موعظة علوية من نهج البلاغة، لا أدري هل نحتاج للنظر في أسانيدها!!!

قاسم

New Member
18 أبريل 2010
245
0
0
بعض المتون أجل من أن تحتاج للأسانيد لتثبيتها، ومثال ذلك: أكثر الخطب المودعة في نهج البلاغة، ومن تلك الخطب نقتبس واحدة، قال الشريف الرضي رحمه الله:

ومن كلام له (عليه السلام) قاله بعد تلاوته: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)
يَا لَهُ مَرَاماً مَا أَبْعَدَهُ! وَزَوْراً مَا أَغْفَلَهُ! وَخطراً مَا أَفْظَعَهُ! لَقَدِ اسْتَخْلَوْا مِنْهُمْ أَيَّ مُذّكر، وَتَنَاوَشُوهُمْ مِنْ مَكَان بَعِيد! أَفَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ يَفْخَرُونَ! أَمْ بِعَدِيدِ الْهَلْكَى يَتَكَاثَرُونَ! يَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ، وَحَرَكَات سَكَنَتْ، وَلاََنْ يَكُونُوا عِبَراً، أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَراً، وَلاََن يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّة، أَحْجَى مِنْ أَنْ يَقُوموُا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّة!

لَقَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِمْ بِأَبْصَارِ الْعَشْوَةِ، وَضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي غَمْرَةِ جَهَالَة، وَلَوِ اسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْكَ الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ، وَالْرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ، لَقَالَتْ: ذَهَبُوا فِي الاَْرْضِ ضُلاَّلاً، وَذَهَبْتُمْ فِي أَعْقَابِهِمْ جُهَّالاً، تَطَأُونَ فِي هَامِهِمْ، وَتَسْتَنْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَتَرْتَعُونَ فِيَما لَفَظُوا، وَتَسْكُنُونَ فِيَما خَرَّبُوا، وَإِنَّمَا الاَْيَّامُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ بَوَاك وَنَوَائِحُ عَلَيْكُمْ.

أُولئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُمْ، وَفُرَّاطُ مَنَاهِلِكُمْ، الَّذِينَ كَانتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ الْعِزِّ، وَحَلَبَاتُ الْفَخْرِ، مُلُوكاً وَسُوَقاً، سَلَكُوا فِي بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِيلاً سُلِّطَتِ الاَْرْضُ عَلَيْهِمْ فِيهِ، فَأَكَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ، وَشَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً لاَ يَنْمُونَ، وَضِماراً لاَ يُوجَدُونَ، لاَ يُفْزِعُهُمْ وُروُدُ الاَْهْوَالِ، وَلاَ يَحْزُنُهُمْ تَنَكُّرُ الاَْحْوَالِ، وَلاَ يَحْفِلُونَ بِالرَّوَاجِفِ، وَلاَ يَأْذَنُونَ لِلْقَوَاصِفِ، غُيَّباً لاَ يُنْتَظَرُونَ، وَشُهُوداً لاَ يَحْضُرونَ، وَإِنَّمَا كَانُوا جَمِيعاً فَتَشَتَّتُوا، وَآلاَفاً فافْتَرَقُوا، وَمَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ، وَلاَ بُعْدِ مَحَلِّهِمْ، عَمِيَتْ أخْبَارُهُمْ، وَصَمَّتْ دِيَارُهُمْ، وَلكِنَّهُمْ سُقُوا كَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً، وَبِالسَّمْعِ صَمَماً، وَبِالْحَرَكَاتِ سُكُوناً، فَكَأَنَّهُمْ فِي ارْتِجَالِ الصِّفَةِ صَرْعَى سُبَات، جِيرَانٌ لاَ يَتَأَنَّسُونَ، وَأَحِبَّاءُ لاَ يَتَزَاوَرُونَ، بَلِيَتْ بَيْنَهُمْ عُرَا التَّعَارُفِ، وَانْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الاِْخَاءِ، فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ وَهُمْ جَمِيعٌ، وَبِجَانِبِ الْهَجْرِ وَهُمْ أَخِلاَّءُ، لاَ يَتَعَارَفُونَ لِلَيْل صَبَاحاً، وَلاَ لِنَهَار مَسَاءً.

أَيُّ الْجَدِيدَيْنِ ظَعَنُوا فِيهِ كَانَ عَلَيْهِمْ سَرْمَداً، شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا، وَرَأَوْا مِنْ آيَاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا، فَكِلا الْغَايَتَيْنِمُدَّتْ لَهُمْ إِلَى مَبَاءَة، فَاتَتْ مَبَالِغَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ.
فَلَوْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا لَعَيُّوا بِصِفَةِ مَا شَاهَدُوا وَمَا عَايَنُوا، وَلَئِنْ عَمِيَتْ آثَارُهُمْ، وَانْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ، لَقَدْ رَجَعَتْ فِيهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ، وَسَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ، وَتَكَلَّمُوا مِنْ غَيْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ، فَقَالُوا: كَلَحَتِ الْوُجُوهُ النَّوَاضِرُ، وَخَوَتِ الاَْجْسَادُ النَّوَاعِمُ، وَلَبِسْنَا أَهْدَامَ الْبِلَى، وَتَكَاءَدَنَا ضِيقُ الْمَضْجَعِ، وَتَوَارَثْنَا الْوَحْشَةَ، وَتَهَكَّمَتْ عَلَيْنَا الرُّبُوعُ الصُّمُوتُ، فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا، وَتَنَكَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا، وَطَالَتْ فِي مَسَاكِنِ الْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا، وَلَمْ نَجِدْ مِنْ كَرْب فَرَجاً، وَلاَ مِنْ ضِيق مُتَّسعاً!

فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِكَ، أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَكَ، وَقَدِ ارْتَسَخَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ فَاسْتَكَّتْ، وَاكْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَابِ فَخَسَفَتْ، وَتَقَطَّعَتِ الاَْلْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلاَقَتِهَا، وَهَمَدَتِ الْقُلُوبُ فِي صُدُورِهِمْ بَعْدَ يَقَظَتِهَا، وعَاثَ فِي كُلِّ جَارِحَة مِنْهُمْ جدِيدُ بِلىً سَمَّجَهَا، وَسَهَّلَ طُرُقَ الاْفَةِ إِلَيْهَا، مُسْتَسْلِمَات فَلاَ أَيْد تَدْفَعُ، وَلاَ قُلُوبٌ تَجْزَعُ، لَرَأَيْتَ أَشْجَانَ قُلُوب، وَأَقْذَاءَ عُيُون، لَهُمْ فِي كَلِّ فَظَاعَة صِفَةُ حَال لاَ تَنْتَقِلُ، وَغَمْرَةٌ لاَ تَنْجَلِي.

فَكَمْ أَكَلَتِ الاَْرْضُ مِنْ عَزِيزِ جَسَد، وَأَنِيقِ لَوْن، كَانَ فِي الدُّنْيَا غَذِيَّ تَرَف، وَرَبِيبَ شَرَف! يَتَعَلَّلُ بالسُّرُورِ فِي سَاعَةِ حُزْنِهِ، وَيَفْزَعُ إِلَى السَّلْوَةِ إِنْ مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ، ضَنّاً بِغَضَارَةِ عَيْشِهِ، وَشَحَاحَةً بِلَهْوِهِ وَلَعِبِهِ! فَبَيْنَا هُوَ يَضْحَكُ إِلَى الدُّنْيَا وَتَضْحَكُ إِلَيْهِ فِي ظِلِّ عَيْش غَفُول، إِذْ وَطِىءَ الدَّهْرُ بِهِ حَسَكَهُ، وَنَقَضَتِ الاَْيَّامُ قُوَاهُ، وَنَظَرَتْ إِلَيْهِ الْحُتُوفُ مِنْ كَثَب، فَخَالَطَهُ بَثٌّ لاَ يَعْرِفُهُ، وَنَجِيُّ هَمٍّ مَا كَانَ يَجِدُهُ، وَتَوَلَّدَتْ فِيهِ فَتَرَاتُ عِلَل، آنَسَ مَا كَانَ بِصِحَّتِهِ، فَفَزِعَ إِلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ الاَْطِبَّاءُ مِنْ تَسْكِينِ الْحَارِّ بِالْقَارِّ، وَتَحْرِيكِ الْبَارِدِ بالْحَارِّ، فَلَمْ يُطْفِىءْ بِبَارِد إِلاَّ ثَوَّرَ حَرَارَةً، وَلاَ حَرَّكَ بِحَارٍّ إِلاَّ هَيَّجَ بُرُودَةً، وَلاَ اعْتَدَلَ بِمُمَازِج لِتِلْكَ الطَّبَائِعِ إِلاَّ أَمَدَّ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ دَاء، حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُهُ، وَذَهَلَ مُمَرِّضُهُ، وَتَعَايَا أَهْلُهُبِصِفَةِ دَائِهِ، وَخَرِسُوا عَنْ جَوَابِ السَّائِلِينَ عَنْهُ، وَتَنَازَعُوا دُونَهُ شَجِيَّ خَبَر يَكْتُمُونَهُ، فَقَائِلٌ [يَقُولُ] هُو لِمَا بِهِ، وَمُمَنّ لَهُمْ إِيَابَ عَافِيَتِهِ، وَمُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَى فَقْدِهِ، يُذَكِّرُهُمْ أُسَى الْمَاضِينَ مِنْ قَبْلِهِ.

فَبَيْنَا هُوَ كَذلِكَ عَلَى جَنَاح مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا، وَتَرْكِ الاَْحِبَّةِ، إِذْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ، فَتَحَيَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ، وَيَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِهِ، فَكَمْ مِنْ مُهِمّ مِنْ جَوَابِهِ عَرَفَهُ فَعَيَّ عَنْ رَدِّهِ، وَدُعَاء مُؤْلِم لِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عنْهُ، مِنْ كَبِير كَانَ يُعَظِّمُهُ، أَوْ صَغِير كَانَ يَرْحَمُهُ! وَإِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَات هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَة، أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْيَا.



ولنترك الكلام لابن أبي الحديد، قال:
هذا موضع المثل (ملعاً يا ظليم وإلا فالتخوية) من أراد أن يعظ ويخوف ويقرع صفاة القلب ويعرف الناس قدر الدنيا وتصرفها بأهلها فليأت بمثل هذه الموعظة في مثل هذا الكلام الفصيح وإلا فليمسك فإن السكوت أستر والعي خير من منطق يفضح صاحبه، ومن تأمل هذا الفصل علم صدق معاوية في قوله فيه: (والله ما سن الفصاحة لقريش غيره) وينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس وتلي عليهم، أن يسجدوا له كما سجد الشعراء لقول عدي بن الرقاع:


قلم أصاب من الدواة مدادها
فلما قيل لهم في ذلك قالوا: إنا نعرف مواضع السجود في الشعر كما تعرفون مواضع السجود في القرآن، وإني لأطيل التعجب من رجل يخطب في الحرب بكلام يدل على أن طبعه مناسب لطباع الأسود والنمور وأمثالهما من السباع الضارية ثم يخطب في ذلك الموقف بعينه إذا أراد الموعظة بكلام يدل على أن طبعه مشاكل لطباع الرهبان لابسي المسوح الذين لم يأكلوا لحما ولم يريقوا دماً، فتارة يكون في صورة بسطام بن قيس الشيباني وعتيبة ابن الحارث اليربوعي وعامر بن الطفيل العامري، وتارة يكون في صورة سقراط الحبر اليوناني ويوحنا المعمدان الاسرائيلي والمسيح بن مريم الإلهي.

وأقسم بمن تقسم الأمم كلها به، لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلى الآن أكثر من ألف مرة، ما قرأتها قط إلا وأحدثت عندي روعة وخوفا وعظة وأثرت في قلبي وجيبا وفي أعضائي رعدة ولا تأملتها إلا وذكرت الموتى من أهلي وأقاربي وأرباب ودي وخيلت في نفسي أني أنا ذلك الشخص الذي وصف عليه السلام حاله.

وكم قد قال الواعظون والخطباء والفصحاء في هذا المعنى وكم وقفت على ما قالوه وتكرر وقوفي عليه فلم أجد لشيء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي، فإما أن يكون ذلك لعقيدتي في قائله أو كانت نية القائل صالحة ويقينه كان ثابتاً وإخلاصه كان محضاً خالصا، فكان تأثير قوله في النفوس أعظم وسريان موعظته في القلوب أبلغ.
شرح نهج البلاغة ج 11 ص 152


قلتُ: فهل نحتاج للأسانيد لتثبيت هذه الخطبة؟؟؟