الفائدة من الإمامة في عصر الغيبة.

أدب الحوار

New Member
18 أبريل 2010
126
0
0
بسم الله الرحمن الرحيم

الفائدة من الإمامة في عصر الغيبة

تمثل الإمامة موضوعاً إسلامياً مهماً، كثرت حوله الأبحاث، وأشبعه شيعة أهل البيت بالدراسة والتحقيق.. وموضوع الإمامة مع ذلك، وبسبب سعته وأهميته؛ لا يزال يتطلب مواصلة الجهود العلمية للإجابة عن جميع التساؤلات المثارة حوله سواء من قبل الشيعة أو من قبل الفرق الأخرى.

ومن الأسئلة التي يتم طرحها مؤخراً وبكثرة من قبل خصوم شيعة أهل البيت: التساؤل عن فائدة الإمامة وهدفيتها في عصر الغيبة.

ويمكننا أن نصوغ الاستفهام المشار إليه في ثلاثة أسئلة:

1 ـ ما هي الفائدة من الإمامة في عصر الغيبة مع أننا لا نستطيع الرجوع إلى المعصوم واستفساره؟

2 ـ ما هو الفرق بين السنة والشيعة في عصر الغيبة؛ فكلاهما يرجع إلى العلماء؟ فكما أنكم توسطون العلماء غير المعصومين توصلاً إلى المعصوم، فكذلك أهل السنة يوسطون العلماء بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله.

3 ـ ألستم تقولون إن علة جعل الإمامة ووجود الإمام هو نفي الاختلاف، فكيف يصح ذلك والشيعة أنفسهم مختلفون بسبب اختلاف علمائهم ومراجعهم؟

وفيما يلي نبين الإجابات الصحيحة عن تلك الأسئلة الثلاثة.

أولاً: إن الشبهة تبتني على تصور خاطئ من قبل خصوم الشيعة، وهو أنهم حصروا فائدة الإمامة في لقاء الإمام واستفساره عن المسائل الدينية، وهذا خطأ فادح وتسطيح لفلسفة الإمامة والولاية، والصحيح أن هناك سراً أكبر للإمامة، وهو تمحيص معادن العباد، فبالإمامة يتبين المطيع من العاصي، ويتميز الطيب من الخبيث.. وذلك لأن الإمامة ـ أولاً وقبل كل شيء ـ هي مسألة إيمانية عقدية، وليست مسألة فرعية، وإن كانت تستتبع مسؤوليات على مستوى العمل في المرحلة التالية للإيمان والتصديق.

فالمطلوب ـ أولاً وقبل كل شيء ـ هو أن نؤمن بالإمام.. ولماذا نؤمن؟ الجواب: حتى يعلم الله أننا أطعناه في اختياره واصطفائه.

لقد طالب الله الملائكة أن يسجدوا لآدم حتى يختبر انصياعهم وطاعتهم، فالمطلوب الأساسي لم يكن أن يتعلموا من آدم مجموعة من الأحكام الدينية، ولا أن ينتفي الاختلاف بينهم، بل كان المطلوب أن يظهر تسليمهم لأمر الله من خلال الدخول من باب الله والتوجه إلى كعبة الإيمان (آدم عليه السلام) .. وحينئذ: ظهر كفر إبليس.. فهو لم يكفر بالله صراحة، بل كان في درجة عالية من العبادة، حتى إن الملائكة لم يكونوا يعلمون أنه من الجن، فلما خضع لامتحان الولاية، ظهر الحس الاستكباري فيه، ورفض أن يخضع لولي الله الذي يمثل الخضوع له اختباراً للأنفس؛ هل هي تخضع لاختيار الله، أم أنها تريد أن تستكبر على أوامر الله؟

فسقط إبليس في الامتحان، وتم طرده إلى الأبد من حياض الجنة ونعيم القرب بسبب رفضه السجود لولي الله تعالى.

وكمثال آخر: هل الإيمان بنبوة أنبياء الله الذين سبقوا خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله، هو إيمان مطلوب في الدين الإسلامي؟

من الواضح أنه مطلوب، والله تعالى يقول: (...وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ...) .

فهل نحن نتلقى تعاليم ومسائل دينية من أولئك الأنبياء؟

إذاً: يتبين أن الإيمان مطلوب في حد ذاته سواء اقترن به الاستمداد في التعاليم الدينية أم لا.

فالنقطة الأولى التي نريد التأكيد عليها هي أن معرفة الإمام مطلوبة في حد ذاتها، لأنها مسألة إيمانية، بغض النظر عما إذا كان من الممكن أن نستمد من الإمام تعاليم دينية أو لم يمكن ذلك.

في الحقيقة: وجود الإمام جاء ـ أولاً وقبل كل شيء ـ للتمييز بين الملائكيين الذي لا يأبون الدخول من باب الله، ويسارعون في السجود لكعبة الإيمان، وبين الشيطانيين الذي يختلقون الأعذار الواهية ليرفضوا السجود، لينتهي بهم المطاف إلى الطرد من رحمة الله والابتعاد عن رضوانه.

وبهذا تبينت الفائدة من وجود الإمام في عصر الغيبة، ولو لم يكن موجوداً لما حصلت هذه الفائدة.

ثانياً: إن الغيبة لا تمثل ظرفاً طبيعياً، بل هي ظرف استثنائي، والسبب الرئيس في هذا الظرف الاستثنائي هم خصوم الإمام والذين لا يؤمنون به؛ لأنهم لو كانوا يؤمنون به، وكانوا يمثلون قوة يمكنه أن يستند إليها في إقامة دولة الحق التي تملأ الأرض قسطاً وعدلاً، لظهر الإمام بإذن الله تعالى.

وهذا يعني أننا نقبل أن هناك خسارة كبيرة مُنيت بها البشرية بسبب الغيبة، ولكننا نقول: إن الناس هم السبب؛ فهم ليسوا متصفين بما يجعلهم مستعدين لاستقبال دولة الحق، بل لا يزال وعيهم متدنياً، ولا تزال ثقافتهم معادية للإمام.. وإننا نشهد في هذا العصر كثرة الحقد والعداء ضد شيعة الإمام المهدي، ولا يزال شيعة أهل البيت يعيشون مستضعفين في معظم بقاع الأرض.. وهذا مؤشر على أن الظروف لا تزال غير مواتية للظهور، والسبب هم أعداء الشيعة.. وقد يكون للشيعة أنفسهم دور في ذلك إذا كانوا مقصرين في توحيد القلوب وإشاعة الخير.

والذي أريد أن أخلص إليه في هذه النقطة: أن هناك مجموعة من المجرمين عملوا كل ما في وسعهم لمحاربة الحق وأهله، وهم على استعداد لأن يقتلوا ولي الله، كما قتل أسلافهم آباءه الطاهرين، فغيبه الله تعالى لأجل معلوم عنده، فأخذ المجرمون يتساءلون: ما هي الفائدة من إمام غائب؟!

نقول لهم: أما الفائدة الإيمانية العقدية فقد بينا لكم أنها متحققة بوجوده، والغيبة لا تعيق هذه الفائدة، وأما مراجعته واستفساره عن الدين، فهذه فائدة حُرمت منها الأمَّة بسببكم أنتم.. ولو آمنتم به وأعددتم قلوبكم للانصياع لدولته الكريمة، لأظهره الله تعالى.

ثالثاً: الفرق بين الشيعة والسنة كبير جداً، فالشيعة يرجعون إلى العلماء بوصفهم مرآة تعكس تعاليم الأئمة من أهل البيت، أي أنهم يتحركون في أجواء أهل البيت، بينما لا يرجع أهل السنة إلى علمائهم بهذا الوصف، ولما كان علماء أهل السنة يرفضون مرجعية أهل البيت وإمامتهم، فهذا يعني أن الراجع إليهم يتحرك في أجواء الرفض لولي الله وحجته.

ومثال ذلك: اليهود والنصارى في هذا الزمن فإنهم يرجعون إلى علمائهم في معرفة تعاليم أنبيائهم، إلا أن علماءهم لما كانوا يتحركون في أجواء الرفض لنبوة خاتم الأنبياء، ورفض نبوته كفر بالله تعالى، فالرجوع إلى علماء اليهود والنصارى يمثل حالة كفرية.

فكما لا يصح لليهودي أن يقول للمسلم: لا فرق بيني وبينك؛ فأنا وأنت كلانا نرجع إلى علماء نستقي منهم تعاليم الأنبياء، فكذا لا يصح للسني أن يقول للشيعي: لا فرق بيني وبينك فكلانا نرجع إلى علماء نستقي منهم تعاليم القرآن والسنة.

فكما كفر اليهود والنصارى بحقانية خاتم الأنبياء، فرفضهم الله وأحبط أعمالهم، فكذلك الرافض لإمام زمانه لا يحبه الله، بل يعده ككفار الجاهلية، ومن هنا أجمع السنة والشيعة على رواية مضمون: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية.

رابعاً: إننا لا ننكر أن هناك اختلافاً بين علماء الشيعة على صعيد العقائد والفقه، ولكن هذه الاختلافات لا تضر، ولا هي المقصودة في الأحاديث التي بينت أن نفي الاختلاف من ثمرات الإمامة. وبيان ذلك في نقاط:

النقطة الأولى: أن الاختلاف تارة يكون اختلافاً بسبب ترك حجة الله والإعراض عن ولي الله، كاختلاف اليهود والنصارى مع المسلمين، وكذا اختلافهم فيما بينهم، وكاختلاف أهل السنة مع الشيعة، وكذا اختلافات أهل السنة فيما بينهم.. فهذا الاختلاف هو الاختلاف المضر، وهو الذي جاءت النبوة والإمامة لنفيه ومعالجته؛ لأنه يعبر عن حالة من الجحود والمزاجية والشيطنة.

وتارة أخرى لا يكون الاختلاف بسبب الإعراض عن حجة الله، بل يكون بسبب إبهام أو إشكالية في النصوص الواردة عن حجة الله، أو بسبب فهم خاطئ ـ بعد استفراغ الوسع وإعمال الورع ـ لما ورد عنه.. وهذا النوع من الاختلاف هو الاختلاف الذي يقع فيه علماء الشيعة، وهو ليس اختلافاً سلبياً، بل هو اختلاف طبيعي بسبب قصور علم غير المعصوم، وبسبب طبيعة الظروف التي أحاطت بالمعصومين مما أدى بهم إلى تصدير أحاديث لا تعبر عن حكم الله، بل الغرض منها دفع شر الفرق الأخرى التي كان فكرها مهيمناً على الساحة آنذاك.. وهذا الاختلاف يمثل حالة لا يمكن تجنبها حتى في عصر حضور المعصوم؛ لأن المعصوم لا يتواجد في كل البقاع ولا يتدخل في كل الجزئيات حتى في عصر حضوره، فمن الطبيعي أن يختلف الرواة عنه، ومن اللازم أن نقول إن الله يعذرهم ما بذلوا الوسع وتحروا الصدق والأمانة والورع.

فالذي نخلص إليه في هذه النقطة هو أن الاختلاف المرفوض والذي جُعلت الإمامة في سبيل نفيه، هو الاختلاف الأول، وليس الاختلاف الثاني، وما يعاني منه شيعة أهل البيت هو الاختلاف الثاني، وما يعاني منه من عداهم هو الاختلاف الأول.

النقطة الثانية: إننا وإن قلنا إن الاختلاف من النوع الثاني، وهو الاختلاف الذي يتحرك في نطاق الوارد عن الإمام، ولا يمثل تمرداً على مرجعيته، ليس اختلافاً جُعلت الإمامة لنفيه، ولكن هذا لا ينفي أن الإمامة يمكن أن تلعب دوراً في تقليصه، وهو ما حصل بالفعل في الإطار الشيعي، فالأئمة بعد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وعلى مدى 200 سنة تقريباً، وخصوصاً في عصر الخامس والسادس والسابع والثامن منهم عليهم السلام، قاموا برفد التشيع بتراث ضخم من التعاليم الدينية في العقيدة والشريعة، وهو ما جعل التراث الشيعي في علم الحديث أغنى من التراث السني بكثير، حتى قيل إن كتاب الكافي وحده (في الإطار الشيعي) يضاهي ـ من حيث كم الأحاديث ـ الصحاح الستة في الإطار السني.. والأهم من الناحية الكمية: الناحية المضمونية، فالتراث الشيعي تعرض ـ غير مرة ـ للغربلة والعرض على الأئمة عليهم السلام، بخلاف التراث السني الذي لا يدعي أصحابه أنهم عرضوه على معصوم.. بل هناك شواهد تدل على أن الأئمة من أهل البيت ـ عليهم السلام ـ كانوا يتدخلون في تقويم المسار العلمي حتى على صعيد علم الجرح والتعديل.

إذاً: فهذا فرق آخر ومهم بين المدرستين، فالمدرسة السنية لا يزعم أصحابها أنهم عرضوا تراثهم الحديثي على معصوم وحجة لله.. بينما هذا متحقق في إطار المدرسة الشيعية.

وهناك شواهد عديدة تؤيد هذه النقطة، ولكن تعدادها واستعراضها يوجب تطويلاً.. ولكن يمكننا أن نكتفي بالإلماح إلى المتون الحديثية التي تتضمن دلالة على التجسيم لذات الله تعالى، وهي متون موجودة في التراث السني، ومنهم طائفة كبيرة يعتقدون بصحتها.. بينما لم يقع شيعة أهل البيت ـ لا الإمامية ولا الزيدية ـ في هذه الورطة العقدية الخطيرة.

كما يمكننا الإلماح إلى المضامين التي فيها حط من مقام أنبياء الله، وتلك النصوص التي تفوح منها رائحة التوراة المحرفة.. فإن هذا النمط من المضامين أخذ طريقه إلى صحاح أهل السنة، والكثير منهم يعتقدون بها.. بينما لم يقع شيعة أهل البيت في هذه الورطة.

إلى غير ذلك من الشواهد التي تدل على أن الاعتقاد بالإمامة جعل الشيعة في مأمن من العديد من الفخاخ التي وقع فيها غيرهم تحت ذريعة النصوص الدينية والمضامين الحديثية.

خامساً: إذا تنزلنا جدلاً وقلنا إن نفي جميع أنواع الاختلاف يمثل فلسفة وجود الإمام، فإننا نقول: هذا يوجب أن يوجد الله الإمام، ولكن هذا لا يتنافى مع الغيبة بسبب المانع من الظهور، أي أننا نفرق بين الوجود وبين الظهور، فالوجود من الله، وقد حققه الله، ولكن الظهور له أسباب عمل العباد على نفيها، أي أنهم قاموا بما من شأنه أن يحرمهم من حضور الإمام بينهم.

مثال ذلك: النبي الأكرم صلى الله عليه وآله حين غادر مكة باتجاه المدينة في الهجرة؛ فإن وجود النبي بين أهل مكة كان رحمة من الله ولطفاً منه؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ولكن حين أبى كفار قريش أن يؤمنوا، بل حاولوا أن يقتلوا النبي، أمره الله بأن يغيب عنهم ويغادر مكة..

وهكذا الإمام المهدي المنتظر.. فقد أوجده الله تعالى، ولكن العالم كله لا يريد أن يؤمن به، بل يخطط لقتله، فغيبه الله، ولكن لم يظهره في مدينة أخرى، بل جعله غائباً عن جميع الدنيا، لأنه لا توجد مدينة يتوفر فيها أنصار له يمكنهم أن يحتضنوا مشروعه..

قد توجد بعض المدن في العالم يسكنها الشيعة، ولكن قد يكون هؤلاء الشيعة ليسوا بتلك الصلابة الإيمانية الكافية، أو لعلهم بالدرجة الإيمانية الكافية، ولكن مشكلتهم أنهم لا يمتلكون القوة التي تمكنهم من نصرة الإمام، بالقياس إلى أعدائهم الذين يمثلون قوى الشر المهيمنة على العالم مادياً واقتصادياً.

وربما كانت هناك علل أخرى تؤخر الظهور، يمكننا أن نطلع على بعضها في الروايات الواردة عن أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام.

فحصيلة هذه الإجابة أن الله أوجد الإمام لينفي جميع الاختلاف المقصود، ولكن الناس رفضوا الحل الذي جعله الله، فسلبهم الله هذا التوفيق، وحرمهم من هذه النعمة، وهذا ما أدى لأن يقع الناس في الاختلاف، فهم السبب في الغيبة، وهذا يعني أنهم هم السبب في الاختلاف.

هذا ما تيسر لي بيانه على عجالة، وأسأل الله أن يوفقنا جميعاً إلى قبول الحق والتعاطي معه بصورة إيجابية.


ملاحظة: كان لي موضوع في هذا السياق، نشرته في هجر، وسأعيد نشره في المشاركة التالية إن شاء اله تعالى.


[line]-[/line]


بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين


كيف تنسجم فلسفة وأدلة الإمامة والهداية مع الغيبة الكبرى؟

إن الإمامة ضرورة ملحَّة تبتني على احتياج الناس إلى الهادي المرشد الذي يأخذ بأيديهم إلى بر الأمان ويبين لهم المسار الذي ينتهي بهم إلى رضا الله تعالى ويخرجهم من الظلمات إلى النور.. وقد جاءت النصوص ـ قرآناً وسنةً ـ لتؤكد أهمية الإمامة ولتبين الهداة من بعد النبي صلى الله عليه وآله. ومن الجدير بالتنويه أن الأمة متفقة على ضرورة الإمامة واحتياج العباد إلى الأئمة، ولكن أهل السنة ادعوا أن هذه السلسلة المباركة قد انقطعت بوفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وأنه ما عاد هناك أئمة يحملون مشعل الهداية كما حملها الأئمة من قبل ممثلين في الأنبياء وأوصياء الأنبياء. وهذه الدعوى لا دليل عليها، كما أنها تنافي أدلة الإمامة العامة في القرآن الكريم، وهي التي تشمل إمامة الأنبياء منذ آدم عليه السلام وصولاً إلى خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله، وتشمل ورثة الكتاب من ذريته المباركة الذين هم ذرية إبراهيم الذين جعل الله فيهم الكتاب.

والمهم الذي نريد أن نركز عليه في هذا الموضوع هو التساؤل عن وجه انسجام أدلة الإمامة وفلسفتها مع الغيبة الكبرى، حيث يتصور البعض أن هناك تنافياً بين الأدلة التي يسوقها شيعة أهل البيت عليهم السلام لتثبيت الإمامة من جهة، وبين الغيبة التي يفسرونها بحرمان الأمة من الهادي من جهة أخرى.. فلو كان لا بد من الهادي المعصوم بعد النبي إلى قيام الساعة، فكيف انتقض هذا الأساس بالغيبة الكبرى..

وإجابة عن هذا السؤال أطرح هذا الموضوع، وأرجو من فضلاء إخواني أن يساهموا بالإضافات والتصحيح؛ لعل الموضوع ينضج ويتكامل بذلك، علماً أن الحاجة إليه شديدة كما لمست في حواراتي في غيرما مناسبة ومكان.

نسأل سؤالاً ـ للتقريب والتوضيح ـ : هل العين نعمة من الله تعالى على الإنسان؟

الجواب: نعم، وهي من أعظم نعمه، وكذا بقية القوى التي يستعملها الإنسان في الإدراك..

والآن نسأل مرة أخرى: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يخلق الله كثيراً من الناس عمياناً، أو فاقدين لواحد أو أكثر من الحواس؟

إن الجواب الصحيح عن هذا السؤال هو: أن الأصل والقاعدة الامتنانية هي أن يخرج الإنسان إلى هذه الدنيا سالماً معافى من كل سوء، والعمى مرفوض فيما يحبه الله للإنسان، إلا أن مجموعة من الظروف التي تحكم علاقات الأشياء بعضها ببعض توجب أن يحصل خلل دنيوي يذهب ضحيته بعض الناس، والله قادر على التدخل، ولكنه ـ تبارك وتعالى ـ لا يتدخل لتجري الأمور على أسبابها الطبيعية في أكثر الحالات، وفي نفس الوقت لا تتحول حالة العمى والنقص الخلقي إلى قاعدة أصلية، إلا أنها تتحقق ضمن قاعدة وقانون كلي آخر هو ضمن قوانين مخلوقات الله تعالى.. والله تبارك وتعالى يمتحن بمثل هذه الظواهر الناس، فيميز الخبيث من الطيب..

وبالرغم من وضوح هذه الإجابة، إلا أنها تحتاج إلى عقل صاف وقلب شفاف.. وإلا فالملحدون يتمسكون بالخلل في المخلوقات لينفوا وجود خالق حكيم يدير الكون ويدبره..!

والآن لنرى مدى قرب وانطباق هذا المثال على موضوعنا:

إن الأصل والقاعدة هي أن الله تعالى يحب أن يهدي مخلوقاته عبر خلفائه في الأرض، فيعطيهم العلم والحكمة والكتاب، ويعصمهم من الانحرافات، ويجعلهم أسوة للبشرية جمعاء..

إلا أن هذا لا يمنع ـ ضمن ظروف استثنائية ـ أن يُغيِّب الله خليفته، ومن تلك الظروف ـ على سبيل المثال ـ عتو الناس وعدم انصياعهم لخليفته، والله تعالى لا يحب أن يكون الناس من غير إمام يرونه ويراهم، ويلتقونه ويستمدون منه، إلا أن هذا لا يمنع في ظل الظروف الاستثنائية أن تتفعل سنة أخرى وهي سنة الغيبة.

إذاً فالأصل هو الوجود بين ظهراني الناس، لأن الدليل العقلي والنقلي يوجب ذلك، كما أن الأصل أن يولد الناس مع نعمة البصر والبصيرة، إلا أن هذا لا يعني استحالة أن تتحق شروط استثنائية توجب حرمان الناس من نعمة حضور الهادي بينهم بحيث يرونه ويراهم، كما أن الظروف (الوراثية) تقتضي أن يحرم كثير من الناس من نعمة البصر مثلاً.

إلا أن الحرمان من حضور المعصوم لا يعني الحرمان بصورة مطلقة ومطبقة من هدايته وبركة وجوده، ومن يتصور خلاف ذلك فإن السبب في ذلك هو توهم أن الفائدة من وجود المعصوم تنحصر في تأدية رزمة معينة من التعاليم الدينية فحسب، وهذا تصور غير صحيح، بل الصحيح أن لوجود المعصوم ـ حتى وهو غائب ـ ثلاث فوائد أخرى:

1 ـ التمييز بين المؤمن باعتقاده بولاية المعصوم، والكافر بإنكاره لذلك. تماماً كما كان الإيمان بنبوة رسول الله (ص) فارقاً بين المؤمن والكافر حتى بغض النظر عن التعاليم الدينية الأخرى التي يحملها النبي إلى الناس، فالنبوة والإمامة في حد نفسهما يمثلان ركناً من أركان الدين.

2 ـ الدعاء والصلوات على المؤمنين والاستغفار لهم، وهو أمر مهم جداً، وقد قال الله لرسول الله صلى الله عليه وآله: (وصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) . وهكذا يبقى المؤمنون بحاجة إلى المدد المبارك الذي يُستنزل ببركة دعاء المعصوم واستغفاره، وهذا يتحقق حتى والمعصوم غائب.

3 ـ التدخل (بالصورة المناسبة للغيبة) في تسديد وترشيد المسار، خصوصاً في المنعطفات المهمة والخطرة، وهذا أيضاً لا يتنافى مع الغيبة.

هذا، ويلزم التنبيه إلى أن عصر الغيبة الكبرى يتميز بعنصر خاص وهو وجود تراث حديثي ضخم وصل عن الأئمة المعصومين عليهم السلام، يمثل صمام الأمان بالنسبة إلى الشيعة، بحيث يمكنهم ببركته أن يتحركوا في عصر الغيبة ويدخلوا تجربة الامتحان والصبر، حتى يفرج الله عن وليه ـ عجل الله تعالى فرجه الشريف ـ فيكون بفرجه فرج شيعته الأبرار.

إلا أن هذا التراث الحديثي الضخم يتطلب فقاهة ومستوى عالياً من العلم والفهم والورع؛ ليكون التعامل مع التراث تعاملاً سليماً إلى أكبر قدر ممكن، وهو ما يبرر لزوم الالتفاف حول أهل العلم والفقهاء، والحذر من الجهلة الذين يزعمون التوفر على العلم بالاستمداد مباشرة من الروايات، كما هو ملحوظ في دعاوي الفئات الضالة من المجموعات الشيعية المنحرفة.

فتلخص مما تم ذكره:

1 ـ أن القاعدة الأصلية التي تقتضيها الأدلة هي وجود وحضور المعصوم في كل زمان.

2 ـ أن غيبة (مع وجوده) المعصوم هي ضمن قاعدة استثنائية، وليس نقضاً كلياً للقاعدة الأصلية.

3 ـ أن غيبة المعصوم لا توجب تعطيل جميع وظائفه، بل هناك أمور أساسية تتوقف على وجوده ونشاطه حتى في حال غيبته.

هذا باختصار، وأرجو أن يزودنا الفضلاء بتصحيحاتهم وإضافاتهم؛ عسى الله أن ينفعنا وينفع إخواننا بما نكتب.

والله ولي التوفيق.