نقد ادعائهم العصمة لعمر بن الخطاب..

18 أبريل 2010
48
0
0
بسم الله الرحمن الرحيم

مختار من الفصل الثامن من كتاب العقائد الإسلامية
المجلد الخامس - مسائل العصمة

***استكثروا علينا عصمة اثني عشر إماماً من عترة النبي صلى الله عليه وآله.. وعصموا ألوفاً !

يقول أتباع المذاهب السنية نظرياً إن النبي صلى الله عليه وآله معصوم في تبليغ الرسالة فقط ، دون بقية سلوكه العام ، وسلوكه الشخصي !
أما عملياً فتزعم مصادرهم أن النبي صلى الله عليه وآله ارتكب أخطاء عديدة وبعضها في تبليغ الرسالة! وأن بعضها كان يصححه له جبرئيل عليه السلام ، وبعضها كان يصححه له عمر بن الخطاب ، فيؤيده الوحي !
وكذلك لايرون عصمة أهل بيت النبي وعترته صلى الله عليه وآله ، علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، ويقولون إن لهم فضائل كما لهم أخطاء ، ولايعترفون بأنهم معينون من الله تعالى أوصياء للنبي صلى الله عليه وآله وأئمة للأمة ، ويؤولون كل الآيات والأحاديث التي تدل على عصمتهم وإمامتهم عليهم السلام ، ويجعلون درجة علي عليه السلام رابع الصحابة لأنه كان الخليفة الرابع ، وأكثرهم يفضل عليه أبا بكر وعمر وعثمان ، وقد يفضلون عائشة على فاطمة الزهراء عليها السلام ...الخ.

فالصحابة هم الأصل عندهم بعد النبي صلى الله عليه وآله والأفضل من جميع الأمة عبر أجيالها، وعنهم يتلقون دينهم ، ولايهتمون بالرأي المخالف لهم ، بل يعتبرونه انحرافاً عن الإسلام حتى لو كان صادراً من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله !
بل تراهم يقرنون الصحابة بالنبي في الصلاة عليه صلى الله عليه وآله ، وقد يحذفون منها الصلاة على آل النبي ، مع أنهم رووا في أصح صحاحهم أن النبي صلى الله عليه وآله علمهم الصلاة عليه وأمرهم أن يقرنوا به آله عليهم السلام فقط !

وعندما يقولون (الصحابة) فلا يقصدون المئة ألف شخص وأكثر ، الذين رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسموهم صحابة ، ولايقصدون أهل بيته علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام الذين هم أهل بيت وصحابة !
بل هم عملياً يقصدون أربعة رجال من الصحابة هم: أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية ، ومن وافقهم ، ومعهم امرأتان هما: عائشة وحفصة ، ومن وافقهما .
أما باقي الصحابة فهم مقبولون عندهم بشرط أن يوافقوا هؤلاء الستة ، ولا عبرة بقول جميع الصحابة إن خالفوا الستة ، أو خالفوا عمر وحده !

ولايقول السنيون نظرياً بعصمة هؤلاء الصحابة الستة ، لكنهم عملياً يرون عصمتهم كمجموع ، بل يرون عصمة عمر وأبي بكر خاصة ، فهم لا يقبلون أن يوجه اليهما أي نقد ! ويحاولون تصحيح أفعالهما وأقوالهما حتى في مقابل النبي صلى الله عليه وآله ! ويحكمون بضلال من ينتقدهما ، أو بكفره !

*** أتباع السلطة القرشية مجبورون على القول بعصمة الشيخين !

فقد رأو أنهم أن عدالة الصحابة لا تكفيهم لإثبات قداسة عمر وأبي بكر ، لأنها سيف ذو حدين ! كما أن حديثهم الموضوع أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ، سيف ذو حدين ! فيكفي للمسلم أن يقتدي بأي صحابي ، لأنهم عادل ولأنه نجم جعله الله دليلاً ، فيأخذ منه دينه وخطه السياسي !
وعليه فالذين رفضوا السقيفة وحكموا على أبي بكر وعمر بالخيانة ، ولم يبايعوا إلا مجبرين هم صحابة ، وسعد بن عبادة صحابي وزعيم الأنصار ، وأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله صحابة وعترة ، فمن حق المسلم إذن أن يقتدي بهم في رفضه لخلافة قريش وخلفائها ؟!
وهذا نقض لغرضهم في تثبيت خلافة أبي بكر وعمر وزرع تقيسهما !
ومن ناحية أخرى فإنهم لايريدون المساواة بين الصحابة في العدالة لأن الميزان عندهم في الدين من أطاع أبا بكر وعمر ومن خالفهما ، فلا بد أن يكونا هما المقياس ، ولا كرامة لمن عصاهما !
لذلك فإن نشر عقيدة عدالة الصحابة لايكفي عندهم ، إلا إذا كانت تمهيداً وسياجاً لعقيدة عصمة عمر ثم أبي بكر !

*** النقد الذاتي قليل نادر في علمائهم

أعجبني هذا النقد الذاتي للحافظ محمد بن عقيل في كتابه القيِّم: النصائح الكافية لمن يتولى معاوية ص 174 ، قال:
( إننا أهل السنة قد أنكرنا على الشيعة دعواهم العصمة للأئمة الإثني عشر ، وجاهرناهم بصيحات النكير ، وسفهنا بذلك أحلامهم ، ورددنا أدلتهم بما رددنا ، أفبعد ذلك يجمل بنا أن ندعي أن مائة وعشرين ألفاً حاضرهم وباديهم وعللهم وجاهلهم وذكرهم وأنثاهم ، كلهم معصومون أو كما نقول محفوظون من الكذب والفسق ، ونجزم بعدالتهم أجمعين فنأخذ رواية كل فرد منهم قضيةً مسلمةً نضلل من نازع في صحتها ونفسقه ، ونتصامم عن كل ما ثبت وصح عندنا ، بل وما تواتر من ارتكاب بعضهم ما يخرم العدالة وينافيها ، من البغي ، والكذب ، والقتل بغير حق ، وشرب الخمر ، وغير ذلك مع الإصرار عليه ؟!! لا أدري كيف تحل هذه المعضلة ولا أعرف تفسير هذه المشكلة . إليك فإني لست ممن إذا اتقى....عِضاض الأفاعي نام فوق العقارب
أما الأمر بحسن الظن فحسن ، ولكنه ليس في مقام بيان الحق وإبطال الباطل ، والكلام على جرح أو تعديل ، ولو سوغنا هذا لتعطلت الأحكام ، وبطلت الحدود والشهادات ، وكُبكب الشرع على أم رأسه ، إذ لا وجه لتخصيص أشخاص دون آخرين بحسن الظن بهم في كل ما يفعلونه ، إذا ترتب على فعله حكم شرعي إلا بمخصص شرعي ، وإني بذلك .
ولو عممنا القول بذلك لكان حسن الظن حسناً بكل فرد من أفراد المسلمين في كل ما يفعله كما يقول به بعض الصوفية ، فيتأول حينئذ لكل منهم ما ارتكبه من القبائح والبدع المضلة والكبائر ، ويحمل كل ذلك على محمل حسن وقصد صالح ، ويدخل في ذلك الخوارج وغلاة الرافضة فيما يرتكبونه من البدع والتفكير والسب ، وهلم جراً .
اللهم غفرانك ، إنه بهذا يتعطل الشرع وتلتبس الأمور ويختلط الحابل بالنابل ، بل الواجب إجراء كل شئ في مجراه عند إرادة إيضاح الحقائق وبيان المشروعات . وبهذا عمل الصحابة رضي الله عنهم فيما بينهم ، وهكذا عمل جهابذة أصحاب الحديث في الجرح والتعديل ، في رواة الحديث إلا فيمن له صحبة على حسب اصطلاحهم في تعريف الصاحب ، وهي نقطة الإنتقاد عليهم ومحل الإشكال ، إذ كيف يمكن طالب الحق أن يعتمد ما قالوه ويجري على ماجروا عليه من التسوية ، صحةً واحتجاجاً ، بين روايات الحكم والوليد ومعاوية وعمرو وأشباههم ؟!
سبحان الله أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ ؟! لا والله ، ثم لا والله إن الإذعان للحق شأن المنصفين ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ). انتهى.

*** عصمة الشيخين عند الغزالي وعدم وجوب تقليدهما !

نلاحظ أن علمائهم عندما يبحثون في عصمة الأنبياء عليهم السلام أو في حجية قول الصحابي ، يصرِّحون بعدم عصمة الصحابة، لكنهم عملياً يعصمون الشيخين !

قال الغزالي في المستصفى:ص170:
(إن قال قائل: إن لم يجب تقليدهم فهل يجوز تقليدهم ؟
قلنا: أما العامي فيقلدهم ، وأما العالم فإنه إن جاز له تقليد العالم جاز له تقليدهم ، وإن حرمنا تقليد العالم للعالم فقد اختلف قول الشافعي رحمه الله في تقليد الصحابة ، فقال في القديم: يجوز تقليد الصحابي إذا قال قولاً وانتشر قوله ولم يخالف . وقال في موضع آخر: يقلد وإن لم ينتشر ، ورجع في الجديد إلى أنه لايقلد العالم صحابياً ، كما لايقلد عالماً آخر . ونقل المزني عنه ذلك وأن العمل على الأدلة التي بها يجوز للصحابة الفتوى ، وهو الصحيح المختار عندنا إذ كل مادل على تحريم تقليد العالم للعالم كما سيأتي في كتاب الإجتهاد لايفرق فيه بين الصحابي وغيره .
فإن قيل: كيف لايفرق بينهم مع ثناء الله تعالى وثناء رسول الله(ص)قال تعالى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِمِنْكُمْ...وقال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ...وقال رسول الله(ص):خير الناس قرني. وقال(ص):أصحابي كالنجوم إلى غير ذلك ؟
قلنا: هذا كله ثناء يوجب حسن الإعتقاد في علمهم ودينهم ومحلهم عند الله تعالى ، ولايوجب تقليدهم لاجوازاً ولا وجوباً ، فإنه (ص)أثنى أيضاً على آحاد الصحابة ، ولايتميزون عن بقية الصحابة بجواز التقليد أو وجوبه ، كقوله (ص): لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح . وقال (ص): إن الله قد ضرب بالحق على لسان عمر وقلبه ، يقول الحق وإن كان مراً . وقال لعمر: والله ما سلكت فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجك . وقال (ص) في قصة أسارى بدر حيث نزلت الآية على وفق رأي عمر: لو نزل بلاء من السماء ما نجا منه إلا عمر. وقال صلوات الله عليه: إن منكم لمحدثين وإن عمر لمنهم . وكان علي(رض)وغيره من الصحابة يقولون: ما كنا نظن إلا أن ملكاً بين عينيه يسدده وأن ملكاً ينطق على لسانه ! وقال (ص) في حق علي: اللهم أدر الحق مع علي حيث دار ، وقال(ص): أقضاكم علي ، وأفرضكم زيد ، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل). انتهى.

وأنت ترى أن الغزالي ناقض نفسه ، فقد شهد بالعصمة لأبي بكر وعمر وعلي ، ثم قال: (ولايتميزون عن بقية الصحابة بجواز التقليد أو وجوبه)! وقال: (إذ كل ما دل على تحريم تقليد العالم للعالم...لايفرق فيه بين الصحابي وغيره ). انتهى.

فإن الكلام فيما هو أعم من تقليد العالم للعالم. وما أثبته لهم درجة توجب على الأمة اتباعهم ، وهي فوق درجة التقليد ورجوع الجاهل الى العالم ، أو رجوع الناس الى أهل الخبرة .
فما دام الغزالي يعتقد بأن النبي صلى الله عليه وآله شهد بأن إيمان أبي بكر يرجح على إيمان كل العالمين بمن فيهم الأنبياء عليهم السلام ، أو باستثناء الأنبياء عليهم السلام ، فالواجب على العالمين أن يقتدوا به في قوله وفعله ، وإلا لم يؤمن عليهم الضلال !
ومادام عمر مثل النبي صلى الله عليه وآله لاينطق عن الهوى ، بل ينطق على لسانه ملك معصوم ، وتحدثه الملائكة ، ويهرب منه الشيطان الذي لم يكن يهرب من النبي صلى الله عليه وآله ! فالواجب على المسلمين أن يقتدوا به في قوله وفعله ، وإلا لم يؤمن عليهم أن يتبعوا الشيطان !
وما دام النبي صلى الله عليه وآله دعا لعلي عليه السلام أن يجعل الله معه الحق أينما دار ، ودعاء النبي صلى الله عليه وآله مستجاب ، فالواجب على المسلمين أن يقتدوا به في قوله وفعله ، وإلا لم يؤمن عليهم أن يتركوا الحق ويتبعوا الباطل !
لكن كلام الغزالي وغيره من علمائهم إنما هو كلام نظري ، ومهما تكلموا نظرياً وقرروا عدم وجوب إطاعة أبي بكر وعمر وعدم عصمتهما ، فعندما يصلون الى روايات فضائلهما ، يروون لهم فضائل لايمكن تفسيرها إلا بأنهم معصومون ، وأن طاعتهم مفروضة من رب العالمين !
وعندما يصلون الى عملهم وسيرتهم ، يتبنون عصمتهم بالكامل ويدافعون عن كل أفعالهم ليثبتوا أنها كلها صحيحة ، وأنهم لم يرتكبوا معصية أبداً، لاصغيرة ولا كبيرة ، حتى فيما خالفوا فيه النبي صلى الله عليه وآله !
وإذا وصلوا الى حكم من يرفض شرعية خلافتهما ، فتراهم لايكتفون لهم بدرجة العصمة ، بل يجعلون ولايتهما ركناً للإسلام الى صف التوحيد والنبوة أو قبلهما ، ويحكمون بكفر من خالفهما وعاداهما ووجوب قتله ، بينما لايحكمون بذلك لمن خالف الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وآله !!
ليس من المبالغة أن نقول إن غيرتهم على أبي بكر وعمر، وبعضهم يضيف اليهم عائشة وحفصة وعثمان ومعاوية ، وشدَّتَهم على من رفضهم.. أعظم منها على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله !
فلا يغرنك قولهم إنا لانحكم بعصمتما ولابوجوب تقليدهما ! فهذا التاريخ شاهد على أنه لم يضطهد أمة من الأمم من أجل شخصيتين كما اضطهد ملايين المسلمين من أجل عمر وأبي بكر ، ولم ترق دماء بذنب رفض أصحابها لقبول أحد ، كما أريقت بذنب رفضها لأبي بكر وعمر !
لقد أقاموا كل عقيدتهم وفقههم ودولهم وتاريخهم وتربية أبنائهم وبناتهم ، على تقديسهما واضطهاد من لايقبلهما ! وقد كان الشيعة يتمنون أن تعاملهم الدول القرشية معاملة المنكرين لله ورسوله صلى الله عليه وآله ليخف جرمهم واضطهادهم!!

*** هل تشيع الغزالي في آخر عمره ؟

للغزالي كتاب اسمه (سر العالمَيْن وكشف مافي الداريْن)نقل عنه الدكتور الخليلي في كتابه (السقيفة أم الفتن) ص114، عن مخطوطته في دار الكتب المصريةرقم:1/316.
وقد طبع الكتاب في الهند ومصر العراق وبيروت وإيران ، وهو مرتب على مقالات ، وقد أظهر فيه تشيَّعه ، ولذا شكك بعضهم في نسبته اليه !
قال المرحوم الطهراني في الذريعة الى تصانيف الشيعة :12/168:
(120:سر العالمين) المنسوب إلى الغزالي . كتاب شيعي نسبه إليه في تذكرة خواص الأمة ، وتاج العروس ، والإتحاف في شرح الإحياء . فراجعه ).
وتابعه إليان سركيس في معجم المطبوعات العربية:2/1412، فقال: (سر العالمين وكشف ما في الدارين، وهو منسوب للغزالي والصواب أنه لأحد الباطنية- هند 1314 مصر1324) .
كما وافقه الباحث السيد جعفر مرتضى فشكك بنسبة الكتاب الى الغزالي . (مجلة تراثنا:2/97 و:4/173)

وخالفهم عديدون ونسبوا الكتاب الى الغزالي وهو الأرجح ، كالبغدادي في إيضاح المكنون:2/11، قال: (سر العالميْن وكشف ما في الداريْن لأبي حامد الغزالي محمد بن محمد ). ونحوه في هدية العارفين:2/80 ، وكذا القاضي نورالله التستري في كتابه مجالس المؤمنين ، والفيض الكاشاني في الوافي ، والطريحي في مجمع البحرين ، والأميني في الغدير:1/391 ، والمرعشي في شرح إحقاق الحق:33/244 ، كما نقلوا ذلك عن المحقق الكركي .
وقال الماحوزي في الأربعين ص151: (ذكر مولانا محسن الكاشي في المحجة البيضاء أن ابن الجوزي الحنبلي ذكر في بعض تصانيفه أن الغزالي ترفض في آخر عمره ، وأظهر رفضه في كتاب سر العالمين) .
ووافقهم السيد الميلاني في نفحات الأزهار:1/102و:9/ 184، مؤيداً ما ستدلوا به من نسبة ابن الجوزي الكتاب الى الغزالي في تذكرة الخواص ص62، والذهبي في ميزان الإعتدال:1/500 ، وفي طبعتنا:2/215، حيث اعتمد عليه فقال: ( قال أبو حامد الغزالي في كتاب (سر العالميْن): شاهدت قصة الحسن بن الصباح لما تزهَّد تحت حصن ألَمُوت فكان أهل الحصن يتمنون صعوده إليهم ، ويمتنع ويقول: أما ترون المنكر قد فشا وفسد الناس! فتبعه خلق ، ثم خرج أمير الحصن يتصيد فنهض أصحابه وملكوا الحصن ! ) انتهى.
والعبارة موجودة في سر العالمين ، ولا توجد في غيره .
وقد اعتمد عليه الذهبي أيضاً في:19/403 ، بنفس عبارته في ميزان الإعتدال ، لكنه قال قبلها في ترجمة الغزالي:19/327: (ومن معجم أبي علي الصدفي ، تأليف القاضي عياض له ، قال: والشيخ أبو حامد ، ذو الأنباء الشنيعة ، والتصانيف العظيمة ، غلا في طريقة التصوف ، وتجرد لنصر مذهبهم وصار داعية في ذلك، وألف فيه تواليفه المشهورة ، أخذ عليه فيها مواضع ، وساءت به ظنون أمة والله أعلم بسره ، ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب وفتوى الفقهاء بإحراقها والبعد عنها ، فامتُثل ذلك . مولده سنة خمسين وأربع مئة .
قلت: ما زال العلماء يختلفون ويتكلم العالم في العالم باجتهاده ، وكل منهم معذور مأجور ، ومن عاند أو خرق الإجماع فهو مأزور ، وإلى الله ترجع الأمور . ولأبي المظفر يوسف سبط ابن الجوزي في كتاب رياض الأفهام في مناقب أهل البيت قال: ذكر أبو حامد في كتابه سر العالميْن وكشف ما في الداريْن فقال في حديث: من كنت مولاه فعلي مولاه ، إن عمرقال لعلي: بخ بخ أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة . قال أبو حامد: وهذا تسليم ورضى ، ثم بعد هذا غلب عليه الهوى ، حباً للرياسة وعقْد البنود ، وأمر الخلافة ونهيها ، فحملهم على الخلاف فنبذوه وراء ظهورهم ، واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون ! وسرد كثيراً من هذا الكلام الفسل الذي تزعمه الإمامية ، وما أدري ما عذره في هذا ! والظاهر أنه رجع عنه وتبع الحق فإن الرجل من بحور العلم ، والله أعلم . هذا إن لم يكن هذا وضع هذا وما ذاك ببعيد ، ففي هذا التأليف بلايا لاتتطبب ! وقال في أوله:إنه قرأه عليه محمد بن تومرت المغربي سراً بالنظامية ، قال: وتوسمت فيه الملك) . انتهى.
أقول: لم يعين الذهبي من اتهمه باحتمال وضع الكتاب ، بقوله (هذا إن لم يكن هذا وضع هذا وما ذاك ببعيد)! فهل يقصد الصدفي ، أم القاضي عياضاً ! مع أنه ترجم لهما ووصف كلاً منهما بالإمام ومدحهما كثيراً ، قال في سير أعلام النبلاء:20/212: ( القاضي عياض: الإمام العلامة الحافظ الأوحد ، شيخ الإسلام القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض اليحصبي الأندلسي ، ثم السبتي المالكي . ولد في سنة ست وسبعين وأربع مئة ... الخ.).
وقال في تذكرة الحفاظ:4/1253: (الامام الحافظ البارع أبو علي الحسين بن محمد بن فيرة بن حيون الصدفي السرقسطي الأندلسي...الخ.). انتهى.

* والبلية التي لاتطبب عند الذهبي هي قول الغزالي في سر العالمين ص21:
(المقالة الرابعة في ترتيب الخلافة والمملكة: اختلف العلماء في ترتيب الخلافة وتحصيلها لمن آل أمرها إليه ، منهم من زعم أنها بالنص ودليلهم قوله تعالى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (الفتح:16) وقد دعاهم أبو بكر الى الطاعة بعد رسول الله(ص)فأجابوا .
وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ . (التحريم:3) ، قال في الحديث: إن أبا بكر هو الخليفة من بعدي يا حميراء ، وقالت امرأة: إذا فقدناك فالى من نرجع؟ فأشار الى أبي بكر ، ولأنه أمَّ بالمسلمين على بقاء رسول الله(ص)والإمامة عماد الخلافة . هذه جملة ما يتعلق به القائلون بالنصوص .
ثم تأولوا وقالوا: إذ لو كان عليٌّ أول الخلفاء لانسحب عليهم ذيل الفناء ، ولم يأتوا بفتوح ولا مناقب ، ولا يقدح في كونه رابعاً للخلفاء ، كما لايقدح في نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله إذ كان آخراً .
والذين عدلوا عن هذه الطريقة زعموا أن هذا تعلق فاسد جاء على زعمكم وأهويتكم ، وقد وقع الميراث في الأحكام والخلافة ، مثل داود وسليمان وزكريا ويحيى ، قالوا: كان لأزواجه ثمن الخلافة فبهذا تعلقوا . وهذا باطل ، إذ لو كان ميراثاً لكان العباس أولى .
لكن أسفرت الحجة وجهها ، وأجمع الجماهير على متن الحديث من خطبته في يوم غدير خم باتفاق الجميع وهو يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه ، فقال عمر: بخ بخ يا أبا الحسن لقد أصبحت مولاي ومولى كل مولى ، فهذا تسليمٌ ورضاً وتحكيم . ثم بعد هذا غلب الهوى بحب الرئاسة ، وحَمْلُ عمود الخلافة، وعقود البنود ، وخفقان الهوى ، في قعقعة الرايات ، واشتباك ازدحام الخيول ، وفتح الأمصار ، سقاهم كأس الهوى ، فعادوا الى الخلاف الأول ، فنبذوه وراء ظهورهم ، واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون .
ولما مات رسول الله صلى الله عليه وآله قال وقت وفاته: إيتوني بدواة وبياض لا زيل عنكم اشكال لأمر ، وأذكر لكم من المستحق لها بعدي ! قال عمر: دعوا الرجل فإنه ليهجر وقيل ليهذر . فإذن بطل تعلقكم بتأويل النصوص ، فعدتم الى الإجماع ، وهذا منقوض أيضاً فإن العباس وأولاده وعلياً عليه السلام وزوجته لم يحضروا حلقة البيعة وخالفكم أصحاب السقيفة في مبايعة الخزرجي....الخ.). انتهى.

*** رأي التفتازاني: عصمة أب بكر وعمر وعدالة الباقين رغم معاصيهم !

سعد الدين التفتازاني من كبار العلماء المتكلمين والمنظِّرين لمذهب أتباع الصحابة والحكومات القرشية ، جاء في معجم المطبوعات العربية:1/635:
التفتازاني ، سعد الدين(722-793هجرية)مسعود بن عمر بن عبد الله (الشيخ) سعد الدين التفتازاني الهروي الشافعي الخراساني التفتازاني، نسبة إلى تفتازان بلدة بخراسان ولد فيها ، كان من محاسن الزمان ، لم تر العيون مثله في الأعلام والأعيان. وهو الأستاذ على الإطلاق ، والمشار إليه بالإتفاق . اشتهرت تصانيفه في الأرض ، وأتت بالطول والعرض) . انتهى.
وكتابه شرح المقاصد من أهم كتبهم الكلامية المعتمدة ، وقد سجل فيه رأيه بالصحابة فقال في:5/310:
(ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ ، والمذكور على ألسنة الثقات ، يدل بظاهره على أن بعضهم قد حاد عن طريق الحق ، وبلغ حد الظلم والفسق ، وكان الباعث عليه الحقد والعناد ، والحسد واللداد ، وطلب الملك والرياسات والميل الى اللذات والشهوات ، إذ ليس كل صحابي معصوماً ، ولا كل من لقي النبي (ص) بالخير موسوماً .
إلا أن العلماء لحسن ظنهم بأصحاب رسول الله (ص)ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق ، وذهبوا الى أنهم محفوظون عما يوجب التضليل والتفسيق ، صوناً لعقائد المسلمين من الزيغ والضلالة في حق كبار الصحابة ، سيما المهاجرين منهم والأنصار ، المبشرين بالثواب في دار القرار .
وأما ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبي(ص) ، فمن الظهور بحيث لامجال للإخفاء ، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء ، ويكاد تشهد به الجماد والعجماء ، ويبكي له من في الأرض والسماء ، وتنهدُّ منه الجبال ، وتنشق منه الصخور، ويبقى سوء عمله على كر الشهور ومر الدهور ، فلعنة الله على من باشر ، أو رضي ، أوسعى ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .
فإن قيل: فمن علماء المذهب من لايجوِّز اللعن على يزيد ، مع علمهم بأنه يستحق ما يربو على ذلك ويزيد .
قلنا: تحامياً على أن يرتقى الى الأعلى فالأعلى ، كما هو شعار الروافض ، على ما يروى في أدعيتهم ، ويجري في أنديتهم ، فرأى المعتنون بأمر الدين إلجام العوام بالكلية ، طريقاً الى الإقتصاد في الإعتقاد ، بحيث لاتزلُّ الأقدام عن السواء ، ولا تضل الأفهام بالأهواء !! وإلا فمَن خفيَ عليه الجواز والإستحقاق ، وكيف لايقع عليهما الإتفاق؟! وهذا هو السر فيما نقل عن السلف من المبالغة في مجانبة أهل الضلال ، وسد طريق لايؤمن أن يجر الى الغواية في المآل ، مع علمهم بحقيقة الحال وجلية المقال ) !! انتهى .

وفي هامش الإصابة:1/25: (وقال السعد التفتازاني: يجب تعظيم الصحابة والكف عن مطاعنهم ، وحمل ما يوجب بظاهره الطعن فيهم على محامل وتأويلات ، سيما المهاجرين والأنصار وأهل بيعة الرضوان ، ومن شهد بدراً وأحداً والحديبية ، فقد انعقد على علو شأنهم الإجماع ، وشهد بذلك الآيات الصراح ، والأخبار الصحاح .
وللروافض سيما الغلاة منهم مبالغات في بغض البعض من الصحابة رضي الله عنهم والطعن فيهم ، بناء على حكايات وافتراءات لم تكن في القرن الثاني والثالث ، فإياك والإصغاء إليها ، فإنها تضل الأحداث ، وتحير الأوساط وإن كانت لاتؤثر فيمن له استقامة على الصراط المستقيم ، وكفاك شاهداً على ما ذكرنا أنها لم تكن في القرون السالفة ولا فيما بين العترة الطاهرة ، بل ثناؤهم على عظماء الصحابة وعلماء السنة والجماعة ، والمهديين من خلفاء الدين ، مشهور في خطبهم ورسائلهم وأشعارهم ) . انتهى.

*** نقد منطق العصمة عند التفتازاني

* المسألة الأولى:

أنه اعترف بأن بعض الصحابة قد انحرف بعد النبي صلى الله عليه وآله عالماً عامداً وكان دافعه الى ذلك على حد تعبيره: (الحقد والعناد ، والحسد واللداد ، وطلب الملك والرياسات ، والميل الى اللذات والشهوات) ! وأن صحبة النبي صلى الله عليه وآله لا توجب العصمة ولا العدالة ، فقد صدرت منهم المعاصي والظلم والفسق !
لكن التفتازاني وغيره لايبينون من هم المنحرفون من الصحابة ، فوجب عليهم أن يجروا فيهم حكم الشبهة المحصورة ، ويحرِّموا على المسلمين أن يتلقَّوْا منهم دينهم بعد النبي صلى الله عليه وآله ! فقد قرر الفقهاء أنه إذا اشتبه إناء نجس بآنية طاهرة ولم يتميز ، وجب اجتناب الجميع ولم يصح الوضوء بأي منها !
قال العلامة الحلي في نهاية الإحكام:1/253 : (فلو اشتبه إناء طاهر بماء الغالب في مثله النجاسة كان كما لو اشتبه بمتيقن النجاسة ، فيحتاج إلى الإجتهاد ).

فإن قلت: أفتى بعضهم في هذه الحالة بجواز العمل بما غلب الظن على أنه طاهر فيصح الوضوء به ، قال النووي في المجموع:1/180: (إذا اشتبه ماءان طاهر ونجس ، ففيه ثلاثة أوجه: الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور وتظاهرت عليه نصوص الشافعي أنه لاتجوز الطهارة بواحد منهما إلا إذا اجتهد وغلب على ظنه طهارته بعلامة تظهر ، فإن ظنه بغير علامة تظهر لم تجز الطهارة به... وسواء عندنا كان عدد الطاهر أكثر أو أقل حتى لو اشتبه إناء طاهر بمائة إناء نجسة تحرى فيها ، وكذلك الأطعمة والثياب ، هذا مذهبنا ، ومثله قال بعض أصحاب مالك . كذا قال بمثله أبو حنيفة في القبلة والطعمة والثياب ، وأما الماء فقال لايتحري إلا بشرط أن يكون عدد الطاهر أكثر من عدد النجس . وقال أحمد وأبو ثور والمزني: لايجوز التحرى في المياه بل يتيمم ، وهذا هو الصحيح عند أصحاب مالك ). (راجع أيضاً إعانة الطالبين:1/45 ).

فالجواب أولاً ، أن الأصل في الظن عدم الحجية كما قال الله تعالى: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظناً إِنَّ الظَّنَّ لايُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شيئاً . (يونس:36) فلا حجية للظن إلا بدليل شرعي من كتاب أوسنة ، ولو سلمنا أن الله تعالى أجاز الإعتماد على غلبة الظن في مثل عدد الركعات والأواني والأطعمة المشتبهة تسهيلاً على العباد ، فلا يدل ذلك على جواز الإعتماد على الظن في تلقي الدين بعد النبي صلى الله عليه وآله من صحابته ، ونحن نعلم كما اعترف التفتازاني بأن فيهم أهل دنيا كذابين !
إن مجرد وجود هؤلاء فيهم مع عدم إمكانية تمييزهم ، يرفع الإطمئنان بأن ما رواه هذا الصحابي من الدين فيجب التوقف !
وثانياً ، إن دليلهم على حجية الظن في الإناء المشتبه هو عمل الصحابة واتفاقهم عليه ، فلو أردنا أن نثبت به حجية قول الصحابة ، لزم الدور !
قال الغزالي في المستصفى ص253: (لو اشتبه إناء نجس بعشر أوان طاهرة فلا ترجيح للأكثر ، بل لا بد من الإجتهاد والدليل ، ولا يجوز أن يأخذ واحداً ويقدر حله أو طهارته ، لأن جنسه أكثر .
لكنا نقول: الظن عبارة عن أغلب الإحتمالين ، ولكن لايجوز اتباعه إلا بدليل ، فخبر الواحد لايورث إلا غلبة الظن من حيث أنَّ صدق العدل أكثر وأغلب من كذبه ، وصيغة العموم تتبع ، لأن إرادة ما يدل عليه الظاهر أغلب وأكثر من وقوع غيره . والفرق بين الفرع والأصل ممكن غير مقطوع ببطلانه في الأقيسة الظنية، لكن الجمع أغلب على الظن، واتباع الظن في هذه الأصول لا لكونه ظناً ، لكن لعمل الصحابة به واتفاقاتهم عليه ). انتهى.

فقد تشدد الغزالي حتى في الظن الحاصل من خبر الواحد الثقة ، وحكم أنه ليس حجة في ذاته بل لعمل الصحابة به واتفاقهم عليه ! فهو يرجع بالحقيقة الى حجية إجماع الصحابة ، وستعرف ما فيه .

وثالثاً ، إن إجماع الصحابة بدون القول بعصمة بعضهم لايفيد العلم ، ولو سلمنا حجيته نظرياً ، فأين هو عملياً ونحن لا نكاد نجد مسألة عقيدية أو فقهية أو سياسية ، إلا وروي فيها عنهم الرأي وخلافه ! فبيعة أبي بكر التي يضربونها مثلاً لإجماعهم ، يعترفون بأن الإجماع فيها انتقض بمخالفة سعد بن عبادة وفاطمة الزهراء عليها السلام وأهل البيت وآخرين من المهاجرين والأنصار !

* المسألة الثانية:

لايغرُّك أن التفتازاني بدأ كلامه بالإعتراف بأن ما وقع بين الصحابة كان صراعاً على السلطة ، حسداً وطمعاً في الدنيا والرئاسة والشهوات ، فقد عاد وبرَّرَ كل ذلك بقوله إنه: (يدل بظاهره على أن بعضهم قد حاد عن طريق الحق) ، فظاهر قولهم وفعلهم عنده الظلم والفسق ، أما باطنه فهو العدل والعدالة من بعضهم ، والعدل والعصمة من كبارهم !
وبذلك تعرف كيف أتقن هذا الإيراني أسلوب المحامين المعاصرين في صياغة كلامه ، للدفاع عن نظرية الصحابة القرشية !
وتعرف أن أتباع الحكومات القرشية ومذاهبها يقعون في التناقض الذي يعيبونه على الإسماعيلية الباطنية ، فبعض فرق الإسماعيلة يقولون إن شرب إمامهم للخمر عملٌ ظاهري ، أما الباطن فإنه بمجرد أن يلمس زجاجة الويسكي بيده تتحول الى شراب طهور من الجنة !
فما الفرق بين مقولتهم ومقولة التفتازاني في ظاهر عمل الصحابة وباطنه ؟!

وقد بلغت براعة التفتازاني ذروتها في قراءته التعزية على ظلم أهل البيت النبوي صلوات الله عليهم ، لكنه برَّأ الصحابة من ذلك بمن فيهم معاوية ، وهاجم يزيد بن معاوية وأدانه بجريمة قتل الإمام الحسين عليه السلام ، ثم تراجع وأثبت له حق الحصانة ، حتى لاتصعد الإدانة الى من فوقه من الصحابة !

* المسألة الثالثة:

يظهر أن التفتازاني يقول بعصمة أبي بكر وعمر من بين الصحابة ! فقد قال: (إذ ليس كل صحابي معصوماً ، ولا كل من لقي النبي(ص)بالخير موسوماً . إلا أن العلماء لحسن ظنهم بأصحاب رسول الله (ص)ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق ، وذهبوا الى أنهم محفوظون عما يوجب التضليل والتفسيق ، صوناً لعقائد المسلمين من الزيغ والضلالة في حق كبار الصحابة ) !
فقوله: (إذ ليس كل صحابي معصوماً) يشعر بأن بعضهم قد يكون معصوماً ! وكلامه الذي تلاه يدل على أنه ارتضى قول (العلماء) أي علماء المذاهب المؤيدة للسلطة القرشية ، من تبرير جميع أقوالهما وأفعالهما وأنهما محفوظان من الضلال والمعصية ! وهذه هي العصمة بعينها !
وقد قلنا إنه قصد بذلك أبا بكر وعمر فقط ، لأنه لايصح أن يقصد من نسب اليهم الظلم والفسق ! نعم ربما قصد معهما عثمان وعلياً عليه السلام

* المسألة الرابعة:

إن دليل(العلماء) الذي ارتضاه التفتازاني على مقام العصمة لأبي بكر وعمر، ومقام العدالة لبقية الصحابة ، مع الإعتراف بجرائم بعضهم ، أجمله في قوله: (إلا أن العلماء لحسن ظنهم بأصحاب رسول الله (ص)ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق ، وذهبوا الى أنهم محفوظون عما يوجب التضليل والتفسيق ، صوناً لعقائد المسلمين من الزيغ والضلالة في حق كبار الصحابة ، سيما المهاجرين منهم والأنصار ، المبشرين بالثواب في دار القرار ).
وترجمته: أن عقيدة المسلمين فيهم يجب أن تحفظ ، لأنهم مبشرون بالجنة !
وهذا مصادرة واضحة ، لأن البحث فيما يجب أن تكون عقيدة المسلمين فيهم ، هل هي العدالة أو العصمة ، أو أن الأصل عدم أي منهما حتى تثبت ؟
وكان ينبغي للتفتازاني المنطقي أن يقول: يجب التوقف في الصحابة ، لأن الله مدح بعضهم وبشرهم بالجنة ، وذم بعضهم وأخبر أنهم سينقلبون بعد النبي صلى الله عليه وآله على أعقابهم فقال: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شيئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ). (آل عمران:144) .
ولأن النبي صلى الله عليه وآله مدح بعضهم ووعدهم الجنة ، وذم أكثرهم وأخبر أنهم في النار كما في صحيح البخاري:7/209، عن أبي هريرة عن النبي(ص)قال: بينا أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلمَّ ! فقلت أين! قال إلى النار والله ! قلت: وما شأنهم ؟قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلمَّ ! قلت أين ؟ قال إلى النار والله ! قلت: ما شأنهم ؟ قال إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم ) !!
وهمل النعم كما في مقدمة فتح الباري: ص197: الإبل بغير راع وكذا غيرها ، أي الصحابة الخارجون على السلطة ، وهم الشاكرون في الآية .
كان ينبغي أن يقول مادامت النتيجة المنطقية تتبع أخس المقدمات ، فليس بوسعنا إلا التوقف في أمر الصحابي حتى تثبت عدالته أو عصمته !
لكنه كرر دليله الواهي في كلامه الثاني بقوله: (يجب تعظيم الصحابة والكف عن مطاعنهم ، وحمل ما يوجب بظاهره الطعن فيهم على محامل وتأويلات ، سيما المهاجرين والأنصار وأهل بيعة الرضوان ، ومن شهد بدراً وأحداً والحديبية ، فقد انعقد على علو شأنهم الإجماع، وشهد بذلك الآيات الصراح، والأخبار الصحاح ).
وكلامه هذا دعوة الى تعطيل العقل والشرع ، وإلغاء لما قرره عامة عقلاء المجتمعات البشرية ، وعلماء البيان والفقه والأصول من حجية ظواهر الكتاب والسنة ، وظواهر أقوال الناس وأفعالهم! وفتواه بوجوب(حمل ما يوجب بظاهره الطعن فيهم على محامل وتأويلات) دعوةٌ صريحة الى القول بعصمة الصحابة ، واتباع المذهب الباطني الإسماعيلي وإلغاء الظاهر !
أما قوله إن الآيات الصريحة تدل على علو شأنهم فهو كلام تعمد إبهامه ، فإن قصد أنها تدل على عصمتهم جميعاً ، ووجوب تأويل ظاهر معاصيهم وانحرافهم ، فهو ممنوع . وإن قصد أنها تدل على أن بعضهم من أهل الجنة ، فهو صحيح ، لكنهم لم يتفق على تمييزهم فيجري فيهم حكم الشبهة المحصورة ، وهو وجوب اجتناب كل أطرافها حتى يتميز الطاهر فيها من النجس، والحلال من الحرام، والمتهم من البرئ، وأهل الجنة من أهل النار !

وأما دعواه إجماع المسلمين على علو شأنهم ، ونسبته الى أهل البيت عليهم السلام مديحهم ، فهو ممنوع ، بل الثابت بشهادة علمائهم نقض هذا الإجماع ، وطعن أهل البيت عليهم السلام وغيرهم في أهل السقيفة ، ولامجال للإفاضة فيه !

فقد ظهر أن التفتازاني يقول بعصمة الصحابة بعضاً أو كلاً ، ويقول بعدالتهم كلاً ، لكنه لم يقدم دليلاً واحداً على ذلك ، إلا التقليد للسلطة وعلمائها !


*** أعلى درجات العصمة عندهم لعمر بن الخطاب !

قال البخاري في صحيحه:4/96: (استأذن عمر على رسول الله(ص)وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن ، فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب ، فأذن له رسول الله (ص)، ورسول الله يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله؟ قال: عجبت من هؤلاء اللاتي كنَّ عندي فلما سمعنَ صوتك ابتدرنَ الحجاب ! قال عمر: فأنت يا رسول الله كنت أحق أن يَهَبْنَ ، ثم قال: أيْ عدوات أنفسهن ، أتهبنني ولا تهبنَ رسول الله؟ قلن: نعم أنت أفظ وأغلظ من رسول الله(ص) !
قال رسول الله(ص): والذي نفسي بيده مالقيك الشيطان قط سالكاً فجَّاً إلا سلك فجاً غير فجِّك). ( وكرره البخاري في:4/199و:7/93) .
وما دام النبي صلى الله عليه وآله أخبر بفرار الشيطان من عمر وعدم تأثيره عليه ، فهو معصوم من كل أنواع الذنوب ! بل هو أفضل من النبي صلى الله عليه وآله ! لأنهم رووا أن شيطان النبي صلى الله عليه وآله معه لايهرب منه ، وأنه خاض صراعاً معه فأعانه الله عليه !!
قال النووي في شرح مسلم:15/165:
(الفج الطريق الواسع، ويطلق أيضاً على المكان المنخرق بين الجبلين. وهذا الحديث محمولٌ على ظاهره أن الشيطان متى رأى عمر سالكاً فجّاً هرب هيبة من عمر وفارق ذلك الفج وذهب في فج آخر ، لشدة خوفه من بأس عمر أن يفعل فيه شيئاً ! قال القاضي ويحتمل أنه ضرب مثلاً لبعد الشيطان وإغوائه منه وأن عمر في جميع أموره سالك طريق السداد خلاف ما يأمر به الشيطان والصحيح الأول). (والديباج:5/380) .

وقال ابن حجر في فتح الباري:7/38:
( قوله: إلا سلك فجاً غير فجك . فيه فضيلة عظيمة لعمر تقتضي أن الشيطان لاسبيل له عليه ، لا أن ذلك يقتضي وجود العصمة ، إذ ليس فيه إلا فرار الشيطان منه أن يشاركه في طريق يسلكها ، ولايمنع ذلك من وسوسته له بحسب ما تصل إليه قدرته .
فإن قيل: عدم تسليطه عليه بالوسوسة يؤخذ بطريق مفهوم الموافقة ، لأنه إذا منع من السلوك في طريق فأولى أن لايلابسه بحيث يتمكن من وسوسته له ، فيمكن أن يكون حُفِظَ من الشيطان ، ولا يلزم من ذلك ثبوت العصمة له، لأنها في حق النبي واجبة وفي حق غيره ممكنة .
ووقع في حديث حفصة عند الطبراني في الأوسط بلفظ أن الشيطان لا يلقى عمر منذ أسلم إلا خرَّ لوجهه ، وهذا دل على صلابته في الدين ، واستمرار حاله على الجد الصرف والحق المحض) .
ثم نقل كلام النووي وفي آخره: (والأول أولى ، بدل: والصحيح الأول)!
وواضح أن ابن حجر رأى أن حديث البخاري يجعل عمر معصوماً بدرجة فوق درجة عصمة النبي صلى الله عليه وآله ! فأراد أن يخفف من وقعها بأن ذلك لايستلزم العصمة ، وأن فرار الشيطان منه لايمنع أنه يحاول الوسوسة له من بعيد !
ثم اعترف بأن فراره منه ينفي إمكانية وسوسته أصلاً ، بل رووا أنه يخرُّ لوجهه إذا لقيه ! فقال إذن هي عصمة ممكنة وعصمة النبي عصمة واجبة !
وهذا ليس إلا تلاعباً بالألفاظ من أجل عمر ، فالعصمة الممكنة عصمةً كاملة كعصمة النبي صلى الله عليه وآله بل هي خير منها لأن الشيطان يفر من صاحبها ويخر لوجهه من رؤيته ، ولا يفر من النبي صلى الله عليه وآله ولا يخر على وجهه إذا لقيه !
فهل رأيت ابتكارات علماء السلطة القرشية لعمر فقد جعلوا النبوة قسمين نبوة واجبة على الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله ، ونبوة ممكنة قررها الله تعالى لعمر فرووا (لوكان بعدي نبي لكان عمر)!
وجعلوا العصمة قسمين ، عصمة واجبة على الله للنبي صلى الله عليه وآله ، وعصمة ممكنة أو مستحبة لله لعمر ، وقالوا إن الله تعالى أتقن عمله المستحب أحسن من الفريضة فخص عمر بان الشيطان يهرب منه ويخر لوجهه إذا لقيه !

وشبيهاً بالتفازاني قال الصالحي في سبل الهدى:11/275 ، عن الكرماني وعياض:
(قال الكرماني: إن قلت: يلزم أن يكون أفضل من أيوب ونحوه إذ قال: مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ؟ قلت: لا، إذ التركيب لايدل إلا على الزمن الماضي ، وذلك أيضاً مخصوص بحال الإسلام فليس على ظاهره ، وأيضاً هو مقيد بحال سلوك الطريق ، فجاز أن يلقاه على غير تلك الحالة . انتهى .
وقال القاضي عياض: ويحتمل أنه ضرب مثلاً لبعد الشيطان وأعوانه من عمر ، وأنه لا سبيل له عليه أي إنك إذا سلكت في أمر بمعروف أو نهي عن منكر تنفذ فيه ولا تتركه ، فليس للشيطان أن يوسوس فيه فيتركه ، ويسلك غيره ، وليس المراد بالطريق على الحقيقة ، لأنه تعالى قال: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاتَرَوْنَهُمْ ، فلا يخافه إذا لقيه في فج لانه لا يراه) . انتهى .

يقول الكرماني وعياض بذلك إن الذين فضل الله عمر عليهم هم هذه الأمة فلا يشمل التفضيل نبي الله أيوب عليه السلام الذي مسه الشيطان !
ولكنهما بذلك شملا النبي صلى الله عليه وآله الذي لايفر منه الشيطان بل يلقي الوسوسة في قلبه ! فقد فسروا قوله تعالى(ألقى الشيطان في أمنيته) بأن الأمنية في القلب لا في الخارج وأن الشيطان تسلط على النبي صلى الله عليه وآله حتى في تبليغ الرسالة !!
وكذلك قولهم إن فرار الشيطان محصور فيما إذا سلك عمر فجاً بأمر بمعروف أو نهي عن منكر ! فماذا أبقوا من سلوك عمر لم تشمله العصمة ، بل ماذا أبقوا للنبوة من الأمور المهمة التي يتميز بها النبي صلى الله عليه وآله ؟!

إنها جميعاً محاولات للتهدئة والتغطية ، حتى لايصرخ المسلم في وجههم لقد صادرتم النبوة ورفعتم درجة عمر على درجة النبي صلى الله عليه وآله !!
إنهم مع الأسف مصرون ، وبعضهم عن علم وبعضهم عن بلادة ، على التنقيص من مقام النبي صلى الله عليه وآله ورفع مقام عمر وأبي بكر !
ولم يكتفوا بمقولة إن الشيطان يهرب من عمر ويخر لوجهه إذا لقيه ! بل وضعوا في مقابل قوله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وآله : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، أن (الحق) أي الله تعالى ينطق على لسان عمر ، (قال في فتح الباري:9/397: ولقد كان الحق ينطق على لسان عمر) ! ثم خففوها الى قولهم إن الله جعل الحق على لسانه !
كما وضعوا في مقابل تحديث الملائكة للنبي وآله صلى الله عليه وآله أن الملائكة تحدث عمر كما تقدم من الغزالي ، وكما في شرح ابن حجر للبخاري:7/41 !
بل افتروا على النبي صلى الله عليه وآله أنه كان يخطئ وكان عمر يصحح له أخطاءه ويسدده ، وأنه ما اختلف مع النبي صلى الله عليه وآله في أمر إلا وافقه الله تعالى وأنزل الوحي طبق رأي عمر !!
الى آخر إفراطهم وغلوهم في عمر، ولو استلزم الطعن في النبي صلى الله عليه وآله ! وهي مأساة حقيقية للنبوة والإسلام صنعتها قريش ، لايتسع المجال للإفاضة فيها .

*** النبي صلى الله عليه وآله أضعف أمام الشيطان من عمر !

أما النبي المصطفى المظلوم صلى الله عليه وآله ، فقالو إن شيطانه قوي جداً ! لايهرب منه إذا رآه ، ولا يخاف منه ، بل يرافقه دائماً ويأتيه بصورة جبرئيل ويؤثر عليه ، وقد رأيت فريتهم عليه صلى الله عليه وآله بأن الشيطان تسلط عليه حتى كفر وغير نصَّ القرآن المنزل عليه ، ومدح أصنام قريش بأنها الغرانيق العلى ، وسجد لها !
قال السيد جعفر مرتضى في الصحيح من السيرة:2/305:
(ومن الطعن في النبوة أيضاً....قولهم: إنه قد كان للنبي(ص) عدو من شياطين الجن يسمى الأبيض ، كان يأتيه في صورة جبرئيل ، ولعله هو الشيطان الذي أعانه الله عليه فأسلم كما يقولون. ( السيرة الحلبية:1/253 ، وراجع: إحياء علوم الدين:3/171 وفي هامشه عن مسلم ، والغدير:11/91 عنه ، والمواهب اللدنية:1/202 ، ومشكل الآثار:1/30 ، وراجع حياة الصحابة:2/ 712 عن مسلم وعن المشكاة ص280 وراجع: المحجة البيضاء:5 /302 / 303 ).
وشيطانه هذا الذي أسلم كان يجري منه مجرى الدم . (مشكل الأثار:1/30)
وكان يدعو الله بأن يخسأ شيطانه ، فلما أسلم ذلك الشيطان ترك ذلك !
ورووا أنه عرض للنبي صلى الله عليه وآله في صلاته قال: فأخذتُ بحلقه فخنقته فإني لأجد بَرْدَ لسانه على ظهر كفي ! (مسند أبي يعلى:1/506 و360 ومسند أبي عوانة:2/143 والسنن الكبرى:2/264 ومسند أحمد:2/298 وأخرجه البخاري في مواضع من صحيحه ، وثمة مصادر كثيرة أخرى وراجع الغدير:8/95 ).
ويروون أيضاً أنه صلى الله عليه وآله قد صلى بهم الفجر فجعل يهوي بيديه قدامه ، وهو في الصلاة ، وذلك لأن الشيطان كان يلقي عليه النار ، ليفتنه عن الصلاة !
( المصنف:2/24 ، وراجع: البخاري ط سنة 1309 :1/137 ، و:2/143 ).
ونقول: ونحن لا نشك في أن هذا كله من وضع أعداء الدين ، بهدف فسح المجال أمام التشكيك في النبوة وفي الدين الحق....
وقد أخذه بعض المسلمين لربما بسلامة نية ، وحسن طوية ، وبلا تدبر أو تأمل ، سامحهم الله ، وعفا عنهم . والغريب في الأمر أننا نجدهم في مقابل ذلك يروون عنه صلى الله عليه وآله قوله لعمر: والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك....!). انتهى.

أقول: نلاحظ أن علماءهم تحيروا وتخبطوا في توجيه هذا الحديث الصريح بتفضيل عمر على النبي صلى الله عليه وآله ! قال الصالحي الشامي في(سبل الهدى والرشاد):1/507:
(المحفوظ: اسم مفعول من الحفظ ، وسمي به لأنه محفوظ من الشيطان . روى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى صلاة فقال: إن الشيطان عرض لي فشد علي ليقطع الصلاة علي فأمكنني الله منه. وفيه دليل على حفظه منه .
فإن قيل: لمَ سُلِّطَ عليه الشيطان أولاً، وهلا كان إذا سلك طريقاً هربَ الشيطان منه كما وقع لعمر بن الخطاب ، فقد روى الشيخان عن سعد بن أبي وقاص أن النبي قال لعمر: مالقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلاسلك فجاً غيره .
الجواب: أنه لما كان رسول الله(ص)معصوماً من الشيطان ومكره ، ومحفوظاً من كيده وغدره ، آمناً من وسواسه وشره ، كان اجتماعه به وهربه منه سيان في حقه(ص) . ولما لم يبلغ عمر هذه الرتبة العليه والمنزلة السنية ، كان هرب الشيطان منه أولى في حقه ، وأيقن لزيادة حفظه ، وأمكن لدفع شره !
على أنه يجوز أن يحمل الشيطان الذي كان يهرب من عمر غير قرينه ، أما قرينه فكان لايهرب منه ، بل لايفارقه لأنه وكل به ) . انتهى.

وقد وصفنا كلامه بالتخبط لأن النبي صلى الله عليه وآله عندهم غير محفوظ من الشيطان ، ويكفي أن تقرأ تفسيرهم لقوله تعالى: (ألقى الشيطان في أمنيته) وإصرارهم على أن الأمنية هي قلب النبي صلى الله عليه وآله وليست ما تحقق في الخارج!

وثانياً ، لأنه كغيره من علمائهم نفى الحكمة عن الله تعالى ، وعَصَمَ عمر بشكل أفضل ، وخصَّه بكرامة أشمل ، فجعل الشيطان يهرب منه دون النبي صلى الله عليه وآله !

وثالثاً ، لعل الصالحي رأى أنه لم يستطع أن يجعل مقام النبي صلى الله عليه وآله أعلى قليلاً من مقام عمر أو مساوياً له ، فطرح احتمال أن يكون الشيطان الذي يهرب من عمر غير الشيطان العام الذي هو القرين !
وهذا لعب بالألفاظ وطرح لاحتمالات معلقة ، يستعمله علماء السلطة القرشية عندما يتورطون ، فإن لفظ الشيطان المستعمل في الهروب من عمر هو نفس اللفظ المستعمل في أنه تسلط على النبي صلى الله عليه وآله ! والمتبادر منهما واحد ، ولا قرينة على أن الشيطان الذي يهرب من عمر في حديثهم المزعوم شيطان فرعي لا أصلي ، وأن الأصلي لايهرب منه !!
فلا طريق لهم إلا أن يردوا حديثهم المزعوم في فرار الشيطان من عمر ، وهذا مستحيل عندهم لأنه في عمر ، ولأنه رواه الشيخان ! فيجب تصديقه ! ويجب على الأمة أن تتحمل مناقب عمر العظيمة حتى لو كان فيها تفضيله على الأنبياء! ولك الله يارسول الله ! لقد بخلوا عليك حتى في مساواتك بعمر!