تلاميذ خاصون للإمامين الباقر والصادق عليهما السلام - جابر الجعفي

18 أبريل 2010
48
0
0
7- أصحاب وتلاميذ خاصون للإمامين الباقر والصادق


عليهما السلام


أ- جابر بن يزيد الجعفي رحمه الله

الأصحاب الخاصون ظاهرةٌ عامةٌ عند الأنبياء والأوصياء عليهم السلام ، وقد ذكرنا لها نماذج من أصحاب نبينا صلى الله عليه وآله أبا ذر ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، في المجلد الثاني من هذا الكتاب . ونذكر فيما يلي بعض أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام ، يتميز الواحد منهم بشخصيته ، أو برنامجه ، أو ظروفه ومهمته .
من هؤلاء جابر بن يزيد الجعفي رحمه الله ، قالوا في ترجمته: ( أبو محمد الجعفي عربي قديم . نسبه: ابن الحرث بن عبد يغوث بن كعب بن الحرث بن معاوية بن وائل بن مرار بن جعفي ، لقي أبا جعفر وأبا عبد الله عليهما السلام ). (النجاشي/128).

درس عند الإمام الباقر عليه السلام 18سنة ،
وكان حاجبه الخاص

قال جابر رحمه الله :(دخلت على أبي جعفر عليه السلام وأنا شاب فقال: من أنت؟ قلت: من أهل الكوفة ، قال: ممن؟ قلت: من جعف ، قال: ما أقدمك إلى المدينة ؟ قلت: طلب العلم ، قال: ممن؟ قلت منك ، قال فإذا سألك أحد من أين أنت ، فقل من أهل المدينة . قال: قلت أسألك قبل كل شئ عن هذا ، أيحل لي أن أكذب ؟ قال: ليس هذا بكذب من كان في مدينة فهو من أهلها حتى يخرج ). (معجم السيد الخوئي:4/336). وكان جابر عليه السلام بواباً عند الإمام الصادق عليه السلام . (الدر النظيم/603).
وفي أمالي الطوسي/296:(خدمت سيدنا الإمام أبا جعفر محمد بن علي عليهم السلام ثماني عشرة سنة ، فلما أردت الخروج ودعته وقلت: أفدني . فقال: بعد ثماني عشرة سنة يا جابر ! قلت نعم إنكم بحر لا ينزف ولا يبلغ قعره . فقال: يا جابر ، بلغ شيعتي عني السلام وأعلمهم أنه لا قرابة بيننا وبين الله عز وجل ولا يتقرب إليه إلا بالطاعة له . يا جابر ، من أطاع الله وأحبنا فهو ولينا ، ومن عصى الله لم ينفعه حبنا . يا جابر ، من هذا الذي يسأل الله فلم يعطه ، أو توكل عليه فلم يكفه ، أو وثق به فلم ينجه ! يا جابر ، أنزل الدنيا منك كمنزل نزلته تريد التحويل عنه ، وهل الدنيا إلا دابة ركبتها في منامك فاستيقظت وأنت على فراشك غير راكب ولا آخذ بعنانها ، أو كثوب لبسته أو كجارية وطئتها . يا جابر ، الدنيا عند ذوي الألباب كفئ الظلال ، لا إله إلا الله إعزاز لأهل دعوته ، الصلاة تثبيت للاخلاص وتنزيه عن الكبر ، والزكاة تزيد في الرزق ، والصيام والحج تسكين القلوب ، القصاص والحدود حقن الدماء ، وحبنا أهل البيت نظام الدين ، وجعلنا الله وإياكم من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون ).



كان مؤتمناً على أسرار الأئمة عليهم السلام ،
بمنزلة سلمان الفارسي رحمه الله

قال ذريح المحاربي رحمه الله : (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن جابر الجعفي وما روى؟ فلم يجبني ، فسألته الثالثة فقال لي: يا ذريح دع ذكر جابر ، فإن السفلة إذا سمعوا بأحاديثه شنَّعوا... قال رحمه الله حدثني أبو جعفر بسبعين ألف حديث.. الى آخر ما تقدم في أوائل الفصل الثالث من رجال الطوسي:2/438 .
وفي الكافي:8/157: (عن جابر بن يزيد قال: حدثني محمد بن علي سبعين حديثاً لم أحدث بها أحداً قط ولا أحدث بها أحداً أبداً ، فلما مضى محمد بن علي ثقلت على عنقي وضاق بها صدري ، فأتيت أبا عبد الله فقلت: جعلت فداك إن أباك حدثني سبعين حديثاً لم يخرج مني شيئاً منها ولا يخرج شئ منها إلى أحد ، وأمرني بسترها وقد ثقلت على عنقي وضاق بها صدري فما تأمرني؟ فقال: يا جابر إذا ضاق بك من ذلك شئ فأخرج إلى الجبانة واحتفر حفيرة ثم دلِّ رأسك فيها وقل: حدثني محمد بن علي بكذا وكذا ثم طُمَّهُ فإن الأرض تستر عليك ! قال: جابر ففعلت ذلك فخف عني ما كنت أجده).

وروى الصدوق في الإختصاص/216 ، عن المفضل بن عمر أنه سأل الإمام الصادق عليه السلام :
(يا ابن رسول الله فما منزلة جابر بن يزيد منكم؟ قال: منزلة سلمان من رسول الله صلى الله عليه وآله قال: فما منزلة داود بن كثير الرقي منكم؟ قال: منزلة المقداد من رسول الله صلى الله عليه وآله ).
أقول: جاء في حديث رجال الطوسي رحمه الله الباقر عدد سبعين ألف حديث ، وفي الكافي سبعين حديثاً ، وقد يكون تصحيفاً ، وقد تكون هذه السبعين غيرها .



كان صاحب كرامات ومعجزات
فقد روت المصادر له عدة كرامات ومعجزات منها: (جاء قوم إلى جابر الجعفي فسألوه أن يعينهم في بناء مسجدهم فقال: ما كنت بالذي أعين في بناء شئ ويقع منه رجل مؤمن فيموت ، فخرجوا من عنده وهم يبخلونه ويكذبونه ، فلما كان من الغد أتموا الدراهم ووضعوا أيديهم في البناء ، فلما كان عند العصر ، زلت قدم البناء فوقع فمات !
العلاء بن شريك برجل من جعفى ، قال: خرجت مع جابر لما طلبه هشام حتى انتهى إلى السواد قال: فبينا نحن قعود وراع قريب منا ، إذ لعبت نعجة من شاته إلى حمل فضحك جابر ، قلت له: ما يضحكك يا أبا محمد؟ قال: إن هذه النعجة دعت حملها ، فلم يجئ . فقالت له: تنح عن ذلك الموضع فإن الذئب عام أول أخذ أخاك منه . فقلت: لأعلمن حقيقة هذا أو كذبه ، فجئت إلى الراعي فقلت: يا راعي تبيعني هذا الحمل . قال: فقال: لا. فقلت ولمَ؟ قال: لان أمه أفره شاة في الغنم وأغزرها درة ، وكان الذئب أخذ حملاً لها عند عام الأول من ذلك الموضع فما رجع لبنها ، حتى وضعت هذا: فدرَّت . فقلت: صدق .
ثم أقبلت ، فلما صرت على جسر الكوفة نظر إلى رجل معه خاتم ياقوت فقال له يا فلان خاتمك هذا البراق أرنيه . قال: فخلعه فأعطاه ، فلما صار في يده رمى به في الفرات ! قال الآخر: ما صنعت ؟ قال: تحب أن تأخذه ؟ قال: نعم فقال بيده إلى الماء فأقبل الماء يعلو بعضه على بعض حتى إذا قرب تناوله وأخذه !...
عن عروة بن موسى قال: كنت جالساً مع أبي مريم الحناط وجابر عنده جالس ، فقام أبو مريم فجاء بدورق من ماء بئر مبارك بن عكرمة فقال له جابر: ويحك يا أبا مريم ، كأني بك قد استغنيت عن هذه البئر واغترفت من هاهنا من ماء الفرات... يجري فيه ماء الفرات فتخرج المرأة الضعيفة والصبي ، فيغترف منه ، ويجعل له أبواب في بني رواس وفي بني موهبة وعند بئر بني كندة ، وفى بني فزارة حتى تتغامس فيه الصبيان ، قال علي: إنه قد كان ذلك ، وإن الذي حدث على عروة بعلانية إنه قد سمع بهذا الحديث قبل أن يكون).(معجم السيد الخوئي:4/344).


ألَّفَ كتباً رواها العلماء ، وألف بعضهم كتاباً في أخباره

في معجم السيد الخوئي:4/336: ( له كتب ، منها التفسير ، أخبرناه أحمد بن محمد... وله كتاب النوادر... وله كتاب الفضائل...وكتاب الجمل ، وكتاب صفين ، وكتاب النهروان ، وكتاب مقتل أمير المؤمنين عليه السلام وكتاب مقتل الحسين عليه السلام روى هذه الكتب: الحسين بن الحصين العمِّي.. وقال القتيبي: هو من الأزد . وعده المفيد في رسالته العددية ممن لا مطعن فيهم ولا طريق لذم واحد منهم . وعده ابن شهرآشوب من خواص أصحاب الصادق عليه السلام .. وقال العلامة في الخلاصة.. إن الصادق عليه السلام ترحم عليه وقال: إنه كان يصدق علينا.).
ورجال النجاشي/129، وقال في/85 في ترجمة أحمد بن محمد الجوهري/85: ( له كتب ، منها: كتاب مقتضب الأثر في عدد الأئمة الاثني عشر.. ، كتاب أخبار جابر الجعفي).


وثَّقَهُ كبار علمائنا وعظموه

قال السيد الخوئي قدس سره في معجمه:4/344: (الذي ينبغي أن يقال: أن الرجل لابد من عده من الثقات الاجلاء لشهادة علي بن إبراهيم والشيخ المفيد في رسالته العددية وشهادة ابن الغضائري على ما حكاه العلامة ، ولقول الصادق عليه السلام في صحيحة زياد إنه كان يصدق علينا . ولا يعارض ذلك قول النجاشي إنه كان مختلطاً... فإن فساد العقل لو سُلِّم في جابر ولم يكن تجنناً كما صرح به فيما رواه الكليني في الكافي ، لا ينافي الوثاقة ولزوم الاخذ برواياته حين اعتداله وسلامته... إذن لا تكون الموثقة معارضة للصحيحة الدالة على صدقه في الأحاديث والمؤيدة بما تقدم من الروايات الدالة على جلالته ومدحه وأنه كان عنده من أسرار أهل البيت عليهم السلام .. ثم إن النجاشي ذكر أنه قل ما يورد عنه شئ في الحلال والحرام ، وهذا منه غريب ، فإن الروايات عنه في الكتب الأربعة كثيرة رواها المشايخ..) . انتهى.
أقول: يتضح للمنصف أن سبب تضعيف بعض علمائنا لجابر الجعفي رحمه الله موجة الإنتقاد لأحاديثه الثقيلة من بعض الشيعة في حياته رحمه الله حتى سألوا عنها الإمام الصادق عليه السلام أكثر من مرة ، ففي الإرشاد/204: (اختلف أصحابنا في أحاديث جابر الجعفي) .
ومعناه وجود من يستنكر بعض أحاديث جابر ، متزامناً مع موجة رواة الخلافة ضده أو قبلها ! وقد كان موقف الإمام الصادق عليه السلام صريحاً قوياً في مدح جابر وتصديق أحاديثه ، فقال كما صحيحة زياد: (رحم الله جابر الجعفي كان يصدق علينا ). (البصائر/258).
وبعد ثبوت شهادة المعصوم عليه السلام لانحتاج الى شهادة غيره لأنها لاتزيد عن إضاءة السراج اما ضوء الشمس !
لكن يلفتك وصف الإمام الصادق عليه السلام للمستنكرين لأحاديث جابر بأنهم (سفلة) فقد قال للمفضل عندما سأله عن تفسير جابر: (لا تحدث به السفلة فيذيعونه).(رجال الطوسي:2/436) .
وقال لذريح: (دع ذكر جابر فإن السفلة إذا سمعوا بأحاديثه شنَّعوا ، أو أذاعوا ).(رجال الطوسي:2/439) .وتسميتهم بالسفلة ليس بسبب نشرهم أحاديث جابر لغير أهلها فقط ، بل لسفالة مستواهم العقلي أو الروحي عن إدراك معجزات الأئمة عليهم السلام ومقاماتهم واستيعابها ! وهذا الوصف يجعلنا نضع المتأثرين بالماديات أكثر من الطبيعي ، مع المتاثرين بموقف رواة الحكومة القرشية من أحاديث جابر رحمه الله ! وكم كنت أتأسف لبعض أستاتذتنا عندما كان يضعَّف جابر رحمه الله ولا يحب أحاديثه ، ويقول إنها يغلب عليها الغيبيات ! مع أن هذا الكلام يمكن قوله للقرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله !

تحيَّرَ علماء الحكومات فيه بين مادح وذام
قال مسلم في صحيحه:1/15: ( الجراح بن مليح يقول: سمعت جابراً يقول عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر عن النبي(ص) كلها ! سمعت جابراً يقول: إن عندي لخمسين ألف حديث ما حدثت منها بشئ ، قال ثم حدث يوماً بحديث فقال: هذا من الخمسين ألفاً.. حدثنا سفيان قال: سمعت رجلاً سأل جابراً عن قوله عز وجل: فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ، فقال جابر: لم يجئ تأويل هذه . قال سفيان: وكذب . فقلنا لسفيان: وما أراد بهذا؟ فقال: إن الرافضة تقول إن علياً في السحاب ، فلا نخرج مع من خرج من ولده حتى ينادى مناد من السماء يريد علياً أنه ينادى أخرجوا مع فلان . يقول جابر: فذا تأويل هذه الآية وكذب ، كانت في إخوة يوسف . حدثنا سفيان قال: سمعت جابراً يحدث بنحو من ثلاثين ألف حديث ما أستحل أن أذكر منها شيئاً وأن لي كذا وكذا) .

وقال ابن حجر تهذيب التهذيب:2/41: (أبو داود والترمذي وابن ماجة) جابر بن يزيد بن الحارث بن عبد يغوث الجعفي ، أبو عبد الله ، ويقال أبو يزيد الكوفي ، روى عن أبي الطفيل وأبي الضحى وعكرمة وعطاء وطاوس وخيثمة والمغيرة بن شبيل وجماعة ، وعنه شعبة والثوري وإسرائيل والحسن بن حي وشريك ومسعر ومعمر وأبو عوانة وغيرهم . قال أبو نعيم: عن الثوري: إذا قال جابر حدثنا وأخبرنا فذاك . وقال ابن مهدي عن سفيان: ما رأيت أورع في الحديث منه . وقال بن علية: عن شعبة: جابر صدوق في الحديث . وقال يحيى بن أبي بكير عن شعبة: كان جابر إذا قال حدثنا وسمعت فهو من أوثق الناس . وقال بن أبي بكير أيضاً عن زهير بن معاوية: كان إذا قال سمعت أو سألت فهو من أصدق الناس . وقال وكيع: مهما شككتم في شئ فلا تشكوا في أن جابراً ثقة . حدثنا عنه مسعر وسفيان وشعبة وحسن بن صالح . وقال بن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول قال سفيان الثوري لشعبة: لئن تكلمت في جابر الجعفي لأتكلمن فيك ! وقال معلى بن منصور :وقال لي أبو عوانة كان سفيان وشعبة ينهياني عن جابر الجعفي وكنت أدخل عليه فأقول: من كان عندك؟ فيقول شعبة وسفيان ! وقال وكيع: قيل لشعبة: لما طرحت فلاناً وفلاناً ورويت عن جابر؟ قال: لأنه جاء بأحاديث لم نصبر عنها ! وقال الدوري عن بن معين: لم يدع جابراً ممن رآه إلا زائدة ، وكان جابر كذاباً . وقال في موضع آخر: لا يكتب حديثه ولا كرامة . وقال بيان بن عمرو عن يحيى بن سعيد: تركنا حديث جابر قبل أن يقدم علينا الثوري .
وقال يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن أبي خالد: وقال الشعبي لجابر: يا جابر لا تموت حتى تكذب على رسول الله(ص) . قال إسماعيل: فما مضت الأيام والليالي حتى اتهم بالكذب! وقال يحيى بن يعلى: قيل لزائدة ثلاثة لم لا تروي عنهم: أبن أبي ليلى وجابر الجعفي والكلبي؟ قال: أما الجعفي فكان والله كذاباً يؤمن بالرجعة ، وقال أبو يحيى الحماني عن أبي حنيفة: ما لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي ، ما أتيته بشئ من رأيي إلا جاءني فيه بأثر ، وزعم أن عنده ثلاثين ألف حديث لم يظهرها ! وقال عمرو بن علي: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه ، كان عبد الرحمن يحدثنا عنه قبل ذلك ثم تركه . وقال أحمد بن حنبل: تركه يحيى وعبد الرحمن . وقال محمد بن بشار عن ابن مهدي: ألا تعجبون من سفيان بن عيينة ، لقد تركت لجابر الجعفي لما حكي عنه أكثر من ألف حديث ، ثم هو يحدث عنه ! وقال النسائي: متروك الحديث . وقال في موضع آخر: ليس بثقة ولا يكتب حديثه وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث . وقال بن عدي: له حديث صالح . وشعبة أقل رواية عنه من الثوري . وقد احتمله الناس ، وعامة ما قذفوه به أنه كان يؤمن بالرجعة ، وهو مع هذا إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق . روى له أبو داود في السهو في الصلاة حديثاً واحداً من حديث المغيرة بن شعبة ، وقال عقبة: ليس في كتابي عن جابر الجعفي غيره . وقال أبو موسى محمد بن المثنى: مات سنة128 . قلت: وذكر مطين عن مفضل بن صالح: مات سنة7 . وقال بن أبي خيثمة عن يحيى بن معين: مات سنة132 . وقال سلام بن أبي مطيع: قال لي جابر الجعفي: عندي خمسون ألف باب من العلم ما حدثت به أحداً . فأتيت أيوب فذكرت هذا له فقال: أما الآن فهو كذاب . وقال جرير بن عبد الحميد عن ثعلبة: أردت جابر الجعفي فقال لي ليث بن أبي سليم: لا تأته فهو كذاب . قال جرير: لا أستحل أن أروي عنه كان يؤمن بالرجعة . وقال أبو داود: ليس عندي بالقوي في حديثه . وقال أبو الأحوص: كنت إذا مررت بجابر الجعفي سألت ربي العافية . وقال الشافعي: سمعت سفيان بن عيينة يقول سمعت من جابر الجعفي كلاماً فبادرت خفت أن يقع علينا السقف ! قال سفيان: كان يؤمن بالرجعة . وقال إبراهيم الجوزجاني: كذاب . وقال إسحاق بن موسى: سمعت أبا جميلة يقول: قلت لجابر الجعفي كيف تسلم على المهدي؟ قال: إن قلت لك كفرت . وقال الحميدي عن سفيان: سمعت رجلاً سأل جابر الجعفي عن قوله: فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي.. قال: لم يجئ تأويلها بعد . قال سفيان: كذب . قلت ما أراد بهذا قال الرافضة تقول أن علياً في السماء لا يخرج من ولده حتى ينادي من السماء أخرجوا مع فلان ، يقول جابر: هذا تأويل هذا . وقال الحميدي أيضاً: سمعت رجلاً يسأل سفيان أرأيت يا أبا محمد الذين عابوا على جابر الجعفي قوله حدثني وصي الأوصياء ؟ فقال سفيان: هذا أهونه . وقال شبابة عن ورقاء عن جابر: دخلت على أبي جعفر الباقر فسقاني في قعب حسائي حفظت به أربعين ألف حديث ! وقال يحيى بن يعلى: سمعت زائدة يقول: جابر الجعفي رافضي يشتم أصحاب النبي(ص) .
وقال ابن سعد: كان يدلس وكان ضعيفاً جداً في رأيه وروايته . وقال العقيلي في الضعفاء: كذبه سعيد بن جبير . وقال العجلي: كان ضعيفاً يغلو في التشيع ، وكان يدلس . وقال الساجي في الضعفاء: كذبه بن عيينة . وقال الميموني: قلت لأحمد بن خداش: أكان جابر يكذب؟ قال إي والله ، وذاك في حديثه بين . وقال ابن قتيبة في كتابه مشكل الحديث: كان جابر يؤمن بالرجعة ، وكان صاحب نيرنجات وشبه . وقال عثمان بن أبي شيبة: حدثني أبي عن جدي قال كنت آتيه في وقت ليس فيه فاكهة ولا قثاء ولا خيار فيذهب إلى بسيتين له في داره فيجئ بقثاء وخيار فيقول كل فوالله ما زرعته ! وقال أبو العرب الصقلي في الضعفاء: سئل شريك عن جابر فقال: ما له العدل الرضي ومد بها صوته ! وقال أبو العرب: خالف شريك الناس في جابر . وقال الشعبي لجابر ولداود بن يزيد: لو كان لي عليكما سلطان ثم لم أجد إلا الإبر لشككتكما بها ! وقال أبو بدر: كان جابر يهيج به في السنة مرة فيهذي ويخلط في الكلام فلعل ما حكي عنه كان في ذلك الوقت ! وخرج أبو عبيد في فضائل القرآن: حديث الأشجعي عن مسعر ثنا جابر قبل أن يقع فيما وقع فيه . قال الأشجعي: ما كان من تغير عقله . وقال أبو أحمد الحاكم: يؤمن بالرجعة ، اتهم بالكذب وذكره يعقوب بن سفيان في باب من يرغب الرواية عنهم . وقال بن حبان: كان سبائيا من أصحاب عبد الله بن سبأ وكان يقول أن علياً يرجع إلى الدنيا ، فإن احتج محتج بأن شعبة وغيره والثوري رويا عنه ، قلنا: الثوري ليس من مذهبه ترك الرواية عن الضعفاء ، وأما شعبة وغيره فرأوا عنده أشياء لم يصبروا عنها وكتبوها ليعرفوها ، فربما ذكر أحدهم عنه الشئ بعد الشئ على جهة التعجب !
وأخبرني بن فارس قال: ثنا محمد بن رافع قال: رأيت أحمد بن حنبل في مجلس يزيد بن هارون معه كتاب زهير عن جابر الجعفي ، فقلت له: يا أبا عبد الله ، تنهونا عن جابر وتكتبونه ؟! قال: لنعرفه . وقال الميموني: سمعت أحمد يقول: كان بن مهدي والقطان لا يحدثان عن جابر بشئ ، وكان أهل ذلك . وقال الأثرم: قلت لأحمد كيف هو عندك ؟ قال: ليس له حكم يضطر إليه ويقول سألت سألت . وقال أحمد بن الحكم لأحمد: كتبت أنا وأنت عن علي بن بحر عن محمد بن الحسن الواسطي عن مسعر؟ قال: كنت عند جابر فجاءه رسول أبي حنيفة: ما تقول في كذا وكذا؟ قال: سمعت القاسم بن محمد وفلاناً حتى عد سبعة ، فلما مضى الرسول قال جابر: إن كانوا قالوا ! (أي اعترف على نفسه بالكذب) !
قيل لأحمد: ما تقول فيه بعد هذا؟ فقال هذا شديد واستعجمه ، نقل ذلك كله العقيلي ، ثم نقل عن يحيى بن المغيرة عن جرير قال: مضيت إلى جابر فقال لي هُدبة رجل من بني أسد: لا تأته ، فإني سمعته يقول الحارث بن سريج في كتاب الله ، فقال له رجل من قومه: لا والله ما في كتاب الله شريح يعني الحارث الذي كان خرج في آخر دولة بني أمية وكان معه جهم بن صفوان) . انتهى.


ملاحظات على موقفهم من جابر
1- قال في أعيان الشيعة:4/54: ( الرجل ثقة صدوق ورع ، كما اعترف به شعبة وسفيان الثوري ووكيع و زهير بن معاوية وشريك وغيرهم فيما مر: فقال شعبة: صدوق من أوثق الناس ، ورد على الذين يقعون فيه بأنه لم يحدث عن أحد لم يلقه وسماهم مجانين ، وقال سفيان: ما رأيت أورع منه ، ودافع عنه بشدة فقال لشعبة وتهدده: لئن تكلمت فيه لأتكلمن فيك ، وبالغ وكيع في توثيقه فقال: ما شككتم في شئ فلا تشكوا أنه ثقة ، وعده زهير بن معاوية من أصدق الناس . وقال شريك: ما له ! متعجباً من السؤال عنه ، ووصفه بالعدل الرضا . وأن القدح فيه ليس إلا لتشيعه ونسبة القول بالرجعة اليه كما صرح به ابن عدي بقوله: عامة ما قذفوه به أنه كان يؤمن بالرجعة ، وكذلك جرير وزائدة وأبو أحمد الحاكم فيما مر عنهم . ولروايته من فضائل أهل البيت عليهم السلام ما لا تحتمله عقولهم ، ولذلك تركه ابن عيينة لما سمع منه حديثاً في فضلهم الباهر ، واستنكروا تسميته الإمام الباقر وصي الأوصياء). ثم بيَّنَ أن تهمتهم له بالقول بالرجعة ، لأنه يقول بظهور المهدي عليه السلام بعد غيبته ، وقال: (هذه هي الرجعة التي يطبل القوم بها ويزمرون ) !

2- ما أوردناه من تهذيب ابن حجر الموسع ، ليس كل ما قالوه في جابر مدحاً أو ذماً ، وقد انتقى ابن حجر وبتر ، ولم يصرح برأيه فيه بل أشار الى تضعيفه بقوله: (قلنا: الثوري ليس من مذهبه ترك الرواية عن الضعفاء ، وأما شعبة وغيره فرأوا عنده أشياء لم يصبروا عنها وكتبوها ليعرفوها ، فربما ذكر أحدهم عنه الشئ بعد الشئ على جهة التعجب ) ! وستعرف خلاف ما ذكره .


3- تضمن مديحهم غير العادي لجابر رحمه الله رد كل الطعون عليه !
ولو كان راوياً غير شيعي لاكتفوا بمدح بعض كبار أئمتهم له ووثقوه واحتجوا به ، وطالبوا الطاعن بحجة على طعنه فيه ! ولو تتبعت خلفيات طعونهم لما وجدت لهام حجة ! فقد صرح أكثرهم بأنها ترجع الى تشيعه ، ونص أبو حنيفة بقوله: (ما لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي ، ما أتيته بشئ من رأيي إلا جاءني فيه بأثر ، وزعم أن عنده ثلاثين ألف حديث لم يظهرها) ! فسبب تكذيبه له معارضته اجتهاداته بالأحاديث! وقوله إن عنده ثلاثين ألف حديث عن النبي صلى الله عليه وآله ! وعلى كلام أبي حنيفة يجب تكذيب كل من عارض اجتهاداته بالحديث كالشافعي وغيره ! وتكذيب من ادعى أن عنده مئات ألوف الأحاديث كابن حنبل وبخاري ومسلم!


4- الذين طعنوا في جابر الجعفي رحمه الله كذَّبوا أنفسهم والحمد لله ،

وأولهم أبو حنيفة وأصحابه ! قال في المحلى:10/378: (جابر الجعفي كذاب ، وأول من شهد عليه بالكذب أبو حنيفة، ثم لم يبال بذلك أصحابه فاحتجوا بروايته حيث اشتهوا ) ! كما احتجوا بحديثه عن النبي صلى الله عليه وآله : (كل شئ خطأ إلا السيف ولكل خطأ أرش). حيث قال عنه في نيل الأوطار:7/166: (وهذا الحديث يدور على جابر الجعفي).



5- والقضية أضخم من احتياجهم لأحاديث جابر ،

أو أن بعضهم كان يعجب بها ولا يصبر عن كتابتها ! فقد شهد الترمذي بأن أحاديثه عمدة ثروة أئمتهم من محدثي الكوفة ! قال في سننه:1/133:
(سمعت الجارود يقول: سمعت وكيعاً يقول: لولا جابر الجعفي لكان أهل الكوفة بغير حديث ) ! ومعناه أنهم مع بغضهم لجابر بسبب تشيعه ، ازدحموا في بيته وكتبوها عنه ودلسوا فيها فنسبوها الى غيره ! قال أبو داود: ( رأيت زكريا بن أبي زائدة يزاحمنا عند جابر ، فقال لي سفيان: نحن شباب وهذا الشيخ ماله يزاحمنا؟!).
ولذلك كان شعبة يسمي من يطعن في جابر مجانين يقولون ما لايفعلون! فكلهم تتلمذوا عليه ! (قال لنا شعبة: لا تنظروا إلى هؤلاء المجانين الذين يقعون في جابر. هل جاءكم بأحد لم يلقه)؟!(ميزان الإعتدال:1/382 ، والجرح والتعديل للرازي:1/117) .

وقال ابن عدي في الكامل:2/117: (قال ابن إدريس: ذهب بي أبي الى جابر الجعفي فأجلسني قريباً منه ، فقال لأبي: هذا ابنك الذي علمته القرآن؟ قال نعم.. قال الشيخ: ولجابر حديث صالح ، وقد روى عنه الثوري الكثير ، وشعبة أقل رواية عنه من الثوري . وحدث عنه زهير وشريك وسفيان والحسن بن صالح وابن عيينة وأهل الكوفة وغيرهم ، وقد احتمله الناس ورووا عنه ، وعامة ما قذفوه أنه كان يؤمن بالرجعة ، وقد حدثه عنه الثوري مقدار خمسين حديثاً .
ولم يتخلف أحد في الرواية عنه ، ولم أر له أحاديث جاوزت المقدار في الإنكار ، وهو مع هذا كله أقرب الى الضعف منه الى الصدق) !


وبهذا تعرف تعصب الذهبي في الكاشف:1/288:

(من أكبر علماء الشيعة ، وثقه شعبة فشذ ، وتركه الحفاظ) . وقد كذب نفسه في المغني فقال:1/126: ( د. ت. ق. جابر بن يزيد الجعفي ، مشهور ، عالم ، قد وثقه شعبه والثوري وغيرهما).

وميع موضوعه ابن حبان على عادته وجعل روايتهم عنه(على جهة التعجب) فقط ! قال في المجروحين:1/209: (فإن احتج محتج بأن شعبة والثوري رويا عنه ، فإن الثوري ليس من مذهبه ترك الرواية عن الضعفاء بل كان يؤدي الحديث على ما سمع ، لأن يرغب الناس في كتابة الأخبار ويطلبوها في المدن والأمصار . وأما شعبة وغيره من شيوخنا فإنهم رأوا عنده أشاء لم يصبروا عنها وكتبوها ليعرفوها فربما ذكر أحدهم عنه الشئ بعد الشئ على جهة التعجب فتداوله الناس ).


6- المشكلة عند علماء السلطة الطاعنين في الجعفي رحمه الله :

عقيدته، ومروياته الثقيلة ! فقد قالوا إنه رافضي يشتم الصحابة ويؤمن بالرجعة ، أي بظهور المهدي عليه السلام بعد غيابه ، وقصدهم بشتم الصحابة مروياته الثقيلة في بعضهم .
وجوابه: أن أمثال جابر عندهم كثيرون ، وقد رووا عنهم واحتجوا بهم ! وعددهم أكثر من مئة راوٍ في صحيح بخاري ومسلم فقط ، لأن شرط الراوي أن يكون ثقة في نقله بقطع النظر عن عقيدته ، وقد قبلوا قول الطبيب غير المسلم إذا كان ثقة . فالمشكلة في الحقيقة ليس عقيدته بل أحاديثه الثقيلة عن النبي صلى الله عليه وآله في الوصية لعلي عليه السلام والعترة عليهم السلام وأن الله تعالى فرض طاعتهم على الأمة وفي أولها الصحابة ! وهذا ينسف شرعية الخلافة القرشية التي قامت على ادعاء الحزب القرشي أن النبي صلى الله عليه وآله لم يوص وأن بني هاشم يكفيهم النبوة ، ويجب أن تكون الخلافة من نصيب بقية القبائل !
ونلاحظ أن علماء السلطة عندما يواجهون راوياً محترماً يروي هذه الأحاديث ، يقولون هو جيد لكن الرواة عنه ضعاف حرفوا حديثه وكذبوا عليه ! وقد قالوا ذلك في جابر رحمه الله وصبوا غضبهم على تلميذه عمرو بن شمر الذي يروي عنه الأوزاعي فقالوا: ( سفيان بن سعيد: عمرو بن شمر ، هذا أكثر عن جابر ، وما رأيته عنده قط ) .(الجرح والتعديل للرازي:1/77).
أو يقولون أحاديثه منكرة وهو متروك ، أي منكرة عند الحكومات تركها علماؤها ! فالمنكر عندها منكر عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله ! والراوي المتروك عندهم متروك عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله ! ولذلك قالوا إنهم تركوا جابراً ولم يتركوه ! قال سفيان بن عيينة: (تركت جابراً الجعفي لما سمعت منه قال: دعا رسول الله (ص) علياً فعلمه مما تعلم ، ثم دعا على الحسن فعلمه مما تعلم ، ثم دعا الحسن الحسين فعلمه مما تعلم . ثم دعا ولده ، حتى بلغ جعفر بن محمد . قال سفيان: فتركته ذلك).(ميزان الذهبي:1/381) .
وكذب سفيان خوفاً من زملائه المجانين حسب تعبير شعبة ! قال عبد الرحمن بن مهدي: ( ألا تعجبون من سفيان بن عيينة يقول: لقد تركت جابراً الجعفي لقوله لما حكى عنه أكثر من ألف حديث ، ثم هو يحدث عنه) ! (تهذيب الكمال:4/469).

7- معنى قول ابن حجر في آخر ترجمة جابر:

(سمعته يقول: الحارث بن سريج في كتاب الله ، فقال له رجل من قومه: لا والله ما في كتاب الله سريح ، يعني الحارث الذي كان خرج في آخر دولة بني أمية): يدل على أن جابراً كان حياً عندما ثار الحارث بن سريج على نصر بن سيار حاكم خراسان ، وأنه رأى فيه بداية أحداث زواال دولة بني أمية تفسيراً لبعض آيات الشجرة الملعونة وحكمهم ألف شهر ، وقد قتل الحارث وقتل معه جهم بن صفوان والسختياني ، وكانت ثورته سنة128 ، كما في الطبري:6/6، وتاريخ خليفة/307، والذهبي:8/383 .
لكن الذي اعترض على جابر لم يفهم قول جابر فاعتبره كذاباً .
وفي الوافي:11/161: (وكانت قتلته في حدود الثلاثين والمئة). والمرجح أنهً رحمه الله عاش الى سنة132، كما قال ابن معين في تهذيب التهذيب أي بعد سقوط الأمويين ، بدليل أن الإمام الباقر عليه السلام أعطاه أحاديث لينشرها بعد سقوط بني أمية ، وهو إخبار بأنه سيبقى الى ذلك الوقت . وربما كان المعنى أن يعطيها لتنشر بعد سقوطهم .



اتسع تأثير جابر الجعفي فاتخذ الخليفة الأحول قراراً بقتله
روى في الكافي:1/396 ، عن النعمان بن بشير قال: (كنت مزاملاً لجابر بن يزيد الجعفي فلما أن كنا بالمدينة دخل على أبي جعفر عليه السلام فودعه وخرج من عنده وهو مسرور ، حتى وردنا الأُخَيْرجة أول منزل نعدل من فيد إلى المدينة ، يوم جمعة ، فصلينا الزوال فلما نهض بنا البعير إذا أنا برجل طوال آدم معه كتاب ، فناوله جابراً فتناوله فقبله ووضعه على عينيه ، وإذا هو: من محمد بن علي إلى جابر بن يزيد ، وعليه طين أسود رطب ! فقال له: متى عهدك بسيدي؟ فقال: الساعة . فقال له: قبل الصلاة أو بعد الصلاة؟ فقال: بعد الصلاة ! ففك الخاتم وأقبل يقرؤه ويقبض وجهه ، حتى أتى على آخره ثم أمسك الكتاب ، فما رأيته ضاحكاً ولا مسروراً حتى وافى الكوفة ! فلما وافينا الكوفة ليلاً بتُّ ليلتي فلما أصبحت أتيته إعظاماً له فوجدته قد خرج عليَّ وفي عنقه كعاب قد علقها وقد ركب قصبة ، وهو يقول: أجد منصور بن جمهور أميراً غير مأمور ، وأبياتاً من نحو هذا ، فنظر في وجهي ونظرت في وجهه ، فلم يقل لي شيئاً ولم أقل له ، وأقبلت أبكي لما رأيته واجتمع عليَّ وعليه الصبيان والناس ! وجاء حتى دخل الرحبة وأقبل يدور مع الصبيان والناس يقولون: جُنَّ جابر بن يزيد جُن . فوالله ما مضت الأيام حتى ورد كتاب هشام بن عبد الملك إلى واليه أن انظر رجلاً يقال له: جار بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه وابعث إليَّ برأسه ، فالتفت إلى جلسائه فقال لهم: من جابر بن يزيد الجعفي؟ قالوا: أصلحك الله كان رجلاً له علم وفضل وحديث ، وحج فجن ، وهو ذا في الرحبة مع الصبيان على القصب يلعب معهم ! قال: فأشرف عليه فإذا هو مع الصبيان يلعب على القصب ، فقال الحمد لله الذي عافاني من قتله . قال ولم تمض الأيام حتى دخل منصور بن جمهور الكوفة وصنع ما كان يقول جابر) . ورواه في الإختصاص/67 ، وفيه أن كتاب هشام الى والي الكوفة وصل بعد ثلاثة أيام، وأن الوالي كتب إلى هشام: (إنك كتبت إلي في أمر هذا الرجل الجعفي ، وإنه جُن ! فكتب إليه: دعه). وفيد: منتصف الطريق بين الكوفة ومكة ، بينها وبين تيماء ست ليال . والأخيْرجة: مكان قرب فيد . (معجم البلدان:4/282، و البحار:46/283) .

ونلاحظ في الحادثة
1- أنها كانت في خلافة هشام قبل شهادة الإمام الباقر عليه السلام سنة114، وفي رواية الكشي عن جابر: (ثم رجع إلى ما كان من حاله الأولى).(معجم السيد الخوئي:4/342).
بينما روى الطوسي في رجاله:2/437: (عن عبد الحميد بن أبي العلا قال: دخلت المسجد حين قتل الوليد فإذا الناس مجتمعون قال: فأتيتهم فإذا جابر الجعفي عليه عمامة خز حمراء وإذا هو يقول: حدثني وصي الأوصياء ووارث علم الأنبياء محمد بن علي عليه السلام قال: فقال الناس: جُنَّ جابر، جُن جابر).
والوليد بن يزيد المسمى بالفاسق قتله ابن عمه الوليد بن يزيد بن عبد الملك سنة126 ، ثم حكم هو وأخوه إبراهيم حوالي سنة ، واستخلف مروان الحمار آخر ملوكهم سنة127 ، وفي عهده سقطت دولتهم سنة132. ومعناه أن حياة جابر الجعفي رحمه الله كانت مهددة بعد موت هشام حتى آخر حكم الأمويين .
بل يدل ما جاء في رواية رجال الطوسي:2/444: (خرجت مع جابر لما طلبه هشام ، حتى انتهى إلى السواد ، قال: فبينا نحن قعود وراع قريب منا..). على أن هشاماً أرسل في القبض على جابر ففرَّ منه الى سواد الكوفة . وقد يكون ذلك قبل أمره لواليه أن يبعث اليه برأسه !

2- ولا يبعد أن يكون الوالي الذي أراد القبض عليه غير الذي أمره هشام بقتله لأنه لم يكن يعرفه فسأل عنه وحمد الله عندما قالوا له مجنون . وهذا يدل على أن جابراً رحمه الله كان يجيد إبعاد نفسه عن الوالي وشخصيات السلطة ، مع أنه محور يقصده كبار العلماء والمحدثين ، ويظهر أن الوشاية عليه من جواسيس هشام الذين كانوا في موسم الحج واكتشفوا تأثيره الكبير الذي يهدد ملك بني أمية !
3- يتضح من سيرة جابر رحمه الله أنه من حواريي الإمام الباقر عليه السلام وجنود الله الخاصين ، وقد أرسله الى الكوفة عاصمة التشيع بعد أن تربى على يده ثمانية عشرة سنة ، ليقوم بدور خاص يشمل الشيعة فقال له عند وداعه: ( بلغ شيعتي عني السلام ، وأعلمهم أنه لا قرابة بيننا وبين الله عز وجل ولا يتقرب إليه إلا بالطاعة له).( أمالي الطوسي/296).

كما يشمل دوره نشر الحق والأحاديث الصحيحة بحكم علاقاته الواسعة مع كبار علماء الدولة ورواتها الذين كانوا بحاجة الى التلمذ عليه والرواية عنه . وقد كان ذلك سبب إعجاب بعضهم به ، وحقد بعضهم عليه حتى وشوا به الى الخليفة وحذروه من خطر أحاديثه على بني أمية ، فأرسل الخليفة الى واليه على الكوفة أن يقتله ويرسل اليه رأسه !

4- الطريقة التي أوصل الإمام عليه السلام الخبر الى جابر فيها إعجاز ، وقد فهمها الكليني رحمه الله بأن الإمام عليه السلام استفاد من مؤمني الجن فقطع الرسول منهم مسيرة أسبوع في ساعة ، ولذا روى الحديث تحت عنوان: (أن الجن يأتونهم فيسألونهم عن معالم دينهم ويتوجهون في أمورهم) لكن قول الراوي: (إذا أنا برجل طوال آدم معه كتاب فناوله جابراً فتناوله فقبله ووضعه على عينيه) لايدل على أنه من الجن ، بل يدل على أن جابراً وثق بالخاتم وبحامل الكتاب ، فقد يكون من الجن أو من أولياء الله الذين يصحبون الإمام عليه السلام ويخدمونه .



أهم ميزات أحاديث جابر الجعفي رحمه الله

أهم ميزة لما وصلنا من أحاديث جابر ومروياته رحمه الله :

1- أنها قوية ولائية قوية ، صريحة في البراءة والولاية ، ومكانة أهل البيت صلوات الله عليهم ، ومقاماتهم العظيمة .

2- وأن عنصر الغيب فيها قوي.....

(من كتاب جواهر التاريخ ج5)


بـ _ علي بن يقطين وزير الخلفاء العباسيين

يظهر أن الحكم الشرعي للعمل مع الحاكم الجائر ، واحدٌ في شرائع جميع الأنبياء عليهم السلام ، فالأصل حرمته إلا ما كان فيه خدمة للمؤمنين ، كقبول يوسف عليه السلام لمنصب رئيس الوزراء عند فرعون (عزيز مصر): قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ . أو ما كان عن إكراه كقبول الإمام الرضا عليه السلام لمنصب ولاية العهد للمأمون ، فقد سأله أحد الخوارج: ( أخبرني عن دخولك لهذا الطاغية فيما دخلت له وهم عندك كفار ، وأنت ابن رسول الله ، فما حملك على هذا ؟ فأجابه: أرأيتك هؤلاء أكفر عندك أم عزيز مصر وأهل مملكته؟.. ويوسف بن يعقوب نبي ابن نبي ابن نبي ، فسأل العزيز وهو كافر فقال: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ . وكان يجلس مجلس الفراعنة . وأنا رجل من ولد رسول الله ، أجبرني على هذا الأمر وأكرهني عليه ). (وسائل الشيعة:12/150).
وقد بحث فقهاؤنا الموضوع في باب القضاءكما فيجواهر الكلام:21/407 ، واستدلوا بالكتاب والسنة وفي أحاديثها النهي والتحذير من العمل عند السلطان الجائر ، وفيها جواز ذلك ، بل استحبابه لأجل خدمة المؤمنين .
فقد أجاب الإمام الباقر عليه السلام من سأله عن العمل مع السلطان، فقال:( لا ، ولا مَدَّةُ قلم! إن أحدهم لا يصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينه مثله ).(الكافي:5/107).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: (العامل بالظلم والمعين له والراضي به ، شركاء فيه). (البحار:72/378). وطلب أحدهم من الإمام الصادق عليه السلام أن يأذن له بالعمل مع السلطان فقال له: (تناولُ السماء أيسر عليك من ذلك). ( الكافي:5/108).
وفي الكافي:5/111، أن الحسن الأنباري استأذن الإمام الرضا عليه السلام في العمل للسلطان ، قال: ( كتبت إليه أربعة عشر سنة أستأذنه في عمل السلطان ، فلما كان في آخر كتاب كتبته إليه أذكر أني أخاف على خبط عنقي ، وأن السلطان يقول لي: إنك رافضي ولسنا نشك في أنك تركت العمل للسلطان للرفض ! فكتب إليَّ أبو الحسن عليه السلام : قد فهمت كتابك وما ذكرت من الخوف على نفسك ، فإن كنت تعلم أنك إذا وليت عملت في عملك بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم تُصَيِّر أعوانك وكتابك أهلَ ملتك ، فإذا صار إليك شئ واسيت به فقراء المؤمنين ، حتى تكون واحداً منهم كان ذا بذا ، وإلا فلا ) .
وسأل رجل الإمام الصادق عليه السلام : (عن الدخول في عمل السلطان ، فقال: هم الداخلون عليكم أم أنتم الداخلون عليهم؟ فقال: لا ، بل هم الداخلون علينا ، قال: فما بأسٌ بذلك). ( البحار:72/378).
وقال الإمام الصادق عليه السلام : (ما من جبار إلا ومعه مؤمن يدفع الله به عن المؤمنين ، وهو أقلهم حظاً في الآخرة ). أي لصحبته الجبار . ( الكافي:5/111).
وعن الإمام الرضا عليه السلام قال: (إن لله تعالى بأبواب الظالمين مَن نوَّرَ الله وجهه بالبرهان ، ومكَّنَ له في البلاد ليدفع بهم عن أوليائه ، ويصلح الله به أمور المسلمين ، لأنه ملجأ المؤمنين من الضرر ، وإليه يفزع ذو الحاجة من شيعتنا ، بهم يؤمِّن الله روعة المؤمن في دار الظلمة ، أولئك هم المؤمنون حقاً... فهنيئاً لهم.. ما على أحدكم أن لو شاء لنال هذا كله . قال قلت: بماذا جعلني الله فداك ؟ قال: يكون معهم فيسرُّنا بإدخال السرور على المؤمنين من شيعتنا ، فكن منهم يا محمد ). ( الكافي:5/112، والبحار:72/381) .وقال الإمام الكاظم عليه السلام : ( كفارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان). (تحف العقول/187).
ولذا أفتى فقهاؤنا باستحباب الولاية في الحكومة الجائرة بهدف خدمة المؤمنين ،قال السيد الخوئي في مصباح الفقاهة:1/674: (النتيجة أن الولاية من قبل الجائر إن كانت لحفظ المعاش مع قصد الإحسان إلى المؤمنين فهي مكروهة ، وإن كانت للإحسان إليهم فقط ، فهي مستحبة ). انتهى.
وقد دلتمصادر سيرة الأئمة عليهم السلام على أنه كان للأئمة عليهم السلام عدة أصحاب في أجهزة الدولة القرشية من عهد أبي بكر وعمر وعثمان ، ثم بقية بني أمية ، وبني العباس . منهم من كان ظاهراً معلناً ، وأكثرهم كانوا مستخفين ، يتعملون بالتقية مع الخليفة وكبار وزرائه ، ويقومون بخدمات للمؤمنين ، وينفذون ما يأمرهم به الإمام عليه السلام . وأبرز أمثلتهم يقطين بمن موسى وابنه علي بن يقطين ، اللذين كانا وزيرين مقربين من السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد ، وقد ترجمت لهما وروت أخبارهما مصادر التاريخ والحديث ، خاصة لعلي بن يقطين رحمه الله وهذه خلاصة موجزة جداً لترجمته:
قال ابن النجار في ذيل تاريخ بغداد:4/202:(علي بن يقطين بن موسى ، أبو الحسن مولى بني أسد: ولد بالكوفة في سنة أربع وعشرين ومائة ، وكان أبوه من وجوه دعاة الإمامية ، فطلبه مروان بن محمد فهرب واستتر ، وهربت به أمه وبأخيه عبيد بن يقطين ، وكان ولد بعد علي بسنتين إلى المدينة ، وكانت له وصلة بعيال جعفر بن محمد الصادق فأتت منزله بابنيها فاستدنى جعفر علياً وأقعده على حجره ومسح على رأسه ، فلما ظهر بنو العباس ظهر يقطين ، وعادت أم علي بعلي وعبيد ، فلم يزل يقطين في خدمة أبي العباس وأبي جعفر ، ومع ذلك يرى رأى آل أبي طالب ويقول بإمامتهم وكذلك ولده ، وكان يحمل الأموال إلى جعفر الصادق والألطاف ، ثم وصل خبره إلى المنصور والمهدي فلم يكيداه ، ولما نقل المهدي إلى الرصافة صُيِّرَ في حجر يقطين فنشأ المهدي وعلي بن يقطين كأنهما أخوان ، فلما أفضت الخلافة إلى المهدي استوزر علي ابن يقطين وقدمه وجعله على ديوان الزمام وديوان البسر والخاتم ، فلم يزل في يده حتى توفى المهدي وأفضى الأمر إلى الهادي فأقره على وزارته ولم يشرك معه أحداً من أمره إلى أن توفي الهادي ، وصار الأمر إلى الرشيد فأقره شهراً ، ثم صرفه بيحيى بن خالد البرمكي...قرأت في كتاب محمد بن إسحاق النديم بخطه قال: توفي علي بن يقطين بمدينة السلام سنة اثنتين وثمانين ومائة وسنه سبع وخمسون سنة ، وصلى عليه ولي العهد محمد بن الرشيد ، وتوفي أبوه بعده في سنة خمس وثمانين ومائة ، ولعلي بن يقطين كتاب ما سأل عنه الصادق من أمور الملاحم ، وكتاب مناظرته للشاك بحضرة جعفر). انتهى.
أقول: كان يقطين من وجوه دعاة بني العباس ويبدو أنه تشيع ، نص على ذلك ابن حجر في لسان الميزان:2/302 ، وغيره ، وكذا ابن النديم في الفهرست/279 وقال: (وكان يحمل الأموال إلى جعفر بن محمد بن علي والألطاف ، ونمَّ خبره إلى المنصور والمهدي ، فصرف الله عنهم كيدهما ) .
ونحوه في فهرست الشيخ الطوسي/154، وقال: (علي بن يقطين ، ثقة جليل القدر له منزلة عظيمة عند أبي الحسن موسى عليه السلام ، عظيم المكان في الطائفة... ولعلي بن يقطين رضي الله عنه كتب ، منها كتاب ما سئل عنه الصادق عليه السلام من الملاحم وكتاب مناظرة الشاك بحضرته عليه السلام . وله مسائل عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام . أخبرنا بكتبه ومسائله...).
وفي خلاصة الأقوال/174 ، عن داود الرقي قال: ( دخلت على أبي الحسن عليه السلام يوم النحر فقال مبتدئاً: ما عرض في قلبي أحد وأنا في الموقف إلا علي بن يقطين ، فإنه ما زال معي وما فارقني حتى أفضت) .
أقول: هذا مقام عظيم لعلي بن يقطين رحمه الله أن يخصه الإمام الكاظم عليه السلام بدعائه يوم عرفة ، ولعل السبب أنه كان يواجه ظروفاً صعبة من الطاغية هارون الرشيد ، ويتجسس عليه لإثبات تشيعه وقتله !
وترجم له السيد الخوئي رحمه الله في معجمه:21/169، بتفصيل ونقل أقوال العلماء، وفيه:
( أقبل علي بن يقطين فالتفت أبو الحسن عليه السلام إلى أصحابه فقال: من سره أن يرى رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فلينظر إلى هذا المقبل ، فقال له رجل: هو إذن من أهل الجنة ، فقال أبو الحسن عليه السلام : أما أنا فأشهد أنه من أهل الجنة..
وقال له الإمام الكاظم عليه السلام : (إضمن لي خصلة أضمن لك ثلاثاً... أن لا يصيبك حر الحديد أبداً بقتل ، ولا فاقة ، ولا سقف سجن.. وأما الخصلة التي تضمن لي أن لا يأتيك ولي أبداً إلا أكرمته . قال: فضمن له علي الخصلة وضمن له أبو الحسن الثلاث... وقال عليه السلام : إني استوهبت علي بن يقطين من ربي عز وجل البارحة فوهبه لي ، إن علي بن يقطين بذل ماله ومودته فكان لذلك منا مستوجباً..
الصحيح أن حمل الأموال إنما كان من علي بن يقطين إلى الكاظم عليه السلام ، وقد نم خبره إلى هارون ، فصرف الله عنه كيده بواسطة الإمام الكاظم عليه السلام ).
وقال السيد الخوئي رحمه الله :(إن كثرة الروايات المادحة والدالة على جلالة علي بن يقطين أغنتنا عن التعرض لأسانيدها ، على أن بعضها صحيحة ، وفيها الكفاية).

وذكر السيد الخوئي قدس سره أن أباه يقطين بن موسى لم يكن شيعياً واستدل برواية صحيحة ذكرت أن الإمام الصادق عليه السلام دعا على يقطين وأولاده ، ورواية ضعيفة تذكر قول يقطين لابنه: (ما بالنا قيل لنا فكان وقيل لكم فلم يكن؟فاجابه: إن الذي قيل لنا ولكم كان من مخرج واحد غير أن أمركم حضر فأعطيتم محضه فكان كما قيل لكم ، وأن أمرنا لم يحضر فعللنا بالأماني).
لكن ظروفهما الحساسة مع جبابرة بني العباس ، توجب احتمال أن يكون الأئمة عليهم السلام يستران عليهما بذمهما كما هو الحال نرى في زرارة رحمه الله . فقد كانوا يراقبون كل تصرفاتهما ولذا كانا يكتمان إيمانهما كمؤمن آل فرعون .
وقد صح أن الإمام الكاظم عليه السلام نهى علي بن يقطين أن يتوضأ وضوء أهل البيت عليهم السلام وأمره أن يتوضأ بوضوء العباسيين الذي هو وضوء الأمويين ، وراقبه هارون خفية ليعرف مذهبه من وضوئه فرآه يتوضأ وضوءه !(الإرشاد:2/228).
وكان هارون أهدى اليه عباءة مذهبة أهداها له ملك الروم ، فأرسلها ابن يقطين الى الإمام الكاظم عليه السلام ، قال: (فمكثت ستة أشهر أو سبعة أشهر ثم انصرفت يوماً من عند هارون وقد تغديت بين يديه ، فقام إليَّ خادمي الذي يأخذ ثيابي بمنديل على يديه وكتاب مختوم وطينه رطب فقال: جاء بهذه الساعة رجل فقال إدفع هذا إلى مولاك ساعة يدخل ، ففضضت الكتاب فإذا فيه: يا علي هذا وقت حاجتك إلى الدراعة . فكشفت طرف المنديل عنها ، ودخل عليَّ خادم لهارون بغير إذن فقال: أجب أمير المؤمنين ! قلت: شئ حدث؟ قال: لا أدري ، فركبت ودخلت عليه وعنده عمر بن بزيع واقفاً بين يديه فقال: ما فعلت بالدراعة التي وهبتها لك؟ قلت: خِلَعُ أمير المؤمنين عليَّ كثيرة من دراريع وغيرها فعن أيها تسألني؟ قال: دراعة الديباج السوداء الرومية المذهبة . قلت: ما عسى أن أصنع بها ألبسها في أوقات وأصلي فيها ركعات...: فأرسلت خادمي حتى جاء بها . فلما رآها قال: يا عمر ما ينبغي أن نقبل على علي بعدها شيئاً... وكان الساعي بي ابن عم لي ، فسوَّد الله وجهه وكذبه والحمد لله). (الخرائج:2/656، ودلائل الامامة/322).

ملاحظات

1- يظهر بذلك أن أولاد أخ يقطين بن موسى كان لهم موقع عند الخلفاء العباسيين ، وكانوا جواسيس على علي بن يقطين ، وكذلك خالد البرمكي وأولاده جعفر ويحيى ، الذين استطاعوا أن يؤثروا على هارون الرشيد فعزل علي بن يقطين واستوزرهم سنة170هجرية لمدة17سنة ، وكانوا أداة الرشيد في اضطهاد الإمام الكاظم عليه السلام وقتله ، وفي حملته لإبادة العلويين وإفقارهم .
2- يظهر أن الأئمة عليهم السلام كان لهم أصحاب خاصون في قصر الخليفة ، ودور في إحباط المؤامرات ضدهم وضد شيعتهم ، وأطمئن بأن غضب الرشيد على البرامكة ونكبته لهم بعد أن سلطهم على كل أموره وزوجهم أخته وصاهرهم كان بفعل جنود الأئمة المجهولين حوله ، الذين أثبتوا لهم أن البرامكة مجوس وأصحاب مشروع معاد للإسلام وأمته ، وليس هذا مجال تفصيله .
3- لو صح ذم الإمام الصادق عليه السلام ليقطين وأولاده ، فهو للستر عليهم كذمه لزرارة . أما قول يقطين لابنه: (ما بالنا قيل لنا فكان وقيل لكم فلم يكن؟) فهو أقرب للدلالة على تشيعه ، وقد يكون مقصوده أن الأئمة عليهم السلام قالوا لنا عن زوال ملك بني أمية وملك بني العباس فتحقق ، وقالوا لكم عن ظهور المهدي عليه السلام ولم يتحقق ، فأجابه بما تقدم . وقد تقدم أن علي بن يقطين ألف كتاباً فيما سأل عنه الإمام الصادق عليه السلام من الملاحم ، فلعل حديثه مع أبيه كان عنها . ومن أعجب ما رأيته عنه عليهم السلام حديث عن أصحاب المهدي عليه السلام تضمن إيمان عبد المطلب رحمه الله . قال علي بن يقطين: (قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام : إضمن لي واحدة أضمن لك ثلاثاً: إضمن لي أنه لا يأتي أحد من موالينا في دار الخلافة إلا قمت له بقضاء حاجته ، أضمن لك أن لا يصيبك حر السيف أبداً، ولا يظلك سقف سجن أبداً، ولا يدخل الفقر بيتك أبداً . قال الحسن: فذكرت لمولاي كثرة تولي أصحابنا أعمال السلطان واختلاطهم بهم ، قال: ما يكون أحوال إخوانهم معهم؟ قلت: مجتهد ومقصر ، قال: من أعز أخاه في الله وأهان أعداءه في الله ، وتولى ما استطاع نصيحته ، أولئك يتقلبون في رحمة الله ، ومثلهم مثل طير يأتي بأرض الحبشة في كل صيفة يقال له "القدم" فيبيض ويفرخ بها ، فإذا كان وقت الشتاء صاح بفراخه فاجتمعوا إليه وخرجوا معه من أرض الحبشة ، فإذا قام قائمنا اجتمع أولياؤنا من كل أوب ! ثم تمثل بقول عبد المطلب رحمه الله :

فإذا ما بلغ الدور إلى منتهى الوقت أتى طير القدم

بكتاب فصلت آياته وبتبيان أحاديث الأمم .
(مستدرك الوسائل:13/137، وجامع أحاديث الشيعة:17/297).




~~




ج- والي العراق يزيد بن عمر بن هبيرة

قال الكليني رحمه الله في الكافي:1/473:(عن رفيد مولى يزيد بن عمر بن هبيرة ، قال: سخط عليَّ ابن هبيرة وحلف علي ليقتلني ، فهربت منه وعذت بأبي عبد الله عليه السلام فأعلمته خبري فقال لي: إنصرف واقرأه مني السلام وقل له: إني قد أجرت عليك مولاك رفيداً فلا تهجه بسوء . فقلت له: جعلت فداك شامي خبيث الرأي ! فقال: إذهب إليه كما أقول لك ، فأقبلت فلما كنت في بعض البوادي استقبلني أعرابي فقال: أين تذهب إني أرى وجه مقتول ! ثم قال لي: أخرج يدك ففعلت ، فقال: يد مقتول ! ثم قال لي: أبرز رجلك فأبرزت رجلي ، فقال: رجل مقتول ! ثم قال لي: أبرز جسدك؟ ففعلت ، فقال: جسد مقتول ! ثم قال لي: أخرج لسانك ففعلت فقال لي: إمض ، فلا بأس عليك ، فإن في لسانك رسالة لو أتيت بها الجبال الرواسي لانقادت لك ! قال: فجئت حتى وقفت على باب ابن هبيرة فاستأذنت فلما دخلت عليه قال: أتتك بخائن رجلاه ! يا غلام النطع والسيف ! ثم أمر بي فكتفت وشد رأسي وقام عليَّ السياف ليضرب عنقي ، فقلت: أيها الأمير لم تظفر بي عنوة وإنما جئتك من ذات نفسي ، وهاهنا أمر أذكره لك ، ثم أنت وشأنك ، فقال: قل، فقلت: أخلني ، فأمر من حضر فخرجوا ، فقلت له: جعفر بن محمد يقرئك السلام ويقول لك: قد آجرت عليك مولاك رفيداً فلا تهجه بسوء . فقال: والله لقد قال لك جعفر هذه المقالة وأقرأني السلام ؟! فحلفت له ، فردها عليَّ ثلاثاً ثم حل أكتافي ثم قال: لا يقنعني منك حتى تفعل لي ما فعلت بك ( أي يُكَتِّفه للقتل كما كتَّفه) ! قلت: ما تنطلق يدي بذاك ولا تطيب به نفسي ، فقال: والله ما يقنعني إلا ذاك ، ففعلت به كما فعل بي وأطلقته فناولني خاتمه وقال: أموري في يدك فدبر فيها ما شئت). انتهى.

ملاحظات

1- يدل ذلك على أن ابن هبيرة كان له اعتقادٌ خاص بالإمام الصادق عليه السلام ، ولعل السبب أنه رأى منه معجزة ، فيكون من أصحابه بالمعنى العام لا بمعنى أنه شيعي ، وقد كان أبوه عمر حاكم العراق وخراسان من قبل الأمويين ، ثم خلفه ، وله فيتاريخ دمشق:65/324، ترجمة مطولة ، فيها أنه ولد سنة87 ، وأصله من الشام وولي قنسرين للوليد بن يزيد بن عبد الملك ، وولي العراق وخراسان لمروان الحمار ، وكان سخياً بخلاف أبيه ، وكان جسيماً طويلاً سميناً خطيباً أكولاً شجاعاً ، وكان من ندمائه القاضي المعروف ابن شبرمة ، وقد خطب هشام بن عبد الملك ابنته لابنه معاوية فأبى أن يزوجه ، وبقي والياً الى حتى سقوط دولة بني أمية ، وقاتله المنصور في واسط وأعطاه الأمان ، ثم غدر به وقتله في ذي القعدة سنة132. وتاريخ خليفة/306 ، وفتح الباري:13/125، والأخبار الطوال/367 ، وتاريخ بغداد:13/328 .

2- أما رفيد صاحب القصة ،فقد ترجم له علماؤنا باسم رفيد مولى ابن هبيرة ورووا عنه بضع روايات ، ولم يزيدوا على ذلك . وترجموا لرفيد بن مصقلة العبدي الكوفي وأنه كان مفتي العامة ، ورووا عنه في فضل أمير المؤمنين عليه السلام ، وعده الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الباقر عليه السلام ، ولم يستبعدوا اتحاده مع رقبة بن مصقلة العبدي ، الذي وثقه علماء السنة ورروا عنه ، كما في مستدرك الحاكم:2/171، وأوسط الطبراني:8/211، وتهذيب الكمال:4/344 ، وكاشف الذهبي:1/398، وميزان الإعتدال:1/580 ، وتقريب التهذيب:1/303 ، وغيرها.. لكن لايمكن القول بأنه رفيد مولى ابن هبيرة ، لأنه رفيداً مولى ، وابن مصقلة كما يبدو عربي .
3- ومما يلفت في هذه القصة الصحيحة المستوى الذي بلغه علم القيافة عند العرب في ذلك العصر ! وكيف عرف ذلك الأعرابي البدوي الأمي من شكل بدن رفيد أنه مقتول ، وأعجب منه كيف عرف من لسانه أنه يحمل رسالة لو قرأها على الجبال الرواسي لأطاعته ، فكان كما قال !
وقد انتهى هذا العلم في عصرنا ، إلا نتفٌ منه عند بعض قارئ الكف الهنود ، وبعض أهل الفراسة (الشوافين) ، الذين قرأت عنهم ، ورأيت بعضهم ، وليس هذا مجال الكلام في الموضوع .


~~



د- جابر بن حيان

قال السيد الخوئي قدس سره في معجمه:4/328: (جابر بن حيان ، الصوفي الطرسوسي ، أبو موسى ، من مشاهير أصحابنا القدماء ، كان عالماً بالفنون الغريبة وله مؤلفات كثيرة أخذها من الصادق عليه السلام ..كُتب في أحواله وذكرت مؤلفاته كتب عديدة... قال جرجي زيدان في مجلة الهلال على ما حكي عنه: إنه من تلامذة الصادق ، وإن أعجب شئ عثرت عليه في أمر الرجل أن الأوروبيين اهتموا بأمره أكثر من المسلمين والعرب وكتبوا فيه وفي مصنفاته تفاصيل ، وقالوا إنه أول من وضع أساس الشيمي الجديد وكتبه في مكاتبهم كثيرة) .
وقال ابن النديم في الفهرست/420: ( وكان من أهل الكوفة.. وزعم قوم من الفلاسفة أنه كان منهم . وله في المنطق والفلسفة مصنفات . وزعم أهل صناعة الذهب والفضة أن الرياسة انتهت إليه في عصره ، وأن أمره كان مكتوماً ، وزعموا أنه كان يتنقل في البلدان لا يستقر به بلد خوفاً من السلطان على نفسه... وحدثني بعض الثقات ممن يتعاطى الصنعة أنه كان ينزل في شارع باب الشام في درب يعرف بدرب الذهب ، وقال لي هذا الرجل: إن جابراً كان أكثر مقامه بالكوفة وبها كان يدبر الإكسير لصحة هوائها ، ولما أصيب بالكوفة الأزج الذي وجد فيه هاون ذهب فيه نحو مائتي رطل ، ذكر هذا الرجل أن الموضع الذي أصيب ذلك فيه كان دار جابر بن حيان.. ولهذا الرجل كتب في مذاهب الشيعة أنا أوردها في مواضعها ، وكتب في معاني شتى من العلوم قد ذكرتها في مواضعها من الكتاب . وقد قيل إن أصله من خراسان ، والرازي يقول في كتبه المؤلفة في الصنعة: قال أستاذنا أبو موسى جابر بن حيان...
له فهرست كبير يحتوي على جميع ما ألف في الصنعة وغيرها ، وله فهرست صغير يحتوي على ما ألف في الصنعة فقط . ونحن نذكر جملاً من كتبه رأيناها وشاهدها الثقات فذكروها لنا... ثم أورد ابن النديم أسماءها وقال: فهذه أربعون كتاباً من السبعين كتاباً.. ثم أورد أسماء رسائل أخرى وقال: وهذه الكتب مائة واثنا عشر كتاباً . وله بعد ذلك سبعون كتاباً منها ، كتاب اللاهوت . كتاب الباب . كتاب الثلاثين كلمة... وله بعد ذلك عشر رسائل في النبات.. وله في الأحجار عشر رسائل على هذا المثال . فذلك سبعون رسالة . ويتلو ذلك عشرة كتب مضافاً إلى السبعين... ثم يتلو هذه عشرون كتاباً بأسمائها وهي ، كتاب الزمردة . كتاب الأنموذج . كتاب المهجة... ثم يتلو ذلك ثلاثة كتب وهي ، كتاب الطهارة ، آخر . كتاب التسعة . كتاب الأعراض. قال محمد بن إسحاق: قال جابر في كتاب فهرسته: ألفت بعد هذه الكتب ثلاثين رسالة لا أسماء لها . ثم الفت بعد ذلك أربع مقالات... وألفت بعد ذلك عشرة كتب على رأي بليناس صاحب الطلسمات... قال أبو موسى: ألفت ثلاثمائة كتاب في الفلسفة ، وألف وثلاثمائة كتاب في الحيل ، على مثال كتاب تقاطر ، وألف وثلاثمائة رسالة في صنائع مجموعة وآلات الحرب . ثم ألفت في الطب كتاباً عظيماً ، وألفت كتباً صغاراً وكباراً .ثم ألفت كتب المنطق على رأى أرسطاليس ، ثم ألفت كتاب الزيج اللطيف نحو ثلاثمائة ورقة ، كتاب شرح أقليدس، كتاب شرح المجسطي ، كتاب المرايا.. الى آخر ماذكره ابن النديم وغيره ).
وفي معجم المطبوعات العربية:1/664: ( لم يطبع من هذا الكتاب الا ترجمات باللغة اللاتينية ، وطبع قسم منه باللغة العربية ضمن كتاب الأستاذ برتولو المسمىvol paris 1893 3 - La chimie au moyen age 2
مجموعة أحد عشر كتاباً في علم الأكسير الأعظم .كتاب البيان . كتاب الحجر . كتاب النور . رسالة الايضاح . كتاب أسطقس الاس . كتاب أسطقس الاس ثاني . كتاب الأسطقس ثالث . تفسير كتاب أسطقس .كتاب التجريد . كتاب الرحمة . كتاب الملك - طبع حجر بمبي1892 كتاب المكتسب - موسوم بنهاية الطلب مع شرحه للجلدكي - در علم كيميا الخ وشرح الجلدكي باللغة الفارسية - طبع حجر بمبى1307 . ولجابر بن حيان كتاب نفيس في السموم مخطوط في الخزانة التيمورية ، نقل عنه المرحوم الدكتور صروف عدة مقالات ذات فائدة عظيمة ، في مجلة المقتطف الجزء58 و59 ).
وفي معجم المطبوعات العربية:2/1207: (استفاد الدكتور صروف وأفاد من كتاب نفيس وجده في الخزانة التيمورية وهو كتاب السموم لأبي موسى جابر بن حيان وهي نسخة وحيدة على ما هو معروف إلى الآن فوصفه وصفاً وافياً في المقتطف سنة1921 وأظهر ما كان للعرب من التضلع بفنون الطب وغيرها بعهد المؤلف المذكور ).
وقال الزركلي في الأعلام:2/103: (فيلسوف كيميائي ، كان يعرف بالصوفي . من أهل الكوفة وأصله من خراسان.. توفي بطوس . له تصانيف كثيرة قيل عددها232 كتاباً ، وقيل: بلغت خمسمائة ، ضاع أكثرها وترجم بعض ما بقي منها إلى اللاتينية... ولجابر شهرة كبيرة عند الإفرنج بما نقلوه ، من كتبه ، في بدء يقظتهم العلمية. قال برتلوBerthelot.m:لجابر في الكيمياء ما لأرسطو طاليس قبله في المنطق ، وهو أول من استخرج حامض الكبريتيك وسماه زيت الزاج ، وأول من اكتشف الصودا الكاوية ، وأول من استحضر ماء الذهب ، وينسب إليه استحضار مركبات أخرى مثل كربونات البوتاسيوم وكربونات الصوديوم . وقد درس خصائص مركبات الزئبق واستحضرها . وقال لوبون:Le Bon.G: ( تتألف من كتب جابر موسوعة علمية تحتوي على خلاصة ما وصل إليه علم الكيمياء عند العرب في عصره . وقد اشتملت كتبه على بيان مركبات كيماوية كانت مجهولة قبله . وهو أول من وصف أعمال التقطير والتبلور والتذويب والتحويل.الخ.). وأورد عدداً من كتبه المطبوعة والمخطوطة في الذريعة:2/36 ، و43، و211، و491، و:3/175، و:4م15، و18، و52، و64، و170و:5/120، و:20/171.

وفي وفيات الأعيان:1/112،في ترجمة الإمام الصادق عليه السلام : (وفضله أشهر من أن يذكر ، وله كلام في صنعة الكيمياء وكان تلميذه أبو موسى جابر بن حيان الصوفي الطرسوسي قد ألف كتاباً يشتمل على ألف ورقة يتضمن رسائل جعفر الصادق ، وهي خمسمائة رسالة ).
وفي مستدرك الوسائل:16/445: (عن عمر بن يزيد قال: كتب جابر بن حيان الصوفي إلى أبي عبد الله عليه السلام : يا بن رسول الله منعتني ريح شابكة ، شبكت بين قرني إلى قدمي ، فادع الله لي ، فدعا له وكتب إليه: عليك بسعوط العنبر والزنبق على الريق ، تعافى منها إن شاء الله . ففعل ذلك فكأنما نشط من عقال ).
وفي الفائق في رواة وأصحاب الإمام الصادق عليه السلام :1/277: (جابر بن حيان... من مفاخر علماء الشيعة الإمامية ، ومن مشاهير علماء الفلسفة والحكمة والطب والرياضيات والفلك والمنطق والنجوم ، وكان متصوفاً أديباً زاهداً، واعظاً مؤلفاً في شتى صنوف العلم والمعرفة ).
ونورد من أعيان الشيعة:4/30 ، خلاصة مقال للدكتور أحمد فؤاد الأهواني نشره في مجلة المجلة المصرية جاء فيه: هو أشهر علماء العرب ، وأول من أرسى قواعد العلم التجريبي ، وذكر أن أبا جابر كان عطاراً في الكوفة وأن والي خراسان قتله لاتهامه بالتشيع، وأنه سافر الى خراسان فولد ابنه جابراً هناك سنة120وتوفي سنة190 وذكر أن كتبه ورسائله ومقالاته تزيد على3900 كتاب...
وحين اتجهت أوروبا إلى العرب تغترف من بحر علومهم ، لم تجد أمامها في الكيمياء سوى جابر فنقلت اسمه وكتبه وعلمه ، واشتهر عندهم باسم GeberوباللاتينيةGeberus كما نقلوا عن تلميذه الرازي . ونقل جيرار الكريموني في أكبر الظن كتاب السبعين من مؤلفات جابر بن حيان إلى اللاتينية ، وهو مجموعة تتألف من سبعين كتاباً... عني بتحقيق سيرة جابر من الأوروبيين الأستاذ هولميارد في مقالة له نشرها سنة1923 وقد كتب عنه في كتبه الأخرى ، وفي كتاب له وهو الكيمياء الصادر سنة1957 في سلسلة بليكان الإنكليزية .
مختار رسائل جابر بن حيان نشرت في القاهرة عام1935 من قبل المستشرق التشيكوسلوفاكي ب. كراوس .
يقسم هولميارد مؤلفاته إلى أربع مجموعات: أ - الكتب المائة والاثنا عشر . وهي التي أهدى بعضها إلى البرامكة ، ومعظم هذه المجموعة مأخوذة عن هرمس . ب - الكتب السبعون ، وقد ترجم معظمها إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر . ج - المصححات العشر ، والتي يصف فيها ما قام به القدماء في علم الكيمياء مثل فيثاغورس وسقراط وغيرهم . د - كتب الموازين وهي114 كتاباً يعرض فيها نظرية الميزان .
كتاب هولميارد الأستاذ الأول في علوم الكيمياء بمدرسة كلفتن في برستل بانكلترة المنشور في باريس عام1928 . ثم نشر هولميارد سنة 1928 إحدى عشرة رسالة لجابر ، كما نشر كراوس في القاهرة المختار من رسائل جابر بن حيان ، وذلك في كتاب يقع في555 صفحة .
وقال الدكتور الأهواني: لقد أغفل هولميارد من مؤلفات جابر ما كتبه في الطب والفلسفة والمنطق وغير ذلك لان عنايته كانت بالجانب الكيميائي فقط . ولم ينشر من هذا التراث الضخم إلا جزء ضئيل ، بدأه برتيلوه Berthlot بنشر كتاب ( الرحمة ) ، وهو أول كتب جابر ، وقد نشرت الترجمة اللاتينية كذلك .
وآخر كتاب نشر له في ليبزغ هو رسالة دفع السموم ومضارها مع ترجمة النص إلى الألمانية ، وذلك في سنة 1959 . وقد يسر كراوس في المجلد الأول من بحثه العمل ، فأحصى جميع المخطوطات الموجودة في شتى مكتبات العالم من مؤلفات جابر ، مع الإشارة إلى ما طبع منها .
وقال الجندي في كتابه الإمام جعفر الصادق/277: (على هؤلاء الفقهاء والعلماء تعلم أهل أوربة منهج النزاهة العلمية والواقعية الذي تبلور في طريقة التجربة والإستخلاص . والذي أعلنه جابر بن حيان أول من استحق في العالم لقب كيميائي ، كما يعبر عنه الأوربيون) .


نظرة في كتاب: مختار رسائل جابر بن حيان

هذا الكتاب في أكثر من570 صفحة ، عني بتصحيحه ونشره ب.كراوس ، طبع مكتبة الخانجي بالقاهرة سنة1354 هجرية ، وأعادت طبعه مكتبة المثنى ببغداد بدون تاريخ . ويشتمل على ست وعشرين رسالة ، أولها كتاب إخراج ما في القوة الى الفعل ، ثم كتاب الحدود ، وكتاب الماجد ، والجزء الأول من كتاب الأحجار على رأي بليناس.. الى آخره .
وقد طالعته فرأيت فيه من ناحية عقدية وعلمية شذرات جيدة ، لكن رأيه معها حشواً كثيراً مملاً ! فمؤلفه يؤكد مرات عديدة أن رسائله من إملاء (سيدي جعفر صلوات الله عليه ) . ويكرر قسَمه: (وحق سيدي ، أو: وحق سيدي عليه السلام ، أو: وحق سيدي جعفر صلوات الله عليه ) أكثر من ثلاثين مرة .
ويبدأ كتاب الأحجارصفحة 158 بقوله: (بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله الذي اصطفى محمداً نبياً وانتخب له علياً ولياً ).
وفي صفحة 456 ، يرشد طالب الكيميا وعلم الميزان من أجل نجاح عمله الى صلاة وأوراد وتوسل بالنبي وآله صلى الله عليه وآله ، وفيه قوله: ( اللهم إن وسيلتي اليك محمد وصفوة أهل بيته آمين . قال سيدي لي في ذلك: إن الله عز وجل أكرم من أن يتوسل اليه إنسان بنبيه وأهل نبيه فيرده خائباً ).
وفي صفحة489 ، يذكر تحت عنوان كتاب الخمسين ، ألقاب خمسة وخمسين شخصاً يدور عليهم تكوين العالم ، فيقول: ( وأما أسماء الأشخاص الذين يكونون في هذا الباب خمسة وخمسون: النبي .الإمام . الحجاب . البسيط . السابق. التالي. الاساس. العمد..الخ.).
وهي تقسيمات لبعض تنظيمات الإسماعيلية المتأخرة عن زمن جابر بن حيان .
وكذلك الأمر من ناحية علمية ، فموضوع الرسائل وهدفها ، قوانين الكيمياء وصنعة تحويل الحديد والمعادن الى ذهب ، ولا تجد من ذلك شيئاً ذا قيمة .
وهذا ما يجعلك تطمئن أنهم نسبوا الى جابر رحمه الله كتباً ورسائل لم يكتبها ! وذلك بسبب شهرته وثقة الرأي العام بعلمه .
لكن ذلك لاينفي مؤلفات جابر الحقيقية ، ونبوغه في الكيمياء والطب وغيرهما مما علمه أستاذه الإمام الصادق عليه السلام .

~~



هـ- الخليل بن أحمد الفراهيدي

هو الخليل بن أحمد الفراهيدي ، نسبة الى فراهيد بطن من قبيلة الأزد العمانية أو اليمانية . (لسان العرب/3/335 ، وتهذيب اللغة للأزهري:6/280، والمزهر للسيوطي:2/379) ، أو محلة في البصرة . (ثقات ابن حبان:8/229) ولعلها محلة الفراهيد الأزديين .
(قال الأصمعي: سأَلْتُ الخَلِيلَ بنَ أَحمدَ: مِمّن هو؟ فقال: من أَزْدِ عُمَانَ من فراهيد . قلت: وما فَرَاهِيدُ ؟ قال: جَرْوُ الأَسد بلُغَة عُمَانَ) . (تاج العروس:8/494 ، ونحوه نور القبس للمرزباني/20) . لكن الصفدي قال في الوافي:13/241: (وعلماء الفرس تدعي مشاركتهم في هذه الفضيلة.. ومن الفرس كان أصله لأنه من فراهيد اليمن ، وكانوا من بقايا أولاد الفرس الذين فتحوا بلاد اليمن لكسرى وكان جد الخليل من أولئك). وذكر الزبيدي في تاج العروس:13/534 ، أن جَنْكُ إسم جَدِّ الخليل بن أَحمد وقال: ( وهو من محدثي سجستان ، قاله الصاغاني .قلت وكنيته أبو سعيد).
وقال المرزباني في نور القبس/20: ( وكان من أهل عمان من قرية من قراها ، ثم انتقل إلى البصرة أ وكان من أزهد الناس وأعلاهم نفساً . وكان يعيش من بستان له بالخريبة خلفه له أبوه... وقال: قدمت من عمان ورأيي رأي الصفرية فجلست إلى أيوب بن أبي تميمة السختياني.. فلزمته فنفعني الله به .
قال يونس: قلت للخليل: مابال أصحاب رسول الله (ص) كأنهم بنو أم واحدة وعليّ بن أبي طالب عليه السلام كأنه ابن عَلَّة؟ فقال: من أين لك هذا السؤال؟ قلت: أريد أن تجيبني ! فقال: على أن تكتم عليَّ مادمت حياً ! قلت: أجل ، فقال: تقدمهم إسلاماً ، وبذهم شرفاً ، وفاقهم علماً ، ورجحهم حلماً ، وكاثرهم زهداً ، وأنجدهم شجاعة فحسدوه ! والناس إلى أمثالهم وأشكالهم أميل منهم إلى من فاقهم وكثرهم ورجحهم) ! ثم روى المرزباني مجموعة من أقواله وشعره .
وقال ياقوت في معجم الأدباء:3/300: ( وكان سفيان الثوري يقول: من أحب أن ينظر إلى رجل خلق من الذهب والمسك فلينظر إلى الخليل بن أحمد !
ويروى عن النضر بن شميل أنه قال: ما رأيت رجلاً أعلم بالسنة بعد ابن عون من الخليل بن أحمد.. أكلت الدنيا بعلم الخليل وكتبه ، وهو في خص لا يشعر به). انتهى. أي كان ابن شميل وغيره يأخذون كتبه ويبيعونها الى الخليفة والولاة !

أقول: يتضح بهذا أن الخليل كان شيعياً يكتم تشيعه ، وكان يروي عن أيوب السختياني وسفيان الثوري تلميذي الإمام الصادق عليه السلام اللذين كانا يعيشان في البصرة ، وقد روى السنة عنه عن سفيان عن الإمام الصادق عليه السلام حديث فلسفة الحج ، ففي تهذيب الكمال:5/93، قال الخليل: (سمعت سفيان بن سعيد الثوري يقول: قدمت إلى مكة فإذا أنا بأبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام قد أناخ بالأبطح فقلت: يا ابن رسول الله لم جعل الموقف من وراء الحرم ، ولم يصير في المشعر الحرام؟ فقال: الكعبة بيت الله عز وجل والحرم حجابه والموقف بابه ، فلما قصده الوافدون أوقفهم بالباب يتضرعون ، فلما أذن لهم بالدخول أدناهم من الباب الثاني وهو المزدلفة ، فلما نظر إلى كثرة تضرعهم وطول اجتهادهم رحمهم ، فلما رحمهم أمرهم بتقريب قربانهم ، فلما قربوا قربانهم وقضوا تفثهم وتطهروا من الذنوب التي كانت حجاباً بينه وبينهم ، أمرهم بزيارة بيته على طهارة منهم ، قال: فقال له: فلما كره الصوم أيام التشريق؟ فقال: إن القوم في ضيافة الله عز وجل ولا يجب على الضيف أن يصوم عند من أضافه . قال: قلت: جعلت فداك فما بال الناس يتعلقون بأستار الكعبة وهي خرق لا تنفع شيئاً؟ فقال: ذلك مثل رجل بينه وبين رجل جرم ، فهو يتعلق به ويطوف حوله رجاء أن يهب له ذلك الجرم) . والذهبي في سيره:6/264، وتاريخ الإسلام:9/92 . ورواه البيهقي مختصراً في فضائل الأوقات/408 ، عن علي عليه السلام ، وكذا الشعراني في العهود المحمدية/238، والمنذري في الترغيب:2/133، بينما نسب شبيهه في شعب الإيمان:3/469 الى ذي النون المصري ، وكذا ابن عساكر:6/352 .
وبهذا يسهل أن نتفهم أن الخليل رحمه الله أخذ أصول علمه من الإمام الصادق أو أبيه عليهما السلام وبنى عليها في البصرة علم العروض واللغة ، كما أخذ أبو الأسود الدؤلي رحمه الله أصول علم النحو من أمير المؤمنين عليه السلام وبنى عليها في البصرة .
روى في مناقب آل أبي طالب:1/326 ، عن تاريخ البلاذري ، أن علم العروض خرج من دار علي عليه السلام قال: ( ومنهم العروضيون ومن داره خرجت العروض ، روي أن الخليل بن أحمد أخذ رسم العروض عن رجل من أصحاب محمد الباقر أو علي بن الحسين عليهما السلام فوضع لذلك أصولاً). ورواه في شرح إحقاق الحق:12/169 ، عن الحافظ أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي في كتابه: الزينة في الكلمات الإسلامية العربية/80 ، طبعة القاهرة .
وروت مصادر الجميع أن أبا الأسود الدؤلي رحمه الله أول من وضع علم العربية بتوجيه أمير المؤمنين عليه السلام (مثلاً تاريخ دمشق:25/194) ، وأكمله الخليل رحمه الله فوضع تشكيل الحروف من المد والتشديد والفتحة الكسرة والضمة والسكون والتنوين والروْم والإشمام. (البحار:40/161، القرآن للطباطبائي/155، والاتقان:2/171، وتاريخ القرآن للزرندي/161).

توثيق علمائنا للخليل بن أحمد رحمه الله

قال العلامة في خلاصة الأقول/140:( كان أفضل الناس في الأدب وقوله حجة فيه ، واخترع علم العروض وفضله أشهر من أن يذكر ، وكان إمامي المذهب) .
وعده في أعيان الشيعة:6/337 ، وكذا فيالذريعة:2/325 ، وذكر له كتاب الإمامة.. تممه أبو الفتح محمد بن جعفر المراغي المتوفى سنة371 ).
وقال في جواهر الكلام:7/221، في معنى العشي والإبكار:(ومنهم الخليل بن أحمد في كتاب العين ، الذي هو الأصل في اللغة ، وعليه المعول والمرجع).

علم العروض وكتاب العين

قال الصفدي في وفيات الأعيان:2/244: (وهو الذي استنبط علم العروض وأخرجه إلى الوجود وحصر أقسامه في خمس دوائر يستخرج منها خمسة عشر بحرا ثم زاد فيه الأخفش بحراً آخر وسماه الخبب).
وقال ابن النديم في الفهرست/48: (أصله من الأزد من فراهيد.. وكان غاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس . وهو أول من استخرج العروض وخص به أشعار العرب . وكان من الزهاد في الدنيا المنقطعين إلى العلم.. توفي بالبصرة سنة سبعين ومائة وعمره أربع وسبعون سنة. وله من الكتب المصنفة: كتاب العين . قرأت بخط أبى الفتح بن النحوي صاحب بني الفرات ، وكان صدوقاً منقراً بحاثاً: قال أبو بكر بن دريد: وقع بالبصرة كتاب العين سنة ثمان وأربعين ومائتين قدم به وراق من خراسان ، وكان في ثمانية وأربعين جزءا ، فباعه بخمسين ديناراً . وكنا نسمع بهذا الكتاب أنه بخراسان في خزائن الطاهرية حتى قدم به هذا الوراق... وقد استدرك على الخليل جماعة من العلماء في كتاب العين خطأ وتصحيفاً وشيئاً ذكر أنه مهمل وهو مستعمل ، وشيئاً ذكر أنه مستعمل وهو مهمل. فمنهم أبو طالب المفضل بن سلمة وعبد الله بن محمد الكرماني وأبو بكر بن دريد . والجهضمي والسدوسي . والهناني الدوسي . وقد انتصر له جماعة من العلماء وخطأ بعضهم بعضاً.. وللخليل أيضا من الكتب: كتاب النغم . كتاب العروض . كتاب الشواهد . كتاب النقط والشكل . كتاب فائت العين . كتاب الايقاع. أسماء فصحاء الأعراب المشهرين).
وقال في الذريعة:1/38: (آلات الإعراب ، المعبر عنه بكتاب النقط والشكل.. في خزانة كتب أياصوفية رقم4456 ). وذكر له في:5/143، كتاب جمل الإعراب . وفي:9/ق1/303 ، ديوان الخليل . وفي:15/364، كتاب العين ، وقال: (ذكر في العين عدد أبنية كلام العرب المهمل والمستعمل على مراتبها الأربع من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي من غير تكرار ، في اثني عشر ألف ألف وثلاثمأة وخمسة آلاف وأربعمأة وستة . فالثنائي سبعمأة وستة وخمسون ، والثلاثي تسعة عشر الف وستمأة وخمسون . والرباعي أربع مأة الف واحد وتسعون الف وأربعمأة . والخماسي أحد عشر ألف ألف وسبعمأة وثلاثة وتسعون ألف وستمأة وهو موجود في مكتبة (كوپرلى زاده/رقم1445) .
ثم ذكر مؤلفات حول العين ، قال: ( وقد كتب نضر بن شميل المتوفى204: المدخل على كتاب العين. ولأبي طالب مفضل بن سلمة الكوفي المتوفى250: استدراك على كتاب العين ، ولأبي بكر محمد بن دريد المتوفى321: استدراك آخر عليه . ولغلام ثعلب المتوفى344 فائت العين . ولابن درستويه المتوفى347: نقض العين . ولأحمد الخارزنجي المتوفى348: تكملة العين. ولأبي بكر محمد الزبيدي المتوفى379: مختصر العين . ولمحمد بن عبد الله الإسكافي الخطيب المتوفى421: غلط العين . ولسهام بن غالب بن التباني المتوفى436: فتح العين . ولعبد الله بن محمد الكرماني: استدراك العين) .
وفي تهذيب ابن حجر:3/141: (قيل لسيبويه هل رأيت مع الخليل كتباً يملي عليك منها ؟ قال: لم أجد معه كتباً إلا عشرين رطلاً ، فيها بخط دقيق ما سمعته من لغات العرب. وما سمعت من النحو فاملاه من قلبه . وكانت وفاة الخليل سنة 175 وقيل سنة70 وقيل سنة نيف وستين ومائة . قرأت الأولين بخط الخطيب).

من أخلاق الخليل وأقواله المميزة رحمه الله

(كان الخليل رجلاً صالحاً عاقلاً حليماً وقوراً.. قال تلميذه النضر بن شميل: أقام الخليل في خص(كوخ) من أخصاص البصرة لا يقدر على فلسين ، وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال ! ولقد سمعته يوماً يقول: إني لأغلق عليَّ بابي فما يجاوزه همي . وكان يقول: أكمل ما يكون الإنسان عقلاً وذهناً إذا بلغ أربعين سنة ، وهي السن التي بعث الله تعالى فيها محمداً صلى الله عليه وآله . ثم يتغير وينقص إذا بلغ ثلاثاً وستين سنة ، وهي السن التي قبض فيها رسول الله صلى الله عليه وآله . وأصفى ما يكون ذهن الإنسان في وقت السحر ). (وفيات الأعيان:2/244).
وقال:( أحثُّ كلمة على طلب علم قول علي بن أبي طالب عليه السلام : قدر كل امرئ ما يحسن) .( أمالي الطوسي/494).
وقال: (الإنسان لا يعرف خطأ معلمه حتى يجالس غيره) . (مستطرفات السرائر/652) .
وقال رحمه الله : (إن الدنيا بأسرها لا تتسع متباغضين ، وإن شبراً في شبر يسع متحابين) .كشف الخفاء:2/189) .وقال: (إذا نسخ الكتاب ثلاث مرار تحول بالفارسية . قال أبو يعقوب: يعني يكثر سقطه).(مذيل الطبري/151).
(كان من الزهاد في الدنيا والمنقطعين إلى العلم ، ويروى عنه أنه قال: إن لم تكن هذه الطائفة، يعني أهل العلم ، أولياء الله فليس لله ولي). (تهذيب الكمال:8/330).

(قال ابن حبان: كان من عباد الله المتقشفين في العبادة.. ولد سنة مائة ومات سنة سبعين أو خمس وسبعين). (خلاصة تذهيب تهذيب الكمال لخزرجي/106).

قال الخليل بن أحمد: ( الناس أربعة: فرجل يدري وهو يدري أنه يدري فذاك عالم فخذوا عنه ، ورجل يدري وهو لا يدري أنه يدري فذاك ناس فذكروه ، ورجل لا يدري وهو يدري أنه لا يدري فذاك مسترشد فعلموه ، ورجل لا يدري وهولا يدري أنه لا يدري فذاك جاهل فارفضوه). (تهذيب الكمال:8/327).

قيل له:(ما الدليل على أن علياً إمام الكل في الكل؟ قال: احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل . وقيل له: ما تقول في علي بن أبي طالب عليه السلام ؟ فقال: ما أقول في حق امرئ ، كتم مناقبه أولياؤه خوفاً وأعداؤه حسداً ، ثم ظهر من بين الكتمانين ما ملأ الخافقين).(المهذب البارع:4/293)
وقيل له:( لِمَ هجرَ الناس علياً عليه السلام وقرباه من رسول الله صلى الله عليه وآله قرباه ، وموضعه من المسلمين موضعه ، وعناؤه في الاسلام عناؤه ؟ فقال: بهر والله نوره أنوارهم وغلبهم على صفو كل منهل ، والناس إلى أشكالهم أميل ، أما سمعت الأول حيث قال:وكل شكل لشكله ألفٌ أما ترى الفيلَ يألفُ الفيلا). (مناقب آل أبي طالب:3/15 ، وأمالي الصدوق/300 ، وعلل الشرائع:1/145).
وله رحمه الله وصف لطيف للخليفة الأموي الوليد بن يزيد الذي حكم سنة125، قال: (حضرت مجلس الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان ، وقد اسحنفر في سب علي عليه السلام ، واثعنجر في ثلبه ، إذ خرج عليه أعرابي على ناقة له ، وذفراها يسيلان لإغذاذ السير دماً ، فلما رآه الوليد في منظرته قال: إئذنوا لهذا الأعرابي فإني أراه قد قصدنا ، وجاء الأعرابي فعقل ناقته بطرف زمامها ، ثم أذن له فدخل ، فأورده قصيدة لم يسمع السامعون مثلها جودة قط ، إلى أن انتهي إلى قوله:

ولما أن رأيت الدهر آلى عليَّ ولحَّ في إضعاف حالي

وفدت إليك أبغي حسن عقبى أسدُّ بها خصاصات العيال..الخ.

قال: فقبل مدحته وأجزل عطيته وقال له: يا أخا العرب قد قبلنا مدحتك وأجزلنا صلتك فاهجُ لنا علياً أبا تراب ، فوثب الأعرابي يتهافت قطعاً ويزأر حنقاً ويشمذر شفقاً ، وقال: والله إن الذي عنيته بالهجاء لهو أحق منك بالمديح ، وأنت أولى منه بالهجاء ! فقال له جلساؤه: اسكت نزحك الله قال: علام ترجوني؟ وبم تبشروني؟ ولما أبديت سقطاً ولا قلت شططاً ولا ذهبت غلطاً ، على أنني فضلت عليه من هو أولى بالفضل منه ، علي بن أبي طالب الذي تجلبب بالوقار ، ونبذ الشنار وعاف العار... وأفاض في مدح علي عليه السلام ومواقفه مع النبي صلى الله عليه وآله وبعده ، قال الخليل: (فأربد وجه الوليد وتغير لونه ، وغص بريقه ، وشرق بعبرته ، كأنما فقئ في عينه حب المضِّ الحاذق ، فأشار عليه بعض جلسائه بالإنصراف وهو لا يشك أنه مقتول به ، فخرج فوجد بعض الأعراب الداخلين فقال له: هل لك أن تأخذ خلعتي الصفراء وآخذ خلعتك السوداء ، وأجعل لك بعض الجائزة حظاً ؟ ففعل الرجل وخرج الأعرابي فاستوى على راحلته وغاص في صحرائه وتوغل في بيدائه ، واعتقل الرجل الآخر فضرب عنقه وجيئ به إلى الوليد ، فقال: ليس هو هذا بصاحبنا.. قال: أجد على قلبي غمة كالجبل من فوت هذا الأعرابي). (العدد القوية للحلي/253، والبحار:46/321 ، ومواقف الشيعة:1/358) .

(يروى له: لو كنت تعلم ما أقول عذرتني أو كنت أجهل ما تقول عذلتكا

لكن جهلت مقالتي فعذلتني وعلمت أنك جاهل فعذرتكا. (تهذيب الكمال:8/330).

(كان الخليل بن أحمد يحب أن يرى عبد الله بن المقفع ، وكان ابن المقفع يحب ذلك فجمعهما عباد بن عباد المهلي فتحادثا ثلاثة أيام ولياليهن ، فقيل للخليل: كيف رأيت عبد الله؟ قال: ما رأيت مثله وعلمه أكثر من عقله . وقيل لابن المقفع: كيف رأيت الخليل؟ قال: ما رأيت مثله ، وعقله أكثر من علمه .
قال المغيرة: فصدقا ، أدى عقل الخليل الخليل إلى أن مات أزهد الناس ! وجهل ابن المقفع أداه إلى أن كتب أماناً لعبد الله بن علي فقال فيه: ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله فنساؤه طوالق ودوابه حبس وعبيده أحرار والمسلمون في حل من بيعته! فاشتد ذلك على المنصور جداً خاصة أمر البيعة.. وكتب إلى سفيان بن معاوية المهلبي وهو أمير البصرة من قبله بقتله فقتله)!(أمالي المرتضى:1/94 ).
أقول: كانت طريقة قتل ابن المقفع فجيعة ! فقد دخل على الوالي العباسي في البصرة وكان خادمه ينتظره ، فأدخله الوالي وقتله وقطعه وألقى قطعه في التنور ، ثم أنكر مجيئه اليه ! ورد المنصور الشهود وصدق واليه في دعواه الكاذبة !

أخفى أكثرهم تشيع الخليل ، ونقصوه حقه !

وثقه علماء السنة ورووا عنه ، كما في المحلى:8/162، وتاريخ بغداد:11/325، وتذكرة الحفاظ:3/1082،وقال عنه الذهبي في سيره:7/429: (حدث عن: أيوب السختياني ، وعاصم الأحول ، والعوام بن حوشب ، وغالب القطان... أقام الخليل في خص له بالبصرة ، لا يقدر على فلسين ، وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال ! قال أيوب بن المتوكل: كان الخليل إذا أفاد إنساناً شيئاً لم يره بأنه أفاده وإن استفاد من أحد شيئاً أراه بأنه استفاد منه . قلت: صار طوائف في زماننا بالعكس) .
وقال الذهبي في تاريخه:9/383 ، يمتدح التعايش بين أهل الأديان والمذاهب في البصرة: (قال خلف بن المثنى: كان يجتمع بالبصرة عشرة في مجلس ، لا يعرف مثلهم في تضاد أديانهم ونحلهم: الخليل بن أحمد سني ، والسيد بن محمد الحميري رافضي ، وصالح بن عبد القدوس ثنوي ، وسفيان بن مجاشع صفري ، وبشار بن برد خليع ماجن ، وحماد عجرد زنديق ، وابن رأس الجالوت يهودي ، وابن نطيرا متكلم النصارى ، وعمرو بن أخت المؤيد المجوسي ، وروح بن سنان الحراني صابئي ، فيتناشد الجماعة أشعاراً ، فكان بشار يقول: أبياتك هذه يا فلان أحسن من سورة كذا وكذا ! وبهذا المزاح ونحوه كفروا بشاراً).
لكن عرفت تشيع الخليل رحمه الله وقد ترجم الذهبي نفسه لابنه في لسان الميزان:1/55،فقال: (ابراهيم بن الخليل الفراهيدي ، شيعي).
وفي الأعلام للزركلي:2/314: ( من أئمة اللغة والأدب وواضع علم العروض ، أخذه من الموسيقى وكان عارفا بها... وهو أستاذ سيبويه النحوي ولد ومات في البصرة وعاش فقيراً صابراً . كان شعث الرأس شاحب اللون قشف الهيئة متمزق الثياب متقطع القدمين ، مغموراً في الناس لا يعرف... وفكر في ابتكار طريقة في الحساب تسهله على العامة ، فدخل المسجد وهو يعمل فكره فصدمته سارية وهو غافل ، فكانت سبب موته) .
أقول: لا تصدق ذمهم للخليل ، ولعلهم قتلوه كما قتلوا ابن المقفع لكلمة بلغتهم عنه ، فالعباسيون كاسلافهم الأمويين لاتتسع صدورهم لمن خالفهم أدنى مخالفة ، حتى لو كان عبقرياً !
----------------

كل اتجاه علمي ودم جديد في الأمة وراؤه أهل البيت عليهم السلام

رأيتَ في الفصول المتقدمة أن فعاليات الإمام الباقر والصادق عليهما السلام متنوعة وتأسيسية . وكذلك هي فعاليات الأئمة عليهم السلام . وقد قلنا في كتاب: كيف رد الشيعة غزو المغول/199 ، ما خلاصته: أن التشيع كان دائماً طاقة تجديد لحياة الأمة ، وعندما قال الله تعالى لعرب الجزيرة في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله : وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)؟(محمد:38) ، قصد أن عنده بديلاً خيراً منهم إذا هم تقاعسوا . فلو لم تدخل اليمن في الإسلام وتغني مخزونها ، لأكلت قبائل الجزيرة بعضها بعضاً باسم الإسلام ، ثم أماتوه وماتوا !
على أن أهم عنصر في المخطط الإلهي لبقاء الإسلام ، هو مخزون العترة النبوية ومأساتها ، فلولا وجود أهل البيت عليهم السلام لفرضت القبائل القرشية خلافتها بدون معارض ، ولَسَارَ التاريخ بعقلية تقاسم بطون قريش للرفادة والسقاية والحجابة والدفاع عن حقوق القبيلة وَما عرفت الأمة بديلاً لدين الخلافة ، ولا الإجتهاد ودور العقل ، والإنفتاح على العلوم..
ولولا العترة النبوية لَمَا كانت مأساتهم وإقصاؤهم عن الحكم واضطهادهم ، وتقتيلهم في كل أرض وتحت كل نجم ، ولا دويُّ هذه (التراجيديا) الدينية العميق في وجدان الأمة ، ومخزونها الفاعل في ضميرها .
لقد كان التشيع وما زال مضخةً تُجدِّد دم الأمة كلما تراكم فيها الفساد والمرض! فهو النفحةً النبوية التي تُرَوْحِنها كلما دفعها الهجير البدوي الى اليَبَس !
ألا ترى كيف تَخَثَّر المخزون الديني والإنساني في أواخر خلافة عثمان ؟ فثار الصحابة وولوا علياً عليه السلام فأيقظ حيويتها وأغنى مخزونها ؟
ثم كيف انحط مستواها في زمن يزيد ، فأحيا مسيرتها الحسين عليه السلام بدمه الطاهر ودماء الطالبين بثاره ؟!
وكيف ضَخّ فيها زيد بن علي رحمه الله روحَ الثورة والتغيير؟ فكانت شعارات الحسنيين والعباسيين بظلامات أهل البيت ، وثارات زيد والحسين عليه السلام ؟
وعندما أفرط ملوك بني عباس في طغيانهم ، كيف مدَّت ثورات العلويين الأمة بالقيم ، وعلمتها انتزاع حقها في الثورة والتغيير ؟
وعندما غرقت الدولة العباسية في المادية اليونانية والفارسية ، كيف أثرى الإمام الرضا عليه السلام مخزونها من صريح الإسلام ووحي النبوة ؟
وعندما تهرَّأ النظام العباسي ، كيف جاءت الموجة الفاطمية من الغرب وقدمت بديلاً منافساً جدَّد الحياة في الأمة ؟ ثم رفدتها موجة البويهيين فأخرجت العاصمة من جمودها الحنبلي ، وأحيت حرية التفكير !
وعندما ضعفت دولة البويهيين وجاءت موجة التعصب السلجوقي كيف حولت الخلافة الى استغراق في الترف حتى فَقَدَ جسم الأمة قدرته على المقاومة والدفاع ، فجاءتها دفعة المضادات الحيوية من وحشية المغول لتحرك كرياتها البيضاء ، ولم تكن هذه الكريات إلا الشيعة ومذهب أهل البيت عليهم السلام ؟
وعندما زاد ضغط الصليبيين على سواحلها وأعماقها ، كيف قادت المقاومة دول وإمارات الشيعة في حلب ومصر والشام ولبنان !
ينسى أتباع الخلافة قرنين من مقاومة الجيش المصري الشيعي للروم والفرنجة ويُطبِّلون لصلاح الدين السني ، وما كان عمله إلا أنه تسلق الى قيادة الجيش المصري الشيعي وجيش الحمدانيين في حلب الذين اشترطوا على ابن الزنكي حريتهم المذهبية فوقَّع لهم على شروطهم ؟!
ثم انظر كيف جاءت موجة الأتراك العثمانيين لضرب القوة الشيعية وفرض الخلافة السنية ، حاملة كل تعصب العباسيين والأمويين ، فرافقتها موجة شيعية أقامت الدولة الصفوية في إيران لحفظ حريتها المذهبية !
وعندما انهارت الخلافة العثمانية بحروب الإنكليز والوهابيين ضدها ، ودفنوا الخلافة والخليفة في استانبول ! كيف انهارت المؤسسة الدينية في العالم السني وصمدت المؤسسة الشيعية وحفظت وجودها واستقلالها ؟
وأخيراً ، عندما فشلت مقاومات الأمة القومية اليسارية والسنية ، كيف ظهرت المرجعية الشيعية في إيران ، فضخَّت في الأمة روح المقاومة والحياة ؟
وعندما انهزمت الجيوش والأنظمة العربية أمام إسرائيل ، كيف ظهرت موجة المقاومة الحسينية في شيعة لبنان فهزمت دولة إسرائيل الأسطورية ، وضخَّت في الأمة دماً جديداً للحياة والمقاومة ؟!
وعندما أرادت الوهابية تقليد الشيعة وضربوا مركز الغرب التجاري العالمي كيف جُنُّوا وأعلنوا الحرب على المسلمين ، وعجزت الوهابية عن خطابهم ، فجاء الخطاب الشيعي موازناً بين خطي المقاومة والتعايش !
إن بقاء الأمة اليوم بعناصر القوة في ثقافتها ومقاومتها ، مدينً للفكر الشيعي الذي تمسك بالنص ولم يخضع لمنطق القبيلة في السقيفة .
وبهذا تعرف سبب هذا التوجه المعاصر في شعوب الأمة الى أهل البيت عليهم السلام تريد أن تفهم قصتهم ومذهبهم ، لأنهم في عمقها الذهني والتاريخي مشروع نجاة عندما يستنفد مذهب الخلافة طاقته وخطابه !

وفي موضوعنا: نجد أن الإمام الباقر عليه السلام قد غيَّر وضعها العام تغييراً أساسياً ، فيكفي أن تنظر الى حالتها قبل الإمام عليه السلام في عهد عبد الملك وأولاده ، وحالتها بعد الإمام عليه السلام أي في بقية حكم هشام الى سنة 125 ، ثم في عهد الأربعة الذين خلفوه: الوليد ويزيد وإبراهيم ومروان الحمار ، لترى أن الإمام عليه السلام وتلاميذه أسسوا لعلوم اللغة والطبيعة ، والإنفتاح على ثقافة الشعوب وثروتها العلمية . وأنهم كسروا الجمود القبلي باسم الدين وبعثوا تيار الحرية في الأمة ، فاتخذ أشكالاً متعددة ، في طليعتها التشيع ، والإعتزال ، ونزعة التحرر .
إن هذه الموجة التي شق طريقها الإمام الباقر عليه السلام ، هي التي مهدت لثورة زيد رحمه الله ، ثم لثورة الخراسانيين على عمال بني أمية وضمم قوات العراق والشام اليهم ، وانتصار العباسيين على جيش النظام الأموي وإسقاطه .