الإمام عليه السلام ، فقال الرجل: (إن الفقهاء لا يقولون هذا ، فقال: يا ويحك وهل رأيت فقيهاً قط؟! إن الفقيه حق الفقيه: الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة ، المتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وآله ) . (الكافي:1/70) .
وقد روينا في المقدمة تسمية الإمام عليه السلام لأبي جعفر المنصور بالجبار ، عندما كان جالساً في المسجد على أثر وفاة أبيه زين العابدين عليه السلام (الخرائج:1/273) فدخل داود بن علي بن عبدالله بن العباس وابن أخيه أبو جعفر المنصور ، فقعدوا ناحية من المسجد فقيل لهم: هذا محمد بن علي جالس ، فقام إليه داود بن علي وسليمان بن خالد ، وقعد أبو الدوانيق مكانه حتى سلموا على أبي جعفر ، فقال لهم أبو جعفر: ما منع جباركم من أن يأتيني؟! فعذَّروه عنده فقال: أما والله لا تذهب الليالي والأيام حتى يملك ما بين قطريها ! الخ.) . (الكافي:8/210) .
على أن المنصور كان في ذلك الوقت ككل أحفاد العباس تابعين لأحفاد الإمام الحسن عليه السلام بقيادة كبيرهم عبدالله بن الحسن المثنى ، الذي سمى ابنه محمداً بالمهدي ، وأخذ له البيعة منهم بالإمامة والخلافة !
( قال عمير بن الفضل الخثعمي: رأيت أبا جعفر المنصور يوماً وقد خرج محمد بن عبد الله بن الحسن من دار ابنه ، وله فرس واقف على الباب مع عبد له أسود وأبو جعفر ينتظره ، فلما خرج وثب أبو جعفر فأخذ بردائه حتى ركب ، ثم سوى ثيابه على السرج ومضى محمد . فقلت وكنت حينئذ أعرفه ولا أعرف محمداُ: من هذا الذي أعظمته هذا الإعظام حتى أخذت بركابه ، وسويت عليه ثيابه؟ قال: أوما تعرفه ؟ قلت: لا . قال: هذا محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ، مهدينا أهل البيت) . (مقاتل الطالبيين/161) . هذا ، وستعرف الخلفية التاريخية للعباسيين والحسنيين ، ومشاريع الجبابرة الذين عاصرهم الإمام الصادق عليه السلام .
4- صَمَتَ الإمام الباقر سبعَ سنين بعد أبيه عليهما السلام
بعد سبع سنوات من شهادة الإمام زين العابدين عليه السلام حدثت فُسحةٌ على عامة المسلمين ، وعلى أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم خاصة ، وذلك بهلاك الطاغية سليمان بن عبد الملك ، الذي لم يكن له ولد يصلح للخلافة ، ورأى ضعف الدولة الأموية يتفاقم بسبب نقمة المسلمين وظلم الأجهزة وفسادها ! ورأى أن الناس يميلون الى ابن عمه عمر بن عبد العزيز ، ويلهجون باسمه للخلافة لما عرف به من استقامة ، فأوصى له وبعده لأخيه يزيد بن عبد الملك . فكان عمر بن عبد العزيز نشازاً بين الملوك الأمويين لأنه (عادل) بين جبابرة ، وأعور بين عميان !
وقد روى محبوه أن الإمام الباقر عليه السلام سئل عنه فقال للسائل: (أما علمت أن لكل قوم نجيبة وأن نجيبة بني أمية عمر بن عبد العزيز، وإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده) . (سير الذهبي:5/120، وتاريخ دمشق:45/147، وتهذيب الكمال:21/439) .
وقد تكون الرواية صحيحة لكنها لا تدل على نجاته , بل على تميزه على ملوك قومه .
وكان عصره الفرصة الموعودة في مقادير الله تعالى للإمام الباقر عليه السلام ، قال الشيخ الطوسي قدس سره في رجاله:1/339: (عن القاسم بن عوف قال: كنت أتردد بين علي بن الحسين وبين محمد بن الحنفية ، وكنت آتي هذا مرة وهذا مرة . قال: ولقيت علي بن الحسين عليه السلام فقال لي: يا هذا إياك إن تأتي أهل العراق فتخبرهم أنا استودعناك علماً ، فإنا والله ما فعلنا ذلك ! وإياك أن تترايس بنا فيضعك الله ، وإياك أن تستأكل بنا فيزيدك الله فقراً ، واعلم أنك إن تكن ذنباً في الخير خير لك من أن تكون رأساً في الشر . واعلم أنه من يحدث عنا بحديث سألناه يوماً ، فإن حدث صدقاً كتبه الله صديقاً ، وإن حدث وكذب كتبه الله كذاباً ! وإياك أن تشد راحلة ترحلها فإنما هاهنا يطلب العلم حتى يمضي لكم بعد موتي سبع حجج ، ثم يبعث الله لكم غلاماً من ولد فاطمة عليها السلام ينبت الحكمة في صدره كما ينبت الطَّلُّ الزرع ! قال: فلما مضى علي بن الحسين حسبنا الأيام والجمع والشهور والسنين ، فما زادت يوماً ولا نقصت حتى تكلم محمد بن علي بن الحسين باقر العلم صلوات الله عليهم) . انتهى.
يدل ذلك على أن ظرف الإمام زين العابدين عليه السلام وإن سمح بقدر من الدفاع ومقاومة التحريف ، إلا أنه لم يسمح بطرح خط أهل البيت عليهم السلام بشكل كامل إسلاماً ربانياً مقابل إسلام السلطة الأموية ، وعقيدةً صحيحة مقابل عقيدتها الرسمية ، وخطاً سياسياً مقابل خط السلطة . وأن هذا الظرف سيستمر سبع سنين بعد وفاته عليه السلام (بعد موتي سبع حجج) وهي بقية حكم الوليد بن عبد الملك وأخيه سليمان وشطر من حكم عمر بن عبد العزيز ، فالحجات السبع تبدأ من وفاته عليه السلام سنة94 ، فيكون آخرها سنة100هجرية في خلافة عمر بن العزيز ، حيث بدأت في صفر سنة99 ، وانتهت بموته مسموماً سنة101 هجرية .
ومعنى قول الإمام زين العابدين عليه السلام : (وإياك أن تشد راحلة ترحلها فإنما هاهنا يطلب العلم ، ثم يبعث الله لكم غلاماً من ولد فاطمة عليها السلام تنبت الحكمة في صدره كما ينبت الطَّلُّ الزرع): أي لاتتعب نفسك في طلب العلم الحقيقي ، فلا يوجد عند علماء السلطة ، ولا قبل سبع سنين حيث سيبدأ الباقر عليه السلام بطرح مذهب أهل البيت عليهم السلام كإسلام متكامل مقابل إسلام السلطة .
5- كان عهد عمر بن عبد العزيز منطلقاً للإمام الباقر عليه السلام
(كانت ولاية عمر ثلاثين شهراً...وتوفي لست بقين من رجب سنة 101، وهو ابن تسع وثلاثين سنة ، وكان أسمر ، رقيق الوجه حسن اللحية ، غائر العينين بجبهته أثر، وعهد إلى يزيد بن عبد الملك) . (اليعقوبي:2/308 ، والطبري:5/318) .
وكان في وجهه أثر جرح من رفسة فرس ويسمى أشجَّ بني أمية . (فتن ابن حماد/75) .
وكان عهده على قصر مدته متنفساً للمسلمين من اضطهاد قومه بني أمية ! والطريف أن سلفه سليمان بن عبد الملك الذي اختاره للخلافة كان ظلوماً عسوفاً لكن كانت لعمر بن عبد العزيز يدٌ عليه حيث وقف معه لما أراد أخوه أن ينتزع الخلافة منه ، فحفظها له سليمان وكتب له عهده عندما عاجله الموت وهو شاب ، فقد حكم سنتين وثمانية أشهر ، وكان أكولاً لايكاد يشبع ، وأمر أولاده أن يبايعوا عمر بن عبد العزيز وهو يحتضر: (ونزل عمر بن عبد العزيز قبره ، وثلاثة من ولده ، فلما تناولوه تحرك على أيديهم ، فقال ولد سليمان: عاش أبونا ورب الكعبة ! فقال عمر: بل عوجل أبوكم ورب الكعبة ! وكان بعض من يطعن على عمر يقول دفن سليمان حياً . وكانت ولاية سليمان بن عبد الملك سنتين وثمانية أشهر ، وخلف من الولد الذكور عشرة ) . ( اليعقوبي:2/299) .
ونصُّ عهده لعمر: (هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز: إني قد وليتك الخلافة من بعدي ، ومن بعدك يزيد بن عبد الملك ، فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله ، ولا تختلفوا فيطمع فيكم) . (تاريخ الطبري:5/306) .
لقد أراد الله تعالى في مطلع القرن الثاني للهجرة ، أن يفتح باب رحمة على أمة نبيه صلى الله عليه وآله وباب عذاب على بني أمية ! وقد لمس بنو أمية خطر خلافة ابن العزيز ، لأنه أعلن إدانة من كان قبله من الخلفاء بظلمهم للمسلمين ومصادرتهم لحرياتهم واستباحتهم لأموالهم ! وأعلن أنه سيحقق العدالة ويرد ظلامة كل مظلوم ! وباشر بإعادة الحريات للناس ، وأصدر المراسيم بتغيير الولاة ورد الظلامات الى أهلها ، فاستنفر بنو أمية ضده وكانوا قبيلة كثيرة بيدهم مفاصل الدولة ، وقتلوه بالسم ، وأعادوا الظلم كما كان ، ونصبوا بعده يزيد بن عبد الملك ، ثم هشام بن عبد الملك ، وهو الذي ارتكب جريمة قتل الإمام الباقر عليه السلام ، ونفذ ذلك والي المدينة أو غيره من المقربين الى الخليفة .
والنص التالي يكشف الفرق في نظر الإمام الباقر عليه السلام بين سليمان بن عبد الملك وخليفته عمر بن عبد العزيز: فقد روى اليعقوبي في تاريخه:2/306 ، أن عمر بن عبد العزيز ذكر الإمام زين العابدين عليه السلام يوماً فقال: ( ذهب سراج الدنيا وجمال الإسلام وزين العابدين ! فقيل له: إن ابنه أبا جعفر محمد بن علي فيه بقية ، فكتب عمر يختبره ، فكتب إليه محمد كتاباً يعظه ويخوفه ! فقال عمر: أخرجوا كتابه إلى سليمان فأخرج كتابه فوجده يقرظه ويمدحه ، فأنفذ إلى عامل المدينة وقال له: أحضر محمداً وقل له: هذا كتابك إلى سليمان تقرظه ، وهذا كتابك إليَّ مع ما أظهرت من العدل والإحسان ! فأحضره عامل المدينة وعرفه ما كتب به عمر فقال: إن سليمان كان جباراً كتبت إليه بما يكتب إلى الجبارين ، وإن صاحبك أظهر أمراً فكتبت إليه بما شاكله ! وكتب عامل عمر إليه بذلك فقال عمر: إن أهل هذا البيت لا يخليهم الله من فضل) ! انتهى.
ومعناه أن سليمان برأي الإمام عليه السلام جبارٌ لا يتحمل أن يطرح الإمام مذهب أهل البيت عليهم السلام ، فكان يداريه كما دارى الأنبياء عليهم السلام فراعنة عصورهم .
أما عمر بن عبد العزيز فأعلن أنه يريد تحقيق العدل وكان يتحمل النصيحة ، لذلك كتب له الإمام عليه السلام بما كتب ، فأعجبه ذلك .
لقد كان عهد ابن عبد العزيز فرصة للإمام عليه السلام ليبدأ مشروعه في الجهر بالحق ، وينشط تلاميذه في البلاد لنشر الحق! فبَقَرَ الإمام الباقر عليه السلام علوم جده صلى الله عليه وآله وفجَّرها ، كما بَقَرَ طريق الثورة على الأمويين وشقها أمام فئات الهاشميين !
6- نقاط إيجابية من عصر ابن عبد العزيز
1- تقدم أنه عندما تولى الخلافة دعا الإمام الباقر عليه السلام الى الشام ليسشتيره في أمور الخلافة: (فدخل فحدثه ساعة وقال إني: أريد الوداع يا أمير المؤمنين ، قال عمر فأوصني يا أبا جعفر ، قال: أوصيك بتقوى الله ، واتخذ الكبير أباً ، والصغير ولداً ، والرجل أخاً ، فقال: رحمك الله جمعت لنا والله ما إن أخذنا به وأماتنا الله عليه ، استقام لنا الخير إن شاء الله ) . (تاريخ دمشق:54/268، وأمالي القالي/495) .
2- (قال أبو بكر بن أبي سبرة: لما رد عمر بن عبد العزيز المظالم قال: إنه لينبغي أن لا أبدأ بأول إلا من نفسي ، فنظر إلى ما في يديه من أرض أو متاع فخرج منه ، حتى نظر إلى فص خاتم فقال: هذا مما أعطانيه الوليد بن عبد الملك مما جاءه من أرض المغرب فخرج منه) . (الطبقات:5/341) .
( لما استخلف قال: يا أيها الناس ، إني قد رددت عليكم مظالمكم ، وأول ما أرد منها ما كان في يدي ، وقد رددت فدك على ولد رسول الله (ص) وولد علي بن أبي طالب ، فكان أول من ردها ) . (بحار الأنوار:29/208) .
(ونكث عمر أعمال أهل بيته وسماها مظالم ، وكتب إلى عماله جميعاً: أما بعد فإن الناس قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله ، وسنن سيئة سنتها عليهم عمال السوء ، قلما قصدوا قصد الحق والرفق والإحسان ، ومن أراد الحج فعجلوا عليه عطاءه حتى يتجهز منه، ولا تحدثوا حدثاً في قطع وصلب حتى تؤامروني..
وأعطى بني هاشم الخمس ، ورد فدكاً وكان معاوية أقطعها مروان فوهبها لابنه عبد العزيز فورثها عمر منه ، فردها على ولد فاطمة فلم تزل في أيديهم حتى ولي يزيد بن عبد الملك ، فقبضها . ورد عمر هدايا النيروز والمهرجان ورد السُّخَر ، ورد العطاء على قدر ما استحق الرجل من السنة ، وورث العيالات على ما جرت به السنة ، غير أنه أقر القطائع التي أقطعها أهل بيته والعطاء في الشرف لم ينقصه ولم يزد فيه ، وزاد أهل الشأم في أعطياتهم عشرة دنانير ، ولم يفعل ذلك في أهل العراق ) . (تاريخ اليعقوبي:2/305 ، ونحوه الطبري:5/321) .
3- ( لما ولي عمر بن عبد العزيز ، فردَّ فدك على ولد فاطمة عليها السلام وكتب إلى واليه على المدينة أبي بكر بن عمر بن حزم يأمره بذلك ، فكتب إليه: إن فاطمة قد ولدت في آل عثمان وآل فلان وآل فلان ! فكتب إليه: أما بعد فإني لو كنت كتبت إليك آمرك أن تذبح شاة لسألتني جماء أو قرناء ! أو كتبت إليك أن تذبح بقرة لسألتني ما لونها ! فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها بين ولد فاطمة من علي والسلام ! قال أبو المقدام: فنقمت بنو أمية ذلك على عمر بن عبد العزيز وعاتبوه فيه وقالوا له: هجَّنْتَ فعل الشيخين ! وخرج إليه عمرو بن عبس في جماعة من أهل الكوفة ، فلما عاتبوه على فعله قال: إنكم جهلتم وعلمت ونسيتم وذكرت ، إن أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم حدثني عن أبيه عن جده ، أن رسول الله قال: فاطمة بضعة مني يسخطني ما يسخطها ويرضيني ما يرضيها، وإن فدك كانت صافية على عهد أبي بكر وعمر ، ثم صار أمرها إلى مروان فوهبها لأبي عبد العزيز ، فورثتها أنا وإخواني فسألتهم أن يبيعوني حصتهم منها فمنهم من باعني ، ومنهم من وهب لي ، حتى استجمعتها فرأيت أن أردها على ولد فاطمة ! فقالوا: إن أبيت إلا هذا فأمسك الأصل واقسم الغلة ، ففعل)! (الشافي:4/102، وشرح النهج:16/278) .
(فسلمها إلى محمد بن علي الباقر عليه السلام وعبد الله بن الحسن ، فلم تزل في أيديهم إلى أن مات عمر بن عبد العزيز ) . (كشف الغمة:2/117) .
(فقيل له: طعَنْتَ على الشيخين ! فقال: هما طعنا على أنفسهما ! وذلك لما صار إليه محمد بن علي عليه السلام ) . (المسترشد لمحمد بن جرير الطبري ( الشيعي)/503) .
( لما دخل المدينة عمر بن عبد العزيز نادى مناديه: من كانت له مظلمة وظلامة فليحضر ، فدخل إليه مولاه مزاحم فقال: إن محمد بن علي بالباب ، فقال له: أدخله يا مزاحم قال: فدخل وعمر يمسح عينيه من الدموع ، فقال له محمد بن علي: ما أبكاك يا عمر؟ فقال هشام: أبكاه كذا وكذا يا ابن رسول الله ، فقال محمد بن علي)فلما رآه استقبله وأقعده مقعده فقال عليه السلام : إنما الدنيا سوق من الأسواق يبتاع فيها الناس ما ينفعهم وما يضرهم ، وكم قوم ابتاعوا ما ضرهم فلم يصبحوا حتى أتاهم الموت ، فخرجوا من الدنيا ملومين لمَّا لم يأخذوا ما ينفعهم في الآخرة ، فقسم ما جمعوا لمن لم يحمدهم ، وصاروا إلى من لا يعذرهم . فنحن والله حقيقون أن ننظر إلى تلك الأعمال التي نتخوف عليهم منها ، فكف عنها واتق الله ، واجعل في نفسك اثنتين: إلى ما تحب أن يكون معك إذا قدمت على ربك فقدمه بين يديك ، وانظر إلى ما تكره أن يكون معك إذا قدمت على ربك فارمه ورائك . ولا ترغبن في سلعة بارت على من كان قبلك فترجو أن يجوز عنك ، وافتح الأبواب وسهل الحجاب ، وأنصف المظلوم ورد الظالم . ثلاثة من كن فيه استكمل الإيمان بالله (فجثا عمر على ركبتيه ، ثم قال: إيه أهل بيت النبوة ، قال: نعم يا عمر) من إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل ، ومن إذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق ، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له . فدعا عمر بدواة وبياض وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما رد عمر بن عبد العزيز ، ظلامة محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم بفدك) . (الخصال/105، ومناقب آل أبي طالب:3/337 ،والمسترشد للطبري الشيعي/504) .
أقول: تفاوتت الرواية في كيفية رده ظلامة فدك ، فذكر بعضها أنه رد غلتها دون أصلها ، وذكر بعضها أنه سلمها الى الإمام الباقر عليه السلام ليقسمها بين أولاد فاطمة عليها السلام ، وبعضها أنه سلمها له ولعبد الله بن الحسن المثنى . واتفق الرواة على أن يزيد بن عبد الملك الذي حكم بعده ، أعادها الى بني أمية !
لكن يبقى ردها عملاً مهماً ، لأنه اعتراف من خليفة أموي بظلامة فاطمة عليها السلام وظلامة أبنائها ، وتخطئة للسياسات السابقة تجاههم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله حتى ورد أنه ( لما رد عمر بن عبد العزيز مظالم أهل بيته وأخذهم بالحق ، قال مولى لآل مروان بربري: وأنتم أيضاً فتزوجوا بنات عمر بن الخطاب) . (تاريخ دمشق:70/255) .
قال اليعقوبي:2/305: (وترك لعن علي بن أبي طالب على المنبر ، وكتب بذلك إلى الآفاق... وأعطى بني هاشم الخمس ، ورد فدكاً وكان معاوية أقطعها مروان فوهبها لابنه عبد العزيز فورثها عمر منه فردها على ولد فاطمة . فلم تزل في أيديهم حتى ولي يزيد بن عبد الملك فقبضها) .
وفي الطرائف/252: (فردها عليهم السفاح ، ثم قبضت فردها عليهم المهدي ، ثم قبضت فردها عليهم المأمون... قبضت منهم بعد المأمون فردها عليهم الواثق ، ثم قبضت فردها عليهم المستعين ، ثم قبضت فردها عليهم المعتمد ، ثم قبضت فردها المعتضد ، ثم قبضت فردها عليهم الراضي) .
وفي المناقب:2/52: (وردها عليهم المأمون ، والمعتصم والواثق وقالا: كان المأمون أعلم منا به ، فنحن نمضي على ما مضى هو عليه ، فلما ولي المتوكل قبضها... وردها المعتضد وحازها المكتفي ، وقيل إن المقتدر ردها عليهم) .
4- ( وروي أنه لما صارت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز ، رد عليهم سهام الخمس سهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسهم ذي القربى وهما من أربعة أسهم ، رده على جميع بني هاشم ، وسلم ذلك إلى محمد بن علي الباقر وعبد الله بن الحسن . وقيل إنه جعل من بيت ماله سبعين حملاً من الورق والعين من مال الخمس ، فرد عليهم ذلك ، وكذلك كلما كان لبني فاطمة وبني هاشم مما حازه أبو بكر وعمر وبعدهما عثمان ومعاوية ويزيد وعبد الملك ، رده عليهم ! واستغنى بنو هاشم في تلك السنين وحسنت أحوالهم) . (المناقب:2/52 ، وكشف الغمة:2/117 ، ويؤيده الطبقات:5/391) .
روى في سمط النجوم/1043 ، عن الإمام الصادق عليه السلام أن عمر بن عبد العزيز كان يهدي إليهم الدراهم والدنانير في زقاق العسل ، خوفاً من أهل بيته !
5-ألغى عمر بن عبد العزيز مرسوم معاوية بلعن أمير المؤمنين عليه السلام في صلاة الجمعة ، قال في شرح النهج:4/58: ( فأما عمر بن عبد العزيز فإنه قال: كنت غلاماً أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود ، فمر بي يوماً وأنا ألعب مع الصبيان ونحن نلعن علياً ، فكره ذلك ودخل المسجد ، فتركت الصبيان وجئت إليه لأدرس عليه وردي ، فلما رآني قام فصلى وأطال في الصلاة شبه المعرض عني حتى أحسست منه بذلك ، فلما انفتل من صلاته كلح في وجهي فقلت له: ما بال الشيخ؟ فقال لي: يا بنيَّ أنت اللاعن علياً منذ اليوم؟ قلت: نعم ، قال: فمتى علمت أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم ! فقلت: يا أبت وهل كان علي من أهل بدر! فقال: ويحك ! وهل كانت بدر كلها إلا له ! فقلت: لا أعود ، فقال: آلله إنك لا تعود ! قلت: نعم فلم ألعنه بعدها .
ثم كنت أحضر تحت منبر المدينة وأبي يخطب يوم الجمعة وهو حينئذ أمير المدينة ، فكنت أسمع أبي يمر في خطبه تهدر شقاشقه حتى يأتي إلى لعن علي عليه السلام فيجمجم ويعرض له من الفهاهة والحصر ما الله عالم به ، فكنت أعجب من ذلك َ، فقلت له يوماً: يا أبت أنت أفصح الناس وأخطبهم ، فما بالي أراك أفصح خطيب يوم حفلك حتى إذا مررت بلعن هذا الرجل ، صرت ألكن عيِياً ! فقال: يا بني ، إن من ترى تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك ، لم يتبعنا منهم أحد ! فوقرت كلمته في صدري مع ما كان قاله لي معلمي أيام صغري ، فأعطيت الله عهداً لئن كان لي في هذا الأمر نصيبٌ لأغيرنه ! فلما من الله عليَّ بالخلافة أسقطت ذلك وجعلت مكانه: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، وكتب به إلى الآفاق فصار سنة) .
ومدحه لذلك الشعراء ، فقال كُثيِّر عزة:
ولِيتَ فلم تشتمْ علياً ولم تُخفْ بَرِيَاً ولم تقبل إساءة مجرم
وكفَّرتَ بالعفو الذنوب مع الذي أتيت فأضحى راضياً كل مسلم
ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه من الأود البادي ثقاف المقوم
وعبَّر الشريف الرضي في رثائه له عن عقيدة الشيعة فيه فقال رحمه الله :
يا ابن عبد العزيز لو بكت العيـْـــنُ فتًى من أميةٍ لبكيتكْ
أنت نزهتنا عن السب والشتْم فلو أمكن الجزاءُ جزيتُك
دير سمعان لا أغبك غيث خيرُ ميْت من آل مروان ميتُك
فلو اني ملكتُ دفعاُ لما نا بَكَ من طارق الردى لفديتك
( شرح النهج:4/58 ، ومختصر أخبار شعراء الشيعة/69 ، والحماسة/150)
وفي الطبقات:5/393: (كان الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون علياً رحمه الله فلما ولي عمر أمسك عن ذلك فقال كثير عزة الخزاعي... ) .
وفي سير الذهبي:5/147: ( كان الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون رجلاً رضي الله عنه ، فلما ولي هو أمسك عن ذلك فقال كثير عزة..)
أقول: ما أن مات ابن عبد العزيز حتى أعاد بنو أمية سب أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر وغيرها ، كما أثبتناه في أواخر المجلد الثالث .
5- وقتله بنو أمية بالسُّم وأعادوا ظلم الناس كما كان: (وعزل يزيد عمال عمر بن عبد العزيز جميعاً) . (اليعقوبي:2/308) لكن ابن عبد العزيز فضحهم وجرَّأ المسلمين عليهم ، وفتح لبني هاشم باب الثورة ، فثار زيد بن علي رحمه الله بعد عشرين سنة ، والعباسيون بعد ثلاثين سنة . قال الوليد بن هشام: (لقيني يهودي فأعلمني أن عمر بن عبد العزيز سيلي هذا الأمر وسيعدل فيه ، ثم لقيني بعد فقال لي: إن صاحبك قد سقي فمره فليتدارك نفسه ! فلقيته فذكرته له فقال لي: قاتله الله ما أعلمه ! لقد علمت الساعة التي سقيت فيها ، ولو كان شفائي أن أمس شحمة أذني ما فعلت ، أو أوتى بطيب فأرفعه إلى أنفي فأشمه ما فعلت) ! (الفتن لنعيم بن حماد/68) .
أقول: يشير النص الى أن اليهود كانوا وراء سمه ، وقد كانت صلاتهم وثيقة بالأمويين . كما يشير الى مبالغات الناس في إيمان عمر بن عبد العزيز وتقواه ، وأنه كان مسلِّماً لقضاء الله وقدره الى حد أنه لايعالج نفسه من السُّم !
6- تقدم في سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام (4/182) أن ابن عبد العزيز كان يعرف مقام علي والأئمة من العترة عليهم السلام ، وأن الإمام عليه السلام كان يصفه بالمترف الفاسق ، ورأيت أن الجاحظ يصفه بالفاسق أيضاً ، وهذا يشير الى سلوكه الأخلاقي ، لكناصل الميزان في الحكم عليه علمه بأن بني أمية غصبوا منصب الخلافة من أهل البيت عليهم السلام ولم يُرجعها الى أصحابها ! (قال أبو بصير: كنت مع الباقر عليه السلام في المسجد ، إذ دخل عليه عمر بن عبد العزيز ، عليه ثوبان ممصران متكئاً على مولى له ، فقال عليه السلام : لَيَلِيَنَّ هذا الغلام فيظهر العدل ويعيش أربع سنين ، ثم يموت فيبكي عليه أهل الأرض ويلعنه أهل السماء. فقلنا: يا بن رسول الله أليس ذكرت عدله وإنصافه ؟ قال:يجلس في مجلسنا ولا حق له فيه ، ثم ملك وأظهر العدل)! (الخرائج:1/276) .
وتقدم أن روايتهم عن الإمام الباقر عليه السلام أنه: ( نجيب بني أمية ويبعث يوم القيامة أمة وحده) يدل على تميزه عن غيره من خلفائهم ، ولايدل على نجاته .
7- روى ابن عساكر:69/160، أن يزيد بن معاوية صَلَبَ رأس الحسين عليه السلام في دمشق ثلاثة أيام ، ثم وضعه: ( في خزائن السلاح.. فلما ولي عمر بن عبد العزيز بعث إلى الخازن خازن بيت السلاح: وجِّه إليَّ رأس الحسين بن علي ، فكتب إليه أن سليمان أخذه وجعله في سفط وصلى عليه ودفنه ، فصح ذلك عنده . فلما دخلت المسودة سألوا عن موضع الرأس فنبشوه وأخذوه والله أعلم ما صُنع به ) .
أقول: هذه الرواية من تصوراتهم ، والمعتمد عند المصريين أنه بقي في خزائن بني أمية ودفنوه في عسقلان ثم في القاهرة ، والمعتمد عندنا أن الإمام زين العابدين عليه السلام أخذه من يزيد وأعاده الى كربلاء ، ودفنه مع الجسد الشريف .
8- روى ابن عساكر:30/297، وغيره ، أن عمر بن العزيز أرسل محمد بن الزبير الى الحسن البصري يقول له
إشفني فيما اختلف فيه الناس: هل كان رسول الله (ص) استخلف أبا بكر؟ فاستوى الحسن قاعداً فقال: أوَفي شك هو لا أباً لك ! إي والله الذي لا إله إلا هو لقد استخلفه) . وعلق عليه الأميني رحمه الله في االغدير:5/345 ، بقوله: (أنظر إلى هذا المتقشف المتزهد الجامد ، كيف يحلف كذباً بالله تعالى على ما لا تعترف به الأمة جمعاء ، حتى نفس أبي بكر وعمر) !
أقول: يدل ذلك على أن النص كان ميزان صحة الخلافة عند ابن عبد العزيز والناس في عصره ، وأن بني أمية أو غيرهم ادعوا النص على أبي بكر ، وكان الخليفة متحيراً ، فأراد أن (يشفي) شكه بسؤال الحسن البصري !
وقد يكون ذلك في مرحلة من حياته ، ثم وصل الى تفضيل أهل البيت عليهم السلام على نفسه وجميع الناس ، فقد قضى في رجل فضَّل معاوية على علي عليه السلام بالتعزيز والنفي ، وكان يقول: (ما علمنا أحداً كان في هذه الأمة أزهد من علي بن أبي طالب بعد النبي) . (الكامل لابن الأثير:3/401 ، راجع جواهر التاريخ:4/183) . وقضى بأن علياً عليه السلام أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ، فقد روى ابن الكلبي أن عامل عمر بن العزيز رفع اليه مسألة رجل حلف أن علياً خير هذه الأمة وأولاها برسول الله صلى الله عليه وآله وإلا فامرأته طالق ثلاثاً ، فقال له أبوها طَلُقَتْ منك ، واختلفا: ( فجمع عمر بن عبد العزيز بني هاشم وبني أمية... ما تقولون في يمين هذا الرجل؟... وكتب عمر إلى عامله ابن مهران..: قد صدَّق الله يمين الزوج وأبرَّ قسمه ، وأثبته على نكاحه ، فاستيقن ذلك واعمل عليه ) . ( شرح النهج:20/222 ، وملاحم ابن طاووس/385 ) .
9- في هذا الجو السياسي الذي هيأه الله للإمام الباقر عليه السلام انطلق في جهده النبوي على مدى أربع عشرة سنة ، يجهر بالحق ، ويواجه تآمر قريش وتحريفها للإسلام ، ويفضح سياسات الحكام ، ويعلي الصرح الفكري والإجتماعي للفئة الثابتة في زمن الإنحراف ! وقد استفادت ثورة الحسنيين والعباسيين من هذه الأرضية ونشأت بفضل هذه الموجة ، وكان الدفع العملي لها ثورة أخيه زيد رحمه الله ، أبكر ثورة هاشمية بعد كربلاء .
وعندما مات عمر ابن عبد العزيز ، وتولى بعده يزيد بن عبد الملك مدة أربع سنين ، ثم هشام بن عبد الملك عشر سنين ، لم يستطيعا إيقاف الموجة الفكرية والإجتماعية والسياسية التي أحدثها الإمام عليه السلام ، لأنها كَوَّنَتْ واقعاً جديداً في الأمة ، جريئاً على بني أمية وطغيانهم . وساعد عليه عدم الإستقرار السياسي للنظام الأموي ، وأن الخليفة كان مشغولاً بالصراع مع ولاته ، وقد انفتح هذا الباب في زمن ابن عبد العزيز عندما عزل حاكم البصرة وبلاد فارس ابن المهلب ، وحبسه في الشام ، فهرب من سجنه وعاد الى موطنه وأعلن الحرب على بني أمية ! وكذلك اضطربت ولاية خراسان وشمال إيران ، واستفحل الخوارج في العراق ..الخ.
الباقر والصادق عليهما السلام
1- الجبارون في عصر الإمام عليه السلام كالجبارين في عصر هود عليه السلام
كان الإمام الباقر عليه السلام أبرز شخصيات بني هاشم على الإطلاق ، مُهاباً من الدولة محترماً من الثائرين ، يقوم بثورته على طريقته ، فيرسخ معالم الإسلام كما نزل من عند الله تعالى على جده صلى الله عليه وآله ، ويفضح التحريف الحكومي ومؤامرة قريش على أئمة العترة النبوية ، الذين اختارهم الله ورسوله لإمامة الأمة .
لذلك كان منطقه عليه السلام هادراً قوياً كمنطق نبي الله هود عليه السلام لأن معاصريهما جبابرة أشداء فوجب أن يكون منطقهما عليهما السلام كاسحاً لأفكارهم الباطلة وغرورهم !
وقوم هود عليه السلام هم عاد الأولى والثانية ، أصحاب حضارة بعد قوم نوح عليه السلام وعاصمتهم الأحقاف في اليمن والجزيرة ، وكانوا جبارين ذوي ثروة وأجسام ضخمة ، وكان لابد لمنطق نبيهم عليه السلام أن يتناسب مع حالتهم في القوة والشدة !
قال الله تعالى في سورة الأعراف:
قَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ . قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ . أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَاتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ . قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِى فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ . فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِين)َ .
وقال تعالى في سورة فُصِّلَتْ: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ . إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لانْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ . فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَأَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ . فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ .
وقال في سورة الحاقة: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ . سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) .
والآيات فيهم كثيرة ، ومثَلُهُم في أمتنا الجبارون المعاصرون للنبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام ، فهم فراعنة قال الله تعالى لهم: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً. (المزمل:15) ، وقال فيهم النبي صلى الله عليه وآله بعد أن اضطروا لخلع سلاحهم وإعلان إسلامهم: (يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين ! قد امتحن الله قلبه على الإيمان !
قالوا: من هو يا رسول الله؟ فقال له أبو بكر: من هو يا رسول الله؟ وقال عمر: من هو يا رسول الله؟ قال هو خاصف النعل ، وكان أعطى علياً نعله يخصفها) . (الترمذي:5/298، وصححه ، ونحوه أبو داود:1/611 . راجع صراع قريش مع النبي صلى الله عليه وآله للمؤلف/50) .
وهم أنفسهم الذي جاهدهم علي والأئمة من أبنائه عليهم السلام !
لذلك نرى أن منطق الإمام الباقر عليه السلام كان معهم قوياً كاسحاً قاصعاً ، كمنطق نبي الله هود عليه السلام ، وأن أحاديثه تميز بجرأتها وصراحتها في كشف مؤامرة قريش وشرح فريضة ولاية أهل البيت النبوي عليهم السلام والبراءة من ظالميهم وأعدائهم . ولتسميته بالباقر علاقة بذلك ، حيث لبَّد المحرفون سماء ثقافة الأمة بغيوم الجاهلية الأموية واليهودية ، فاحتاجت الى من يفجر النور ويبددها .
2- الإمام يصف حالة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم في زمن بني أمية
وصف الإمام الباقر عليه السلام اضطهاد بني أمية لأهل البيت عليهم السلام وشيعتهم ، فقال لبعض أصحابه كما في شرح النهج:11/43:
(يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيانا وتظاهرهم علينا؟! وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس؟! إن رسول الله صلى الله عليه وآله قبض وقد أخبر أنا أولى الناس بالناس ، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه ، واحتجَّت على الأنصار بحقنا وحجتنا ! ثم تداولتها قريش واحد بعد واحد ، حتى رجعت إلينا فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا ، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتى قتل ، فبويع الحسن ابنه وعوهد ، ثم غدر به وأسلم ، ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه ، ونهبت عسكره وعولجت خلاليل أمهات أولاده ! فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته وهم قليل حق قليل !
ثم بايع الحسين عليه السلام من أهل العراق عشرون ألفاً ثم غدروا به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم ، وقتلوه ! ثم لم نزل أهل البيت نستذل ونستضام ، ونقصى ونمتهن ، ونحرم ونقتل ونخوف ! ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا !
ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة ، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ، ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله ليبغضونا إلى الناس ! وكان عِظَمُ ذلك وكِبْرُه زمن معاوية بعد موت الحسن عليه السلام ، فقتلت شيعتنا بكل بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة ، وكان من يذكر بحبنا والإنقطاع إلينا سجن أو نهب ماله ، أو هدمت داره !
ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين عليه السلام .
ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة ، وأخذهم بكل ظنة وتهمة ، حتى إن الرجل ليقال له زنديق أو كافر ، أحب إليه من أن يقال شيعة علي عليه السلام !
وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير ولعله يكون ورعاً صدوقاً ، يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها ولا كانت ولا وقعت ! وهو يحسب أنها حق ، لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع ) ! انتهى.
كما وصف الإمام الجواد عليه السلام اضطهاد تلاميذ الإمام زين العابدين عليه السلام وكيف نجا بعضهم من القتل ، قال: ( أما يحيى بن أم الطويل فكان يظهر الفتوة ، وكان إذا مشى في الطريق وضع الخلوق على رأسه ويمضغ اللبان ويطول ذيله ، وطلبه الحجاج فقال تلعن أبا تراب وأمر بقطع يديه ورجليه وقتله . وأما سعيد بن المسيب فنجا وذلك أنه كان يفتي بقول العامة وكان آخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فنجا . وأما أبو خالد الكابلي فهرب إلى مكة واخفى نفسه فنجا . وأما عامر بن واثلة فكانت له يد عند عبد الملك بن مروان فلهى عنه . وأما جابر بن عبد الله الأنصاري فكان رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يتعرض له وكان شيخاً قد أسن . وأما أبو حمزة الثمالي وفرات بن أحنف ، فبقوا إلى أيام أبي عبد الله ، وبقي أبو حمزة إلى أيام أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام ) . (رجال الطوسي:1/338 ) .
أقول: تبلغ مفردات الإضطهاد والظلم التي ذكرها الإمام عليه السلام والتي لم يذكرها مجلدات ، لأنها تغطي قرناً كاملاً من يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله الى عصره عليه السلام .
3- الجبابرة ومشاريع الجبابرة الذين عاصرهم الإمام عليه السلام
عاصر الإمام عليه السلام سنوات حكم يزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم ، وعبد الملك الذي توفي سنة86 ، وأبناء عبد الملك: الوليد قاتل الإمام زين العابدين عليه السلام سنة94 ، وتوفي الوليد سنة 96 ، ثم سليمان ، وتوفي سنة99 ، ثم عمر بن عبد العزيز وتوفي سنة101، ثم يزيد بن عبد الملك وتوفي105 .
كما أدرك الإمام الباقر عليه السلام تسع سنين من حكم الطاغية هشام بن عبد الملك ، الذي ارتكب جريمة قتل الإمام عليه السلام سنة114 ، ثم هلك هشام سنة125، وبعد سبع سنوات من هلاكه انهار النظام الأموي بثورة العباسيين .
ونقصد بمشاريع الجبابرة: الشخصيات التي كانت تعمل للثورة على بني أمية وأخذ السلطة ، وتتبنى نفس منهج بني أمية في قتل من خالفها واضطهادهم ، وظلم المسلمين والإستئثار بثرواتهم !
إن احترام النص النبوي ، أو احترام إرادة الأمة في اختيار حكامها ، واحترام دمائها وكرامتها وملكيتها وحقوقها الفردية والعامة ، أمورٌ غائبةٌ عن منهج هؤلاء الثوار ، حتى لو رفعوها شعارات براقة ، لجذب الجمهور المرهق المسكين !
وكذلك شعار يالثارات الحسين عليه السلام ، وشعار تطبيق العدالة الإسلامية ورد ظلامات المسلمين الى أهلها..كلها كلام كاذب عند أولئك الثوار ، فحكمهم نفس الحكم الجبري الأموي ، وقائدهم طاغ جبار وإن تسمى بخليفة النبي صلى الله عليه وآله ، وانتسب بالقرابة الى النبي صلى الله عليه وآله !
هكذا كانت نظرة الإمام الباقر عليه السلام الى مشاريع الثورة على بني أمية ، التي أخذت في عصره تتشكل في حركات سرية ، لكن أخبارها علنية !
كان الإمام عليه السلام ينظر الى الفقهاء بأنهم مرتزقة غير صادقين، ومثلهم السياسيون ! فقد سأله رجل عن مسألة فأجابه الإمام عليه السلام ، فقال الرجل: (إن الفقهاء لا يقولون هذا ، فقال: يا ويحك وهل رأيت فقيهاً قط؟! إن الفقيه حق الفقيه: الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة ، المتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وآله ) . (الكافي:1/70) .
وقد روينا في المقدمة تسمية الإمام عليه السلام لأبي جعفر المنصور بالجبار ، عندما كان جالساً في المسجد على أثر وفاة أبيه زين العابدين عليه السلام (الخرائج:1/273) فدخل داود بن علي بن عبدالله بن العباس وابن أخيه أبو جعفر المنصور ، فقعدوا ناحية من المسجد فقيل لهم: هذا محمد بن علي جالس ، فقام إليه داود بن علي وسليمان بن خالد ، وقعد أبو الدوانيق مكانه حتى سلموا على أبي جعفر ، فقال لهم أبو جعفر: ما منع جباركم من أن يأتيني؟! فعذَّروه عنده فقال: أما والله لا تذهب الليالي والأيام حتى يملك ما بين قطريها ! الخ.) . (الكافي:8/210) .
على أن المنصور كان في ذلك الوقت ككل أحفاد العباس تابعين لأحفاد الإمام الحسن عليه السلام بقيادة كبيرهم عبدالله بن الحسن المثنى ، الذي سمى ابنه محمداً بالمهدي ، وأخذ له البيعة منهم بالإمامة والخلافة !
( قال عمير بن الفضل الخثعمي: رأيت أبا جعفر المنصور يوماً وقد خرج محمد بن عبد الله بن الحسن من دار ابنه ، وله فرس واقف على الباب مع عبد له أسود وأبو جعفر ينتظره ، فلما خرج وثب أبو جعفر فأخذ بردائه حتى ركب ، ثم سوى ثيابه على السرج ومضى محمد . فقلت وكنت حينئذ أعرفه ولا أعرف محمداُ: من هذا الذي أعظمته هذا الإعظام حتى أخذت بركابه ، وسويت عليه ثيابه؟ قال: أوما تعرفه ؟ قلت: لا . قال: هذا محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ، مهدينا أهل البيت) . (مقاتل الطالبيين/161) . هذا ، وستعرف الخلفية التاريخية للعباسيين والحسنيين ، ومشاريع الجبابرة الذين عاصرهم الإمام الصادق عليه السلام .
4- صَمَتَ الإمام الباقر سبعَ سنين بعد أبيه عليهما السلام
بعد سبع سنوات من شهادة الإمام زين العابدين عليه السلام حدثت فُسحةٌ على عامة المسلمين ، وعلى أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم خاصة ، وذلك بهلاك الطاغية سليمان بن عبد الملك ، الذي لم يكن له ولد يصلح للخلافة ، ورأى ضعف الدولة الأموية يتفاقم بسبب نقمة المسلمين وظلم الأجهزة وفسادها ! ورأى أن الناس يميلون الى ابن عمه عمر بن عبد العزيز ، ويلهجون باسمه للخلافة لما عرف به من استقامة ، فأوصى له وبعده لأخيه يزيد بن عبد الملك . فكان عمر بن عبد العزيز نشازاً بين الملوك الأمويين لأنه (عادل) بين جبابرة ، وأعور بين عميان !
وقد روى محبوه أن الإمام الباقر عليه السلام سئل عنه فقال للسائل: (أما علمت أن لكل قوم نجيبة وأن نجيبة بني أمية عمر بن عبد العزيز، وإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده) . (سير الذهبي:5/120، وتاريخ دمشق:45/147، وتهذيب الكمال:21/439) .
وقد تكون الرواية صحيحة لكنها لا تدل على نجاته , بل على تميزه على ملوك قومه .
وكان عصره الفرصة الموعودة في مقادير الله تعالى للإمام الباقر عليه السلام ، قال الشيخ الطوسي قدس سره في رجاله:1/339: (عن القاسم بن عوف قال: كنت أتردد بين علي بن الحسين وبين محمد بن الحنفية ، وكنت آتي هذا مرة وهذا مرة . قال: ولقيت علي بن الحسين عليه السلام فقال لي: يا هذا إياك إن تأتي أهل العراق فتخبرهم أنا استودعناك علماً ، فإنا والله ما فعلنا ذلك ! وإياك أن تترايس بنا فيضعك الله ، وإياك أن تستأكل بنا فيزيدك الله فقراً ، واعلم أنك إن تكن ذنباً في الخير خير لك من أن تكون رأساً في الشر . واعلم أنه من يحدث عنا بحديث سألناه يوماً ، فإن حدث صدقاً كتبه الله صديقاً ، وإن حدث وكذب كتبه الله كذاباً ! وإياك أن تشد راحلة ترحلها فإنما هاهنا يطلب العلم حتى يمضي لكم بعد موتي سبع حجج ، ثم يبعث الله لكم غلاماً من ولد فاطمة عليها السلام ينبت الحكمة في صدره كما ينبت الطَّلُّ الزرع ! قال: فلما مضى علي بن الحسين حسبنا الأيام والجمع والشهور والسنين ، فما زادت يوماً ولا نقصت حتى تكلم محمد بن علي بن الحسين باقر العلم صلوات الله عليهم) . انتهى.
يدل ذلك على أن ظرف الإمام زين العابدين عليه السلام وإن سمح بقدر من الدفاع ومقاومة التحريف ، إلا أنه لم يسمح بطرح خط أهل البيت عليهم السلام بشكل كامل إسلاماً ربانياً مقابل إسلام السلطة الأموية ، وعقيدةً صحيحة مقابل عقيدتها الرسمية ، وخطاً سياسياً مقابل خط السلطة . وأن هذا الظرف سيستمر سبع سنين بعد وفاته عليه السلام (بعد موتي سبع حجج) وهي بقية حكم الوليد بن عبد الملك وأخيه سليمان وشطر من حكم عمر بن عبد العزيز ، فالحجات السبع تبدأ من وفاته عليه السلام سنة94 ، فيكون آخرها سنة100هجرية في خلافة عمر بن العزيز ، حيث بدأت في صفر سنة99 ، وانتهت بموته مسموماً سنة101 هجرية .
ومعنى قول الإمام زين العابدين عليه السلام : (وإياك أن تشد راحلة ترحلها فإنما هاهنا يطلب العلم ، ثم يبعث الله لكم غلاماً من ولد فاطمة عليها السلام تنبت الحكمة في صدره كما ينبت الطَّلُّ الزرع): أي لاتتعب نفسك في طلب العلم الحقيقي ، فلا يوجد عند علماء السلطة ، ولا قبل سبع سنين حيث سيبدأ الباقر عليه السلام بطرح مذهب أهل البيت عليهم السلام كإسلام متكامل مقابل إسلام السلطة .
5- كان عهد عمر بن عبد العزيز منطلقاً للإمام الباقر عليه السلام
(كانت ولاية عمر ثلاثين شهراً...وتوفي لست بقين من رجب سنة 101، وهو ابن تسع وثلاثين سنة ، وكان أسمر ، رقيق الوجه حسن اللحية ، غائر العينين بجبهته أثر، وعهد إلى يزيد بن عبد الملك) . (اليعقوبي:2/308 ، والطبري:5/318) .
وكان في وجهه أثر جرح من رفسة فرس ويسمى أشجَّ بني أمية . (فتن ابن حماد/75) .
وكان عهده على قصر مدته متنفساً للمسلمين من اضطهاد قومه بني أمية ! والطريف أن سلفه سليمان بن عبد الملك الذي اختاره للخلافة كان ظلوماً عسوفاً لكن كانت لعمر بن عبد العزيز يدٌ عليه حيث وقف معه لما أراد أخوه أن ينتزع الخلافة منه ، فحفظها له سليمان وكتب له عهده عندما عاجله الموت وهو شاب ، فقد حكم سنتين وثمانية أشهر ، وكان أكولاً لايكاد يشبع ، وأمر أولاده أن يبايعوا عمر بن عبد العزيز وهو يحتضر: (ونزل عمر بن عبد العزيز قبره ، وثلاثة من ولده ، فلما تناولوه تحرك على أيديهم ، فقال ولد سليمان: عاش أبونا ورب الكعبة ! فقال عمر: بل عوجل أبوكم ورب الكعبة ! وكان بعض من يطعن على عمر يقول دفن سليمان حياً . وكانت ولاية سليمان بن عبد الملك سنتين وثمانية أشهر ، وخلف من الولد الذكور عشرة ) . ( اليعقوبي:2/299) .
ونصُّ عهده لعمر: (هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز: إني قد وليتك الخلافة من بعدي ، ومن بعدك يزيد بن عبد الملك ، فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله ، ولا تختلفوا فيطمع فيكم) . (تاريخ الطبري:5/306) .
لقد أراد الله تعالى في مطلع القرن الثاني للهجرة ، أن يفتح باب رحمة على أمة نبيه صلى الله عليه وآله وباب عذاب على بني أمية ! وقد لمس بنو أمية خطر خلافة ابن العزيز ، لأنه أعلن إدانة من كان قبله من الخلفاء بظلمهم للمسلمين ومصادرتهم لحرياتهم واستباحتهم لأموالهم ! وأعلن أنه سيحقق العدالة ويرد ظلامة كل مظلوم ! وباشر بإعادة الحريات للناس ، وأصدر المراسيم بتغيير الولاة ورد الظلامات الى أهلها ، فاستنفر بنو أمية ضده وكانوا قبيلة كثيرة بيدهم مفاصل الدولة ، وقتلوه بالسم ، وأعادوا الظلم كما كان ، ونصبوا بعده يزيد بن عبد الملك ، ثم هشام بن عبد الملك ، وهو الذي ارتكب جريمة قتل الإمام الباقر عليه السلام ، ونفذ ذلك والي المدينة أو غيره من المقربين الى الخليفة .
والنص التالي يكشف الفرق في نظر الإمام الباقر عليه السلام بين سليمان بن عبد الملك وخليفته عمر بن عبد العزيز: فقد روى اليعقوبي في تاريخه:2/306 ، أن عمر بن عبد العزيز ذكر الإمام زين العابدين عليه السلام يوماً فقال: ( ذهب سراج الدنيا وجمال الإسلام وزين العابدين ! فقيل له: إن ابنه أبا جعفر محمد بن علي فيه بقية ، فكتب عمر يختبره ، فكتب إليه محمد كتاباً يعظه ويخوفه ! فقال عمر: أخرجوا كتابه إلى سليمان فأخرج كتابه فوجده يقرظه ويمدحه ، فأنفذ إلى عامل المدينة وقال له: أحضر محمداً وقل له: هذا كتابك إلى سليمان تقرظه ، وهذا كتابك إليَّ مع ما أظهرت من العدل والإحسان ! فأحضره عامل المدينة وعرفه ما كتب به عمر فقال: إن سليمان كان جباراً كتبت إليه بما يكتب إلى الجبارين ، وإن صاحبك أظهر أمراً فكتبت إليه بما شاكله ! وكتب عامل عمر إليه بذلك فقال عمر: إن أهل هذا البيت لا يخليهم الله من فضل) ! انتهى.
ومعناه أن سليمان برأي الإمام عليه السلام جبارٌ لا يتحمل أن يطرح الإمام مذهب أهل البيت عليهم السلام ، فكان يداريه كما دارى الأنبياء عليهم السلام فراعنة عصورهم .
أما عمر بن عبد العزيز فأعلن أنه يريد تحقيق العدل وكان يتحمل النصيحة ، لذلك كتب له الإمام عليه السلام بما كتب ، فأعجبه ذلك .
لقد كان عهد ابن عبد العزيز فرصة للإمام عليه السلام ليبدأ مشروعه في الجهر بالحق ، وينشط تلاميذه في البلاد لنشر الحق! فبَقَرَ الإمام الباقر عليه السلام علوم جده صلى الله عليه وآله وفجَّرها ، كما بَقَرَ طريق الثورة على الأمويين وشقها أمام فئات الهاشميين !
6- نقاط إيجابية من عصر ابن عبد العزيز
1- تقدم أنه عندما تولى الخلافة دعا الإمام الباقر عليه السلام الى الشام ليسشتيره في أمور الخلافة: (فدخل فحدثه ساعة وقال إني: أريد الوداع يا أمير المؤمنين ، قال عمر فأوصني يا أبا جعفر ، قال: أوصيك بتقوى الله ، واتخذ الكبير أباً ، والصغير ولداً ، والرجل أخاً ، فقال: رحمك الله جمعت لنا والله ما إن أخذنا به وأماتنا الله عليه ، استقام لنا الخير إن شاء الله ) . (تاريخ دمشق:54/268، وأمالي القالي/495) .
2- (قال أبو بكر بن أبي سبرة: لما رد عمر بن عبد العزيز المظالم قال: إنه لينبغي أن لا أبدأ بأول إلا من نفسي ، فنظر إلى ما في يديه من أرض أو متاع فخرج منه ، حتى نظر إلى فص خاتم فقال: هذا مما أعطانيه الوليد بن عبد الملك مما جاءه من أرض المغرب فخرج منه) . (الطبقات:5/341) .
( لما استخلف قال: يا أيها الناس ، إني قد رددت عليكم مظالمكم ، وأول ما أرد منها ما كان في يدي ، وقد رددت فدك على ولد رسول الله (ص) وولد علي بن أبي طالب ، فكان أول من ردها ) . (بحار الأنوار:29/208) .
(ونكث عمر أعمال أهل بيته وسماها مظالم ، وكتب إلى عماله جميعاً: أما بعد فإن الناس قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله ، وسنن سيئة سنتها عليهم عمال السوء ، قلما قصدوا قصد الحق والرفق والإحسان ، ومن أراد الحج فعجلوا عليه عطاءه حتى يتجهز منه، ولا تحدثوا حدثاً في قطع وصلب حتى تؤامروني..
وأعطى بني هاشم الخمس ، ورد فدكاً وكان معاوية أقطعها مروان فوهبها لابنه عبد العزيز فورثها عمر منه ، فردها على ولد فاطمة فلم تزل في أيديهم حتى ولي يزيد بن عبد الملك ، فقبضها . ورد عمر هدايا النيروز والمهرجان ورد السُّخَر ، ورد العطاء على قدر ما استحق الرجل من السنة ، وورث العيالات على ما جرت به السنة ، غير أنه أقر القطائع التي أقطعها أهل بيته والعطاء في الشرف لم ينقصه ولم يزد فيه ، وزاد أهل الشأم في أعطياتهم عشرة دنانير ، ولم يفعل ذلك في أهل العراق ) . (تاريخ اليعقوبي:2/305 ، ونحوه الطبري:5/321) .
3- ( لما ولي عمر بن عبد العزيز ، فردَّ فدك على ولد فاطمة عليها السلام وكتب إلى واليه على المدينة أبي بكر بن عمر بن حزم يأمره بذلك ، فكتب إليه: إن فاطمة قد ولدت في آل عثمان وآل فلان وآل فلان ! فكتب إليه: أما بعد فإني لو كنت كتبت إليك آمرك أن تذبح شاة لسألتني جماء أو قرناء ! أو كتبت إليك أن تذبح بقرة لسألتني ما لونها ! فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها بين ولد فاطمة من علي والسلام ! قال أبو المقدام: فنقمت بنو أمية ذلك على عمر بن عبد العزيز وعاتبوه فيه وقالوا له: هجَّنْتَ فعل الشيخين ! وخرج إليه عمرو بن عبس في جماعة من أهل الكوفة ، فلما عاتبوه على فعله قال: إنكم جهلتم وعلمت ونسيتم وذكرت ، إن أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم حدثني عن أبيه عن جده ، أن رسول الله قال: فاطمة بضعة مني يسخطني ما يسخطها ويرضيني ما يرضيها، وإن فدك كانت صافية على عهد أبي بكر وعمر ، ثم صار أمرها إلى مروان فوهبها لأبي عبد العزيز ، فورثتها أنا وإخواني فسألتهم أن يبيعوني حصتهم منها فمنهم من باعني ، ومنهم من وهب لي ، حتى استجمعتها فرأيت أن أردها على ولد فاطمة ! فقالوا: إن أبيت إلا هذا فأمسك الأصل واقسم الغلة ، ففعل)! (الشافي:4/102، وشرح النهج:16/278) .
(فسلمها إلى محمد بن علي الباقر عليه السلام وعبد الله بن الحسن ، فلم تزل في أيديهم إلى أن مات عمر بن عبد العزيز ) . (كشف الغمة:2/117) .
(فقيل له: طعَنْتَ على الشيخين ! فقال: هما طعنا على أنفسهما ! وذلك لما صار إليه محمد بن علي عليه السلام ) . (المسترشد لمحمد بن جرير الطبري ( الشيعي)/503) .
( لما دخل المدينة عمر بن عبد العزيز نادى مناديه: من كانت له مظلمة وظلامة فليحضر ، فدخل إليه مولاه مزاحم فقال: إن محمد بن علي بالباب ، فقال له: أدخله يا مزاحم قال: فدخل وعمر يمسح عينيه من الدموع ، فقال له محمد بن علي: ما أبكاك يا عمر؟ فقال هشام: أبكاه كذا وكذا يا ابن رسول الله ، فقال محمد بن علي)فلما رآه استقبله وأقعده مقعده فقال عليه السلام : إنما الدنيا سوق من الأسواق يبتاع فيها الناس ما ينفعهم وما يضرهم ، وكم قوم ابتاعوا ما ضرهم فلم يصبحوا حتى أتاهم الموت ، فخرجوا من الدنيا ملومين لمَّا لم يأخذوا ما ينفعهم في الآخرة ، فقسم ما جمعوا لمن لم يحمدهم ، وصاروا إلى من لا يعذرهم . فنحن والله حقيقون أن ننظر إلى تلك الأعمال التي نتخوف عليهم منها ، فكف عنها واتق الله ، واجعل في نفسك اثنتين: إلى ما تحب أن يكون معك إذا قدمت على ربك فقدمه بين يديك ، وانظر إلى ما تكره أن يكون معك إذا قدمت على ربك فارمه ورائك . ولا ترغبن في سلعة بارت على من كان قبلك فترجو أن يجوز عنك ، وافتح الأبواب وسهل الحجاب ، وأنصف المظلوم ورد الظالم . ثلاثة من كن فيه استكمل الإيمان بالله (فجثا عمر على ركبتيه ، ثم قال: إيه أهل بيت النبوة ، قال: نعم يا عمر) من إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل ، ومن إذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق ، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له . فدعا عمر بدواة وبياض وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما رد عمر بن عبد العزيز ، ظلامة محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم بفدك) . (الخصال/105، ومناقب آل أبي طالب:3/337 ،والمسترشد للطبري الشيعي/504) .
أقول: تفاوتت الرواية في كيفية رده ظلامة فدك ، فذكر بعضها أنه رد غلتها دون أصلها ، وذكر بعضها أنه سلمها الى الإمام الباقر عليه السلام ليقسمها بين أولاد فاطمة عليها السلام ، وبعضها أنه سلمها له ولعبد الله بن الحسن المثنى . واتفق الرواة على أن يزيد بن عبد الملك الذي حكم بعده ، أعادها الى بني أمية !
لكن يبقى ردها عملاً مهماً ، لأنه اعتراف من خليفة أموي بظلامة فاطمة عليها السلام وظلامة أبنائها ، وتخطئة للسياسات السابقة تجاههم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله حتى ورد أنه ( لما رد عمر بن عبد العزيز مظالم أهل بيته وأخذهم بالحق ، قال مولى لآل مروان بربري: وأنتم أيضاً فتزوجوا بنات عمر بن الخطاب) . (تاريخ دمشق:70/255) .
قال اليعقوبي:2/305: (وترك لعن علي بن أبي طالب على المنبر ، وكتب بذلك إلى الآفاق... وأعطى بني هاشم الخمس ، ورد فدكاً وكان معاوية أقطعها مروان فوهبها لابنه عبد العزيز فورثها عمر منه فردها على ولد فاطمة . فلم تزل في أيديهم حتى ولي يزيد بن عبد الملك فقبضها) .
وفي الطرائف/252: (فردها عليهم السفاح ، ثم قبضت فردها عليهم المهدي ، ثم قبضت فردها عليهم المأمون... قبضت منهم بعد المأمون فردها عليهم الواثق ، ثم قبضت فردها عليهم المستعين ، ثم قبضت فردها عليهم المعتمد ، ثم قبضت فردها المعتضد ، ثم قبضت فردها عليهم الراضي) .
وفي المناقب:2/52: (وردها عليهم المأمون ، والمعتصم والواثق وقالا: كان المأمون أعلم منا به ، فنحن نمضي على ما مضى هو عليه ، فلما ولي المتوكل قبضها... وردها المعتضد وحازها المكتفي ، وقيل إن المقتدر ردها عليهم) .
4- ( وروي أنه لما صارت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز ، رد عليهم سهام الخمس سهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسهم ذي القربى وهما من أربعة أسهم ، رده على جميع بني هاشم ، وسلم ذلك إلى محمد بن علي الباقر وعبد الله بن الحسن . وقيل إنه جعل من بيت ماله سبعين حملاً من الورق والعين من مال الخمس ، فرد عليهم ذلك ، وكذلك كلما كان لبني فاطمة وبني هاشم مما حازه أبو بكر وعمر وبعدهما عثمان ومعاوية ويزيد وعبد الملك ، رده عليهم ! واستغنى بنو هاشم في تلك السنين وحسنت أحوالهم) . (المناقب:2/52 ، وكشف الغمة:2/117 ، ويؤيده الطبقات:5/391) .
روى في سمط النجوم/1043 ، عن الإمام الصادق عليه السلام أن عمر بن عبد العزيز كان يهدي إليهم الدراهم والدنانير في زقاق العسل ، خوفاً من أهل بيته !
5-ألغى عمر بن عبد العزيز مرسوم معاوية بلعن أمير المؤمنين عليه السلام في صلاة الجمعة ، قال في شرح النهج:4/58: ( فأما عمر بن عبد العزيز فإنه قال: كنت غلاماً أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود ، فمر بي يوماً وأنا ألعب مع الصبيان ونحن نلعن علياً ، فكره ذلك ودخل المسجد ، فتركت الصبيان وجئت إليه لأدرس عليه وردي ، فلما رآني قام فصلى وأطال في الصلاة شبه المعرض عني حتى أحسست منه بذلك ، فلما انفتل من صلاته كلح في وجهي فقلت له: ما بال الشيخ؟ فقال لي: يا بنيَّ أنت اللاعن علياً منذ اليوم؟ قلت: نعم ، قال: فمتى علمت أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم ! فقلت: يا أبت وهل كان علي من أهل بدر! فقال: ويحك ! وهل كانت بدر كلها إلا له ! فقلت: لا أعود ، فقال: آلله إنك لا تعود ! قلت: نعم فلم ألعنه بعدها .
ثم كنت أحضر تحت منبر المدينة وأبي يخطب يوم الجمعة وهو حينئذ أمير المدينة ، فكنت أسمع أبي يمر في خطبه تهدر شقاشقه حتى يأتي إلى لعن علي عليه السلام فيجمجم ويعرض له من الفهاهة والحصر ما الله عالم به ، فكنت أعجب من ذلك َ، فقلت له يوماً: يا أبت أنت أفصح الناس وأخطبهم ، فما بالي أراك أفصح خطيب يوم حفلك حتى إذا مررت بلعن هذا الرجل ، صرت ألكن عيِياً ! فقال: يا بني ، إن من ترى تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك ، لم يتبعنا منهم أحد ! فوقرت كلمته في صدري مع ما كان قاله لي معلمي أيام صغري ، فأعطيت الله عهداً لئن كان لي في هذا الأمر نصيبٌ لأغيرنه ! فلما من الله عليَّ بالخلافة أسقطت ذلك وجعلت مكانه: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، وكتب به إلى الآفاق فصار سنة) .
ومدحه لذلك الشعراء ، فقال كُثيِّر عزة:
ولِيتَ فلم تشتمْ علياً ولم تُخفْ بَرِيَاً ولم تقبل إساءة مجرم
وكفَّرتَ بالعفو الذنوب مع الذي أتيت فأضحى راضياً كل مسلم
ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه من الأود البادي ثقاف المقوم
وعبَّر الشريف الرضي في رثائه له عن عقيدة الشيعة فيه فقال رحمه الله :
يا ابن عبد العزيز لو بكت العيـْـــنُ فتًى من أميةٍ لبكيتكْ
أنت نزهتنا عن السب والشتْم فلو أمكن الجزاءُ جزيتُك
دير سمعان لا أغبك غيث خيرُ ميْت من آل مروان ميتُك
فلو اني ملكتُ دفعاُ لما نا بَكَ من طارق الردى لفديتك
( شرح النهج:4/58 ، ومختصر أخبار شعراء الشيعة/69 ، والحماسة/150)
وفي الطبقات:5/393: (كان الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون علياً رحمه الله فلما ولي عمر أمسك عن ذلك فقال كثير عزة الخزاعي... ) .
وفي سير الذهبي:5/147: ( كان الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون رجلاً رضي الله عنه ، فلما ولي هو أمسك عن ذلك فقال كثير عزة..)
أقول: ما أن مات ابن عبد العزيز حتى أعاد بنو أمية سب أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر وغيرها ، كما أثبتناه في أواخر المجلد الثالث .
5- وقتله بنو أمية بالسُّم وأعادوا ظلم الناس كما كان: (وعزل يزيد عمال عمر بن عبد العزيز جميعاً) . (اليعقوبي:2/308) لكن ابن عبد العزيز فضحهم وجرَّأ المسلمين عليهم ، وفتح لبني هاشم باب الثورة ، فثار زيد بن علي رحمه الله بعد عشرين سنة ، والعباسيون بعد ثلاثين سنة . قال الوليد بن هشام: (لقيني يهودي فأعلمني أن عمر بن عبد العزيز سيلي هذا الأمر وسيعدل فيه ، ثم لقيني بعد فقال لي: إن صاحبك قد سقي فمره فليتدارك نفسه ! فلقيته فذكرته له فقال لي: قاتله الله ما أعلمه ! لقد علمت الساعة التي سقيت فيها ، ولو كان شفائي أن أمس شحمة أذني ما فعلت ، أو أوتى بطيب فأرفعه إلى أنفي فأشمه ما فعلت) ! (الفتن لنعيم بن حماد/68) .
أقول: يشير النص الى أن اليهود كانوا وراء سمه ، وقد كانت صلاتهم وثيقة بالأمويين . كما يشير الى مبالغات الناس في إيمان عمر بن عبد العزيز وتقواه ، وأنه كان مسلِّماً لقضاء الله وقدره الى حد أنه لايعالج نفسه من السُّم !
6- تقدم في سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام (4/182) أن ابن عبد العزيز كان يعرف مقام علي والأئمة من العترة عليهم السلام ، وأن الإمام عليه السلام كان يصفه بالمترف الفاسق ، ورأيت أن الجاحظ يصفه بالفاسق أيضاً ، وهذا يشير الى سلوكه الأخلاقي ، لكناصل الميزان في الحكم عليه علمه بأن بني أمية غصبوا منصب الخلافة من أهل البيت عليهم السلام ولم يُرجعها الى أصحابها ! (قال أبو بصير: كنت مع الباقر عليه السلام في المسجد ، إذ دخل عليه عمر بن عبد العزيز ، عليه ثوبان ممصران متكئاً على مولى له ، فقال عليه السلام : لَيَلِيَنَّ هذا الغلام فيظهر العدل ويعيش أربع سنين ، ثم يموت فيبكي عليه أهل الأرض ويلعنه أهل السماء. فقلنا: يا بن رسول الله أليس ذكرت عدله وإنصافه ؟ قال:يجلس في مجلسنا ولا حق له فيه ، ثم ملك وأظهر العدل)! (الخرائج:1/276) .
وتقدم أن روايتهم عن الإمام الباقر عليه السلام أنه: ( نجيب بني أمية ويبعث يوم القيامة أمة وحده) يدل على تميزه عن غيره من خلفائهم ، ولايدل على نجاته .
7- روى ابن عساكر:69/160، أن يزيد بن معاوية صَلَبَ رأس الحسين عليه السلام في دمشق ثلاثة أيام ، ثم وضعه: ( في خزائن السلاح.. فلما ولي عمر بن عبد العزيز بعث إلى الخازن خازن بيت السلاح: وجِّه إليَّ رأس الحسين بن علي ، فكتب إليه أن سليمان أخذه وجعله في سفط وصلى عليه ودفنه ، فصح ذلك عنده . فلما دخلت المسودة سألوا عن موضع الرأس فنبشوه وأخذوه والله أعلم ما صُنع به ) .
أقول: هذه الرواية من تصوراتهم ، والمعتمد عند المصريين أنه بقي في خزائن بني أمية ودفنوه في عسقلان ثم في القاهرة ، والمعتمد عندنا أن الإمام زين العابدين عليه السلام أخذه من يزيد وأعاده الى كربلاء ، ودفنه مع الجسد الشريف .
8- روى ابن عساكر:30/297، وغيره ، أن عمر بن العزيز أرسل محمد بن الزبير الى الحسن البصري يقول له
أقول: يدل ذلك على أن النص كان ميزان صحة الخلافة عند ابن عبد العزيز والناس في عصره ، وأن بني أمية أو غيرهم ادعوا النص على أبي بكر ، وكان الخليفة متحيراً ، فأراد أن (يشفي) شكه بسؤال الحسن البصري !
وقد يكون ذلك في مرحلة من حياته ، ثم وصل الى تفضيل أهل البيت عليهم السلام على نفسه وجميع الناس ، فقد قضى في رجل فضَّل معاوية على علي عليه السلام بالتعزيز والنفي ، وكان يقول: (ما علمنا أحداً كان في هذه الأمة أزهد من علي بن أبي طالب بعد النبي) . (الكامل لابن الأثير:3/401 ، راجع جواهر التاريخ:4/183) . وقضى بأن علياً عليه السلام أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ، فقد روى ابن الكلبي أن عامل عمر بن العزيز رفع اليه مسألة رجل حلف أن علياً خير هذه الأمة وأولاها برسول الله صلى الله عليه وآله وإلا فامرأته طالق ثلاثاً ، فقال له أبوها طَلُقَتْ منك ، واختلفا: ( فجمع عمر بن عبد العزيز بني هاشم وبني أمية... ما تقولون في يمين هذا الرجل؟... وكتب عمر إلى عامله ابن مهران..: قد صدَّق الله يمين الزوج وأبرَّ قسمه ، وأثبته على نكاحه ، فاستيقن ذلك واعمل عليه ) . ( شرح النهج:20/222 ، وملاحم ابن طاووس/385 ) .
9- في هذا الجو السياسي الذي هيأه الله للإمام الباقر عليه السلام انطلق في جهده النبوي على مدى أربع عشرة سنة ، يجهر بالحق ، ويواجه تآمر قريش وتحريفها للإسلام ، ويفضح سياسات الحكام ، ويعلي الصرح الفكري والإجتماعي للفئة الثابتة في زمن الإنحراف ! وقد استفادت ثورة الحسنيين والعباسيين من هذه الأرضية ونشأت بفضل هذه الموجة ، وكان الدفع العملي لها ثورة أخيه زيد رحمه الله ، أبكر ثورة هاشمية بعد كربلاء .
وعندما مات عمر ابن عبد العزيز ، وتولى بعده يزيد بن عبد الملك مدة أربع سنين ، ثم هشام بن عبد الملك عشر سنين ، لم يستطيعا إيقاف الموجة الفكرية والإجتماعية والسياسية التي أحدثها الإمام عليه السلام ، لأنها كَوَّنَتْ واقعاً جديداً في الأمة ، جريئاً على بني أمية وطغيانهم . وساعد عليه عدم الإستقرار السياسي للنظام الأموي ، وأن الخليفة كان مشغولاً بالصراع مع ولاته ، وقد انفتح هذا الباب في زمن ابن عبد العزيز عندما عزل حاكم البصرة وبلاد فارس ابن المهلب ، وحبسه في الشام ، فهرب من سجنه وعاد الى موطنه وأعلن الحرب على بني أمية ! وكذلك اضطربت ولاية خراسان وشمال إيران ، واستفحل الخوارج في العراق ..الخ.
الفصل الخامس
من السيرة العطرة للإمام الباقر عليه السلام
1- ولادة الإمام الباقر عليه السلام وصفته البدنية
ولد عليه السلام في الأول من رجب سنة سبع وخمسين ، وقبض في سابع ذي الحجة سنة أربع عشرة ومئة ، فكان عمره الشريف سبعاً وخمسين سنة . وأمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي ، فهو حفيدٌ للحسن والحسين عليهما السلام ، قال الصادق عليه السلام : (كانت أمه صديقة لم يدرك في آل الحسن مثلها) . ( الدعوات/69، والدر النظيم/603) .
وتميز الإمام الباقر من بين الأئمة عليهم السلام بأنه أكثرهم بدانةً وجسامةً . فعن سدير قال: (قلت لأبي جعفر عليه السلام : أتصلي النوافل وأنت قاعد؟ فقال: ما أصليها إلا وأنا قاعد منذ حملت هذا اللحم، وبلغت هذا السن) . (الكافي:3/410 ) .
وفي فقه الرضا/183، عن الإمام الصادق عليه السلام : (وكتب أبي في وصيته: أن أكفنه في ثلاث أثواب ، أحدها رداء له حبرة كان يصلي فيه يوم الجمعة ، وثوب آخر وقميص... وشققنا له القبر شقاً من أجل أنه كان رجلاً بديناً ، وأمرني أن أجعل ارتفاع قبره أربعة أصابع مفرجات) . وجاء في وصفه عليه السلام أنه شبيه جده النبي صلى الله عليه وآله في ملامح وجهه ، حنطي اللون ، له خال على خده ، ضامر الكشح أي ليس بطيناً مع أنه بدين ، حسن الصوت ، مطرق الرأس. (مناقب آل أبي طالب:3/339) .
2- أدرك الإمام الباقر جده الإمام الحسين عليهما السلام
كان الإمام الباقر مع أبيه زين العابدين في سفره مع جده الحسين عليهم السلام الى كربلاء ، وكان عمره أربع سنوات . وروى حادثة عن جده الحسين عليهما السلام في مكة ربما كان عمره فيها ثلاث سنوات ، ففي الكافي:4/223، أن زرارة سأله: (أدركتَ الحسين عليه السلام ؟قال عليه السلام : نعم أذكر وأنا معه في المسجد الحرام ، وقد دخل فيه السيل والناس يقومون على المقام يخرج الخارج يقول: قد ذهب به السيل ويخرج منه الخارج فيقول: هو مكانه . قال: فقال (لرجل): يا فلان ما صنع هؤلاء؟ فقال: أصلحك الله يخافون أن يكون السيل قد ذهب بالمقام، فقال: ناد أن الله تعالى قد جعله علماً لم يكن ليذهب به ، فاستقروا . وكان موضع المقام الذي وضعه إبراهيم عليه السلام عند جدار البيت فلم يزل هناك حتى حوَّله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم. فلما فتح النبي صلى الله عليه وآله مكة رده إلى الموضع الذي وضعه إبراهيم عليه السلام فلم يزل هناك إلى أن وليَ عمر بن الخطاب فسأل الناس من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام؟ فقال رجل: أنا قد كنت اخذت مقداره بنسع (حزام للبعير وغيره)فهو عندي فقال: إئتني به فأتاه به فقاسه ، ثم رده إلى ذلك المكان) !
وقال اليعقوبي في تاريخه:2/320، قال أبو جعفر عليه السلام : قتل جدي الحسين ولي أربع سنين ، وإني لأذكر مقتله ، وما نالنا في ذلك الوقت) . انتهى.
ومعنى عبارته الأخيرة عليه السلام أنه عايش جيداً أحداث كربلاء ومأساتها ، والأسر الى الكوفة فالشام ، لكن لم يصلنا من روايته عليه السلام إلا قليل ! فمن ذلك أنه عندما رفع الحسين عليه السلام رضيعه ، وطالب أعدائه أن لايمنعوا عنهم الماء ، ورماه حرملة بسهم فأصابه في نحره: (تلقى الحسين عليه السلام الدم بكفيه فلما امتلأتا رمى بالدم نحو السماء ثم قال: هَوَّنَ عليَّ ما نزل بي أنه بعين الله . قال الباقر عليه السلام : فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض)(اللهوف/69) . وقال الباقر عليه السلام : (أصيب الحسين بن علي ووجد به ثلاثمائة وبضعة وعشرين طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم) . (روضة الواعظين/189 , وفي شرح الأخبار:3/54، أنها كانت كلها في صدره ووجهه عليه السلام لأن كان لايولي) .
وقال الباقر عليه السلام : (إن الحسين لما حضره الذي حضره ، دعا ابنته الكبرى فاطمة فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصيةً ظاهرةً ، ووصية باطنة . وكان علي بن الحسين مبطوناً لا يرون إلا أنه لِمَا به ، فدفعت فاطمة الكتاب إلى علي بن الحسين ، ثم صار ذلك إلينا . فقلت: فما في ذلك الكتاب؟ فقال: فيه والله جميع ما يحتاج إليه ولد آدم إلى أن تفنى الدنيا ) .(بصائر الدرجات/168، وإعلام الورى:1/482) .
أقول: كان الإمام الحسين عليه السلام أودع مواريث النبي صلى الله عليه وآله عند أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها ، وأوصاها أن تسلمها الى من يعطيها علامة ، فسلمتها الى الإمام زين العابدين عليه السلام . أما هذا الكتاب الذي كان معه عليه السلام في كربلاء ، فيظهر أنه صحيفة الألف باب التي ينفح من كل باب منها ألف باب .
3- وكان عضد أبيه الإمام زين العابدين عليهما السلام
رافق الإمام الباقر والده عليهما السلام في مراحل حياته وكان وزيره وعضده . وعندما توفي والده سنة أربع وتسعين ، كان الباقر عليه السلام في الثامنة والثلاثين من عمره ، وكان وارث أمجاد أبيه وخليفته بلا منازع . قال الذهبي يصف زين العابدين عليه السلام : (وكان له جلالة عجيبة ! وحقَّ له والله ذلك ، فقد كان أهلاً للإمامة العظمى ، لشرفه وسؤدده وعلمه وتألهه ، وكمال عقله) . (سير الذهبي:4/398) .
وتقدم أن الزهري سأل زين العابدين عليه السلام : (يا ابن رسول الله هذا الذي أوصيت إليه أكبر أولادك؟ فقال: يا أبا عبد الله ليست الإمامة بالصغر والكبر ، هكذا عَهِدَ إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهكذا وجدنا مكتوباً في اللوح والصحيفة . قلت: يا ابن رسول الله فكم عهد إليكم نبيكم أن تكون الأوصياء من بعده ؟ قال: وجدنا في الصحيفة واللوح اثني عشر أسامي مكتوبة بأسماء آبائهم وأمهاتهم ، ثم قال: يخرج من صلب محمد ابني سبعة من الأوصياء فيهم المهدي) . (كفاية الأثر/241) .
وقد أعطاه أبوه في حياته مواريث الأنبياء: (أخرج سفطاً أو صندوقاً عنده فقال: يا محمد إحمل هذا الصندوق ، قال فحُمل بين أربعة . فلما توفي جاء إخوته يدَّعون ما في الصندوق فقالوا: أعطنا نصيبنا من الصندوق فقال: والله ما لكم فيه شئ ، ولو كان لكم فيه شئ ما دفعه إليَّ وكان في الصندوق سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله وكتبه ) . (الكافي:1/305 ، وإعلام الورى/500) .
وكان الى جنب أبيه عليهما السلام في المراحل الصعبة.. في ثورة أهل المدينة وحملة جيش يزيد الوحشية عليهم في وقعة الحرة . وما تبعها من حملة يزيد على ابن الزبير واستباحته الكعبة . ثم هلاك يزيد واضطراب خلافة بني أمية ، ثم قتلهم معاوية بن يزيد رحمه الله . ثم سيطرة مروان بن الوزغ وأولاده على العرش الأموي . ثم موت مروان بعد شهور وسيطرة ابنه عبد الملك ، وحروبه مع المختار ثم مع ابن الزبير ، التي امتدت أكثر من عشر سنين . وفي أثنائها بنى عبد الملك (كعبة) على صخرة بيت المقدس وحجج المسلمين اليها بدل مكة ! كما عايش الإمام صمود أبيه عليهما السلام ورفضه ضغوط الثائرين باسم الحسين عليه السلام ، من التوابين والمختار وابن الأشتر ، وتأييده في نفس الوقت لكل من يأخذ بثأر الحسين عليه السلام ، ومدحه للمختار رحمه الله لأنه قتل عدداً من قتلة الحسين عليه السلام .
وعاصر سيطرة ابن الزبير على الحجاز بعد هلاك يزيد ، ثم حرب مصعب بن الزبير بعد أكثر من سنتين للمختار حتى انتصر عليه وقتله .
وعاصر علاقات أبيه عليهما السلام المتفاوتة في توترها وهدوئها ، مع يزيد بن معاوية ، ومروان ، وعبد الملك ، والحجاج ، وابن الزبير ، والخوارج ، وعرف في المدينة الشاب المترف عمر بن عبد العزيز ، المحب للإمام زين العابدين عليه السلام .
كما حضر مجالس أبيه عليه السلام وسمع جواهر علومه ، وعرف تلاميذه ، من محمد بن شهاب الزهري ، الى العُبَّاد والمتصوفة ، الى تلاميذه الخاصين كيحيى بن أم الطويل ، وسعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وحكيم بن جبير بن مطعم ، وكميل بن زياد ، وسعيد بن جبير .
كما شاهد الباقر عليه السلام تقديس الأمة لأبيه زين العابدين عليهما السلام فقد كان معه في مكة عندما انفسح له الناس ليستلم الحجر ، فحسده هشام بن عبد الملك وتجاهله ، فارتجل الفرزدق رحمه الله قصيدته الخالدة: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته.. فحبس الفرذزدق فهجاه بقوله: يقلب رأساً لم يكن رأس سيد .. وعيناً له حولاء بادٍ عيوبها !
وكما عاصر الإمام الباقر أباه عليهما السلام في صموده في وجه العداء الأموي وتحريف الإسلام ، فقد شاركه في حملات دفاعه القوية ضد التحريف والعداء وفي كشف مؤامرة قريش على الأئمة من العترة النبوية^، وفي عمله النبوي في تشييد صرح التشيع وبناء الفئة الشيعية من الأمة .
كان مع أبيه عليهما السلام في المدينة وفي سفر الحج ، وفي اعتزاله سنين في البادية ، وسفراته المتخفية لزيارة قبر جده أمير المؤمنين والحسين^ومسجد الكوفة .
رأى إعجاب عبد الملك بأبيه زين العابدين عليه السلام ومكائده له في نفس الوقت ، وكان مبعوث أبيه اليه ليعالج مشكلة النقد والطراز مع الروم ، كما بينا في سيرة أبه عليهما السلام . ثم عاصر الإمام عليه السلام بعد هلاك عبد الملك ، عهد ابنه الوليد ، صاحب الشخصية المعقدة والجرائم المنكرة ، وأعظمها قتله للإمام زين العابدين عليه السلام !
4- لمحة عن عبادة الإمام عليه السلام وأخلاقه
تقدم محمد بن طلحة الشافعي في مطالب السؤول/424: (صفا قلبه وزكى عمله ، وطهرت نفسه وشرفت أخلاقه ، وعمرت بطاعة الله أوقاته ، ورسخت في مقام التقوى قدمه ، وظهرت عليه سمات الإزدلاف ، وطهارة الإجتباء) .
وفي الصواعق المحرقة/201: (وارثه منهم عبادةً وعلماً وزهادة: أبو جعفر محمد الباقر .. أظهر من مخبآت كنوز المعارف ، وحقائق الأحكام والحكم واللطائف ، ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة.. صفى قلبه وزكى علمه وعمله ، وطهرت نفسه وشرف خلقه ، وعمرت أوقاته بطاعة الله ، وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكل عنه ألسنة الواصفين) .
وقال الذهبي في سيره:4/403: (وبلغنا أن أبا جعفر كان يصلي في اليوم واللية مئة وخمسين ركعة) . وفي معارج الوصول للزرندي الشافعي/121: (كان الباقر محمد بن علي من العلم والزهد ولسان الحكمة بمحل عظيم ، وله في معاني الزهد ودقائق العلوم في التوحيد كلام جم جسيم) .
وقال ابن العماد في شذرات الذهب:1/149: (قال عبد الله بن عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم علماً عنده ، وله كلام نافع في الحكم والمواعظ منه: أهل التقوى أيسر أله الدنيا مؤونة وأكثرهم معونة ، إن نسيت ذكروك ، وإن ذكرت أعانوك ، قوالين بحق الله ، قوامين بأمر الله) . انتهى.
هذا ، وقد ذكرنا نماج من إخباراته بالمغيبات عليه السلام ، في فصل بشارة النبي صلى الله عليه وآله به وتسميته باقر علم النبوة .
-----------------
الفصل السادس
تصعيد الإمام الباقر عليه السلام مواجهته للنظام الأموي
1- الإمام الباقر عليه السلام يُعلي صَرْحَ التشيع
حددت صحيفة الوصية البليغة التي تقدمت في الفصل الأول ، البرنامج الرباني للإمام الباقر عليه السلام : ( فسِّرْ كتاب الله تعالى ، وصدِّقْ أباك ، وورِّثْ ابنك ، واصطنع الأمة ، وقم بحق الله عز وجل ، وقل الحق في الخوف والأمن ، ولا تخش إلا الله ) .
ولكل فقرة منها دلالات وأبعاد وآفاق ، وغرضنا منها الفقرة الأخيرة التي ترفع التقية عن الإمام عليه السلام ليجهر بالحق في الخوف والأمن ، ويكشف التحريف .
كما حدد حديث أبيه زين العابدين عليهما السلام وقت بدء انطلاقته في بَقْر علم النبوة وتفجير ينابيعها ، حيث قال عليه السلام للقاسم بن عوف رحمه الله : ( وإياك أن تشد راحلة ترحلها ، فما ها هنا مطلب العلم حتى يمضي لكم بعد موتي سبع حجج ، ثم يبعث الله لكم غلاماً من ولد فاطمة يُنبت الحكمة في صدره كما يُنبت الطَّلُّ الزرع ) .
وبعد سبع سنين تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز ، الشاب المترف المعجب بالإمام زين العابدين عليه السلام ، الذي عايشه في المدينة عندما كان أبوه واليها ، ثم عندما صار هو الوالي ، وكان محباً لبني هاشم عترة النبي صلى الله عليه وآله ، معجباً بالإمام زين العابدين عليه السلام أيما إعجاب كما بينا في المجلد الرابع ، وظل يذكره بإيمان ولهفة ويقول: (ذهب سراج وجمال الإسلام وزين العابدين) (تاريخ اليعقوبي:2/306 ) . وقد انتقل إعجابه الى ولده محمد الباقر عليه السلام فانفتح الباب لانطلاقة الإمام عليه السلام طوال أربع عشرة سنة من عمره الشريف ، منها خمس سنوات في عهدي ابن عبد العزيز وخلفه يزيد بن عبد الملك ، ثم واصل جهاده في عهد الطاغية هشام بن عبد الملك ، حتى استشهد بيده بعد تسع سنين !
وفي هذه المدة جهر الإمام عليه السلام بالحق في حديثه ومواقفه ، فبيَّنَ معالم الإسلام النبوي ومركزية ولاية أهل البيت فيه ، وبَلْوَرَ معالم فقه الإسلام وشريعته ، ورسَّخَ أسس التشيع التي أرساها آباؤه، وفضح عمل قريش وتآمرها .
وربى على ذلك جيلاً من العلماء والرواة ، كما تقدم في فصله ، ونشر مذهب أهل البيت^في العراق وخراسان والشام والحجاز ، وغيرها من مناطق الدولة .
ولو تتبعنا مفردة واحدة من نشاطه العلمي تطبيقاً لأمر الله تعالى: ( فسر كتاب الله) لرأينا العمق واليقين في تفسير القرآن ، في عصر ساد فيه التفسير السطحي بالإسرائيليات ، من علماء الدولة كعكرمة وقتادة ومجاهد والحسن البصري !
وصدِّقْ أباك.. أي: رسِّخ ما بناه أبوك زين العابدين عليه السلام من عقائد الإسلام وأخلاقيته وروحانيته ، وظلامة العترة الطاهرة
وورِّثْ ابنك.. أي قم بما يتعلق بك من إعداد جعفر الصادق عليه السلام وتعريفه للأمة ، والوصية له ، وتوريثه جهدك ومجدك ومواريث الأنبياء^ .
ومعنى ذلك: ركز مكانة آبائك وابنك واربط الأمة بهم ، وعلمها أن توالي هذه الأسرة الربانية المختارة وتقتدي بهم ، حتى لا ينصب لها المنحرفون أنداداً وأئمة من دون الله تعالى ، ويخدعوها بولاية الطغاة المقنعين ، وعلمائهم المضلين !
واصطنع الأمة.. أي قم ببناء الفئة الواعية الناجية داخل الأمة ، فاختر علماءها وعناصرها ، وتألفهم بالتربية والرعاية والإدارة . وهذا ما قام به الإمام عليه السلام فكان ينمي الكتلة الموالية لأهل البيت عليهم السلام ويرعاهم ويوجه اليهم الرسائل والمبلغين .
ويكفي لمعرفة تأثيره عليه السلام في بناء المجتمع الشيعي قول الخليفة هشام عنه: (هذا نبي أهل الكوفة) . (الكافي:8/120) . والكوفة يومها تعني العراق وقسماً من إيران .
وقم بحق الله عز وجل.. في نفسك وأسرتك وعشيرتك ومجتمعك ، ومع السلطة الأموية ، ولاتها ورأسها ، ومع مشاريع الجبابرة الجدد الذين يعملون لوراثتها .
وقل الحق في الخوف والأمن ، ولا تخش إلا الله.. وهذا أمرٌ للإمام عليه السلام بالجهر بالحق بدون تقية ، فكان يجهر به ويعلمه لتلاميذه وأتباعه ، ويواجه به شخصيات المجتمع ، وعلماء السلطة ، وأتباعهم ، ويواجه به الوالي والخليفة ، سواء كان ليناً محباً كعمر بن عبد العزيز ، أو معادياً طاغية كالحاكميْن اللذين عاصرهما بعده: يزيد بن عبد الملك الذي عمل لإعادة الأمور الى ماكانت عليه قبل ابن عبد العزيز ، والطاغية الجبار المريض نفسياً هشام بن عبد الملك ، الذي جاهده الإمام وعانى منه تسع سنين ، حتى كتب الله له الشهادة بيده .
2- أهم فعاليات الإمام عليه السلام لإعلاء صرح الإسلام النبوي
ذكرنا في الفصل الثاني نماذج من علم الإمام عليه السلام ، وكلها مفرداتٌ في إعلائه لصرح التشيع الذي هو الإسلام النبوي في مقابل الإسلام الأموي .
ومراعاةً لمنهج الكتاب في الإختصار ، نكتفي بالقول: إن الإسلام النبوي الذي قدمه الإمام عليه السلام يقوم على التمسك بالقرآن والعترة ، ومن أركانه فريضة ولاية أئمة العترة النبوية^التي أوحاها الله تعالى وبلغها رسوله الأمين صلى الله عليه وآله ، ويوازيها ركن آخر هو فريضة البراءة من أعدائهم وظالميهم وغاصبي حقوقهم أياً كانوا !
وهذا ما تجده صريحاً واضحاً قوياً متعدداً في أحاديث الإمام عليه السلام ومواقفه !
ويكفي أن تقرأ في ذلك فهرس بعض أبواب الكافي:1/174، مثلاً:
باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة .
باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث .
باب أن الأرض لا تخلو من حجة .
باب أن الأئمة خلفاء الله عز وجل في أرضه وأبوابه التي منها يؤتي .
باب أن الأئمة ولاة الأمر وهم الناس المحسودون الذين ذكرهم الله عز وجل .
باب أن أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة.
باب أن الراسخين في العلم هم الأئمة.
باب في أن من اصطفاه الله من عباده وأورثهم كتابه هم الأئمة.
باب أن الأئمة معدن العلم وشجرة النبوة ومختلف الملائكة.
باب أن الأئمة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم.
باب أن الأئمة إذا شاؤوا أن يعلموا علموا.
باب أن الأئمة محدثون مفهمون .
باب وقت ما يعلم الإمام جميع علم الإمام الذي كان قبله.
باب ثبات الإمامة في الأعقاب وأنها لا تعود في أخ ولا عم ولا غيرهما .
باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل في أمر الإمامة .
ففي هذه الأبواب وأمثالها تجد أحاديث الإمام عليه السلام وابنه الصادق عليه السلام وافرةً صريحة هادرة ، في بيان أصول ولاية أهل البيت وتفاصيلها ، وأصول البراءة من مخالفيهم وتفاصيلها . يبدأ فيها الإمام عليه السلام بآيات كتاب الله تعالى ، ويؤيدها بسيرة جده النبي صلى الله عليه وآله وأحاديثه من أول بعثته ، وفي مراحل رسالته وجهاده في مكة ثم في المدينة ، وبمواقفه الحاسمة وأحاديثه الصريحة التي لاتقبل التعلل بأن الله تعالى بعثه أولاً رسولاً الى بني هاشم ، ثم الى قريش والعالم ، وأنه صلى الله عليه وآله بلغ رسالة ربه فأنذر عشيرته الأقربين ، واختار منهم بأمر ربه علياً عليه السلام وزيره ووصيه !
ولا يتحرج الإمام عليه السلام أن يذم قريشاً ويسمي رؤساء بطونها وشخصياتها ، الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وتآمروا عليه ، ثم تعاونوا مع اليهود في تجييش العرب لحربه ، ثم اضطروا الى خلع سلاحهم والخضوع له في فتح مكة ، لكنهم واصلوا التآمر عليه وكتبوا صحيفتهم الملعونة الثانية لأخذ خلافته ، وإبعاد أهل بيته عنها !
لكن عقيدة الإمامة عند أهل البيت ليست مستقلة عن عقيدة النبوة والألوهية بل لا يمكن أن تنفصل عنهما بحال ! فقريش انتقصت في رأي أهل البيت من عقيدة النبوة ومن شخصية النبي صلى الله عليه وآله ليتناسب صورته مع تركه لأمته سدى ، وانتهاء مشروعه بموته ، دون أن يعهد به الى عترته الذين وعد الله أن يظهر بهم دينه على الدين كله .
كما انتقصت قريش من توحيد الله عز وجل في ذاته وصفاته ، وأفعاله وحكمته فصار تصورها لله تعالى أقرب الى تصور اليهود منه الى التصور الإسلامي !
لذا كان من فعاليات الإمام الباقر عليه السلام تصحيح التوحيد وتصحيح فهم المسلمين لله تعالى وأفعاله ، فواصل المعركة التي خاضها أهل البيت^لإعادة التوحيد النبوي ومقاومة التحريف القرشي الإسرائيلي ، الذي قدم ذات الله شخصاً شبيهاً بالإنسان يسكن في السماء وينزل الى الدنيا ويصعد ! مخالفين بذلك الآيات المحكمة بأنه عز وجل لاتدركه الأبصار وليس كمثله شئ، ومتبعين المتشابهات ! ومازال أتباعهم الى يومنا هذا يصرون على فريتهم وينشرونها في المسلمين !
ويكفي أن ترجع الى كتاب التوحيد للصدوق رحمه الله لتجد أن الإمام الباقر عليه السلام قد شق طريق التوحيد ، وهاجم التحريف في معرفة الله تعالى وعبادته .
كما تلاحظ وفرة ما روي عنه عليه السلام في سيرة النبي صلى الله عليه وآله ومقامه الشامخ ، وانه يؤسس لسيرة نبوية أصيلة ، أثبت فيها ما أنقصه الأمويون ، وبرأها مما ألصقوه !
ومن فعالياته عليه السلام : تركيز مكانة أمير المؤمنين عليه السلام في الأمة لأنه عليه السلام محور التشيع وأول أئمته ، وأول مظلوم يفتح ملفه يوم الحساب كما روى أصح كتب مخالفيه: (أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمان يوم القيامة) !(صحيح بخاري:5/6) .
ومن فعالياته عليه السلام : تعليم المسلمين التدين الفقاهتي في مقابل التدين السياسي للخليفة وموظفي الدولة ، والتدين البدوي الشكلي لأتبعهم .
ومن فعالياته عليه السلام : إرساء أصول الفقه وقواعده ، ومحاربته المنهج الظني والكيفي:
ومن فعالياته عليه السلام : نفي قداسة الأئمة الذين نصبتهم قريش مقابل أهل البيت^.:
وفي كل واحد من هذه الموضوعات مفردات وبحوث ، لايتسع لها المجال .
4- الإمام الباقر عليه السلام يتبنى الشاعرين كُثَيِّر عَزَّة والكُمَيْت
كان تأثير الشاعر في تلك العصور يشبه تأثير الإذاعة في عصرنا ، ومن هنا اهتم النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام بالشعر لإسناد الحق وفضح الباطل . وقد ذكر المحدثون عدة شعراء كانوا في خط الإمام الباقر عليه السلام : الفرزدق ، وكُثيِّر عزة ، وابنه ، والكميت ، وأخوه الورد ، وابنه المستهل . وتقدمت مواجهة الفرزدق لهشام بن عبد الملك يوم كان أميراً ، وقصيدته الخالدة في مدح الإمام زين العابدين عليه السلام : هذا الذي تعرف البطحاء وطأته.. وقد بقي الفرزدق على صلة بالإمام الباقر عليه السلام ، لكن لم أجد له شعراً في مدحه ، ولا في ذم بني أمية بعد قصيدته تلك !
كُثَيِّر عزة رحمه الله
(كُثَيِّر بن عبد الرحمن.. الخزاعي الحجازي الشاعر ، المعروف بابن أبي جمعة وهو كُثَيِّر عَزَّة.. وكان من فحول الشعراء) . (تاريخ دمشق:50/76) .
وسمع به عبد الملك بن مروان فاستحضره ، ولما دخل عليه رآه قصيراً تزدريه العين فقال: تسمع بالمعيدي لا أن تراه ! فقال: ( مهلاً يا أمير المؤمنين فإنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه ، إن ضرب ضرب بجنان ، وإن نطق نطق ببيان !
ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصورُ
ويعجبك الطرير فتختبره فيخلف ظنك الرجل الطريرُ
وقد عظم البعير بغير لبٍّ فلم يستغن بالعِظَم البعير
فيُركب ثم يُضرب بالهراوي فلا عرفٌ لديه ولا نكير..
فاعتذر إليه عبد الملك ورفع مجلسه) . (تاريخ دمشق:50/86) .
ومن يومها صار كثير مقرباً عند عبد الملك رغم تشيعه !
قال الصفدي في وفيات الأعيان:4/106: ( أحد عشاق العرب المشهورين... وهو صاحب عزة بنت جميل... وله معها حكايات ونوادر وأمور مشهورة ، وأكثر شعره فيها ، وكان يدخل على عبد الملك بن مروان وينشده ، وكان رافضياً شديد التعصب لآل أبي طالب ، حكى ابن قتيبة في طبقات الشعراء أن كثيراً دخل يوماً على عبد الملك فقال له عبد الملك: بحق علي بن أبي طالب هل رأيت أحداً أعشق منك؟ قال: يا أمير المؤمنين لو نشدتني بحقك أخبرتك) وحدثه عن شاب بدوي نصب حُبَالة ليصيد ما يسد به جوعه وجوع والديه ، فصاد غزالة ، فأطلقها لأنها تشبه حبيبته !
ولما عزم عبد الملك على حرب مصعب بن الزبير في العراق ، ناشدته زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية أن لا يخرج بنفسه وأن يستنيب غيره...فقال: قاتلَ الله ابن أبي جمعة يعني كثيِّراً كأنه رأى موقفنا هذا حين قال:
إذا ما أراد الغزو لم يثن عزمه... حصان عليها نظم در يزينها
نهته فلما لم ترَ النهي عاقه... بكت فبكى مما شجاها قطينها ) .
وذهب عبد الملك الى المعسكر ، فقال لكثير: (يا ابن أبي جمعة ، ذكرتك بشئ من شعرك الساعة ، فإن أصبته فلك حكمك ! قال: نعم يا أمير المؤمنين ، أردت الخروج فبكت عاتكة بنت يزيد وحشمها ، يعني امرأته فذكرت قولي: إذا ما أراد الغزو لم يثن همه..الخ. قال: أصبت والله ، إحتكم . قال مائة ناقة من نوقك المختارة . قال: هي لك . فلما كان الغد نظر عبد الملك إلى كثير يسير في عرض الناس ضارباً بذقنه على صدره يفكر فقال: ( أرأيت إن أخبرتك بما كنت تفكر به تعطيني حكمي؟ قال: نعم . قال له عبد الملك إنك تقول في نفسك: هذا رجل ليس هو على مذهبي ، وهو ذاهب إلى قتال رجل ليس هو على مذهبي ، فإن أصابني سهم غرب من بينهما خسرت الدنيا والآخرة ! فقال: إي والله يا أمير المؤمنين ، فاحتكم ، قال: حكمي أن أردك إلى أهلك وأحسن جائزتك ، فأعطاه مالاً وأذن له بالإنصراف) . (تاريخ دمشق:50/86 ، والنهاية:9/279) .
وروى في مناقب آل أبي طالب:3/337، أن الإمام الباقر عليه السلام سأل كثير عزة يوماً: (امتدحت عبد الملك؟ فقال: ما قلت له يا إمام الهدى ، وإنما قلت: يا أسد والأسد كلب ، ويا شمس ، والشمس جماد ، ويا بحر ، والبحر موات ، ويا حية ، والحية دويبة منتنة ، ويا جبل وإنما هو حجر أصم . قال: فتبسم عليه السلام ) . وأمالي المرتضى:1/207 .
وبعد عبد الملك ضعفت علاقة كثيِّر بأبنائه ، حتى استخلف عمر بن عبد العزيز وأصدر مرسومه بمنع سب علي عليه السلام في خطب الجمعة ، فقال كثير يمدحه:
( وَليتَ فلم تشتم عليا ولم تُخف.. برياً ولم تقبل إشارة مُجرمِ
وصدَّقت بالفعل المقال مع الذي... أتيت فأمسى راضياً كل مسلم...
فما بين شرق الأرض والغرب كلها... مناد ينادي من فصيح وأعجم
يقول أمير المؤمنين ظلمتني... بأخذك ديناري ولا أخذ درهم
ولا بسط كف لامرئ غير مجرم.. ولا السفك منه ظالما ملء محجم
ولو يستطيع المسلمون لقسموا.. لك الشطر من أعمارهم غير ندم
فعشت بها ما حج لله راكب... مغذ مطيف بالمقام وزمزم
(تاريخ دمشق:50/92، ومناقب آل أبي طالب:3/22) .
أما أقوى مواقف كثيِّر رحمه الله فكانت عندما: (كتب هشام إلى والي المدينة أن يأخذ الناس بسب علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، فقال كثيِّر:
لعن الله من يسبُّ علياً وبنيه ، من سَوْقَة وإمام
ورمى الله من يسبُّ علياً بصدامٍ وأولقٍ وجذام
طبْتَ بيتاً وطاب أهلك أهلاً أهل بيت النبي والإسلام
رحمةُ الله والسلامُ عليكم كلما قام قائمٌ بسلام
يأمنُ الطيرُ والظباء ولا يأ من رهط النبي عند المقام
قال فحبسه الوالي وكتب إلى هشام بما فعل ، فكتب إليه هشام يأمره بإطلاقه وأمر له بعطاء)!
(مجمع الأمثال للنيسابوري:1/309 ، والبيان والتبيين:3/359 ، والمرزباني/348 ، والأغاني:7/246) .
أقول: يدل إطلاق الخليفة لكثيِّر على قوة الجو العام ضد بني أمية ، وأكثره من تأثير الإمام الباقر عليه السلام ! كما يدل على أن مرسوم ابن عبد العزيز في منع سب أمير المؤمنين عليه السلام انحصر في مدة حكمه القصيرة ثم أعاده خلفاء بني أمية كما كان ! بل لعل مرسوم ابن عبد العزيز لم يطبق إلا في حياته ، وبشكل جزئي !
وروى ابن الشجري في أماليه/211 ، أن كثيراً قال وهو في حبس والي المدينة:
إنَّ امْرَءاً كانَت مَساوِيهِ حُبُّ النَبِيِّ لغَيْرُ ذي عُتْبِ
وبَنِي أبي حَسَن ووالِدِهِم مَنْ طابَ في الأرحام والصُّلبِ
أيَرَونَ ذَنْباً أنْ أُحِبَّهُمُ بَل حُبُّهُم كَفّارَةُ الذَّنْبِ
فكتب فيه إبراهيم إلى هشام ، فكتب إليه هشام أن أقمه على المنبر حتى يلعن علياً وزيداً ، فإن فعل وإلا فاضربه مائة سوط على مائة ، فأمره أن يلعن علياً فصعد المنبر فقال: لعن الله من يسب علياً... وبنيه من سوقة وإمام ) .
أقول: هذه الأبيات أيضاً لكثير قالها في حبسه ، لكن لايصح ربطها بشهادة زيد رحمه الله ، لأن كثيِّراً مات قبل شهادة زيد بسنين .
وروى ابن المغازلي في المناقب/309 ، أنه قالها: ( لمّا ورد على الأمراءِ ما أُمروا به من لعن علي على المنابر ، أُحْضِرَ كثيِّر بن عبد الرحمن ليتكلم فيمن تكلم بمكة ، وأُصعد منبراً فتعلق بأستار الكعبة وقال: لعن الله من يسبُّ علياً.. قال: فأثْخَنُوه ضَرْباً بالأيدي والنِعال ، فأنشأ يقول: إن امرأ كانت مساوؤه..) .
وفي منتظم ابن الجوزي:7/103: (وكان بمكة وقد ورد على الأمراء الأمر بلعن علي رضي الله عنه ، فرقى المنبر وأخذ بأستار وقال..) .
كما رويت مناسبات أخرى للمقطوعتين ، وقد يكون قالهما في مناسبة ، ثم كررهما في مواقف بعدها .
والمهم في الموضوع أن كثيِّراً رحمه الله امتنع عن لعن أمير المؤمنين عليه السلام ، وكان ذلك قبل عهد الإمام الباقر عليه السلام جرماً كافياً لقتل الشخص ، ثم لعنَ: ( من يسب علياً.. من سَوْقَة وإمام) أي من الأتباع والخليفة وأمرائه ! ومع ذلك لم يُقتل بل حُبس لمدة ! وهذا يدل على تأثير عمل الإمام عليه السلام في الرأي العام وجرأة الناس على بني أمية !
ومن هذا السياق الأبيات التي قالها كثيِّر في مرض وفاته في البراءة من تيم وعدي ، وصلاة الإمام عليه السلام على جنازته ومشاركته في حملها ، فهو موقف ضد النظام والخليفة ، خاصة وأن عكرمة عالم البلاط الأموي مات في نفس اليوم ، فأعرض المسلمون عن جنازته ولم يصلوا عليها ، كما يأتي .
الكميت بن زيد الأسدي رحمه الله
ترجم له الذهبي ، وهو المبغض للشيعة ، فقال في سيره:5/388: (الكميت بن زيد الأسدي الكوفي ، مقدم شعراء وقته ، قيل بلغ شعره خمسة آلاف بيت ، روى عن الفرزدق وأبي جعفر الباقر . وعنه: والبة بن الحباب ، وأبان بن تغلب ، وحفص القارئ... قال أبو عبيدة: لو لم يكن لبني أسد منقبة غير الكميت لكفاهم حببهم إلى الناس وأبقى لهم ذكراً . وقال أبو عكرمة الضبي: لولا شعر الكميت لم يكن للغة ترجمان... وكان الكميت شيعياً مدح علي بن الحسين فأعطاه من عنده ومن بني هاشم أربع مئة ألف وقال: خذ هذه يا أبا المستهل ، فقال: لو وصلتني بدانق لكان شرفاً ، ولكن أحسن إليَّ بثوب يلي جسدك أتبرك به ، فنزع ثيابه كلها فدفعها إليه ودعا له . فكان الكميت يقول: ما زلت أعرف بركة دعائه... قال ابن عساكر: ولد سنة ستين ، ومات سنة ست وعشرين ومئة ) . انتهى.
وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق:50/232: (كان في الكميت عشر خصال ، لم تكن في شاعر: كان خطيب بني أسد ، وفقيه الشيعة ، وحافظ القرآن ، وثبت الجنان ، وكان كاتباً حسن الخط ، وكان نسابة وكان جدلاً ، وكان أول من ناظر في التشيع ، وكان رامياً لم يكن في أسد أرمى منه بنبل ، وكان فارساً ، وكان شجاعاً ، وكان سخياً ديناً) .
وكان متديناً لايقبل الجائزة الدنيوية على شعره
فقد أنشد لثلاثة من الأئمة: زين العابدبدين والباقر والصادق عليهم السلام ولم يقبل جائزة مادية ، بل طلب منهم الدعاء والتبرك بثيابهم ليجعلها في كفنه ، قال: ( والله ما أحببتكم للدنيا ، ولو أردتها لأتيت من هو في يديه ، ولكنني أحببتكم للآخرة ، فأما الثياب التي أصابت أجسادكم فإني أقبلها لبركتها ، وأما المال فلا أقبله) .(خزانة الأدب:1/155)
وقال للإمام زين العابدين عليه السلام : إني قد مدحتك لأن يكون لي وسيلة عند رسول الله صلى الله عليه وآله . وقال للباقر عليه السلام : والله ما أحبكم لعرض الدنيا وما أردت بذلك إلا صلة رسول الله صلى الله عليه وآله وما أوجب الله علي من الحق . وقال مرة: ألا والله لا يعلم أحد أني آخذ منها حتى يكون الله عز وجل الذي يكافيني . وقال مرة: والله ما قلت فيكم إلا لله وما كنت لآخذ على شئ جعلته لله مالاً ولا ثمناً . وقال: ما أردت بمدحي إياكم إلا الله ورسوله صلى الله عليه وآله ، ولم أك لآخذ لكم ثمناً من الدنيا . (الغدير:2/198) .
القصائد الهاشميات: رددها المسلمون وغنَّتْ بها المغنيات:
أحب المسلمون الكميت وأحصوا شعره:
( قال محمد بن مسلمة: كان مبلغ شعر الكميت حين مات خمسة آلاف ومائتين وتسعاً وثمانين بيتاً ، وكانت ولادته أيام مقتل الحسين بن علي سنة ستين ، وتوفي شهيداً سنة ست وعشرين ومائة في خلافة مروان بن محمد ) . (معاهد التنصيص/555) .
وعلموا شعره لأولادهم ، ففي تاريخ دمشق:50/238: (سمعت مشايخ أهل البيت يقولون: خذوا أولادكم بتعليم الهاشميات ، فإنها تُنبت الولاية في قلوبهم...
قال جعفر بن محمد: الكميت سيف آل محمد ، في كل قلب معاند مغمد) !
وفي:50/247، عن أبي عبد الله المفجع ، قال: (رأيت أمير المؤمنين في النوم فقلت: أشتهي أقول الشعر في أهل البيت ، فقال: عليك بالكميت فاقتف أثره ، فإنه إمام شعرائنا أهل البيت ، وبيده لواؤهم يوم القيامة حتى يقودهم إلينا ) .
وقد أحدث شعر الكميت موجة شعبية ضد بني أمية ، فأراد والي العراق خالد بن عبدالله القسري أن يقتله ، لكنه خاف من عشيرته بني أسد ، فاحتال ليحصل على مرسوم من الخليفة هشام ، فاختار جوارٍ مغنيات وحفَّظهنَّ هاشميات الكميت وأرسلهن الى هشام ، فطلب هشام من إحداهن أن تغنيه فغنت بشعر الكميت في مدح بني هاشم وذم بني أمية ! فغصب وطلب من الثانية أن تغني فغنت بشعر الكميت أيضاً ! فكتب إلى خالد: ( أن ابعث إليَّ برأس الكميت ! فأخذه خالد وحبسه ، فوجه الكميت إلى امرأته ولبس ثيابها وتركها في موضعه وهرب من الحبس ، فلما علم خالد أراد أن ينكل بالمرأة ، فاجتمعت بنو أسد إليه وقالوا: ما سبيلك على امرأة لنا خدعت ؟! فخافهم وخلى سبيلها) . (خزانة الأدب:1/87 ) .
وفي تاريخ دمشق:50/239: (قال الجاحظ: ما فتح للشيعة الحجاج إلا الكميت بقوله:
فإن هي لم تصلح لحي سواهمُ... فإن ذوي القربى أحق وأوجب
يقولون لم يورث ولولا تراثه... لقد شركت فيها بكيل وأرحب
وأجابه المفيد رحمه الله الفصول:2/85: (إنما نظم الكميت معنى كلام أمير المؤمنين عليه السلام في منثور كلامه في الحجة على معاوية ، فلم يزل آل محمد^بعد أمير المؤمنين عليه السلام يحتجون بذلك ، ومتكلموا الشيعة قبل الكميت وفي زمانه وبعده) .
هذا ، وقد شرح العلماء والأدباء هاشميات الكميت رحمه الله ، وأقدم شرح وصلنا: (شرح هاشميات الكميت لأبي رياش أحمد بن إبراهيم القيسي أو الشيباني ، المتوفى سنة339.. وهي سبع قصائد.. ومجموعها خمسمائة وبضعة وسبعون بيتاً.. ولعبد المتعال الصعيدي كتاب: الكميت بن زيد شاعر العصر المرواني ، طبع بالقاهرة ، ولصلاح الدين نجا: الكميت بن زيد الأسدي شاعر الشيعة السياسي ، طبع في بيروت.. يوجد شرح الهاشميات في دار الكتب المصرية ، وطبع في ليدن سنة 1904م مع مقدمة وتصحيحات بالألمانية ليوسف هوروفتس . وطبع بالقاهرة في مطبعة شركة التمدن الصناعية سنة1912م مع مقدمة لمحمد محمود الرافعي في ترجمة الكميت ومختارات من شعره . وطبع في بيروت بتحقيق الدكتور داود سلوم والدكتور نوري القيسي، من منشورات عالم الكتب) . (مجلة تراثنا:14/49) . ثم ذكر شرحين مطبوعين لمعاصرين هما: لمحمد شاكر الخياط ، ومحمد محمود الرافعي . راجع: الغدير:2/180، والأعلام:1/85 ، ومعجم المطبوعات العربية:1/311 ، و925 .
ولا يتسع المجال لأكثر من ذكر أبيات منها:
1- قال رحمه الله : ألا هل عمٍ في رأيه متأملُ...وهل مدبرٌ بعد الإساءة مقبلُ
وهل أمة مستيقظون لرشدهم...فيكشف عنه النعسة المتزمل
وعطلت الأحكام حتى كأننا...على ملة غير التي نتنحل
كلام النبيين الهداة كلامنا...وأفعال أهل الجاهلية نفعل
فتلك أمور الناس أضحت كأنها...أمورٌ مضيع آثر النوم بهل
فيا ساسةً هاتوا لنا من حديثكم...ففيكم لعمري ذو أفانينَ مقول
أأهل كتاب نحن فيه وأنتم...على الحق نقضي بالكتاب ونعدل
فكيف ومن أنى وإذ نحن خلفة...فريقان شتى: تسمنون ونهزل؟
فتلك ملوك السوء قد طال ملكهم...فحتى م حتى م العناء المطول
لهم كل عام بدعة يحدثونها...أزلوا بها أتباعهم ثم أوجلوا
تحل دماء المسلمين لديهم...ويحرم طلع النخلة المتهدل
فيا رب هل إلا بك النصر يرتجى...عليهم وهل إلا عليك المعول
وغاب نبي الله عنهم وفقده...على الناس رزء ما هناك مجلل
فلم أر مخذولا أجل مصيبة...وأوجب منه نصرة حين يخذل
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم...فيا آخراً أسدى له الغيَّ أول
تهافت ذبان المطامع حوله...فريقان شتى ذو سلاح وأعزل
2- وقال رحمه الله : طربت وما شوقاً إلى البيض أطربُ...ولا لعباً مني وذو الشوق يلعبُ
ولم يلهني دار ولا رسم منزل...ولم يتطربني بنان مخضب
ولكن إلى أهل الفضائل والنهى...وخير بني حواء والخير يطلب
إلى النفر البيض الذين بحبهم...إلى الله فيما نالني أتقرب
بني هاشم رهط النبي فإنني...بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب
بأي كتاب أم بأية سنة...ترى حبهم عارا علي وتحسب
فطائفة قد كفرتني بحبكم...وطائفة قالوا مسئ ومذنب
فما ساءني تكفير هاتيك منهم...ولا عيب هاتيك اللتي هي أعيب
وقالوا ترابي هواه ورأيه...بذلك أدعى فيهم وألقب
بحقكم أمست قريش تقودنا...وبالفذ منها والرد يفين نركب
إذا اتضعونا كارهين لبيعة...أناخوا لأخرى والأزمة تجذب
وقالوا ورثناها أبانا وأمنا...وما ورثتهم ذاك أم ولا أب
ولكن مواريث ابن آمنة الذي...به دان شرقي لكم ومغرب
فدى لك موروثاً أبي وأبو أبي...ونفسي ونفسي بعدُ بالناس أطيب
بك اجتمعت أنسابنا بعد فرقة...فنحن بنو الإسلام ندعى وننسب
لقد غيبوا براً وصدقاً ونائلاً...عشية واراك الصفيح المنصب
يقولون لم يورث ولولا تراثه...لقد شركت فيه بكيل وأرحب
وعك ولخم والسكون وحمير...وكندة والحيان بكر وتغلب
فيا لك أمراً قد أشتت أموره...ودنياً أرى أسبابها تتقضب
فيا موقداً ناراً لغيرك ضوؤها...ويا حاطباً في غير حبلك تحطب
3- وقال رحمه الله : من لقلب متيم مستهام...غير ما صبوة ولا أحلام
بل هواي الذي أجن وأبدي...لبني هاشم فروع الأنام
للقريبين من ندى والبعيدين...من الجور في عرى الأحكام
والمصيبين باب ما أخطأ الناس...ومرسي قواعد الاسلام
ساسة لا كمن يرعى الناس...سواء ورعية الأنعام
لا كعبد المليك أو كوليد...أو كسليمان بعد أو كهشام
ما أبالي إذا حفظت أبا القاسم...فيهم ملامة اللوام
فهم شيعتي وقسمي من الأمة...حسبي من سائر الأقسام
إن أمت لا أمت ونفسي نفسا...ن من الشك في عمىً أو تعامي
أخلص الله لي هوايَ فما أغرق...نزعاً ولا تطيش سهامي
وروي أن الإمام الصادق عليه السلام قال له هنا: (لا تقل هكذا ولكن قل: فقد أغرق نزعاً وما تطيش سهامي . فقال الكميت: يامولاي أنت أشعر مني) . (الكافي:8/215 ، والمناقب:3/337)
4- وقال رحمه الله : أنى ومن أين آبك الطرب...من حيث لا صبوةٌ ولا رِيَبُ
وقيل أفرطت بل قصدت ولو...عنفني القائلون أو ثلبوا
إليك يا خير من تضمنت ال....أرض وإن عاب قولي العيب
لجَّ بتفضيلك اللسان ولو...أكثر فيك الضجاج واللجب
أنت المصفى المهذب المحض في النسبة...إن نص قومك النسب
أكرم عيداننا وأطيبها...عودك عود النضار لا الغرب
ما بين حواء إن نسبت إلى...آمنة اعتم نبتك الهدب
قرن فقرن تناسخوك لك ال...فضة منها بيضاء والذهب
حتى علا بيتك المهذب من...خندف علياء تحتها العرب
5- وقال رحمه الله : طربت وهل بك من مطرب...ولم تتصاب ولم تلعب
صبابة شوق تهيج الحليم...ولا عار فيها على الأشيب
فدع ذكر من لست من شأنه...ولا هو من شأنك المنصب
وهات الثناء لأهل الثناء...بأصوب قولك فالأصوب
بني هاشم فهم الأكرمون...بنو الباذخ الأفضل الأطيب
وإياهم فاتخذ أوليا...ء من دون ذي النسب الأقرب
6- وقال رحمه الله : نفى عن عينك الأرق الهجوعا...وهم يمتري منها الدموعا
ويوم الدوح دوح غدير خم...أبان له الولاية لو أطيعا
ولكن الرجال تبا يعوها...فلم أر مثلها خطرا مبيعا
فلم أبلغ بها لعناً ولكن...أساء بذاك أولهم صنيعا
فصار بذاك أقربهم لعدل...إلى جور وأحفظهم مضيعا
تناسوا حقه وبغوا عليه...بلا ترة وكان لهم قريعا
فقل لبني أمية حيث حلوا...وإن خفت المهند والقطيعا
ألا أف لدهر كنت فيه...هدانا طائعا لكم مطيعا
أجاع الله من أشبعتموه...وأشبع من بجوركم أجيعا
7- وقال رحمه الله : سل الهموم لقلب غير متبول...ولا رهين لدى بيضاء عطبول
ولا تقف بديار الحي تسألها...تبكي معارفها ضلاً بتضليل
نفسي فداء الذي لا الغدر شيمته...ولا المعاذير من بخل وتقليل
الحازم الرأي والمحمود سيرته...والمستضاء به والصادق القيل .
وقال رحمه الله : علي أمير المؤمنين وحقه...من الله مفروض على كل مسلم
وزوجه صديقة لم يكن لها...معادلة غير البتولة مريم
وردم أبواب الذين بنى لهم... بيوتاً سوى أبوابه لم يردم (الصحيح من السيرة:5/354) .
وقال رحمه الله :أ هوى علياً أمير المؤمنين ولا... ألوم يوماً أبا بكر ولا عمرا
ولا أقول وإن لم يعطيا فدكاً...بنت النبي ولا ميراثه كفرا
الله يعلم ماذا يأتيان به...يوم القيامة من عذر إذا اعتذرا
إن الرسول رسول الله قال لنا...إن الإمام علي غير ما هجرا
في موقف أوقف الله الرسول به...لم يعطه قبله من خلقه بشرا
من كان يرغمه رغماً فدام له...حتى يرى أنفه بالترب منعفرا
(شرح القصائد الهاشميات/81) .
وله رحمه الله نشيد: بأبي أنت وأمي... يا أمير المؤمنينا
وفدتك النفس مني... يا إمام المتقينا
وأمين الله والوارث...علم الأولينا
ووصي المصطفى... أحمد خير المرسلينا
وولي الحوض والذائد...عنه المحدثينا.
طاردت السلطة الكميت سنوات عديدة فلم تظفر به !
قال في العقد الفريد:3/183، وطبعة/281: (كان الكميت بن زيد يمدح بني هاشم ويعرِّض ببني أمية ، فطلبه هشام فهرب منه عشرين سنة ، لا يستقر به القرار من خوف هشام) . وتقصد الرواية كل خلافة هشام من سنة (115-120) وفيها مبالغة ، لكن الكميت أمضى سنوات عديدة كان يتحرك فيها مع أخيه الورد ومجموعة فرسان من فتيانه ، في أحياء بني أسد وبوادي العراق والحجاز والأهواز ، وكانت السلطة تطارده للقبض عليه فلم تستطع ! ورووا له كرامات في تشرده بدعاء الإمام الباقر عليه السلام ، منها أنه خرج في ظلمة الليل هارباً وقد أقعدوا على كل طريق جماعة ليأخذوه فأراد أن يسلك طريقاً فجاء أسد فمنعه من أن يسير فيها ، فسلك أخرى فمنعه منها أيضاً ، وكأنه أشار إلى الكميت أن يسلك خلفه فمضى خلف الأسد إلى أن أمن وتخلص ! (الخرائج:2/941) .
ولما طال به التشريد استاذن الإمام الباقر عليه السلام أن ينهي تشرده ويمدح بني أمية بقصيدة فأجازه: قال أخوه الورد: ( أرسلني الكميت إلى أبي جعفر عليه السلام فقلت له: إن الكميت أرسلني إليك وقد صنع بنفسه ما صنع ، فتأذن له أن يمدح بني أمية؟ قال: نعم هو في حل فليقل ما شاء . فنظم قصيدته الرائية التي يقول فيها. فالآن صرت إلى أمية... والأمور إلى مصائر..) . (الأغاني:15/126) . فتوسط له مسلمة بن عبد الملك عند أخيه الخليفة هشام فعفا عنه ومدحه بقصيدته المذكورة فأعطاه جائزة.
وعاش الكميت رحمه الله بعد هشام ، حتى كتب الله الشهادة كما دعا له الإمام زين العابدين عليه السلام عندما أنشده قصيدته: من لقلب متيم مستهام... (خزانة الأدب:1/69) .
وقد رووا في سبب وفاته أنه كان ينشد عند والي الكوفة ، فهاجمه حراسه الثمانية وكانوا من اليمانية المتعصبين عليه ، (الوافي بالوفيات:24/277) ولا يثق الإنسان بمثل هذه الرواية ، بل المرجح أنه قتل بسبب الثأر الأموي المزمن عليه .
وقد يكون احد العوامل شعره في الطعن بأبي بكر وعمر . فقد روي أنه كان على مذهب السيد الحميري وكثير عزة في ذلك ، ففي أخبار السيد الحميري للمرزباني/178 ، أنه رأى الكميت في الحج فقال له: أنت القائل:
ولا أقول إذا لم يعطيا فدكاً...بنت الرسول ولا ميراثه كفرا...
قال: نعم قلته تقية من بني أمية ، وفي مضمون قولي شهادة عليهما إنهما أخذا ما كان في يدها . فقال السيد : لولا إقامة الحجة لو سعني السكوت: لقد ضعفت يا هذا عن الحق يقول رسول الله صلى الله عليه وآله : فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها وإن الله يغضب لغضبها ويرضى لرضاها، فخالفت ! رسول الله صلى الله عليه وآله وهب لها فدكاً بأمر الله له ، وشهد لها أمير المؤمنين والحسن والحسين وأم أيمن بأن رسول الله صلى الله عليه وآله أقطع فاطمة فدكاً فلم يحكما لها بذلك والله تعالى يقول: )يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ويقول: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ..وهم يجعلون سبب مصير الخلافة إليهم الصلاة بشهادة المرأة لأبيها إنه صلى الله عليه وآله قال : مروا فلاناً بالصلاة بالناس...الخ. فقال الكميت: أنا تائب إلى الله مما قلت ، وأنت أبا هاشم أعلم وأفقه منا) .
ورووا أنه أنشد الباقر عليه السلام :
إنّ المصِرَّين على ذنبيهما... والمخفيا الفتنة في قلبيهما
والخالعا العقدة من عنقيهما.. والحاملا الوزر على ظهريهما
كالجبت والطاغوت في مثليهما..الخ. (العقد النضيد/165) .
كما رووا أنه سأل الإمام الباقر والصادق عليهما السلام عن أبي بكر وعمر ، فأجاباه بالنفي فقال: الله أكبر الله أكبر حسبي حسبي . (الكافي:8/102 ، والبحار:30/240) .
------------------
5- الإمام الباقر عليه السلام يتحدى الخليفة هشام الأحول بن عبد الملك
تقدم في سيرة الإمام زين العابدين قول الذهبي عنه عليه السلام : (وكان له جلالة عجيبة وَحَقَّ له والله ذلك ، فقد كان أهلاً للإمامة العظمى لشرفه وسؤدده وعلمه وتألهه وكمال عقله . قد اشتهرت قصيدة الفرزدق وهي سماعنا ، أن هشام بن عبد الملك حج قبيل ولايته الخلافة، فكان إذا أراد استلام الحجر زوحم عليه وإذا دنا علي بن الحسين من الحجر تفرقوا عنه إجلالاً له ، فوجم لها هشام وقال: من هذا فما أعرفه! فأنشأ الفرزدق يقول: هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأتَه..الخ. (سير الذهبي:4/398).
فحبس هشام الفرزدق فهجاه بقوله:
يقلب رأساً لم يكن رأسَ سيِّدٍ ... وعيناً له حَوْلاءَ بادٍ عُيُوبها. (المناقب:3/306 ).
وقد أججت هذه الحادثة نار الحقد في نفس الأمير المريضة ، ولم يستطع أن يقنع أباه عبد الملك بقتله ، وقد يكون هو الذي أقنع أخاه الوليد بسمه فيما بعد ! ثم وجه نار حسده الى ولده الباقر عليه السلام وأظهره في قوله لزيد رحمه الله : (ما يفعل أخوك البقرة ، يعني الباقر عليه السلام ؟! فأجابه زيد: لَشَدَّ ما خالفت رسول الله ! سماه رسول الله الباقر وتسميه البقرة؟! ). ( أبونصر البخاري/22) .
ودخل عليه زيد رحمه الله يوماً فقال: (السلام عليك يا أمير المؤمنين فلم يرد عليه فقال: السلام عليك يا أحول فإنك ترى نفسك أهلاً لهذا الإسم)! (تاريخ الكوفة/381).
وقد كان بالفعل يرى نفسه أهلاً لإسم الأحول !
ففي نثر الدرر/1173 ، أنه قال يوماً: (من يسبني ولا يفحش وله هذا المطرف له ! فقال له أعرابي حضر: ألقه يا أحول . فقال هشام: خذه قاتلك الله ) !
وقالت له أخته يوماً وهو خليفة: (يا أحول مشؤوماً ، أما تخاف أن تكون الأحوال الذي على يديه هلاك قريش؟). (نسب قريش/31). وقالت له سكينة بنت الحسين عليه السلام : (يا أحول، لقد أصبحت تتهكم بنا)! (لسان العرب:12/617، وتاريخ دمشق:70/21) .
وعندما جاءت وصية أخيه الوليد لعمر بن عبد العزيز وبعده لأخيه يزيد ، قال قال له رجاء: (يا أحول ما أنت والكلام) ! (الوصايا لأبي حاتم/54) .
ولم يكن بنو أمية يرونه أهلاً للخلافة فجاءته سنة115 على غير حسبان ، وشاهد نجم الإمام الباقر عليه السلام يعلو ويسطع ، ورأى حب المسلمين له وتقديسهم ، فكان يسميه نبي أهل العراق !
كانت هذه الجرأة الجديدة للناس على النظام الأموي وشخص الخليفة مديناً لمخزون مواقف أهل البيت عليهم السلام وجهادهم ، التي استثمرها الإمام الباقر عليه السلام وصعَّد موقف التحدي مع الخليفة وواليه على المدينة بشكل لاسابقة له !
فعندما كان هشام في الحج وقعت له مع الإمام الباقر عليه السلام حادثة شبيهةً بحادثته مع أبيه زين العابدين عليهما السلام ، لكن كان الفعل هذه المرة من الإمام الباقر عليه السلام .
روى في الكافي: 8/120: (عن أبي الربيع قال: حججنا مع أبي جعفر عليه السلام في السنة التي كان حج فيها هشام بن عبد الملك ، وكان معه نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فنظر نافع إلى أبي جعفر في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس فقال نافع: يا أمير المؤمنين من هذا الذي قد تداك عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة ، هذا محمد بن علي ! فقال: أشهد لآتينه فلأسألنه عن مسائل لا يجيبني فيها إلا نبي أو ابن نبي أو وصي نبي ! قال: فاذهب إليه وسله لعلك تخجله ! فجاء نافع حتى اتكأ على الناس ، ثم أشرف على أبي جعفر عليه السلام فقال: يا محمد بن علي إني قرأت التوراة والانجيل والزبور والفرقان ، وقد عرفت حلالها وحرامها ، وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلا نبي أو وصي نبي أو ابن نبي !
قال: فرفع أبو جعفر رأسه فقال: سل عما بدا لك ، فقال: أخبرني كم بين عيسى وبين محمد من سنة؟ قال: أخبرك بقولي أو بقولك؟ قال: أخبرني بالقولين جميعاً.
قال: أما في قولي فخمس مائة سنة ، وأما في قولك فست مائة سنة . قال: فأخبرني عن قول الله لنبيه: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ . من الذي سأل محمد وكان بينه وبين عيسى خمس مائة سنة؟ قال: فتلا أبو جعفر هذه الآية: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا.. فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمداً صلى الله عليه وآله حيث أسرى به إلى بيت المقدس ، أن حشر الله عز ذكره الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين ، ثم أمر جبرئيل فأذن شفعاً وأقام شفعاً وقال في أذانه: حي على خير العمل ، ثم تقدم محمد صلى الله عليه وآله فصلى بالقوم فلما انصرف قال لهم: على ما تشهدون وما كنتم تعبدون؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسول الله ، أخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا . فقال نافع: صدقت يا أبا جعفر ، فأخبرني عن قول الله عز وجل: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ؟ قال: إن الله تبارك وتعالى لما أهبط آدم إلى الأرض وكانت السماوات رتقاً لا تمطر شيئاً ، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت شيئاً ، فلما أن تاب الله عز وجل على آدم أمر السماء فتقطرت بالغمام ، ثم أمرها فأرخت عزاليها ، ثم أمر الأرض فأنبتت الأشجار وأثمرت الثمار وتفهقت بالأنهار ، فكان ذلك رتقها وهذا فتقها .
قال نافع: صدقت يا ابن رسول الله ، فأخبرني عن قول الله عز وجل: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض وَالسَّمَاوَاتُ ، أي أرض تبدل يومئذ؟
فقال أبو جعفر: أرض تبقى خبزة يأكلون منها حتى يفرغ الله عز وجل من الحساب . فقال نافع: إنهم عن الأكل لمشغولون ؟! فقال أبو جعفر: أهم يومئذ أشغل أم إذ هم في النار ؟ فقال نافع: بل إذ هم في النار قال: فوالله ما شغلهم إذ دعوا بالطعام فأطعموا الزقوم ودعوا بالشراب فسقوا الحميم .
قال: صدقت يا ابن رسول الله ولقد بقيت مسألة واحدة ، قال: وما هي ؟ قال: أخبرني عن الله تبارك وتعالى متى كان ؟ قال: ويلك متى لم يكن حتى أخبرك متى كان ! سبحان من لم يزل ولا يزال فرداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً .
ثم قال: يا نافع أخبرني عما أسألك عنه ، قال: وما هو؟ قال: ما تقول في أصحاب النهروان ؟ فإن قلت: إن أمير المؤمنين قتلهم بحق فقد ارتددت ، وإن قلت: إنه قتلهم باطلاً فقد كفرت ! قال: فولى من عنده وهو يقول: أنت والله أعلم الناس حقاً حقاً ! فأتى هشاماً فقال له: ما صنعت؟ قال: دعني من كلامك هذا ، والله أعلم الناس حقاً حقاً ، وهو ابن رسول الله حقاً ، ويحق لأصحابه أن يتخذوه نبياً) ! انتهى.
ونلاحظ في هذه الحادثة:
1- كان نافع مرجعاً دينياً عند الدولة الأموية ، وهو يعرف الإمام الباقر عليه السلام جيداً، وقوله للخليفة: ( دعني من كلامك هذا ، والله أعلم الناس حقاً حقاً) يدل على أن الخليفة هوَّن له أمر الإمام الباقر عليه السلام وأرسله اليه ليتحداه ! بل ذكرت بعض الروايات أنه هو بعثه لمناظرة الإمام عليه السلام : (قال إذهب إليه فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: ما الذي يأكل الناس ويشربون إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : يحشر الناس على مثل قرصة البر النقي ، فيها أنهار متفجرة يأكلون ويشربون حتى يفرغ من الحساب . قال: فرأى هشام أنه قد ظفر به ، فقال: الله أكبر اذهب إليه فقل له: ما أشغلهم عن الأكل والشرب يومئذ؟! فقال له أبو جعفر عليه السلام : فهم في النار أشغل ولم يشغلوا عن أن قالوا: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ! فسكت هشام لا يرجع كلاماً). (الإحتجاج:2/57) .
2- نافع عندهم إمام كبير وإن ضعفه بعضهم ، قال في مقدمة موطأ الإمام مالك:1/21: (روى مالك عن نافع مولى عبد الله بن عمر المتوفى سنة120، ونافع هو الذي بعثه عمر بن عبد العزيز إلى مصر ليعلمهم القرآن والسنة ، وكان يلقب بفقيه المدينة ، لزمه مالك وهو غلام نصف النهار (أي كان مالك خادماً له) وكان مالك يقول: كنت إذا سمعت حديث نافع عن ابن عمر لا أبالي ألا أسمعه من أحد غيره ! وأهل الحديث يقولون رواية مالك عن نافع عن ابن عمر: سلسلة الذهب ، لجلالة كل واحد من هؤلاء الرواة) !
أما عندنا فنافع كذابٌ ناصبي يميل الى رأي الخوارج ! روى في الكافي:6/61، عن زرارة أنَ الإمام الباقر عليه السلام قال له: ( أنت الذي تزعم أن ابن عمر طلق امرأته واحدة وهي حائض فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله عمر أن يأمره أن يراجعها؟ قال: نعم . فقال له: كذبتَ والله الذي لا إله إلا هو على ابن عمر ! أنا سمعت ابن عمر يقول: طلقتها على عهد رسول الله ثلاثاً فردها رسول الله صلى الله عليه وآله عليَّ وأمسكتها بعد الطلاق ! فاتق الله يا نافع ولا ترو على ابن عمر الباطل) . ت(هذيب الكمال:29/298 ، والتمهيد:13/236 ).
3- رويت مناظرة نافع مع الإمام الباقر عليه السلام بألفاظ متعددة وفي بعضها زيادة ، ففي تفسير القمي:2/284: (قال نافع: صدقت يا بن رسول الله يا أبا جعفر ، أنتم والله أوصياء رسول الله وخلفاؤه في التوراة ، وأسماؤكم في الإنجيل وفي الزبور وفي القرآن ، وأنتم أحق بالأمر من غيركم ) .
4- روت بعض مصادرنا أن هشاماً الأحول أرسل الأبرش الكلبي أيضاً ليناظر الإمام عليه السلام في الحج ، كما في تفسير القمي:2/69، والمناقب:3/329 . وفي أسد الغابة:4/93، أن الأبرش صاحب هشام ، وفي تاريخ ابن خلدون:3/114، أنه وزيره ، وفي الوافي:15/69، كان نديمه قبل الخلافة: (وكان غالباً عليه ، وطعن قوم في نسب الأبرش الكلبي).
وفي اليعقوبي:2/328: (وكان هشام من أحزم بني أمية وأرجلهم ، وكان بخيلاً حسوداً ، فظاً غليظاً ظلوماً ، شديد القسوة بعيد الرحمة طويل اللسان ، وفشا الطاعون في أيامه حتى هلك عامة الناس وذهبت الدواب والبقر ، وكان الغالب عليه الأبرش بن الوليد الكلبي ) !
5- في حج ذلك الموسم تطوَّرَ حسد هشام الأحول وغيظه من الإمام عليه السلام حتى أمر بإحضاره الى دمشق ، بسبب خطبة الإمام الصادق بأمر أبيه عليهما السلام في موسم الحج لأن هشاماً لم يحج في غيرها وهي سنة106 ، أي قبل شهادة الإمام عليه السلام بثمان سنوات ، فقد عدد اليعقوبي(2/328) من أقام الحج في حكم هشام ، وليس فيهم هشام إلا في سنة 106 .
قال ابن عساكر في تاريخ دمشق:48/199: (حج هشام بن عبد الملك وهو خليفة سنة ست ومائة ، فصار في سنة سبع ومائة في المحرم وهو بالمدينة ، ومعه غيلان يفتي الناس ويحدثهم ! وكان محمد بن كعب يجئ كل جمعه من قرية على ميلين من المدينة.. قالوا يا يا أبا حمزة جاءنا رجل يشككنا في ديننا فنأتيك به ؟ قال لا حاجة لي به ! قلنا: أصلحك الله نسمع منه ونسمع منك ! قال: فأتوني به إن شئتم غداً يوم السبت ، وحضر الناس معه...).
أقول: لاحظ هذين المقرَّبَيْن من الخليفة اللذين يفتيان الناس: غيلان القدري الذي ينفي مسؤولية الإنسان عن أفعاله ، وينسب جرائمه الى الله تعالى !
ونافع مولى ابن عمر الذي كان نصرانياً ثم قيل إنه أسلم وصار ناصبياً خارجياً !
6- الإمام الباقر عليه السلام يأمر ابنه جعفر أن يصدع بولايتهم في الحج !
في ذلك الموسم أمر الإمام الباقر ولده الصادق عليهما السلام أن يخطب في الحجيج ويجهر بولاية أهل البيت النبوي عليهم السلام ويبين موقعهم في صلب الإسلام ، متحدياً بذلك النظام ، والحركات الهاشمية الناشئة من الحسنيين وأتباعهم العباسيين . وبذلك صعَّدَ الإمام عليه السلام عمله فأعلن وجود معارضة علنية للخلافة الأموية ، واختار لذلك موسم الحج وحضور الخليفة هشام !
ففي المناقب (3/329) أن الأبرش الكلبي قال لهشام مشيراً إلى الباقر عليه السلام : من هذا الذي احتوشته أهل العراق يسألونه؟ قال: هذا نبي الكوفة ، وهو يزعم أنه ابن رسول الله ، وباقر العلم ومفسر القرآن ، فاسأله مسألة لا يعرفها ) !
فالجو الشعبي للإمام عليه السلام في العراق يسمح له بمصارحة المسلمين وتوعيتهم على مقام أهل البيت عليهم السلام ، ولا حجة للسلطة عليه ، لأنه يطرح النظرية ويبين خط الإسلام العقائدي فقط ، ولم يدع الناس الى الثورة على بني أمية !
قال محمد بن جرير الطبري في دلائل الإمامة/233 ، (حج هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين ، وكان حج في تلك السنة محمد بن علي الباقر ، وابنه جعفر عليهما السلام ، فقال جعفر في بعض كلامه: الحمد لله الذي بعث بالحق محمداً نبياً وأكرمنا به ، فنحن صفوة الله على خلقه وخيرته من عباده ، فالسعيد من اتبعنا والشقي من خالفنا ، ومن الناس من يقول: إنه يتولانا وهو يتولى أعداءنا ومن يليهم من جلسائهم وأصحابهم ، فهو لم يسمع كلام ربنا ولم يعمل به . قال أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام : فأخبر مسلمة بن عبد الملك أخاه ، فلم يعرض لنا حتى انصرف إلى دمشق وانصرفنا إلى المدينة ، فأنفذ بريداً إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي معه ، فأشخصنا إليه فلما وردنا دمشق حجبنا ثلاثة أيام ثم أذن لنا في اليوم الرابع ، فإذا هو قد قعد على سرير الملك وجنده وخاصته وقوف على أرجلهم سماطين متسلحين ، وقد نصب البرجاس (هدف الرمي) حذاءه وأشياخ قومه يرمون . فلما دخل أبي وأنا خلفه ، ما زال يستدنينا منه حتى حاذيناه وجلسنا قليلاً ، فقال لأبي: يا أبا جعفر لو رميت مع أشياخ قومك الغرض ؟ وإنما أراد أن يضحك بأبي ظناً منه أنه يقصر فلا يصيب الغرض لكبر سنه فيشتفي منه ! فاعتذر أبي وقال: إني قد كبرت فإن رأيتَ أن تعفيني ، فلم يقبل وقال: لا والذي أعزنا بدينه ونبيه ، ثم أومأ إلى شيخ من بني أمية أن أعطه قوسك ، فتناولها منه أبي وتناول منه الكنانة فوضع سهماً في كبد القوس فرمى وسط الغرض فأثبته فيه ثم رمى الثاني فشق فوق السهم الأول إلى نصله ، ثم تابع حتى شق تسعة أسهم ، فصار بعضها في جوف بعض ، وهشام يضطرب في مجلسه ، فلم يتمالك أن قال: أجدت يا أبا جعفر فأنت أرمى العرب والعجم ! زعمت أنك قد كبرت ، كلا ! ثم ندم على مقالته وتكنيته له ، وكان من تكبره لا يكني أحداً في خلافته ! فأطرق إطراقة يرتئي فيه رأياً ، وأبي واقف إزاءه ومواجه له وأنا وراء أبي ، فلما طال الوقوف غضب أبي وكان إذا نظر السماء نظر غضبان يتبين الغضب في وجهه ! فلما نظر هشام ذلك من أبي قال: إصعد يا محمد فصعد أبي السرير وصعدت ، فلما دنا من هشام قام إليه واعتنقه وأقعده عن يمينه ، ثم اعتنقني وأقعدني عن يمين أبي ، وأقبل على أبي بوجهه وقال: يا محمد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ما دام فيهم مثلك ! ولله درك ، من علمك هذا الرمي وفي كم تعلمته؟! فقال أبي: قد علمت أهل المدينة يتعاطونه فتعاطيته أيام حداثتي ، ثم تركته ، فلما أراد أمير المؤمنين مني ذلك عدت إليه ، فقال: ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت ، وما ظننت أن أحداً في أهل الأرض يرمي مثل هذا ، فأين رمي جعفر من رميك؟ فقال: إنا نتوارث الكمال والتمام والدين ، اللذين أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله في قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً . والأرض لا تخلو ممن يكمل دينه من هذه الأمور التي يقصر عنها غيرنا ، فكان ذلك علامة ! فلما سمع ذلك انقلبت عينه اليمنى فاحْوَلَّتْ واحْمَرَّ وجهه ، وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب ، ثم أطرق هنيهة ورفع رأسه إلى أبي وقال: ألسنا بني عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد ؟ فقال أبي: نحن كذلك ولكن الله جل ثناؤه اختصنا بمكنون سره وخالص علمه ما لم يختص أحداً غيرنا .
فقال: أليس الله بعث محمداً من شجرة عبد مناف إلى الناس كافة أبيضها وأسودها وأحمرها ، فمن أين ورثتم ما ليس لغيركم ورسول الله مبعوث إلى الناس كافة ؟ ومن أين أورثتم هذا العلم وليس بعد محمد نبي ، وما أنتم أنبياء ؟!
فقال أبي: من قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، فالذي أبداه فهو للناس كافة ، والذي لم يحرك به لسانه أمر الله تعالى أن يخصنا به دون غيرنا ، فلذلك كان يناجي به أخاه علياً دون أصحابه ، وأنزل الله تعالى قرآنا ، فقال: وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : بين أصحابه سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي ولذلك قال علي بالكوفة: علمني رسول الله ألف باب من العلم ، ينفتح من كل باب ألف باب ! خصه رسول الله من مكنون علمه ما خصه الله به ، فصار إلينا وتوارثناه من دون قومنا . فقال له هشام: إن علياً كان يدعي علم الغيب ، والله لم يطلع على غيبه أحداً ، فكيف ادعى ذلك ومن أين؟ فقال أبي: إن الله أنزل على نبيه كتاباً بين فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة في قوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين. وفي قوله تعالى: وَكُلَّ شَئٍْ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين وفي قوله: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَئٍْ، وفي قوله: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرض إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ . وأوحى إلى نبيه أن لا يبقي في غيبه وسره ومكنون علمه شيئاً إلا ناجاه به ، وأمر أن يؤلف القرآن من بعده ، ويتولى غسله وتحنيطه وتكفينه من دون قومه ، وقال لأهله وأصحابه: حرام أن تنظروا إلى عورتي غير أخي علي فهو مني وأنا منه ، له ما لي وعليه ما عليَّ ، وهو قاضي ديني ومنجز وعدي . وقال لأصحابه: عليٌّ يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله . ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلا عند علي ، ولذلك قال لأصحابه: أقضاكم علي . وقال عمر بن الخطاب: لو لا علي لهلك عمر ! أفيشهد له عمر ويجحد غيره ؟! فأطرق هشام ثم رفع رأسه وقال: سل حاجتك . فقال: خلفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي ! فقال: قد آمن الله وحشتهم برجوعك إليهم ، فلا تقم أكثر من يومك ، فاعتنقه أبي وودعه وفعلت فعله ، ونهض ونهضت .
وخرجنا إلى بابه فإذا على بابه ميدان وفيه أناس قعود في آخره فسأله عنهم أبي فقال الحُجَّاب: هؤلاء القسيسون والرهبان ، وهذا عالم لهم يقعد لهم في كل سنة يوماً واحداً ، يستفتونه فيفتيهم . فلفَّ أبي رأسه بفاضل رداءه وفعلت فعله وأقبل حتى قعد عندهم ، وقعدت وراء أبي ، فرفع الخبر إلى هشام فأمر بعض غلمانه أن يحضره وينظر ما يصنع ! فأتى ومعه عدداً من المسلمين فأحاطوا بنا ، وأقبل عالم النصارى وقد شد حاجبيه بعصابة صفراء فتوسطنا ، وقام إليه جميع الحاضرين مسلِّمين ، فتوسط صدر المجلس وقعد فيه وأحاطوا به وأبي وأنا بينهم ، فأدار نظره فيهم فقال لأبي: أمنا أم من هذه الأمة المرحومة؟ فقال أبي: بل من هذه الأمة المرحومة . فقال: أمن علمائها أم من جهالها؟ فقال أبي: لست من جهالها . فاضطرب وقال: أسألك فقال: سل . قال: من أين ادعيتم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يحدثون ولا يبولون وما الدليل ، وهل من شاهد لا يجهل ؟ قال أبي: الدليل الذي لا ينكر مشاهدة الجنين في بطن أمه يطعم ولا يحدث ، فاضطرب اضطراباً شديداً وقال: كلا زعمت أنك لست من علمائها ؟ فقال أبي: قلت لست من جهالها . قال: فأسألك عن مسألة أخرى؟ قال: سل . قال: من أين ادعيتم أن فاكهة الجنة أبداً غضة طرية وما الدليل من المشاهدات؟ قال: إن الفرات غض طري موجود غير معدوم لا ينقطع . فاضطرب اضطراباً شديداً وقال: كلا زعمت أنك لست من علمائها؟ فقال أبي: قلت لست من جهالها .
فقال أسألك عن مسألة أخرى . قال: سل قال: أسألك عن ساعة من ساعات الدنيا ليست من الليل ولا من النهار؟ قال أبي: هي الساعة التي بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، يهدأ فيها المبتلى ، ويرقد فيها الساهر ، ويفيق فيها المغمى عليه ، جعلها الله في الدنيا رغبة للراغبين ، وفي الآخرة للعاملين لها ، وجعلها دليلاً واضحاً وحجة بالغة على الجاحدين والتاركين ! فصاح صيحة ثم قال: بقيت مسألة واحدة ، لأسألنك عنها ولا تهتدي إلى الجواب عنها أبداً ، قال أبي: فسل إنك حانث في قولك . فقال: أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد وماتا في يوم واحد عمر أحدهما مائة وخمسين سنة والآخر خمسين سنة في الدنيا؟ فقال أبي: ذلك عزير وعزرة ولدا في يوم واحد ، ولما بلغا مبلغ الرجال خمسة وعشرين عاماً مر عزير على حماره بقرية في أنطاكية وهي خاوية على عروشها: قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ؟ وكان الله قد اصطفاه وهداه ، فلما قال ذلك غضب الله عليه وأماته مائة عام ، ثم بعثه على طعامه وحماره وشرابه ، وعاد إلى داره وأخوه عزرة لا يعرفه فاستضافه وبعث إلى أولاده وأحفاده وقد شاخوا ، وعزير شاب في سن خمس وعشرين وهو يذكر عزرة بنفسه فيقول له: ما رأيت شاباً أعلم بعزير منك فمن أهل السماء أنت أم من أهل الأرض؟ فقال عزير لأخيه: أنا عزير ، سخط الله تعالى عليَّ بقول قلته فأماتني مائة سنة ، ثم بعثني ليزدادوا بذلك يقيناً أن الله على كل شيء قدير ، وهذا حماري وطعامي وشرابي الذي خرجت به من عندكم أعاده لي كما كان بقدرته فأعاشه الله بينهم تمام الخمسين وقبضه الله وأخاه في يوم واحد .
فنهض عند ذلك عالم النصارى وقاموا معه فقال:جئتموني بأعلم مني فأقعدتموه بينكم ليفضحني ، ويعلم المسلمون بأن لهم من يحيط بعلومنا ، وعنده ما لا نحيط به ! فلا والله لا كلمتكم ولا قعدت لكم إن عشت سنة! فتفرقوا وأبي قاعد مكانه .
ورفع ذلك الرجل الخبر إلى هشام فإذا رسوله بالجائزة والأمر بانصرافنا إلى المدينة من وقتنا فلا نبقى ، لأن أهل الشام ماجوا وهاجوا فيما جرى بين أبي وعالم النصارى ! فركبنا دوابنا منصرفين ، وقد سبقنا بريد هشام إلى عامل مَدْيَن في طريقنا إلى المدينة ، يذكر له أن ابن أبي تراب الساحر محمد بن علي وابنه جعفر الكذابين - بل هو الكذاب لعنه الله- فيما يظهران من الإسلام قد وردا عليَّ فلما صرفتهما إلى المدينة مالا إلى القسيسين والرهبان وتقرباً إليهم بالنصرانية ، فكرهت النكال بهما لقرابتهما ! فإذا مرَّا بانصرافهما عليكم فليناد في الناس برئت الذمة ممن بايعهما وشاراهما وصافحهما وسلم عليهما ، ورأى أمير المؤمنين قتلهما ودوابهما وغلمانهما لارتدادهما !
فلما ورد البريد إلى مدين وشارفناها بعده ، قدم أبي غلمانه ليشتروا لدوابنا علفاً ولنا طعاماً فلما قربوا من المدينة أغلق أهلها الباب في وجوههم وشتموهم وذكروا بالشتم علياً عليه السلام ، وقالوا لهم: لا نزول لكم عندنا ولا بيع ولا شراء ، فأنتم كفار مشركون! فوقف غلماننا إلى الباب حتى انتهينا إليهم فكلمهم أبي وليَّن لهم القول ، قال: اتقوا الله فلسنا كما بلغكم ! فأجابوه بمثل ما أجابوا الغلمان ، فقال لهم أبي: هبونا كما قلتم فافتحوا الباب وبايعونا كما تبايعون اليهود والنصارى والمجوس . فقالوا: أنتم أشر منهم ، لأن هؤلاء يؤدون الجزية وأنتم لا تؤدون . فقال لهم أبي: إفتحوا الباب وخذوا منا الجزية كما تأخذونها منهم . فقالوا: لا نفتح ولا كرامة حتى تموتوا على ظهور دوابكم جياعاً وتموت دوابكم تحتكم !
فوعظهم أبي فازدادوا عتوا فثنى أبي رجله عن سرجه وقال لي: مكانك يا جعفر لا تبرح ! فصعد الجبل المطل على مدينة مدين وهم ينظرون ما يصنع ، فلما صار في أعلاه استقبل بوجهه المدينة ووضع إصبعيه في أذنيه ونادى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ... إلى قوله: بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ . نحن والله بقية الله في أرضه !
فأمر الله تعالى ريحاً سوداء مظلمة فهبت واحتملت صوته فألقته في أسماع الرجال والنساء والصبيان والإماء ، فما بقي أحد من أهل مدين إلا صعد السطح من الفزع ! وفيمن صعد شيخ كبير السن ، فلما نظر الجبل صرخ بأعلى صوته: إتقوا الله يا أهل مدين ، فإنه قد وقف الموقف الذي وقف فيه شعيب حين دعا على قومه ! فإن لم تفتحوا له الباب نزل بكم العذاب ، وقد أعذر من أنذر !
ففتحوا لنا الباب وأنزلونا وكتب العامل بجميع ذلك إلى هشام ، فارتحلنا من مدين إلى المدينة في اليوم الثاني ، وكتب هشام إلى عامله بأن يأخذوا الشيخ ويدفنوه في حفيرة ففعلوا ! وكتب أيضاً إلى عامله بالمدينة أن يحتالوا في سم أبي بطعام أو شراب ، فمضى هشام ولم يتهيأ له في أبي شئ من ذلك ) ! انتهى.والأمان من أخطار الأسفار للسيد ابن طاووس/66، والدر النظيم لإبن حاتم/604 .ومدينة المعاجز:5/66، والبحار:46/313 ، ومستدرك الوسائل:14/77 .
وفي الكافي:1/471: (عن أبي بكر الحضرمي قال: لما حمل أبو جعفر عليه السلام إلى الشام إلى هشام بن عبد الملك وصار ببابه ، قال لأصحابه ومن كان بحضرته من بني أمية: إذا رأيتموني قد وبخت محمد بن علي ثم رأيتموني قد سكت فليقبل عليه كل رجل منكم فليوبخه ! ثم أمر أن يؤذن له فلما دخل عليه أبو جعفر عليه السلام قال بيده: السلام عليكم فعمهم جميعاً بالسلام ثم جلس ، فازداد هشام عليه حنقاً بتركه السلام عليه بالخلافة وجلوسه بغير إذن ، فأقبل يوبخه ويقول فيما يقول له: يا محمد بن علي لا يزال الرجل منكم قد شق عصا المسلمين ودعا إلى نفسه وزعم أنه الإمام سفهاً وقلة علم ! ووبخه بما أراد أن يوبخه ! فلما سكت أقبل عليه القوم رجل بعد رجل يوبخه حتى انقضى آخرهم ، فلما سكت القوم نهض عليه السلام قائماً ثم قال: أيها الناس أين تذهبون وأين يراد بكم ، بنا هدى الله أولكم وبنا يختم آخركم ، فإن يكن لكم ملك معجل فإن لنا ملكاً مؤجلاً وليس بعد ملكنا ملك ، لأنا أهل العاقبة يقول الله عز وجل: والعاقبة للمتقين . فأمر به إلى الحبس ، فلما صار إلى الحبس تكلم فلم يبق في الحبس رجل إلا ترشفه وحن إليه ، فجاء صاحب الحبس إلى هشام فقال: يا أمير المؤمنين إني خائف عليك من أهل الشام أن يحولوا بينك وبين مجلسك هذا ثم أخبره بخبره ! فأمر به فحمل على البريد هو وأصحابه ليردوا إلى المدينة وأمر أن لا يخرج لهم الأسواق وحال بينهم وبين الطعام والشراب ، فساروا ثلاثاً لا يجدون طعاماً ولا شراباً حتى انتهوا إلى مدين ، فأغلق باب المدينة دونهم ، فشكا أصحابه الجوع والعطش قال: فصعد جبلاً ليشرف عليهم فقال بأعلى صوته: يا أهل المدينة الظالم أهلها أنا بقية الله ، يقول الله: بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ . قال: وكان فيهم شيخ كبير فأتاهم فقال لهم: يا قوم هذه والله دعوة شعيب النبي ! والله لئن لم تخرجوا إلى هذا الرجل بالأسواق لتؤخذن من فوقكم ومن تحت أرجلكم فصدقوني في هذه المرة وأطيعوني وكذبوني فيما تستأنفون ، فإني لكم ناصح ، قال: فبادروا فأخرجوا إلى محمد بن علي وأصحابه بالأسواق ، فبلغ هشام بن عبد الملك خبر الشيخ ، فبعث إليه فحمله فلم يدر ما صنع به ). انتهى.
واليك بعض الملاحظات على الحادثة:
1- لم يصلنا من خطبة الإمام الصادق عليه السلام في الحج إلا هذه الفقرة اليتيمة: (الحمد لله الذي بعث بالحق محمداً نبياً وأكرمنا به صلى الله عليه وآله ، فنحن صفوة الله على خلقه وخيرته من عباده ، فالسعيد من اتبعنا والشقي من خالفنا ، ومن الناس من يقول إنه يتولانا وهو يتولى أعداءنا ومن يليهم من جلسائهم وأصحابهم ، فهو لم يسمع كلام ربنا ولم يعمل به ) ! لكنها بليغة تنص على أن فريضة ولاية أهل البيت عليهم السلام والبراءة من أعدائهم من صلب الإسلام ، وأن ذمة المسلم لاتبرأ ولايكون عاملاً بكلام الله تعالى حتى يتولاهم ويتبرأ من كل من خالفهم !
وهو كلام شبيهٌ بما قاله الإمام الباقر عليه السلام لهشام الأحول في قصره بالشام ، وبما رواه في بصائر الدرجات/83 ، عن الإمام الباقر عليه السلام : (نحن جنب الله ونحن صفوته ونحن خيرته ، ونحن مستودع مواريث الأنبياء عليهم السلام ، ونحن أمناء الله ونحن حجة الله ، ونحن أركان الايمان ونحن دعائم الإسلام ، ونحن من رحمة الله على خلقه ، ونحن الذين بنا يفتح الله وبنا يختم ، ونحن أئمة الهدى ونحن مصابيح الدجى ونحن منار الهدى ، ونحن السابقون ونحن الآخرون ، ونحن العلم المرفوع للخلق من تمسك بنا لحق ومن تخلف عنا غرق ، ونحن قادة الغر المحجلين ، ونحن خيرة الله ونحن الطريق وصراط الله المستقيم إلى الله ، ونحن من نعمة الله على خلقه ونحن المنهاج، ونحن معدن النبوة ونحن موضع الرسالة ، ونحن الذين إلينا مختلف الملائكة ، ونحن السراج لمن استضاء بنا ، ونحن السبيل لمن اقتدى بنا ، ونحن الهداة إلى الجنة ، ونحن عز الإسلام ، ونحن الجسور القناطر من مضى عليها سبق و من تخلف عنها محق ، ونحن السنام الأعظم ، ونحن الذين بنا تنزل الرحمة وبنا تسقون الغيث ، ونحن الذين بنا يصرف عنكم العذاب ، فمن عرفنا ونصرنا وعرف حقنا وأخذ بأمرنا فهو منا والينا ). وكمال الدين/206، وأمالي الطوسي/654، وبعضه في الهداية الكبرى لجابر بن يزيد/239 .
ويشبهه ما رواه في عيون المعجزات/67، عن أبي بصير وكان ضريراً قال: قلت لأبي جعفر الباقر عليه السلام : أنتم ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فقال لي: نعم رسول الله وارث الأنبياء ونحن ورثته صلى الله عليه وآله وورثتهم عليهم السلام . فقلت: تقدرون أن تحيوا الموتى وتبرئوا الأكمه والأبرص ؟ قال: نعم بإذن الله تعالى . ثم قال: أدن مني فدنوت منه فمسح على عيني فأبصرت السماء والأرض وكل شئ كان في الدار ، فقال عليه السلام : أتحب أن تكون هكذا ولك ما للناس وعليك ما عليهم ، أو تعود إلى حالك ولك الجنة خالصة؟ فقلت: الجنة أحب إليَّ ، فمسح يده على عيني فرجعت كما كانت .
ثم قال عليه السلام : نحن جنب الله جل وعز ، نحن صفوة الله نحن خيرة الله ، نحن أمناء الله ، نحن مستودع مواريث الأنبياء، نحن حجج الله ، نحن حبل الله المتين ، نحن صراط الله المستقيم قال الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ، نحن رحمة على المؤمنين ، بنا فتح الله وبنا ختم الله ومن تمسك بنا نجا وتخلف عنا غوى ، نحن القادة الغر المحجلين ، ثم قال عليه السلام : فمن عرفنا وعرف حقنا وأخذ بأمرنا فهو منا والينا) . انتهى.
وأصله الحديث الطويل الذي يصف فيه النبي نفسه وأهل بيته صلى الله عليه وآله . (تفسير فرات/258).
2- روت مصادرنا أجزاء أخرى من مناظرة الإمام عليه السلام مع نافع ، ومع الراهب النصراني ، كما في الكافي:8/122، وتفسير القمي:1/98 ، و:2/284، وغيرهما .
3- لهشام الأحول هدفان من إحضار الإمام عليه السلام : الأول: أن يرهبه ويذله ويجد حجة أو طريقاً الى قتله نظراً لاتساع شعبيته ، كما قتل أباه زين العابدين عليهما السلام !
والثاني: أن يتأكد من صحة عقيدة الشيعة في أئمتهم عليهم السلام وأنهم أصحاب صفات مميزة عن الناس ، وأن عندهم علوماً من النبي صلى الله عليه وآله ليست عند غيرهم ؟! كما أعلن ذلك أولهم علي عليه السلام ! ويظهر ذلك من سؤاله للإمام عليه السلام : ( إن علياً كان يدعي علم الغيب ، والله لم يطلع على غيبه أحداً ، فكيف ادعى ذلك ومن أين) ؟
وقد أكد الإمام لهشام تميزهم عليه السلام بالعلم وبيَّنَ له بإجمال مصادر علمهم ! فغضب هشام وتساءل: ما الفرق بيننا وبينكم ، ألسنا وأنتم من قبيلة واحدة ونسب واحد؟! وهو نفس منطق قريش الجاهلي مع النبي صلى الله عليه وآله استعملوه معه ومع عترته المطهرين المعصومين عليهم السلام الى يومنا !
4- في تلك الفترة قام هشام الأحول بتغيير والي المدينة مرتين ، فولاها (خاله إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي ، فقدم المدينة يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من جمادى الآخرة سنة106 ، فكانت ولاية النضري على المدينة سنة وثمانية أشهر). (الطبري:5/379) . ويبدو أن هشاماً لم يرتض لينه مع أهل البيت عليهم السلام ، فولى عليهم أموياً ناصبياً خبيثاً ، سئ السيرة بذئ اللسان هو خالد بن عبد الملك !
قال في تاريخ دمشق:16/172: (استعمل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الملك على المدينة ، فكان يؤذي علي بن أبي طالب على المنبر ، فسمعته يوماً على منبر رسول الله (ص) وهو يقول: والله لقد استعمل رسول الله علياً وهو يعلم أنه كذا وكذا ، ولكن فاطمة كلمته فيه).وفي مناقب ابن حمزة/271: (وهو يعلم أنه خائن)!
وفي عمدة القاري:9/261 ، أن خالداً هذا كان خاملاً قبل ولايته على المدينة .
وفي تاريخ دمشق:16/170: (خالد هذا ليس بابن عبد الملك بن مروان وإنما هو ابن عبد الملك بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص.. المعروف بابن مطرة وولي لهشام بن عبد الملك المدينة سبع سنين فأقحطوا ، فكان يقال سنيات خالد ، وكان أهل البادية قد جلوا إلى الشام ) !
وفي التمهيد:19/35 ، أن عروة بن الزبير كان يشغل نفسه بالكلام عندما يسب أمير المدينة خالد علياً عليه السلام في خطبة الجمعة ويقول: (إنا لم نؤمر أن ننصت لهذا) !
وفي أعيان الشيعة:3/492: (كانت سكينة (بنت الحسين عليه السلام ) تجئ يوم الجمعة فتقوم بإزاء ابن مطير... إذا صعد المنبر فإذا شتم علياً شتمته هي وجواريها ، فكان يأمر الحرس يضربون جواريها). وقد روت المصادر كرامات في إدانة هذه السياسة . الثاقب في المناقب لابن حمزة/271: مدينة المعاجز:2/282، وتاريخ دمشق:16/172 .
5- لم يكتف (الخليفة) بما فعل واليه أمير المدينة ، فأمره أن يجبر المسلمين على سب علي عليه السلام على منبر النبي صلى الله عليه وآله ! فكانوا يتصدون للأمير عندما يسب علياً عليه السلام يوم الجمعة ، وهجاه كُثيِّر الشاعر بأبياته: لعن الله من يسبُّ علياً... فانتشرت بين الناس وتقدمت مع مصادرها ، وقلنا إن إطلاق الخليفة سراح الشاعر كثير رحمه الله يدل على قوة الجو العام ضد بني أمية .
6- إن قول الإمام الصادق عليه السلام في رواية دلائل الإمامة: ( فمضى هشام ولم يتهيأ له في أبي من ذلك شئ) : يعني أن والي المدينة قام بمحاولات عديدة فاشلة ، لم تصل الينا روايتها ، لكن وصلنا أنهم استطاعوا ذلك بعد ثمان سنوات أن يدسوا السم للإمام عليه السلام ! وتذكر بعض الروايات أنهم أهدوا اليه سرجاً مسموماً، أو دعوه للركوب على فرس سرجها مسموم . قال ابن حاتم في الدر النظيم/613: (وفي رواية: بطريق السرج الذي أعطاه (والي المدينة) زيد بن الحسن). وقال عنها السيد الخوئي في معجمه:8/351: (الرواية مرسلة على أنها غير قابلة للتصديق ، فإن عبد الملك لم يبق إلى زمان وفاة الباقر عليه السلام جزماً ، فالرواية مفتعلة). انتهى.
7- لم تذكر رواية الكافي الريح السوداء التي هبت على مدين عندما ناداهم الإمام الباقر عليه السلام بنداء شعيب عليه السلام ، وهذا لاينفي وقوعها ، فنصوص الحادثة متعددة لسعتها ، وقد تناولتها كل رواية من الزاوية التي أرادها الراوي .
8- نلاحظ من الحادثة ومن تغيير الخليفة لولاته على المدينة ، سقوط هيبة بني أمية عند المسلمين في عهد الإمام عليه السلام الباقر ، ويدل عليه التشييع الحاشد لجنازة كثير رحمه الله الذي كان يجاهر بتشيعه ويهجو الأمويين ، وإعراضهم عن جنازة عكرمة عالم الخلافة الأموية ، حيث ماتا في يوم واحد سنة 105هجرية ! فاحتشد الناس اجتمعوا على جنازة كثيِّر وصلى عليه الإمام الباقر عليه السلام وقال للناس: ( أفرجوا لي عن جنازة كثير لأرفعها ، فرفع جنازته وعرقه يجري) ! في حين تركوا جنازة عكرمة فلم يوجد من يحملها ! (الدرجات الرفيعة/590 ، وتهذيب الكمال:20/290) .
وفي كلا الموقفين دلالة على قوة الموجة التي أوجدها الإمام الباقر عليه السلام في نقد بني أمية وتسقيط علماء البلاط ! وقد اضطر الذهبي أن يعترف بإعراض المسلمين عن جنازة عكرمة فقال في سيره:5/33: (قلت: ما تركوا عكرمة مع علمه وشيعوا كثيِّراً ، إلا عن بلية كبيرة في نفوسهم له ، رضي الله عنه) !
ويؤكد ما ذكرناه من نقمة الناس على بني أمية ما رواه في خزانة الأدب:5/221، من قول كثير في احتضاره:
برئت إلى الإله من ابن أروى (يقصد عثمان) ومن دين الخوارج أجمعينا
ومن عمر برئت ، ومن عتيق ( أبي بكر) غداة دعي أمير المؤمنينا ).
وكان أهل الكوفة أكثر جرأة من أهل المدينة ، كما كانت تجري في خراسان والبصرة صراعات دموية بين الولاة ، أو بين الخليفة والولاة .
ولا بد أن نضيف الى الوضع المساند للإمام عليه السلام في تحديه للخليفة وبني أمية ، أنه كان مأموراً بذلك من ربه عز وجل ، لأن الأئمة عليهم السلام مهديون في أعمالهم .
9- لنا أن تقدر الوقع القوي لمواقف الإمام مع الخليفة عند جماهير المسلمين ، خاصة أهل المدينة والعراق ، وقد تفاعل حتى كانت ثورة أخيه زيد رحمه الله بعد شهادته عليه السلام بست سنين، فقد كانت في حكم هشام سنة121 ، واستمر حكمه الى سنة125 هجرية ، ثم سقطت دولة بني أمية بعد هلاكه بسبع سنين .
من السيرة العطرة للإمام الباقر عليه السلام
1- ولادة الإمام الباقر عليه السلام وصفته البدنية
ولد عليه السلام في الأول من رجب سنة سبع وخمسين ، وقبض في سابع ذي الحجة سنة أربع عشرة ومئة ، فكان عمره الشريف سبعاً وخمسين سنة . وأمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي ، فهو حفيدٌ للحسن والحسين عليهما السلام ، قال الصادق عليه السلام : (كانت أمه صديقة لم يدرك في آل الحسن مثلها) . ( الدعوات/69، والدر النظيم/603) .
وتميز الإمام الباقر من بين الأئمة عليهم السلام بأنه أكثرهم بدانةً وجسامةً . فعن سدير قال: (قلت لأبي جعفر عليه السلام : أتصلي النوافل وأنت قاعد؟ فقال: ما أصليها إلا وأنا قاعد منذ حملت هذا اللحم، وبلغت هذا السن) . (الكافي:3/410 ) .
وفي فقه الرضا/183، عن الإمام الصادق عليه السلام : (وكتب أبي في وصيته: أن أكفنه في ثلاث أثواب ، أحدها رداء له حبرة كان يصلي فيه يوم الجمعة ، وثوب آخر وقميص... وشققنا له القبر شقاً من أجل أنه كان رجلاً بديناً ، وأمرني أن أجعل ارتفاع قبره أربعة أصابع مفرجات) . وجاء في وصفه عليه السلام أنه شبيه جده النبي صلى الله عليه وآله في ملامح وجهه ، حنطي اللون ، له خال على خده ، ضامر الكشح أي ليس بطيناً مع أنه بدين ، حسن الصوت ، مطرق الرأس. (مناقب آل أبي طالب:3/339) .
2- أدرك الإمام الباقر جده الإمام الحسين عليهما السلام
كان الإمام الباقر مع أبيه زين العابدين في سفره مع جده الحسين عليهم السلام الى كربلاء ، وكان عمره أربع سنوات . وروى حادثة عن جده الحسين عليهما السلام في مكة ربما كان عمره فيها ثلاث سنوات ، ففي الكافي:4/223، أن زرارة سأله: (أدركتَ الحسين عليه السلام ؟قال عليه السلام : نعم أذكر وأنا معه في المسجد الحرام ، وقد دخل فيه السيل والناس يقومون على المقام يخرج الخارج يقول: قد ذهب به السيل ويخرج منه الخارج فيقول: هو مكانه . قال: فقال (لرجل): يا فلان ما صنع هؤلاء؟ فقال: أصلحك الله يخافون أن يكون السيل قد ذهب بالمقام، فقال: ناد أن الله تعالى قد جعله علماً لم يكن ليذهب به ، فاستقروا . وكان موضع المقام الذي وضعه إبراهيم عليه السلام عند جدار البيت فلم يزل هناك حتى حوَّله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم. فلما فتح النبي صلى الله عليه وآله مكة رده إلى الموضع الذي وضعه إبراهيم عليه السلام فلم يزل هناك إلى أن وليَ عمر بن الخطاب فسأل الناس من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام؟ فقال رجل: أنا قد كنت اخذت مقداره بنسع (حزام للبعير وغيره)فهو عندي فقال: إئتني به فأتاه به فقاسه ، ثم رده إلى ذلك المكان) !
وقال اليعقوبي في تاريخه:2/320، قال أبو جعفر عليه السلام : قتل جدي الحسين ولي أربع سنين ، وإني لأذكر مقتله ، وما نالنا في ذلك الوقت) . انتهى.
ومعنى عبارته الأخيرة عليه السلام أنه عايش جيداً أحداث كربلاء ومأساتها ، والأسر الى الكوفة فالشام ، لكن لم يصلنا من روايته عليه السلام إلا قليل ! فمن ذلك أنه عندما رفع الحسين عليه السلام رضيعه ، وطالب أعدائه أن لايمنعوا عنهم الماء ، ورماه حرملة بسهم فأصابه في نحره: (تلقى الحسين عليه السلام الدم بكفيه فلما امتلأتا رمى بالدم نحو السماء ثم قال: هَوَّنَ عليَّ ما نزل بي أنه بعين الله . قال الباقر عليه السلام : فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض)(اللهوف/69) . وقال الباقر عليه السلام : (أصيب الحسين بن علي ووجد به ثلاثمائة وبضعة وعشرين طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم) . (روضة الواعظين/189 , وفي شرح الأخبار:3/54، أنها كانت كلها في صدره ووجهه عليه السلام لأن كان لايولي) .
وقال الباقر عليه السلام : (إن الحسين لما حضره الذي حضره ، دعا ابنته الكبرى فاطمة فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصيةً ظاهرةً ، ووصية باطنة . وكان علي بن الحسين مبطوناً لا يرون إلا أنه لِمَا به ، فدفعت فاطمة الكتاب إلى علي بن الحسين ، ثم صار ذلك إلينا . فقلت: فما في ذلك الكتاب؟ فقال: فيه والله جميع ما يحتاج إليه ولد آدم إلى أن تفنى الدنيا ) .(بصائر الدرجات/168، وإعلام الورى:1/482) .
أقول: كان الإمام الحسين عليه السلام أودع مواريث النبي صلى الله عليه وآله عند أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها ، وأوصاها أن تسلمها الى من يعطيها علامة ، فسلمتها الى الإمام زين العابدين عليه السلام . أما هذا الكتاب الذي كان معه عليه السلام في كربلاء ، فيظهر أنه صحيفة الألف باب التي ينفح من كل باب منها ألف باب .
3- وكان عضد أبيه الإمام زين العابدين عليهما السلام
رافق الإمام الباقر والده عليهما السلام في مراحل حياته وكان وزيره وعضده . وعندما توفي والده سنة أربع وتسعين ، كان الباقر عليه السلام في الثامنة والثلاثين من عمره ، وكان وارث أمجاد أبيه وخليفته بلا منازع . قال الذهبي يصف زين العابدين عليه السلام : (وكان له جلالة عجيبة ! وحقَّ له والله ذلك ، فقد كان أهلاً للإمامة العظمى ، لشرفه وسؤدده وعلمه وتألهه ، وكمال عقله) . (سير الذهبي:4/398) .
وتقدم أن الزهري سأل زين العابدين عليه السلام : (يا ابن رسول الله هذا الذي أوصيت إليه أكبر أولادك؟ فقال: يا أبا عبد الله ليست الإمامة بالصغر والكبر ، هكذا عَهِدَ إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهكذا وجدنا مكتوباً في اللوح والصحيفة . قلت: يا ابن رسول الله فكم عهد إليكم نبيكم أن تكون الأوصياء من بعده ؟ قال: وجدنا في الصحيفة واللوح اثني عشر أسامي مكتوبة بأسماء آبائهم وأمهاتهم ، ثم قال: يخرج من صلب محمد ابني سبعة من الأوصياء فيهم المهدي) . (كفاية الأثر/241) .
وقد أعطاه أبوه في حياته مواريث الأنبياء: (أخرج سفطاً أو صندوقاً عنده فقال: يا محمد إحمل هذا الصندوق ، قال فحُمل بين أربعة . فلما توفي جاء إخوته يدَّعون ما في الصندوق فقالوا: أعطنا نصيبنا من الصندوق فقال: والله ما لكم فيه شئ ، ولو كان لكم فيه شئ ما دفعه إليَّ وكان في الصندوق سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله وكتبه ) . (الكافي:1/305 ، وإعلام الورى/500) .
وكان الى جنب أبيه عليهما السلام في المراحل الصعبة.. في ثورة أهل المدينة وحملة جيش يزيد الوحشية عليهم في وقعة الحرة . وما تبعها من حملة يزيد على ابن الزبير واستباحته الكعبة . ثم هلاك يزيد واضطراب خلافة بني أمية ، ثم قتلهم معاوية بن يزيد رحمه الله . ثم سيطرة مروان بن الوزغ وأولاده على العرش الأموي . ثم موت مروان بعد شهور وسيطرة ابنه عبد الملك ، وحروبه مع المختار ثم مع ابن الزبير ، التي امتدت أكثر من عشر سنين . وفي أثنائها بنى عبد الملك (كعبة) على صخرة بيت المقدس وحجج المسلمين اليها بدل مكة ! كما عايش الإمام صمود أبيه عليهما السلام ورفضه ضغوط الثائرين باسم الحسين عليه السلام ، من التوابين والمختار وابن الأشتر ، وتأييده في نفس الوقت لكل من يأخذ بثأر الحسين عليه السلام ، ومدحه للمختار رحمه الله لأنه قتل عدداً من قتلة الحسين عليه السلام .
وعاصر سيطرة ابن الزبير على الحجاز بعد هلاك يزيد ، ثم حرب مصعب بن الزبير بعد أكثر من سنتين للمختار حتى انتصر عليه وقتله .
وعاصر علاقات أبيه عليهما السلام المتفاوتة في توترها وهدوئها ، مع يزيد بن معاوية ، ومروان ، وعبد الملك ، والحجاج ، وابن الزبير ، والخوارج ، وعرف في المدينة الشاب المترف عمر بن عبد العزيز ، المحب للإمام زين العابدين عليه السلام .
كما حضر مجالس أبيه عليه السلام وسمع جواهر علومه ، وعرف تلاميذه ، من محمد بن شهاب الزهري ، الى العُبَّاد والمتصوفة ، الى تلاميذه الخاصين كيحيى بن أم الطويل ، وسعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وحكيم بن جبير بن مطعم ، وكميل بن زياد ، وسعيد بن جبير .
كما شاهد الباقر عليه السلام تقديس الأمة لأبيه زين العابدين عليهما السلام فقد كان معه في مكة عندما انفسح له الناس ليستلم الحجر ، فحسده هشام بن عبد الملك وتجاهله ، فارتجل الفرزدق رحمه الله قصيدته الخالدة: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته.. فحبس الفرذزدق فهجاه بقوله: يقلب رأساً لم يكن رأس سيد .. وعيناً له حولاء بادٍ عيوبها !
وكما عاصر الإمام الباقر أباه عليهما السلام في صموده في وجه العداء الأموي وتحريف الإسلام ، فقد شاركه في حملات دفاعه القوية ضد التحريف والعداء وفي كشف مؤامرة قريش على الأئمة من العترة النبوية^، وفي عمله النبوي في تشييد صرح التشيع وبناء الفئة الشيعية من الأمة .
كان مع أبيه عليهما السلام في المدينة وفي سفر الحج ، وفي اعتزاله سنين في البادية ، وسفراته المتخفية لزيارة قبر جده أمير المؤمنين والحسين^ومسجد الكوفة .
رأى إعجاب عبد الملك بأبيه زين العابدين عليه السلام ومكائده له في نفس الوقت ، وكان مبعوث أبيه اليه ليعالج مشكلة النقد والطراز مع الروم ، كما بينا في سيرة أبه عليهما السلام . ثم عاصر الإمام عليه السلام بعد هلاك عبد الملك ، عهد ابنه الوليد ، صاحب الشخصية المعقدة والجرائم المنكرة ، وأعظمها قتله للإمام زين العابدين عليه السلام !
4- لمحة عن عبادة الإمام عليه السلام وأخلاقه
تقدم محمد بن طلحة الشافعي في مطالب السؤول/424: (صفا قلبه وزكى عمله ، وطهرت نفسه وشرفت أخلاقه ، وعمرت بطاعة الله أوقاته ، ورسخت في مقام التقوى قدمه ، وظهرت عليه سمات الإزدلاف ، وطهارة الإجتباء) .
وفي الصواعق المحرقة/201: (وارثه منهم عبادةً وعلماً وزهادة: أبو جعفر محمد الباقر .. أظهر من مخبآت كنوز المعارف ، وحقائق الأحكام والحكم واللطائف ، ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة.. صفى قلبه وزكى علمه وعمله ، وطهرت نفسه وشرف خلقه ، وعمرت أوقاته بطاعة الله ، وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكل عنه ألسنة الواصفين) .
وقال الذهبي في سيره:4/403: (وبلغنا أن أبا جعفر كان يصلي في اليوم واللية مئة وخمسين ركعة) . وفي معارج الوصول للزرندي الشافعي/121: (كان الباقر محمد بن علي من العلم والزهد ولسان الحكمة بمحل عظيم ، وله في معاني الزهد ودقائق العلوم في التوحيد كلام جم جسيم) .
وقال ابن العماد في شذرات الذهب:1/149: (قال عبد الله بن عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم علماً عنده ، وله كلام نافع في الحكم والمواعظ منه: أهل التقوى أيسر أله الدنيا مؤونة وأكثرهم معونة ، إن نسيت ذكروك ، وإن ذكرت أعانوك ، قوالين بحق الله ، قوامين بأمر الله) . انتهى.
هذا ، وقد ذكرنا نماج من إخباراته بالمغيبات عليه السلام ، في فصل بشارة النبي صلى الله عليه وآله به وتسميته باقر علم النبوة .
-----------------
الفصل السادس
تصعيد الإمام الباقر عليه السلام مواجهته للنظام الأموي
1- الإمام الباقر عليه السلام يُعلي صَرْحَ التشيع
حددت صحيفة الوصية البليغة التي تقدمت في الفصل الأول ، البرنامج الرباني للإمام الباقر عليه السلام : ( فسِّرْ كتاب الله تعالى ، وصدِّقْ أباك ، وورِّثْ ابنك ، واصطنع الأمة ، وقم بحق الله عز وجل ، وقل الحق في الخوف والأمن ، ولا تخش إلا الله ) .
ولكل فقرة منها دلالات وأبعاد وآفاق ، وغرضنا منها الفقرة الأخيرة التي ترفع التقية عن الإمام عليه السلام ليجهر بالحق في الخوف والأمن ، ويكشف التحريف .
كما حدد حديث أبيه زين العابدين عليهما السلام وقت بدء انطلاقته في بَقْر علم النبوة وتفجير ينابيعها ، حيث قال عليه السلام للقاسم بن عوف رحمه الله : ( وإياك أن تشد راحلة ترحلها ، فما ها هنا مطلب العلم حتى يمضي لكم بعد موتي سبع حجج ، ثم يبعث الله لكم غلاماً من ولد فاطمة يُنبت الحكمة في صدره كما يُنبت الطَّلُّ الزرع ) .
وبعد سبع سنين تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز ، الشاب المترف المعجب بالإمام زين العابدين عليه السلام ، الذي عايشه في المدينة عندما كان أبوه واليها ، ثم عندما صار هو الوالي ، وكان محباً لبني هاشم عترة النبي صلى الله عليه وآله ، معجباً بالإمام زين العابدين عليه السلام أيما إعجاب كما بينا في المجلد الرابع ، وظل يذكره بإيمان ولهفة ويقول: (ذهب سراج وجمال الإسلام وزين العابدين) (تاريخ اليعقوبي:2/306 ) . وقد انتقل إعجابه الى ولده محمد الباقر عليه السلام فانفتح الباب لانطلاقة الإمام عليه السلام طوال أربع عشرة سنة من عمره الشريف ، منها خمس سنوات في عهدي ابن عبد العزيز وخلفه يزيد بن عبد الملك ، ثم واصل جهاده في عهد الطاغية هشام بن عبد الملك ، حتى استشهد بيده بعد تسع سنين !
وفي هذه المدة جهر الإمام عليه السلام بالحق في حديثه ومواقفه ، فبيَّنَ معالم الإسلام النبوي ومركزية ولاية أهل البيت فيه ، وبَلْوَرَ معالم فقه الإسلام وشريعته ، ورسَّخَ أسس التشيع التي أرساها آباؤه، وفضح عمل قريش وتآمرها .
وربى على ذلك جيلاً من العلماء والرواة ، كما تقدم في فصله ، ونشر مذهب أهل البيت^في العراق وخراسان والشام والحجاز ، وغيرها من مناطق الدولة .
ولو تتبعنا مفردة واحدة من نشاطه العلمي تطبيقاً لأمر الله تعالى: ( فسر كتاب الله) لرأينا العمق واليقين في تفسير القرآن ، في عصر ساد فيه التفسير السطحي بالإسرائيليات ، من علماء الدولة كعكرمة وقتادة ومجاهد والحسن البصري !
وصدِّقْ أباك.. أي: رسِّخ ما بناه أبوك زين العابدين عليه السلام من عقائد الإسلام وأخلاقيته وروحانيته ، وظلامة العترة الطاهرة
وورِّثْ ابنك.. أي قم بما يتعلق بك من إعداد جعفر الصادق عليه السلام وتعريفه للأمة ، والوصية له ، وتوريثه جهدك ومجدك ومواريث الأنبياء^ .
ومعنى ذلك: ركز مكانة آبائك وابنك واربط الأمة بهم ، وعلمها أن توالي هذه الأسرة الربانية المختارة وتقتدي بهم ، حتى لا ينصب لها المنحرفون أنداداً وأئمة من دون الله تعالى ، ويخدعوها بولاية الطغاة المقنعين ، وعلمائهم المضلين !
واصطنع الأمة.. أي قم ببناء الفئة الواعية الناجية داخل الأمة ، فاختر علماءها وعناصرها ، وتألفهم بالتربية والرعاية والإدارة . وهذا ما قام به الإمام عليه السلام فكان ينمي الكتلة الموالية لأهل البيت عليهم السلام ويرعاهم ويوجه اليهم الرسائل والمبلغين .
ويكفي لمعرفة تأثيره عليه السلام في بناء المجتمع الشيعي قول الخليفة هشام عنه: (هذا نبي أهل الكوفة) . (الكافي:8/120) . والكوفة يومها تعني العراق وقسماً من إيران .
وقم بحق الله عز وجل.. في نفسك وأسرتك وعشيرتك ومجتمعك ، ومع السلطة الأموية ، ولاتها ورأسها ، ومع مشاريع الجبابرة الجدد الذين يعملون لوراثتها .
وقل الحق في الخوف والأمن ، ولا تخش إلا الله.. وهذا أمرٌ للإمام عليه السلام بالجهر بالحق بدون تقية ، فكان يجهر به ويعلمه لتلاميذه وأتباعه ، ويواجه به شخصيات المجتمع ، وعلماء السلطة ، وأتباعهم ، ويواجه به الوالي والخليفة ، سواء كان ليناً محباً كعمر بن عبد العزيز ، أو معادياً طاغية كالحاكميْن اللذين عاصرهما بعده: يزيد بن عبد الملك الذي عمل لإعادة الأمور الى ماكانت عليه قبل ابن عبد العزيز ، والطاغية الجبار المريض نفسياً هشام بن عبد الملك ، الذي جاهده الإمام وعانى منه تسع سنين ، حتى كتب الله له الشهادة بيده .
2- أهم فعاليات الإمام عليه السلام لإعلاء صرح الإسلام النبوي
ذكرنا في الفصل الثاني نماذج من علم الإمام عليه السلام ، وكلها مفرداتٌ في إعلائه لصرح التشيع الذي هو الإسلام النبوي في مقابل الإسلام الأموي .
ومراعاةً لمنهج الكتاب في الإختصار ، نكتفي بالقول: إن الإسلام النبوي الذي قدمه الإمام عليه السلام يقوم على التمسك بالقرآن والعترة ، ومن أركانه فريضة ولاية أئمة العترة النبوية^التي أوحاها الله تعالى وبلغها رسوله الأمين صلى الله عليه وآله ، ويوازيها ركن آخر هو فريضة البراءة من أعدائهم وظالميهم وغاصبي حقوقهم أياً كانوا !
وهذا ما تجده صريحاً واضحاً قوياً متعدداً في أحاديث الإمام عليه السلام ومواقفه !
ويكفي أن تقرأ في ذلك فهرس بعض أبواب الكافي:1/174، مثلاً:
باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة .
باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث .
باب أن الأرض لا تخلو من حجة .
باب أن الأئمة خلفاء الله عز وجل في أرضه وأبوابه التي منها يؤتي .
باب أن الأئمة ولاة الأمر وهم الناس المحسودون الذين ذكرهم الله عز وجل .
باب أن أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة.
باب أن الراسخين في العلم هم الأئمة.
باب في أن من اصطفاه الله من عباده وأورثهم كتابه هم الأئمة.
باب أن الأئمة معدن العلم وشجرة النبوة ومختلف الملائكة.
باب أن الأئمة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم.
باب أن الأئمة إذا شاؤوا أن يعلموا علموا.
باب أن الأئمة محدثون مفهمون .
باب وقت ما يعلم الإمام جميع علم الإمام الذي كان قبله.
باب ثبات الإمامة في الأعقاب وأنها لا تعود في أخ ولا عم ولا غيرهما .
باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل في أمر الإمامة .
ففي هذه الأبواب وأمثالها تجد أحاديث الإمام عليه السلام وابنه الصادق عليه السلام وافرةً صريحة هادرة ، في بيان أصول ولاية أهل البيت وتفاصيلها ، وأصول البراءة من مخالفيهم وتفاصيلها . يبدأ فيها الإمام عليه السلام بآيات كتاب الله تعالى ، ويؤيدها بسيرة جده النبي صلى الله عليه وآله وأحاديثه من أول بعثته ، وفي مراحل رسالته وجهاده في مكة ثم في المدينة ، وبمواقفه الحاسمة وأحاديثه الصريحة التي لاتقبل التعلل بأن الله تعالى بعثه أولاً رسولاً الى بني هاشم ، ثم الى قريش والعالم ، وأنه صلى الله عليه وآله بلغ رسالة ربه فأنذر عشيرته الأقربين ، واختار منهم بأمر ربه علياً عليه السلام وزيره ووصيه !
ولا يتحرج الإمام عليه السلام أن يذم قريشاً ويسمي رؤساء بطونها وشخصياتها ، الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وتآمروا عليه ، ثم تعاونوا مع اليهود في تجييش العرب لحربه ، ثم اضطروا الى خلع سلاحهم والخضوع له في فتح مكة ، لكنهم واصلوا التآمر عليه وكتبوا صحيفتهم الملعونة الثانية لأخذ خلافته ، وإبعاد أهل بيته عنها !
لكن عقيدة الإمامة عند أهل البيت ليست مستقلة عن عقيدة النبوة والألوهية بل لا يمكن أن تنفصل عنهما بحال ! فقريش انتقصت في رأي أهل البيت من عقيدة النبوة ومن شخصية النبي صلى الله عليه وآله ليتناسب صورته مع تركه لأمته سدى ، وانتهاء مشروعه بموته ، دون أن يعهد به الى عترته الذين وعد الله أن يظهر بهم دينه على الدين كله .
كما انتقصت قريش من توحيد الله عز وجل في ذاته وصفاته ، وأفعاله وحكمته فصار تصورها لله تعالى أقرب الى تصور اليهود منه الى التصور الإسلامي !
لذا كان من فعاليات الإمام الباقر عليه السلام تصحيح التوحيد وتصحيح فهم المسلمين لله تعالى وأفعاله ، فواصل المعركة التي خاضها أهل البيت^لإعادة التوحيد النبوي ومقاومة التحريف القرشي الإسرائيلي ، الذي قدم ذات الله شخصاً شبيهاً بالإنسان يسكن في السماء وينزل الى الدنيا ويصعد ! مخالفين بذلك الآيات المحكمة بأنه عز وجل لاتدركه الأبصار وليس كمثله شئ، ومتبعين المتشابهات ! ومازال أتباعهم الى يومنا هذا يصرون على فريتهم وينشرونها في المسلمين !
ويكفي أن ترجع الى كتاب التوحيد للصدوق رحمه الله لتجد أن الإمام الباقر عليه السلام قد شق طريق التوحيد ، وهاجم التحريف في معرفة الله تعالى وعبادته .
كما تلاحظ وفرة ما روي عنه عليه السلام في سيرة النبي صلى الله عليه وآله ومقامه الشامخ ، وانه يؤسس لسيرة نبوية أصيلة ، أثبت فيها ما أنقصه الأمويون ، وبرأها مما ألصقوه !
ومن فعالياته عليه السلام : تركيز مكانة أمير المؤمنين عليه السلام في الأمة لأنه عليه السلام محور التشيع وأول أئمته ، وأول مظلوم يفتح ملفه يوم الحساب كما روى أصح كتب مخالفيه: (أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمان يوم القيامة) !(صحيح بخاري:5/6) .
ومن فعالياته عليه السلام : تعليم المسلمين التدين الفقاهتي في مقابل التدين السياسي للخليفة وموظفي الدولة ، والتدين البدوي الشكلي لأتبعهم .
ومن فعالياته عليه السلام : إرساء أصول الفقه وقواعده ، ومحاربته المنهج الظني والكيفي:
ومن فعالياته عليه السلام : نفي قداسة الأئمة الذين نصبتهم قريش مقابل أهل البيت^.:
وفي كل واحد من هذه الموضوعات مفردات وبحوث ، لايتسع لها المجال .
4- الإمام الباقر عليه السلام يتبنى الشاعرين كُثَيِّر عَزَّة والكُمَيْت
كان تأثير الشاعر في تلك العصور يشبه تأثير الإذاعة في عصرنا ، ومن هنا اهتم النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام بالشعر لإسناد الحق وفضح الباطل . وقد ذكر المحدثون عدة شعراء كانوا في خط الإمام الباقر عليه السلام : الفرزدق ، وكُثيِّر عزة ، وابنه ، والكميت ، وأخوه الورد ، وابنه المستهل . وتقدمت مواجهة الفرزدق لهشام بن عبد الملك يوم كان أميراً ، وقصيدته الخالدة في مدح الإمام زين العابدين عليه السلام : هذا الذي تعرف البطحاء وطأته.. وقد بقي الفرزدق على صلة بالإمام الباقر عليه السلام ، لكن لم أجد له شعراً في مدحه ، ولا في ذم بني أمية بعد قصيدته تلك !
كُثَيِّر عزة رحمه الله
(كُثَيِّر بن عبد الرحمن.. الخزاعي الحجازي الشاعر ، المعروف بابن أبي جمعة وهو كُثَيِّر عَزَّة.. وكان من فحول الشعراء) . (تاريخ دمشق:50/76) .
وسمع به عبد الملك بن مروان فاستحضره ، ولما دخل عليه رآه قصيراً تزدريه العين فقال: تسمع بالمعيدي لا أن تراه ! فقال: ( مهلاً يا أمير المؤمنين فإنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه ، إن ضرب ضرب بجنان ، وإن نطق نطق ببيان !
ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصورُ
ويعجبك الطرير فتختبره فيخلف ظنك الرجل الطريرُ
وقد عظم البعير بغير لبٍّ فلم يستغن بالعِظَم البعير
فيُركب ثم يُضرب بالهراوي فلا عرفٌ لديه ولا نكير..
فاعتذر إليه عبد الملك ورفع مجلسه) . (تاريخ دمشق:50/86) .
ومن يومها صار كثير مقرباً عند عبد الملك رغم تشيعه !
قال الصفدي في وفيات الأعيان:4/106: ( أحد عشاق العرب المشهورين... وهو صاحب عزة بنت جميل... وله معها حكايات ونوادر وأمور مشهورة ، وأكثر شعره فيها ، وكان يدخل على عبد الملك بن مروان وينشده ، وكان رافضياً شديد التعصب لآل أبي طالب ، حكى ابن قتيبة في طبقات الشعراء أن كثيراً دخل يوماً على عبد الملك فقال له عبد الملك: بحق علي بن أبي طالب هل رأيت أحداً أعشق منك؟ قال: يا أمير المؤمنين لو نشدتني بحقك أخبرتك) وحدثه عن شاب بدوي نصب حُبَالة ليصيد ما يسد به جوعه وجوع والديه ، فصاد غزالة ، فأطلقها لأنها تشبه حبيبته !
ولما عزم عبد الملك على حرب مصعب بن الزبير في العراق ، ناشدته زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية أن لا يخرج بنفسه وأن يستنيب غيره...فقال: قاتلَ الله ابن أبي جمعة يعني كثيِّراً كأنه رأى موقفنا هذا حين قال:
إذا ما أراد الغزو لم يثن عزمه... حصان عليها نظم در يزينها
نهته فلما لم ترَ النهي عاقه... بكت فبكى مما شجاها قطينها ) .
وذهب عبد الملك الى المعسكر ، فقال لكثير: (يا ابن أبي جمعة ، ذكرتك بشئ من شعرك الساعة ، فإن أصبته فلك حكمك ! قال: نعم يا أمير المؤمنين ، أردت الخروج فبكت عاتكة بنت يزيد وحشمها ، يعني امرأته فذكرت قولي: إذا ما أراد الغزو لم يثن همه..الخ. قال: أصبت والله ، إحتكم . قال مائة ناقة من نوقك المختارة . قال: هي لك . فلما كان الغد نظر عبد الملك إلى كثير يسير في عرض الناس ضارباً بذقنه على صدره يفكر فقال: ( أرأيت إن أخبرتك بما كنت تفكر به تعطيني حكمي؟ قال: نعم . قال له عبد الملك إنك تقول في نفسك: هذا رجل ليس هو على مذهبي ، وهو ذاهب إلى قتال رجل ليس هو على مذهبي ، فإن أصابني سهم غرب من بينهما خسرت الدنيا والآخرة ! فقال: إي والله يا أمير المؤمنين ، فاحتكم ، قال: حكمي أن أردك إلى أهلك وأحسن جائزتك ، فأعطاه مالاً وأذن له بالإنصراف) . (تاريخ دمشق:50/86 ، والنهاية:9/279) .
وروى في مناقب آل أبي طالب:3/337، أن الإمام الباقر عليه السلام سأل كثير عزة يوماً: (امتدحت عبد الملك؟ فقال: ما قلت له يا إمام الهدى ، وإنما قلت: يا أسد والأسد كلب ، ويا شمس ، والشمس جماد ، ويا بحر ، والبحر موات ، ويا حية ، والحية دويبة منتنة ، ويا جبل وإنما هو حجر أصم . قال: فتبسم عليه السلام ) . وأمالي المرتضى:1/207 .
وبعد عبد الملك ضعفت علاقة كثيِّر بأبنائه ، حتى استخلف عمر بن عبد العزيز وأصدر مرسومه بمنع سب علي عليه السلام في خطب الجمعة ، فقال كثير يمدحه:
( وَليتَ فلم تشتم عليا ولم تُخف.. برياً ولم تقبل إشارة مُجرمِ
وصدَّقت بالفعل المقال مع الذي... أتيت فأمسى راضياً كل مسلم...
فما بين شرق الأرض والغرب كلها... مناد ينادي من فصيح وأعجم
يقول أمير المؤمنين ظلمتني... بأخذك ديناري ولا أخذ درهم
ولا بسط كف لامرئ غير مجرم.. ولا السفك منه ظالما ملء محجم
ولو يستطيع المسلمون لقسموا.. لك الشطر من أعمارهم غير ندم
فعشت بها ما حج لله راكب... مغذ مطيف بالمقام وزمزم
(تاريخ دمشق:50/92، ومناقب آل أبي طالب:3/22) .
أما أقوى مواقف كثيِّر رحمه الله فكانت عندما: (كتب هشام إلى والي المدينة أن يأخذ الناس بسب علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، فقال كثيِّر:
لعن الله من يسبُّ علياً وبنيه ، من سَوْقَة وإمام
ورمى الله من يسبُّ علياً بصدامٍ وأولقٍ وجذام
طبْتَ بيتاً وطاب أهلك أهلاً أهل بيت النبي والإسلام
رحمةُ الله والسلامُ عليكم كلما قام قائمٌ بسلام
يأمنُ الطيرُ والظباء ولا يأ من رهط النبي عند المقام
قال فحبسه الوالي وكتب إلى هشام بما فعل ، فكتب إليه هشام يأمره بإطلاقه وأمر له بعطاء)!
(مجمع الأمثال للنيسابوري:1/309 ، والبيان والتبيين:3/359 ، والمرزباني/348 ، والأغاني:7/246) .
أقول: يدل إطلاق الخليفة لكثيِّر على قوة الجو العام ضد بني أمية ، وأكثره من تأثير الإمام الباقر عليه السلام ! كما يدل على أن مرسوم ابن عبد العزيز في منع سب أمير المؤمنين عليه السلام انحصر في مدة حكمه القصيرة ثم أعاده خلفاء بني أمية كما كان ! بل لعل مرسوم ابن عبد العزيز لم يطبق إلا في حياته ، وبشكل جزئي !
وروى ابن الشجري في أماليه/211 ، أن كثيراً قال وهو في حبس والي المدينة:
إنَّ امْرَءاً كانَت مَساوِيهِ حُبُّ النَبِيِّ لغَيْرُ ذي عُتْبِ
وبَنِي أبي حَسَن ووالِدِهِم مَنْ طابَ في الأرحام والصُّلبِ
أيَرَونَ ذَنْباً أنْ أُحِبَّهُمُ بَل حُبُّهُم كَفّارَةُ الذَّنْبِ
فكتب فيه إبراهيم إلى هشام ، فكتب إليه هشام أن أقمه على المنبر حتى يلعن علياً وزيداً ، فإن فعل وإلا فاضربه مائة سوط على مائة ، فأمره أن يلعن علياً فصعد المنبر فقال: لعن الله من يسب علياً... وبنيه من سوقة وإمام ) .
أقول: هذه الأبيات أيضاً لكثير قالها في حبسه ، لكن لايصح ربطها بشهادة زيد رحمه الله ، لأن كثيِّراً مات قبل شهادة زيد بسنين .
وروى ابن المغازلي في المناقب/309 ، أنه قالها: ( لمّا ورد على الأمراءِ ما أُمروا به من لعن علي على المنابر ، أُحْضِرَ كثيِّر بن عبد الرحمن ليتكلم فيمن تكلم بمكة ، وأُصعد منبراً فتعلق بأستار الكعبة وقال: لعن الله من يسبُّ علياً.. قال: فأثْخَنُوه ضَرْباً بالأيدي والنِعال ، فأنشأ يقول: إن امرأ كانت مساوؤه..) .
وفي منتظم ابن الجوزي:7/103: (وكان بمكة وقد ورد على الأمراء الأمر بلعن علي رضي الله عنه ، فرقى المنبر وأخذ بأستار وقال..) .
كما رويت مناسبات أخرى للمقطوعتين ، وقد يكون قالهما في مناسبة ، ثم كررهما في مواقف بعدها .
والمهم في الموضوع أن كثيِّراً رحمه الله امتنع عن لعن أمير المؤمنين عليه السلام ، وكان ذلك قبل عهد الإمام الباقر عليه السلام جرماً كافياً لقتل الشخص ، ثم لعنَ: ( من يسب علياً.. من سَوْقَة وإمام) أي من الأتباع والخليفة وأمرائه ! ومع ذلك لم يُقتل بل حُبس لمدة ! وهذا يدل على تأثير عمل الإمام عليه السلام في الرأي العام وجرأة الناس على بني أمية !
ومن هذا السياق الأبيات التي قالها كثيِّر في مرض وفاته في البراءة من تيم وعدي ، وصلاة الإمام عليه السلام على جنازته ومشاركته في حملها ، فهو موقف ضد النظام والخليفة ، خاصة وأن عكرمة عالم البلاط الأموي مات في نفس اليوم ، فأعرض المسلمون عن جنازته ولم يصلوا عليها ، كما يأتي .
الكميت بن زيد الأسدي رحمه الله
ترجم له الذهبي ، وهو المبغض للشيعة ، فقال في سيره:5/388: (الكميت بن زيد الأسدي الكوفي ، مقدم شعراء وقته ، قيل بلغ شعره خمسة آلاف بيت ، روى عن الفرزدق وأبي جعفر الباقر . وعنه: والبة بن الحباب ، وأبان بن تغلب ، وحفص القارئ... قال أبو عبيدة: لو لم يكن لبني أسد منقبة غير الكميت لكفاهم حببهم إلى الناس وأبقى لهم ذكراً . وقال أبو عكرمة الضبي: لولا شعر الكميت لم يكن للغة ترجمان... وكان الكميت شيعياً مدح علي بن الحسين فأعطاه من عنده ومن بني هاشم أربع مئة ألف وقال: خذ هذه يا أبا المستهل ، فقال: لو وصلتني بدانق لكان شرفاً ، ولكن أحسن إليَّ بثوب يلي جسدك أتبرك به ، فنزع ثيابه كلها فدفعها إليه ودعا له . فكان الكميت يقول: ما زلت أعرف بركة دعائه... قال ابن عساكر: ولد سنة ستين ، ومات سنة ست وعشرين ومئة ) . انتهى.
وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق:50/232: (كان في الكميت عشر خصال ، لم تكن في شاعر: كان خطيب بني أسد ، وفقيه الشيعة ، وحافظ القرآن ، وثبت الجنان ، وكان كاتباً حسن الخط ، وكان نسابة وكان جدلاً ، وكان أول من ناظر في التشيع ، وكان رامياً لم يكن في أسد أرمى منه بنبل ، وكان فارساً ، وكان شجاعاً ، وكان سخياً ديناً) .
وكان متديناً لايقبل الجائزة الدنيوية على شعره
فقد أنشد لثلاثة من الأئمة: زين العابدبدين والباقر والصادق عليهم السلام ولم يقبل جائزة مادية ، بل طلب منهم الدعاء والتبرك بثيابهم ليجعلها في كفنه ، قال: ( والله ما أحببتكم للدنيا ، ولو أردتها لأتيت من هو في يديه ، ولكنني أحببتكم للآخرة ، فأما الثياب التي أصابت أجسادكم فإني أقبلها لبركتها ، وأما المال فلا أقبله) .(خزانة الأدب:1/155)
وقال للإمام زين العابدين عليه السلام : إني قد مدحتك لأن يكون لي وسيلة عند رسول الله صلى الله عليه وآله . وقال للباقر عليه السلام : والله ما أحبكم لعرض الدنيا وما أردت بذلك إلا صلة رسول الله صلى الله عليه وآله وما أوجب الله علي من الحق . وقال مرة: ألا والله لا يعلم أحد أني آخذ منها حتى يكون الله عز وجل الذي يكافيني . وقال مرة: والله ما قلت فيكم إلا لله وما كنت لآخذ على شئ جعلته لله مالاً ولا ثمناً . وقال: ما أردت بمدحي إياكم إلا الله ورسوله صلى الله عليه وآله ، ولم أك لآخذ لكم ثمناً من الدنيا . (الغدير:2/198) .
القصائد الهاشميات: رددها المسلمون وغنَّتْ بها المغنيات:
أحب المسلمون الكميت وأحصوا شعره:
( قال محمد بن مسلمة: كان مبلغ شعر الكميت حين مات خمسة آلاف ومائتين وتسعاً وثمانين بيتاً ، وكانت ولادته أيام مقتل الحسين بن علي سنة ستين ، وتوفي شهيداً سنة ست وعشرين ومائة في خلافة مروان بن محمد ) . (معاهد التنصيص/555) .
وعلموا شعره لأولادهم ، ففي تاريخ دمشق:50/238: (سمعت مشايخ أهل البيت يقولون: خذوا أولادكم بتعليم الهاشميات ، فإنها تُنبت الولاية في قلوبهم...
قال جعفر بن محمد: الكميت سيف آل محمد ، في كل قلب معاند مغمد) !
وفي:50/247، عن أبي عبد الله المفجع ، قال: (رأيت أمير المؤمنين في النوم فقلت: أشتهي أقول الشعر في أهل البيت ، فقال: عليك بالكميت فاقتف أثره ، فإنه إمام شعرائنا أهل البيت ، وبيده لواؤهم يوم القيامة حتى يقودهم إلينا ) .
وقد أحدث شعر الكميت موجة شعبية ضد بني أمية ، فأراد والي العراق خالد بن عبدالله القسري أن يقتله ، لكنه خاف من عشيرته بني أسد ، فاحتال ليحصل على مرسوم من الخليفة هشام ، فاختار جوارٍ مغنيات وحفَّظهنَّ هاشميات الكميت وأرسلهن الى هشام ، فطلب هشام من إحداهن أن تغنيه فغنت بشعر الكميت في مدح بني هاشم وذم بني أمية ! فغصب وطلب من الثانية أن تغني فغنت بشعر الكميت أيضاً ! فكتب إلى خالد: ( أن ابعث إليَّ برأس الكميت ! فأخذه خالد وحبسه ، فوجه الكميت إلى امرأته ولبس ثيابها وتركها في موضعه وهرب من الحبس ، فلما علم خالد أراد أن ينكل بالمرأة ، فاجتمعت بنو أسد إليه وقالوا: ما سبيلك على امرأة لنا خدعت ؟! فخافهم وخلى سبيلها) . (خزانة الأدب:1/87 ) .
وفي تاريخ دمشق:50/239: (قال الجاحظ: ما فتح للشيعة الحجاج إلا الكميت بقوله:
فإن هي لم تصلح لحي سواهمُ... فإن ذوي القربى أحق وأوجب
يقولون لم يورث ولولا تراثه... لقد شركت فيها بكيل وأرحب
وأجابه المفيد رحمه الله الفصول:2/85: (إنما نظم الكميت معنى كلام أمير المؤمنين عليه السلام في منثور كلامه في الحجة على معاوية ، فلم يزل آل محمد^بعد أمير المؤمنين عليه السلام يحتجون بذلك ، ومتكلموا الشيعة قبل الكميت وفي زمانه وبعده) .
هذا ، وقد شرح العلماء والأدباء هاشميات الكميت رحمه الله ، وأقدم شرح وصلنا: (شرح هاشميات الكميت لأبي رياش أحمد بن إبراهيم القيسي أو الشيباني ، المتوفى سنة339.. وهي سبع قصائد.. ومجموعها خمسمائة وبضعة وسبعون بيتاً.. ولعبد المتعال الصعيدي كتاب: الكميت بن زيد شاعر العصر المرواني ، طبع بالقاهرة ، ولصلاح الدين نجا: الكميت بن زيد الأسدي شاعر الشيعة السياسي ، طبع في بيروت.. يوجد شرح الهاشميات في دار الكتب المصرية ، وطبع في ليدن سنة 1904م مع مقدمة وتصحيحات بالألمانية ليوسف هوروفتس . وطبع بالقاهرة في مطبعة شركة التمدن الصناعية سنة1912م مع مقدمة لمحمد محمود الرافعي في ترجمة الكميت ومختارات من شعره . وطبع في بيروت بتحقيق الدكتور داود سلوم والدكتور نوري القيسي، من منشورات عالم الكتب) . (مجلة تراثنا:14/49) . ثم ذكر شرحين مطبوعين لمعاصرين هما: لمحمد شاكر الخياط ، ومحمد محمود الرافعي . راجع: الغدير:2/180، والأعلام:1/85 ، ومعجم المطبوعات العربية:1/311 ، و925 .
ولا يتسع المجال لأكثر من ذكر أبيات منها:
1- قال رحمه الله : ألا هل عمٍ في رأيه متأملُ...وهل مدبرٌ بعد الإساءة مقبلُ
وهل أمة مستيقظون لرشدهم...فيكشف عنه النعسة المتزمل
وعطلت الأحكام حتى كأننا...على ملة غير التي نتنحل
كلام النبيين الهداة كلامنا...وأفعال أهل الجاهلية نفعل
فتلك أمور الناس أضحت كأنها...أمورٌ مضيع آثر النوم بهل
فيا ساسةً هاتوا لنا من حديثكم...ففيكم لعمري ذو أفانينَ مقول
أأهل كتاب نحن فيه وأنتم...على الحق نقضي بالكتاب ونعدل
فكيف ومن أنى وإذ نحن خلفة...فريقان شتى: تسمنون ونهزل؟
فتلك ملوك السوء قد طال ملكهم...فحتى م حتى م العناء المطول
لهم كل عام بدعة يحدثونها...أزلوا بها أتباعهم ثم أوجلوا
تحل دماء المسلمين لديهم...ويحرم طلع النخلة المتهدل
فيا رب هل إلا بك النصر يرتجى...عليهم وهل إلا عليك المعول
وغاب نبي الله عنهم وفقده...على الناس رزء ما هناك مجلل
فلم أر مخذولا أجل مصيبة...وأوجب منه نصرة حين يخذل
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم...فيا آخراً أسدى له الغيَّ أول
تهافت ذبان المطامع حوله...فريقان شتى ذو سلاح وأعزل
2- وقال رحمه الله : طربت وما شوقاً إلى البيض أطربُ...ولا لعباً مني وذو الشوق يلعبُ
ولم يلهني دار ولا رسم منزل...ولم يتطربني بنان مخضب
ولكن إلى أهل الفضائل والنهى...وخير بني حواء والخير يطلب
إلى النفر البيض الذين بحبهم...إلى الله فيما نالني أتقرب
بني هاشم رهط النبي فإنني...بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب
بأي كتاب أم بأية سنة...ترى حبهم عارا علي وتحسب
فطائفة قد كفرتني بحبكم...وطائفة قالوا مسئ ومذنب
فما ساءني تكفير هاتيك منهم...ولا عيب هاتيك اللتي هي أعيب
وقالوا ترابي هواه ورأيه...بذلك أدعى فيهم وألقب
بحقكم أمست قريش تقودنا...وبالفذ منها والرد يفين نركب
إذا اتضعونا كارهين لبيعة...أناخوا لأخرى والأزمة تجذب
وقالوا ورثناها أبانا وأمنا...وما ورثتهم ذاك أم ولا أب
ولكن مواريث ابن آمنة الذي...به دان شرقي لكم ومغرب
فدى لك موروثاً أبي وأبو أبي...ونفسي ونفسي بعدُ بالناس أطيب
بك اجتمعت أنسابنا بعد فرقة...فنحن بنو الإسلام ندعى وننسب
لقد غيبوا براً وصدقاً ونائلاً...عشية واراك الصفيح المنصب
يقولون لم يورث ولولا تراثه...لقد شركت فيه بكيل وأرحب
وعك ولخم والسكون وحمير...وكندة والحيان بكر وتغلب
فيا لك أمراً قد أشتت أموره...ودنياً أرى أسبابها تتقضب
فيا موقداً ناراً لغيرك ضوؤها...ويا حاطباً في غير حبلك تحطب
3- وقال رحمه الله : من لقلب متيم مستهام...غير ما صبوة ولا أحلام
بل هواي الذي أجن وأبدي...لبني هاشم فروع الأنام
للقريبين من ندى والبعيدين...من الجور في عرى الأحكام
والمصيبين باب ما أخطأ الناس...ومرسي قواعد الاسلام
ساسة لا كمن يرعى الناس...سواء ورعية الأنعام
لا كعبد المليك أو كوليد...أو كسليمان بعد أو كهشام
ما أبالي إذا حفظت أبا القاسم...فيهم ملامة اللوام
فهم شيعتي وقسمي من الأمة...حسبي من سائر الأقسام
إن أمت لا أمت ونفسي نفسا...ن من الشك في عمىً أو تعامي
أخلص الله لي هوايَ فما أغرق...نزعاً ولا تطيش سهامي
وروي أن الإمام الصادق عليه السلام قال له هنا: (لا تقل هكذا ولكن قل: فقد أغرق نزعاً وما تطيش سهامي . فقال الكميت: يامولاي أنت أشعر مني) . (الكافي:8/215 ، والمناقب:3/337)
4- وقال رحمه الله : أنى ومن أين آبك الطرب...من حيث لا صبوةٌ ولا رِيَبُ
وقيل أفرطت بل قصدت ولو...عنفني القائلون أو ثلبوا
إليك يا خير من تضمنت ال....أرض وإن عاب قولي العيب
لجَّ بتفضيلك اللسان ولو...أكثر فيك الضجاج واللجب
أنت المصفى المهذب المحض في النسبة...إن نص قومك النسب
أكرم عيداننا وأطيبها...عودك عود النضار لا الغرب
ما بين حواء إن نسبت إلى...آمنة اعتم نبتك الهدب
قرن فقرن تناسخوك لك ال...فضة منها بيضاء والذهب
حتى علا بيتك المهذب من...خندف علياء تحتها العرب
5- وقال رحمه الله : طربت وهل بك من مطرب...ولم تتصاب ولم تلعب
صبابة شوق تهيج الحليم...ولا عار فيها على الأشيب
فدع ذكر من لست من شأنه...ولا هو من شأنك المنصب
وهات الثناء لأهل الثناء...بأصوب قولك فالأصوب
بني هاشم فهم الأكرمون...بنو الباذخ الأفضل الأطيب
وإياهم فاتخذ أوليا...ء من دون ذي النسب الأقرب
6- وقال رحمه الله : نفى عن عينك الأرق الهجوعا...وهم يمتري منها الدموعا
ويوم الدوح دوح غدير خم...أبان له الولاية لو أطيعا
ولكن الرجال تبا يعوها...فلم أر مثلها خطرا مبيعا
فلم أبلغ بها لعناً ولكن...أساء بذاك أولهم صنيعا
فصار بذاك أقربهم لعدل...إلى جور وأحفظهم مضيعا
تناسوا حقه وبغوا عليه...بلا ترة وكان لهم قريعا
فقل لبني أمية حيث حلوا...وإن خفت المهند والقطيعا
ألا أف لدهر كنت فيه...هدانا طائعا لكم مطيعا
أجاع الله من أشبعتموه...وأشبع من بجوركم أجيعا
7- وقال رحمه الله : سل الهموم لقلب غير متبول...ولا رهين لدى بيضاء عطبول
ولا تقف بديار الحي تسألها...تبكي معارفها ضلاً بتضليل
نفسي فداء الذي لا الغدر شيمته...ولا المعاذير من بخل وتقليل
الحازم الرأي والمحمود سيرته...والمستضاء به والصادق القيل .
وقال رحمه الله : علي أمير المؤمنين وحقه...من الله مفروض على كل مسلم
وزوجه صديقة لم يكن لها...معادلة غير البتولة مريم
وردم أبواب الذين بنى لهم... بيوتاً سوى أبوابه لم يردم (الصحيح من السيرة:5/354) .
وقال رحمه الله :أ هوى علياً أمير المؤمنين ولا... ألوم يوماً أبا بكر ولا عمرا
ولا أقول وإن لم يعطيا فدكاً...بنت النبي ولا ميراثه كفرا
الله يعلم ماذا يأتيان به...يوم القيامة من عذر إذا اعتذرا
إن الرسول رسول الله قال لنا...إن الإمام علي غير ما هجرا
في موقف أوقف الله الرسول به...لم يعطه قبله من خلقه بشرا
من كان يرغمه رغماً فدام له...حتى يرى أنفه بالترب منعفرا
(شرح القصائد الهاشميات/81) .
وله رحمه الله نشيد: بأبي أنت وأمي... يا أمير المؤمنينا
وفدتك النفس مني... يا إمام المتقينا
وأمين الله والوارث...علم الأولينا
ووصي المصطفى... أحمد خير المرسلينا
وولي الحوض والذائد...عنه المحدثينا.
طاردت السلطة الكميت سنوات عديدة فلم تظفر به !
قال في العقد الفريد:3/183، وطبعة/281: (كان الكميت بن زيد يمدح بني هاشم ويعرِّض ببني أمية ، فطلبه هشام فهرب منه عشرين سنة ، لا يستقر به القرار من خوف هشام) . وتقصد الرواية كل خلافة هشام من سنة (115-120) وفيها مبالغة ، لكن الكميت أمضى سنوات عديدة كان يتحرك فيها مع أخيه الورد ومجموعة فرسان من فتيانه ، في أحياء بني أسد وبوادي العراق والحجاز والأهواز ، وكانت السلطة تطارده للقبض عليه فلم تستطع ! ورووا له كرامات في تشرده بدعاء الإمام الباقر عليه السلام ، منها أنه خرج في ظلمة الليل هارباً وقد أقعدوا على كل طريق جماعة ليأخذوه فأراد أن يسلك طريقاً فجاء أسد فمنعه من أن يسير فيها ، فسلك أخرى فمنعه منها أيضاً ، وكأنه أشار إلى الكميت أن يسلك خلفه فمضى خلف الأسد إلى أن أمن وتخلص ! (الخرائج:2/941) .
ولما طال به التشريد استاذن الإمام الباقر عليه السلام أن ينهي تشرده ويمدح بني أمية بقصيدة فأجازه: قال أخوه الورد: ( أرسلني الكميت إلى أبي جعفر عليه السلام فقلت له: إن الكميت أرسلني إليك وقد صنع بنفسه ما صنع ، فتأذن له أن يمدح بني أمية؟ قال: نعم هو في حل فليقل ما شاء . فنظم قصيدته الرائية التي يقول فيها. فالآن صرت إلى أمية... والأمور إلى مصائر..) . (الأغاني:15/126) . فتوسط له مسلمة بن عبد الملك عند أخيه الخليفة هشام فعفا عنه ومدحه بقصيدته المذكورة فأعطاه جائزة.
وعاش الكميت رحمه الله بعد هشام ، حتى كتب الله الشهادة كما دعا له الإمام زين العابدين عليه السلام عندما أنشده قصيدته: من لقلب متيم مستهام... (خزانة الأدب:1/69) .
وقد رووا في سبب وفاته أنه كان ينشد عند والي الكوفة ، فهاجمه حراسه الثمانية وكانوا من اليمانية المتعصبين عليه ، (الوافي بالوفيات:24/277) ولا يثق الإنسان بمثل هذه الرواية ، بل المرجح أنه قتل بسبب الثأر الأموي المزمن عليه .
وقد يكون احد العوامل شعره في الطعن بأبي بكر وعمر . فقد روي أنه كان على مذهب السيد الحميري وكثير عزة في ذلك ، ففي أخبار السيد الحميري للمرزباني/178 ، أنه رأى الكميت في الحج فقال له: أنت القائل:
ولا أقول إذا لم يعطيا فدكاً...بنت الرسول ولا ميراثه كفرا...
قال: نعم قلته تقية من بني أمية ، وفي مضمون قولي شهادة عليهما إنهما أخذا ما كان في يدها . فقال السيد : لولا إقامة الحجة لو سعني السكوت: لقد ضعفت يا هذا عن الحق يقول رسول الله صلى الله عليه وآله : فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها وإن الله يغضب لغضبها ويرضى لرضاها، فخالفت ! رسول الله صلى الله عليه وآله وهب لها فدكاً بأمر الله له ، وشهد لها أمير المؤمنين والحسن والحسين وأم أيمن بأن رسول الله صلى الله عليه وآله أقطع فاطمة فدكاً فلم يحكما لها بذلك والله تعالى يقول: )يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ويقول: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ..وهم يجعلون سبب مصير الخلافة إليهم الصلاة بشهادة المرأة لأبيها إنه صلى الله عليه وآله قال : مروا فلاناً بالصلاة بالناس...الخ. فقال الكميت: أنا تائب إلى الله مما قلت ، وأنت أبا هاشم أعلم وأفقه منا) .
ورووا أنه أنشد الباقر عليه السلام :
إنّ المصِرَّين على ذنبيهما... والمخفيا الفتنة في قلبيهما
والخالعا العقدة من عنقيهما.. والحاملا الوزر على ظهريهما
كالجبت والطاغوت في مثليهما..الخ. (العقد النضيد/165) .
كما رووا أنه سأل الإمام الباقر والصادق عليهما السلام عن أبي بكر وعمر ، فأجاباه بالنفي فقال: الله أكبر الله أكبر حسبي حسبي . (الكافي:8/102 ، والبحار:30/240) .
------------------
5- الإمام الباقر عليه السلام يتحدى الخليفة هشام الأحول بن عبد الملك
تقدم في سيرة الإمام زين العابدين قول الذهبي عنه عليه السلام : (وكان له جلالة عجيبة وَحَقَّ له والله ذلك ، فقد كان أهلاً للإمامة العظمى لشرفه وسؤدده وعلمه وتألهه وكمال عقله . قد اشتهرت قصيدة الفرزدق وهي سماعنا ، أن هشام بن عبد الملك حج قبيل ولايته الخلافة، فكان إذا أراد استلام الحجر زوحم عليه وإذا دنا علي بن الحسين من الحجر تفرقوا عنه إجلالاً له ، فوجم لها هشام وقال: من هذا فما أعرفه! فأنشأ الفرزدق يقول: هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأتَه..الخ. (سير الذهبي:4/398).
فحبس هشام الفرزدق فهجاه بقوله:
يقلب رأساً لم يكن رأسَ سيِّدٍ ... وعيناً له حَوْلاءَ بادٍ عُيُوبها. (المناقب:3/306 ).
وقد أججت هذه الحادثة نار الحقد في نفس الأمير المريضة ، ولم يستطع أن يقنع أباه عبد الملك بقتله ، وقد يكون هو الذي أقنع أخاه الوليد بسمه فيما بعد ! ثم وجه نار حسده الى ولده الباقر عليه السلام وأظهره في قوله لزيد رحمه الله : (ما يفعل أخوك البقرة ، يعني الباقر عليه السلام ؟! فأجابه زيد: لَشَدَّ ما خالفت رسول الله ! سماه رسول الله الباقر وتسميه البقرة؟! ). ( أبونصر البخاري/22) .
ودخل عليه زيد رحمه الله يوماً فقال: (السلام عليك يا أمير المؤمنين فلم يرد عليه فقال: السلام عليك يا أحول فإنك ترى نفسك أهلاً لهذا الإسم)! (تاريخ الكوفة/381).
وقد كان بالفعل يرى نفسه أهلاً لإسم الأحول !
ففي نثر الدرر/1173 ، أنه قال يوماً: (من يسبني ولا يفحش وله هذا المطرف له ! فقال له أعرابي حضر: ألقه يا أحول . فقال هشام: خذه قاتلك الله ) !
وقالت له أخته يوماً وهو خليفة: (يا أحول مشؤوماً ، أما تخاف أن تكون الأحوال الذي على يديه هلاك قريش؟). (نسب قريش/31). وقالت له سكينة بنت الحسين عليه السلام : (يا أحول، لقد أصبحت تتهكم بنا)! (لسان العرب:12/617، وتاريخ دمشق:70/21) .
وعندما جاءت وصية أخيه الوليد لعمر بن عبد العزيز وبعده لأخيه يزيد ، قال قال له رجاء: (يا أحول ما أنت والكلام) ! (الوصايا لأبي حاتم/54) .
ولم يكن بنو أمية يرونه أهلاً للخلافة فجاءته سنة115 على غير حسبان ، وشاهد نجم الإمام الباقر عليه السلام يعلو ويسطع ، ورأى حب المسلمين له وتقديسهم ، فكان يسميه نبي أهل العراق !
كانت هذه الجرأة الجديدة للناس على النظام الأموي وشخص الخليفة مديناً لمخزون مواقف أهل البيت عليهم السلام وجهادهم ، التي استثمرها الإمام الباقر عليه السلام وصعَّد موقف التحدي مع الخليفة وواليه على المدينة بشكل لاسابقة له !
فعندما كان هشام في الحج وقعت له مع الإمام الباقر عليه السلام حادثة شبيهةً بحادثته مع أبيه زين العابدين عليهما السلام ، لكن كان الفعل هذه المرة من الإمام الباقر عليه السلام .
روى في الكافي: 8/120: (عن أبي الربيع قال: حججنا مع أبي جعفر عليه السلام في السنة التي كان حج فيها هشام بن عبد الملك ، وكان معه نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فنظر نافع إلى أبي جعفر في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس فقال نافع: يا أمير المؤمنين من هذا الذي قد تداك عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة ، هذا محمد بن علي ! فقال: أشهد لآتينه فلأسألنه عن مسائل لا يجيبني فيها إلا نبي أو ابن نبي أو وصي نبي ! قال: فاذهب إليه وسله لعلك تخجله ! فجاء نافع حتى اتكأ على الناس ، ثم أشرف على أبي جعفر عليه السلام فقال: يا محمد بن علي إني قرأت التوراة والانجيل والزبور والفرقان ، وقد عرفت حلالها وحرامها ، وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلا نبي أو وصي نبي أو ابن نبي !
قال: فرفع أبو جعفر رأسه فقال: سل عما بدا لك ، فقال: أخبرني كم بين عيسى وبين محمد من سنة؟ قال: أخبرك بقولي أو بقولك؟ قال: أخبرني بالقولين جميعاً.
قال: أما في قولي فخمس مائة سنة ، وأما في قولك فست مائة سنة . قال: فأخبرني عن قول الله لنبيه: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ . من الذي سأل محمد وكان بينه وبين عيسى خمس مائة سنة؟ قال: فتلا أبو جعفر هذه الآية: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا.. فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمداً صلى الله عليه وآله حيث أسرى به إلى بيت المقدس ، أن حشر الله عز ذكره الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين ، ثم أمر جبرئيل فأذن شفعاً وأقام شفعاً وقال في أذانه: حي على خير العمل ، ثم تقدم محمد صلى الله عليه وآله فصلى بالقوم فلما انصرف قال لهم: على ما تشهدون وما كنتم تعبدون؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسول الله ، أخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا . فقال نافع: صدقت يا أبا جعفر ، فأخبرني عن قول الله عز وجل: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ؟ قال: إن الله تبارك وتعالى لما أهبط آدم إلى الأرض وكانت السماوات رتقاً لا تمطر شيئاً ، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت شيئاً ، فلما أن تاب الله عز وجل على آدم أمر السماء فتقطرت بالغمام ، ثم أمرها فأرخت عزاليها ، ثم أمر الأرض فأنبتت الأشجار وأثمرت الثمار وتفهقت بالأنهار ، فكان ذلك رتقها وهذا فتقها .
قال نافع: صدقت يا ابن رسول الله ، فأخبرني عن قول الله عز وجل: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض وَالسَّمَاوَاتُ ، أي أرض تبدل يومئذ؟
فقال أبو جعفر: أرض تبقى خبزة يأكلون منها حتى يفرغ الله عز وجل من الحساب . فقال نافع: إنهم عن الأكل لمشغولون ؟! فقال أبو جعفر: أهم يومئذ أشغل أم إذ هم في النار ؟ فقال نافع: بل إذ هم في النار قال: فوالله ما شغلهم إذ دعوا بالطعام فأطعموا الزقوم ودعوا بالشراب فسقوا الحميم .
قال: صدقت يا ابن رسول الله ولقد بقيت مسألة واحدة ، قال: وما هي ؟ قال: أخبرني عن الله تبارك وتعالى متى كان ؟ قال: ويلك متى لم يكن حتى أخبرك متى كان ! سبحان من لم يزل ولا يزال فرداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً .
ثم قال: يا نافع أخبرني عما أسألك عنه ، قال: وما هو؟ قال: ما تقول في أصحاب النهروان ؟ فإن قلت: إن أمير المؤمنين قتلهم بحق فقد ارتددت ، وإن قلت: إنه قتلهم باطلاً فقد كفرت ! قال: فولى من عنده وهو يقول: أنت والله أعلم الناس حقاً حقاً ! فأتى هشاماً فقال له: ما صنعت؟ قال: دعني من كلامك هذا ، والله أعلم الناس حقاً حقاً ، وهو ابن رسول الله حقاً ، ويحق لأصحابه أن يتخذوه نبياً) ! انتهى.
ونلاحظ في هذه الحادثة:
1- كان نافع مرجعاً دينياً عند الدولة الأموية ، وهو يعرف الإمام الباقر عليه السلام جيداً، وقوله للخليفة: ( دعني من كلامك هذا ، والله أعلم الناس حقاً حقاً) يدل على أن الخليفة هوَّن له أمر الإمام الباقر عليه السلام وأرسله اليه ليتحداه ! بل ذكرت بعض الروايات أنه هو بعثه لمناظرة الإمام عليه السلام : (قال إذهب إليه فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: ما الذي يأكل الناس ويشربون إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : يحشر الناس على مثل قرصة البر النقي ، فيها أنهار متفجرة يأكلون ويشربون حتى يفرغ من الحساب . قال: فرأى هشام أنه قد ظفر به ، فقال: الله أكبر اذهب إليه فقل له: ما أشغلهم عن الأكل والشرب يومئذ؟! فقال له أبو جعفر عليه السلام : فهم في النار أشغل ولم يشغلوا عن أن قالوا: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ! فسكت هشام لا يرجع كلاماً). (الإحتجاج:2/57) .
2- نافع عندهم إمام كبير وإن ضعفه بعضهم ، قال في مقدمة موطأ الإمام مالك:1/21: (روى مالك عن نافع مولى عبد الله بن عمر المتوفى سنة120، ونافع هو الذي بعثه عمر بن عبد العزيز إلى مصر ليعلمهم القرآن والسنة ، وكان يلقب بفقيه المدينة ، لزمه مالك وهو غلام نصف النهار (أي كان مالك خادماً له) وكان مالك يقول: كنت إذا سمعت حديث نافع عن ابن عمر لا أبالي ألا أسمعه من أحد غيره ! وأهل الحديث يقولون رواية مالك عن نافع عن ابن عمر: سلسلة الذهب ، لجلالة كل واحد من هؤلاء الرواة) !
أما عندنا فنافع كذابٌ ناصبي يميل الى رأي الخوارج ! روى في الكافي:6/61، عن زرارة أنَ الإمام الباقر عليه السلام قال له: ( أنت الذي تزعم أن ابن عمر طلق امرأته واحدة وهي حائض فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله عمر أن يأمره أن يراجعها؟ قال: نعم . فقال له: كذبتَ والله الذي لا إله إلا هو على ابن عمر ! أنا سمعت ابن عمر يقول: طلقتها على عهد رسول الله ثلاثاً فردها رسول الله صلى الله عليه وآله عليَّ وأمسكتها بعد الطلاق ! فاتق الله يا نافع ولا ترو على ابن عمر الباطل) . ت(هذيب الكمال:29/298 ، والتمهيد:13/236 ).
3- رويت مناظرة نافع مع الإمام الباقر عليه السلام بألفاظ متعددة وفي بعضها زيادة ، ففي تفسير القمي:2/284: (قال نافع: صدقت يا بن رسول الله يا أبا جعفر ، أنتم والله أوصياء رسول الله وخلفاؤه في التوراة ، وأسماؤكم في الإنجيل وفي الزبور وفي القرآن ، وأنتم أحق بالأمر من غيركم ) .
4- روت بعض مصادرنا أن هشاماً الأحول أرسل الأبرش الكلبي أيضاً ليناظر الإمام عليه السلام في الحج ، كما في تفسير القمي:2/69، والمناقب:3/329 . وفي أسد الغابة:4/93، أن الأبرش صاحب هشام ، وفي تاريخ ابن خلدون:3/114، أنه وزيره ، وفي الوافي:15/69، كان نديمه قبل الخلافة: (وكان غالباً عليه ، وطعن قوم في نسب الأبرش الكلبي).
وفي اليعقوبي:2/328: (وكان هشام من أحزم بني أمية وأرجلهم ، وكان بخيلاً حسوداً ، فظاً غليظاً ظلوماً ، شديد القسوة بعيد الرحمة طويل اللسان ، وفشا الطاعون في أيامه حتى هلك عامة الناس وذهبت الدواب والبقر ، وكان الغالب عليه الأبرش بن الوليد الكلبي ) !
5- في حج ذلك الموسم تطوَّرَ حسد هشام الأحول وغيظه من الإمام عليه السلام حتى أمر بإحضاره الى دمشق ، بسبب خطبة الإمام الصادق بأمر أبيه عليهما السلام في موسم الحج لأن هشاماً لم يحج في غيرها وهي سنة106 ، أي قبل شهادة الإمام عليه السلام بثمان سنوات ، فقد عدد اليعقوبي(2/328) من أقام الحج في حكم هشام ، وليس فيهم هشام إلا في سنة 106 .
قال ابن عساكر في تاريخ دمشق:48/199: (حج هشام بن عبد الملك وهو خليفة سنة ست ومائة ، فصار في سنة سبع ومائة في المحرم وهو بالمدينة ، ومعه غيلان يفتي الناس ويحدثهم ! وكان محمد بن كعب يجئ كل جمعه من قرية على ميلين من المدينة.. قالوا يا يا أبا حمزة جاءنا رجل يشككنا في ديننا فنأتيك به ؟ قال لا حاجة لي به ! قلنا: أصلحك الله نسمع منه ونسمع منك ! قال: فأتوني به إن شئتم غداً يوم السبت ، وحضر الناس معه...).
أقول: لاحظ هذين المقرَّبَيْن من الخليفة اللذين يفتيان الناس: غيلان القدري الذي ينفي مسؤولية الإنسان عن أفعاله ، وينسب جرائمه الى الله تعالى !
ونافع مولى ابن عمر الذي كان نصرانياً ثم قيل إنه أسلم وصار ناصبياً خارجياً !
6- الإمام الباقر عليه السلام يأمر ابنه جعفر أن يصدع بولايتهم في الحج !
في ذلك الموسم أمر الإمام الباقر ولده الصادق عليهما السلام أن يخطب في الحجيج ويجهر بولاية أهل البيت النبوي عليهم السلام ويبين موقعهم في صلب الإسلام ، متحدياً بذلك النظام ، والحركات الهاشمية الناشئة من الحسنيين وأتباعهم العباسيين . وبذلك صعَّدَ الإمام عليه السلام عمله فأعلن وجود معارضة علنية للخلافة الأموية ، واختار لذلك موسم الحج وحضور الخليفة هشام !
ففي المناقب (3/329) أن الأبرش الكلبي قال لهشام مشيراً إلى الباقر عليه السلام : من هذا الذي احتوشته أهل العراق يسألونه؟ قال: هذا نبي الكوفة ، وهو يزعم أنه ابن رسول الله ، وباقر العلم ومفسر القرآن ، فاسأله مسألة لا يعرفها ) !
فالجو الشعبي للإمام عليه السلام في العراق يسمح له بمصارحة المسلمين وتوعيتهم على مقام أهل البيت عليهم السلام ، ولا حجة للسلطة عليه ، لأنه يطرح النظرية ويبين خط الإسلام العقائدي فقط ، ولم يدع الناس الى الثورة على بني أمية !
قال محمد بن جرير الطبري في دلائل الإمامة/233 ، (حج هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين ، وكان حج في تلك السنة محمد بن علي الباقر ، وابنه جعفر عليهما السلام ، فقال جعفر في بعض كلامه: الحمد لله الذي بعث بالحق محمداً نبياً وأكرمنا به ، فنحن صفوة الله على خلقه وخيرته من عباده ، فالسعيد من اتبعنا والشقي من خالفنا ، ومن الناس من يقول: إنه يتولانا وهو يتولى أعداءنا ومن يليهم من جلسائهم وأصحابهم ، فهو لم يسمع كلام ربنا ولم يعمل به . قال أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام : فأخبر مسلمة بن عبد الملك أخاه ، فلم يعرض لنا حتى انصرف إلى دمشق وانصرفنا إلى المدينة ، فأنفذ بريداً إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي معه ، فأشخصنا إليه فلما وردنا دمشق حجبنا ثلاثة أيام ثم أذن لنا في اليوم الرابع ، فإذا هو قد قعد على سرير الملك وجنده وخاصته وقوف على أرجلهم سماطين متسلحين ، وقد نصب البرجاس (هدف الرمي) حذاءه وأشياخ قومه يرمون . فلما دخل أبي وأنا خلفه ، ما زال يستدنينا منه حتى حاذيناه وجلسنا قليلاً ، فقال لأبي: يا أبا جعفر لو رميت مع أشياخ قومك الغرض ؟ وإنما أراد أن يضحك بأبي ظناً منه أنه يقصر فلا يصيب الغرض لكبر سنه فيشتفي منه ! فاعتذر أبي وقال: إني قد كبرت فإن رأيتَ أن تعفيني ، فلم يقبل وقال: لا والذي أعزنا بدينه ونبيه ، ثم أومأ إلى شيخ من بني أمية أن أعطه قوسك ، فتناولها منه أبي وتناول منه الكنانة فوضع سهماً في كبد القوس فرمى وسط الغرض فأثبته فيه ثم رمى الثاني فشق فوق السهم الأول إلى نصله ، ثم تابع حتى شق تسعة أسهم ، فصار بعضها في جوف بعض ، وهشام يضطرب في مجلسه ، فلم يتمالك أن قال: أجدت يا أبا جعفر فأنت أرمى العرب والعجم ! زعمت أنك قد كبرت ، كلا ! ثم ندم على مقالته وتكنيته له ، وكان من تكبره لا يكني أحداً في خلافته ! فأطرق إطراقة يرتئي فيه رأياً ، وأبي واقف إزاءه ومواجه له وأنا وراء أبي ، فلما طال الوقوف غضب أبي وكان إذا نظر السماء نظر غضبان يتبين الغضب في وجهه ! فلما نظر هشام ذلك من أبي قال: إصعد يا محمد فصعد أبي السرير وصعدت ، فلما دنا من هشام قام إليه واعتنقه وأقعده عن يمينه ، ثم اعتنقني وأقعدني عن يمين أبي ، وأقبل على أبي بوجهه وقال: يا محمد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ما دام فيهم مثلك ! ولله درك ، من علمك هذا الرمي وفي كم تعلمته؟! فقال أبي: قد علمت أهل المدينة يتعاطونه فتعاطيته أيام حداثتي ، ثم تركته ، فلما أراد أمير المؤمنين مني ذلك عدت إليه ، فقال: ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت ، وما ظننت أن أحداً في أهل الأرض يرمي مثل هذا ، فأين رمي جعفر من رميك؟ فقال: إنا نتوارث الكمال والتمام والدين ، اللذين أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله في قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً . والأرض لا تخلو ممن يكمل دينه من هذه الأمور التي يقصر عنها غيرنا ، فكان ذلك علامة ! فلما سمع ذلك انقلبت عينه اليمنى فاحْوَلَّتْ واحْمَرَّ وجهه ، وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب ، ثم أطرق هنيهة ورفع رأسه إلى أبي وقال: ألسنا بني عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد ؟ فقال أبي: نحن كذلك ولكن الله جل ثناؤه اختصنا بمكنون سره وخالص علمه ما لم يختص أحداً غيرنا .
فقال: أليس الله بعث محمداً من شجرة عبد مناف إلى الناس كافة أبيضها وأسودها وأحمرها ، فمن أين ورثتم ما ليس لغيركم ورسول الله مبعوث إلى الناس كافة ؟ ومن أين أورثتم هذا العلم وليس بعد محمد نبي ، وما أنتم أنبياء ؟!
فقال أبي: من قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، فالذي أبداه فهو للناس كافة ، والذي لم يحرك به لسانه أمر الله تعالى أن يخصنا به دون غيرنا ، فلذلك كان يناجي به أخاه علياً دون أصحابه ، وأنزل الله تعالى قرآنا ، فقال: وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : بين أصحابه سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي ولذلك قال علي بالكوفة: علمني رسول الله ألف باب من العلم ، ينفتح من كل باب ألف باب ! خصه رسول الله من مكنون علمه ما خصه الله به ، فصار إلينا وتوارثناه من دون قومنا . فقال له هشام: إن علياً كان يدعي علم الغيب ، والله لم يطلع على غيبه أحداً ، فكيف ادعى ذلك ومن أين؟ فقال أبي: إن الله أنزل على نبيه كتاباً بين فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة في قوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين. وفي قوله تعالى: وَكُلَّ شَئٍْ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين وفي قوله: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَئٍْ، وفي قوله: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرض إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ . وأوحى إلى نبيه أن لا يبقي في غيبه وسره ومكنون علمه شيئاً إلا ناجاه به ، وأمر أن يؤلف القرآن من بعده ، ويتولى غسله وتحنيطه وتكفينه من دون قومه ، وقال لأهله وأصحابه: حرام أن تنظروا إلى عورتي غير أخي علي فهو مني وأنا منه ، له ما لي وعليه ما عليَّ ، وهو قاضي ديني ومنجز وعدي . وقال لأصحابه: عليٌّ يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله . ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلا عند علي ، ولذلك قال لأصحابه: أقضاكم علي . وقال عمر بن الخطاب: لو لا علي لهلك عمر ! أفيشهد له عمر ويجحد غيره ؟! فأطرق هشام ثم رفع رأسه وقال: سل حاجتك . فقال: خلفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي ! فقال: قد آمن الله وحشتهم برجوعك إليهم ، فلا تقم أكثر من يومك ، فاعتنقه أبي وودعه وفعلت فعله ، ونهض ونهضت .
وخرجنا إلى بابه فإذا على بابه ميدان وفيه أناس قعود في آخره فسأله عنهم أبي فقال الحُجَّاب: هؤلاء القسيسون والرهبان ، وهذا عالم لهم يقعد لهم في كل سنة يوماً واحداً ، يستفتونه فيفتيهم . فلفَّ أبي رأسه بفاضل رداءه وفعلت فعله وأقبل حتى قعد عندهم ، وقعدت وراء أبي ، فرفع الخبر إلى هشام فأمر بعض غلمانه أن يحضره وينظر ما يصنع ! فأتى ومعه عدداً من المسلمين فأحاطوا بنا ، وأقبل عالم النصارى وقد شد حاجبيه بعصابة صفراء فتوسطنا ، وقام إليه جميع الحاضرين مسلِّمين ، فتوسط صدر المجلس وقعد فيه وأحاطوا به وأبي وأنا بينهم ، فأدار نظره فيهم فقال لأبي: أمنا أم من هذه الأمة المرحومة؟ فقال أبي: بل من هذه الأمة المرحومة . فقال: أمن علمائها أم من جهالها؟ فقال أبي: لست من جهالها . فاضطرب وقال: أسألك فقال: سل . قال: من أين ادعيتم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يحدثون ولا يبولون وما الدليل ، وهل من شاهد لا يجهل ؟ قال أبي: الدليل الذي لا ينكر مشاهدة الجنين في بطن أمه يطعم ولا يحدث ، فاضطرب اضطراباً شديداً وقال: كلا زعمت أنك لست من علمائها ؟ فقال أبي: قلت لست من جهالها . قال: فأسألك عن مسألة أخرى؟ قال: سل . قال: من أين ادعيتم أن فاكهة الجنة أبداً غضة طرية وما الدليل من المشاهدات؟ قال: إن الفرات غض طري موجود غير معدوم لا ينقطع . فاضطرب اضطراباً شديداً وقال: كلا زعمت أنك لست من علمائها؟ فقال أبي: قلت لست من جهالها .
فقال أسألك عن مسألة أخرى . قال: سل قال: أسألك عن ساعة من ساعات الدنيا ليست من الليل ولا من النهار؟ قال أبي: هي الساعة التي بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، يهدأ فيها المبتلى ، ويرقد فيها الساهر ، ويفيق فيها المغمى عليه ، جعلها الله في الدنيا رغبة للراغبين ، وفي الآخرة للعاملين لها ، وجعلها دليلاً واضحاً وحجة بالغة على الجاحدين والتاركين ! فصاح صيحة ثم قال: بقيت مسألة واحدة ، لأسألنك عنها ولا تهتدي إلى الجواب عنها أبداً ، قال أبي: فسل إنك حانث في قولك . فقال: أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد وماتا في يوم واحد عمر أحدهما مائة وخمسين سنة والآخر خمسين سنة في الدنيا؟ فقال أبي: ذلك عزير وعزرة ولدا في يوم واحد ، ولما بلغا مبلغ الرجال خمسة وعشرين عاماً مر عزير على حماره بقرية في أنطاكية وهي خاوية على عروشها: قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ؟ وكان الله قد اصطفاه وهداه ، فلما قال ذلك غضب الله عليه وأماته مائة عام ، ثم بعثه على طعامه وحماره وشرابه ، وعاد إلى داره وأخوه عزرة لا يعرفه فاستضافه وبعث إلى أولاده وأحفاده وقد شاخوا ، وعزير شاب في سن خمس وعشرين وهو يذكر عزرة بنفسه فيقول له: ما رأيت شاباً أعلم بعزير منك فمن أهل السماء أنت أم من أهل الأرض؟ فقال عزير لأخيه: أنا عزير ، سخط الله تعالى عليَّ بقول قلته فأماتني مائة سنة ، ثم بعثني ليزدادوا بذلك يقيناً أن الله على كل شيء قدير ، وهذا حماري وطعامي وشرابي الذي خرجت به من عندكم أعاده لي كما كان بقدرته فأعاشه الله بينهم تمام الخمسين وقبضه الله وأخاه في يوم واحد .
فنهض عند ذلك عالم النصارى وقاموا معه فقال:جئتموني بأعلم مني فأقعدتموه بينكم ليفضحني ، ويعلم المسلمون بأن لهم من يحيط بعلومنا ، وعنده ما لا نحيط به ! فلا والله لا كلمتكم ولا قعدت لكم إن عشت سنة! فتفرقوا وأبي قاعد مكانه .
ورفع ذلك الرجل الخبر إلى هشام فإذا رسوله بالجائزة والأمر بانصرافنا إلى المدينة من وقتنا فلا نبقى ، لأن أهل الشام ماجوا وهاجوا فيما جرى بين أبي وعالم النصارى ! فركبنا دوابنا منصرفين ، وقد سبقنا بريد هشام إلى عامل مَدْيَن في طريقنا إلى المدينة ، يذكر له أن ابن أبي تراب الساحر محمد بن علي وابنه جعفر الكذابين - بل هو الكذاب لعنه الله- فيما يظهران من الإسلام قد وردا عليَّ فلما صرفتهما إلى المدينة مالا إلى القسيسين والرهبان وتقرباً إليهم بالنصرانية ، فكرهت النكال بهما لقرابتهما ! فإذا مرَّا بانصرافهما عليكم فليناد في الناس برئت الذمة ممن بايعهما وشاراهما وصافحهما وسلم عليهما ، ورأى أمير المؤمنين قتلهما ودوابهما وغلمانهما لارتدادهما !
فلما ورد البريد إلى مدين وشارفناها بعده ، قدم أبي غلمانه ليشتروا لدوابنا علفاً ولنا طعاماً فلما قربوا من المدينة أغلق أهلها الباب في وجوههم وشتموهم وذكروا بالشتم علياً عليه السلام ، وقالوا لهم: لا نزول لكم عندنا ولا بيع ولا شراء ، فأنتم كفار مشركون! فوقف غلماننا إلى الباب حتى انتهينا إليهم فكلمهم أبي وليَّن لهم القول ، قال: اتقوا الله فلسنا كما بلغكم ! فأجابوه بمثل ما أجابوا الغلمان ، فقال لهم أبي: هبونا كما قلتم فافتحوا الباب وبايعونا كما تبايعون اليهود والنصارى والمجوس . فقالوا: أنتم أشر منهم ، لأن هؤلاء يؤدون الجزية وأنتم لا تؤدون . فقال لهم أبي: إفتحوا الباب وخذوا منا الجزية كما تأخذونها منهم . فقالوا: لا نفتح ولا كرامة حتى تموتوا على ظهور دوابكم جياعاً وتموت دوابكم تحتكم !
فوعظهم أبي فازدادوا عتوا فثنى أبي رجله عن سرجه وقال لي: مكانك يا جعفر لا تبرح ! فصعد الجبل المطل على مدينة مدين وهم ينظرون ما يصنع ، فلما صار في أعلاه استقبل بوجهه المدينة ووضع إصبعيه في أذنيه ونادى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ... إلى قوله: بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ . نحن والله بقية الله في أرضه !
فأمر الله تعالى ريحاً سوداء مظلمة فهبت واحتملت صوته فألقته في أسماع الرجال والنساء والصبيان والإماء ، فما بقي أحد من أهل مدين إلا صعد السطح من الفزع ! وفيمن صعد شيخ كبير السن ، فلما نظر الجبل صرخ بأعلى صوته: إتقوا الله يا أهل مدين ، فإنه قد وقف الموقف الذي وقف فيه شعيب حين دعا على قومه ! فإن لم تفتحوا له الباب نزل بكم العذاب ، وقد أعذر من أنذر !
ففتحوا لنا الباب وأنزلونا وكتب العامل بجميع ذلك إلى هشام ، فارتحلنا من مدين إلى المدينة في اليوم الثاني ، وكتب هشام إلى عامله بأن يأخذوا الشيخ ويدفنوه في حفيرة ففعلوا ! وكتب أيضاً إلى عامله بالمدينة أن يحتالوا في سم أبي بطعام أو شراب ، فمضى هشام ولم يتهيأ له في أبي شئ من ذلك ) ! انتهى.والأمان من أخطار الأسفار للسيد ابن طاووس/66، والدر النظيم لإبن حاتم/604 .ومدينة المعاجز:5/66، والبحار:46/313 ، ومستدرك الوسائل:14/77 .
وفي الكافي:1/471: (عن أبي بكر الحضرمي قال: لما حمل أبو جعفر عليه السلام إلى الشام إلى هشام بن عبد الملك وصار ببابه ، قال لأصحابه ومن كان بحضرته من بني أمية: إذا رأيتموني قد وبخت محمد بن علي ثم رأيتموني قد سكت فليقبل عليه كل رجل منكم فليوبخه ! ثم أمر أن يؤذن له فلما دخل عليه أبو جعفر عليه السلام قال بيده: السلام عليكم فعمهم جميعاً بالسلام ثم جلس ، فازداد هشام عليه حنقاً بتركه السلام عليه بالخلافة وجلوسه بغير إذن ، فأقبل يوبخه ويقول فيما يقول له: يا محمد بن علي لا يزال الرجل منكم قد شق عصا المسلمين ودعا إلى نفسه وزعم أنه الإمام سفهاً وقلة علم ! ووبخه بما أراد أن يوبخه ! فلما سكت أقبل عليه القوم رجل بعد رجل يوبخه حتى انقضى آخرهم ، فلما سكت القوم نهض عليه السلام قائماً ثم قال: أيها الناس أين تذهبون وأين يراد بكم ، بنا هدى الله أولكم وبنا يختم آخركم ، فإن يكن لكم ملك معجل فإن لنا ملكاً مؤجلاً وليس بعد ملكنا ملك ، لأنا أهل العاقبة يقول الله عز وجل: والعاقبة للمتقين . فأمر به إلى الحبس ، فلما صار إلى الحبس تكلم فلم يبق في الحبس رجل إلا ترشفه وحن إليه ، فجاء صاحب الحبس إلى هشام فقال: يا أمير المؤمنين إني خائف عليك من أهل الشام أن يحولوا بينك وبين مجلسك هذا ثم أخبره بخبره ! فأمر به فحمل على البريد هو وأصحابه ليردوا إلى المدينة وأمر أن لا يخرج لهم الأسواق وحال بينهم وبين الطعام والشراب ، فساروا ثلاثاً لا يجدون طعاماً ولا شراباً حتى انتهوا إلى مدين ، فأغلق باب المدينة دونهم ، فشكا أصحابه الجوع والعطش قال: فصعد جبلاً ليشرف عليهم فقال بأعلى صوته: يا أهل المدينة الظالم أهلها أنا بقية الله ، يقول الله: بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ . قال: وكان فيهم شيخ كبير فأتاهم فقال لهم: يا قوم هذه والله دعوة شعيب النبي ! والله لئن لم تخرجوا إلى هذا الرجل بالأسواق لتؤخذن من فوقكم ومن تحت أرجلكم فصدقوني في هذه المرة وأطيعوني وكذبوني فيما تستأنفون ، فإني لكم ناصح ، قال: فبادروا فأخرجوا إلى محمد بن علي وأصحابه بالأسواق ، فبلغ هشام بن عبد الملك خبر الشيخ ، فبعث إليه فحمله فلم يدر ما صنع به ). انتهى.
واليك بعض الملاحظات على الحادثة:
1- لم يصلنا من خطبة الإمام الصادق عليه السلام في الحج إلا هذه الفقرة اليتيمة: (الحمد لله الذي بعث بالحق محمداً نبياً وأكرمنا به صلى الله عليه وآله ، فنحن صفوة الله على خلقه وخيرته من عباده ، فالسعيد من اتبعنا والشقي من خالفنا ، ومن الناس من يقول إنه يتولانا وهو يتولى أعداءنا ومن يليهم من جلسائهم وأصحابهم ، فهو لم يسمع كلام ربنا ولم يعمل به ) ! لكنها بليغة تنص على أن فريضة ولاية أهل البيت عليهم السلام والبراءة من أعدائهم من صلب الإسلام ، وأن ذمة المسلم لاتبرأ ولايكون عاملاً بكلام الله تعالى حتى يتولاهم ويتبرأ من كل من خالفهم !
وهو كلام شبيهٌ بما قاله الإمام الباقر عليه السلام لهشام الأحول في قصره بالشام ، وبما رواه في بصائر الدرجات/83 ، عن الإمام الباقر عليه السلام : (نحن جنب الله ونحن صفوته ونحن خيرته ، ونحن مستودع مواريث الأنبياء عليهم السلام ، ونحن أمناء الله ونحن حجة الله ، ونحن أركان الايمان ونحن دعائم الإسلام ، ونحن من رحمة الله على خلقه ، ونحن الذين بنا يفتح الله وبنا يختم ، ونحن أئمة الهدى ونحن مصابيح الدجى ونحن منار الهدى ، ونحن السابقون ونحن الآخرون ، ونحن العلم المرفوع للخلق من تمسك بنا لحق ومن تخلف عنا غرق ، ونحن قادة الغر المحجلين ، ونحن خيرة الله ونحن الطريق وصراط الله المستقيم إلى الله ، ونحن من نعمة الله على خلقه ونحن المنهاج، ونحن معدن النبوة ونحن موضع الرسالة ، ونحن الذين إلينا مختلف الملائكة ، ونحن السراج لمن استضاء بنا ، ونحن السبيل لمن اقتدى بنا ، ونحن الهداة إلى الجنة ، ونحن عز الإسلام ، ونحن الجسور القناطر من مضى عليها سبق و من تخلف عنها محق ، ونحن السنام الأعظم ، ونحن الذين بنا تنزل الرحمة وبنا تسقون الغيث ، ونحن الذين بنا يصرف عنكم العذاب ، فمن عرفنا ونصرنا وعرف حقنا وأخذ بأمرنا فهو منا والينا ). وكمال الدين/206، وأمالي الطوسي/654، وبعضه في الهداية الكبرى لجابر بن يزيد/239 .
ويشبهه ما رواه في عيون المعجزات/67، عن أبي بصير وكان ضريراً قال: قلت لأبي جعفر الباقر عليه السلام : أنتم ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فقال لي: نعم رسول الله وارث الأنبياء ونحن ورثته صلى الله عليه وآله وورثتهم عليهم السلام . فقلت: تقدرون أن تحيوا الموتى وتبرئوا الأكمه والأبرص ؟ قال: نعم بإذن الله تعالى . ثم قال: أدن مني فدنوت منه فمسح على عيني فأبصرت السماء والأرض وكل شئ كان في الدار ، فقال عليه السلام : أتحب أن تكون هكذا ولك ما للناس وعليك ما عليهم ، أو تعود إلى حالك ولك الجنة خالصة؟ فقلت: الجنة أحب إليَّ ، فمسح يده على عيني فرجعت كما كانت .
ثم قال عليه السلام : نحن جنب الله جل وعز ، نحن صفوة الله نحن خيرة الله ، نحن أمناء الله ، نحن مستودع مواريث الأنبياء، نحن حجج الله ، نحن حبل الله المتين ، نحن صراط الله المستقيم قال الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ، نحن رحمة على المؤمنين ، بنا فتح الله وبنا ختم الله ومن تمسك بنا نجا وتخلف عنا غوى ، نحن القادة الغر المحجلين ، ثم قال عليه السلام : فمن عرفنا وعرف حقنا وأخذ بأمرنا فهو منا والينا) . انتهى.
وأصله الحديث الطويل الذي يصف فيه النبي نفسه وأهل بيته صلى الله عليه وآله . (تفسير فرات/258).
2- روت مصادرنا أجزاء أخرى من مناظرة الإمام عليه السلام مع نافع ، ومع الراهب النصراني ، كما في الكافي:8/122، وتفسير القمي:1/98 ، و:2/284، وغيرهما .
3- لهشام الأحول هدفان من إحضار الإمام عليه السلام : الأول: أن يرهبه ويذله ويجد حجة أو طريقاً الى قتله نظراً لاتساع شعبيته ، كما قتل أباه زين العابدين عليهما السلام !
والثاني: أن يتأكد من صحة عقيدة الشيعة في أئمتهم عليهم السلام وأنهم أصحاب صفات مميزة عن الناس ، وأن عندهم علوماً من النبي صلى الله عليه وآله ليست عند غيرهم ؟! كما أعلن ذلك أولهم علي عليه السلام ! ويظهر ذلك من سؤاله للإمام عليه السلام : ( إن علياً كان يدعي علم الغيب ، والله لم يطلع على غيبه أحداً ، فكيف ادعى ذلك ومن أين) ؟
وقد أكد الإمام لهشام تميزهم عليه السلام بالعلم وبيَّنَ له بإجمال مصادر علمهم ! فغضب هشام وتساءل: ما الفرق بيننا وبينكم ، ألسنا وأنتم من قبيلة واحدة ونسب واحد؟! وهو نفس منطق قريش الجاهلي مع النبي صلى الله عليه وآله استعملوه معه ومع عترته المطهرين المعصومين عليهم السلام الى يومنا !
4- في تلك الفترة قام هشام الأحول بتغيير والي المدينة مرتين ، فولاها (خاله إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي ، فقدم المدينة يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من جمادى الآخرة سنة106 ، فكانت ولاية النضري على المدينة سنة وثمانية أشهر). (الطبري:5/379) . ويبدو أن هشاماً لم يرتض لينه مع أهل البيت عليهم السلام ، فولى عليهم أموياً ناصبياً خبيثاً ، سئ السيرة بذئ اللسان هو خالد بن عبد الملك !
قال في تاريخ دمشق:16/172: (استعمل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الملك على المدينة ، فكان يؤذي علي بن أبي طالب على المنبر ، فسمعته يوماً على منبر رسول الله (ص) وهو يقول: والله لقد استعمل رسول الله علياً وهو يعلم أنه كذا وكذا ، ولكن فاطمة كلمته فيه).وفي مناقب ابن حمزة/271: (وهو يعلم أنه خائن)!
وفي عمدة القاري:9/261 ، أن خالداً هذا كان خاملاً قبل ولايته على المدينة .
وفي تاريخ دمشق:16/170: (خالد هذا ليس بابن عبد الملك بن مروان وإنما هو ابن عبد الملك بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص.. المعروف بابن مطرة وولي لهشام بن عبد الملك المدينة سبع سنين فأقحطوا ، فكان يقال سنيات خالد ، وكان أهل البادية قد جلوا إلى الشام ) !
وفي التمهيد:19/35 ، أن عروة بن الزبير كان يشغل نفسه بالكلام عندما يسب أمير المدينة خالد علياً عليه السلام في خطبة الجمعة ويقول: (إنا لم نؤمر أن ننصت لهذا) !
وفي أعيان الشيعة:3/492: (كانت سكينة (بنت الحسين عليه السلام ) تجئ يوم الجمعة فتقوم بإزاء ابن مطير... إذا صعد المنبر فإذا شتم علياً شتمته هي وجواريها ، فكان يأمر الحرس يضربون جواريها). وقد روت المصادر كرامات في إدانة هذه السياسة . الثاقب في المناقب لابن حمزة/271: مدينة المعاجز:2/282، وتاريخ دمشق:16/172 .
5- لم يكتف (الخليفة) بما فعل واليه أمير المدينة ، فأمره أن يجبر المسلمين على سب علي عليه السلام على منبر النبي صلى الله عليه وآله ! فكانوا يتصدون للأمير عندما يسب علياً عليه السلام يوم الجمعة ، وهجاه كُثيِّر الشاعر بأبياته: لعن الله من يسبُّ علياً... فانتشرت بين الناس وتقدمت مع مصادرها ، وقلنا إن إطلاق الخليفة سراح الشاعر كثير رحمه الله يدل على قوة الجو العام ضد بني أمية .
6- إن قول الإمام الصادق عليه السلام في رواية دلائل الإمامة: ( فمضى هشام ولم يتهيأ له في أبي من ذلك شئ) : يعني أن والي المدينة قام بمحاولات عديدة فاشلة ، لم تصل الينا روايتها ، لكن وصلنا أنهم استطاعوا ذلك بعد ثمان سنوات أن يدسوا السم للإمام عليه السلام ! وتذكر بعض الروايات أنهم أهدوا اليه سرجاً مسموماً، أو دعوه للركوب على فرس سرجها مسموم . قال ابن حاتم في الدر النظيم/613: (وفي رواية: بطريق السرج الذي أعطاه (والي المدينة) زيد بن الحسن). وقال عنها السيد الخوئي في معجمه:8/351: (الرواية مرسلة على أنها غير قابلة للتصديق ، فإن عبد الملك لم يبق إلى زمان وفاة الباقر عليه السلام جزماً ، فالرواية مفتعلة). انتهى.
7- لم تذكر رواية الكافي الريح السوداء التي هبت على مدين عندما ناداهم الإمام الباقر عليه السلام بنداء شعيب عليه السلام ، وهذا لاينفي وقوعها ، فنصوص الحادثة متعددة لسعتها ، وقد تناولتها كل رواية من الزاوية التي أرادها الراوي .
8- نلاحظ من الحادثة ومن تغيير الخليفة لولاته على المدينة ، سقوط هيبة بني أمية عند المسلمين في عهد الإمام عليه السلام الباقر ، ويدل عليه التشييع الحاشد لجنازة كثير رحمه الله الذي كان يجاهر بتشيعه ويهجو الأمويين ، وإعراضهم عن جنازة عكرمة عالم الخلافة الأموية ، حيث ماتا في يوم واحد سنة 105هجرية ! فاحتشد الناس اجتمعوا على جنازة كثيِّر وصلى عليه الإمام الباقر عليه السلام وقال للناس: ( أفرجوا لي عن جنازة كثير لأرفعها ، فرفع جنازته وعرقه يجري) ! في حين تركوا جنازة عكرمة فلم يوجد من يحملها ! (الدرجات الرفيعة/590 ، وتهذيب الكمال:20/290) .
وفي كلا الموقفين دلالة على قوة الموجة التي أوجدها الإمام الباقر عليه السلام في نقد بني أمية وتسقيط علماء البلاط ! وقد اضطر الذهبي أن يعترف بإعراض المسلمين عن جنازة عكرمة فقال في سيره:5/33: (قلت: ما تركوا عكرمة مع علمه وشيعوا كثيِّراً ، إلا عن بلية كبيرة في نفوسهم له ، رضي الله عنه) !
ويؤكد ما ذكرناه من نقمة الناس على بني أمية ما رواه في خزانة الأدب:5/221، من قول كثير في احتضاره:
برئت إلى الإله من ابن أروى (يقصد عثمان) ومن دين الخوارج أجمعينا
ومن عمر برئت ، ومن عتيق ( أبي بكر) غداة دعي أمير المؤمنينا ).
وكان أهل الكوفة أكثر جرأة من أهل المدينة ، كما كانت تجري في خراسان والبصرة صراعات دموية بين الولاة ، أو بين الخليفة والولاة .
ولا بد أن نضيف الى الوضع المساند للإمام عليه السلام في تحديه للخليفة وبني أمية ، أنه كان مأموراً بذلك من ربه عز وجل ، لأن الأئمة عليهم السلام مهديون في أعمالهم .
9- لنا أن تقدر الوقع القوي لمواقف الإمام مع الخليفة عند جماهير المسلمين ، خاصة أهل المدينة والعراق ، وقد تفاعل حتى كانت ثورة أخيه زيد رحمه الله بعد شهادته عليه السلام بست سنين، فقد كانت في حكم هشام سنة121 ، واستمر حكمه الى سنة125 هجرية ، ثم سقطت دولة بني أمية بعد هلاكه بسبع سنين .