قابلية الاستعمار وقابلية الاستحمار ... عند البشر

18 أبريل 2010
21
0
0
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

في الستينيات من القرن الفائت قرأت كتاب الأستاذ مالك بن نبي ( الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) ومالك بن نبي معروف بفكره المزيج بين التجربة الأوربية والفكر الإسلامي والعربي ، وهو قد أضفى - بذكائه الخاص - صبغة خاصة على دراساته في الحضارة والنشوء الحضاري.

وفي كتابه المذكور كان يركّز على مفهوم غريب نسبياً، وكان هذا المفهوم موطن تندر من بعض العلماء، والمفهوم هو: ( قابلية الاستعمار) وملخص فكرته بأن الشعوب الضعيفة والمتخلفة يتولد في داخل الفرد فيها رغبة شديدة بقبول حالة استعمار أمة أخرى له و لبلده، بحيث نرى أن الفرد يتبرع بنفسه ليدل المستعمر على ما لم يفكر به. وقد ساق صور و شواهد كثيرة جدا.

حين قرأت هذا الكتاب، اضطررت أن اقرأه مرتين، لأنه هزني بالفعل.
وبعد أن استوعبت الفكرة، بدأت الصور تتوارد على ذهني، سواء فيما أراه من تطبيق أو فيما قرأته لما جرى في التأريخ.

وبدأت الصور تتغير إلى موضوع آخر، فقد تبين لي أن الموضوع اشمل من موضوع الاستعمار.
ففي الواقع العملي نرى الناس يسارعون متبرعين لتقديم معلومات للحاكم أو أي قوي أو غني تجعلهم في موقف أضعف وتجعل القوي في موقف أقوى. مما يعني أن هذا الموضوع يرتبط مع حالة ضعف الإنسان بشكل مطلق، ولكن الضعف إنما هو بالدرجة الأولى ضعف فكر وضعف نفس قبل الضعف المادي أو الحضاري.

وفي نهاية السبعينات قررت القيام ببحث فقهي لموضوع غريب وهو موضوع الدعاية للسلع التجارية وحكم الشرع في صورها وجزئياتها. وبعد شهر من القراءات لما يتعلق بالموضوع من دراسات تبيّن لي بأن نظرية الدعاية قائمة على فكرة ( خلق الحاجة في نفس المستهلك المحتمل للسلعة) وحكم هذا التوجه يعتمد على واقع السلعة ولكن في الغالب إنما هو عملية كذب مبطنة تصنع حاجة ملحة في نفس المستهلك من أجل شراء هذه السلعة، وبعد أن يشتريها يكتشف انه مدعو لسلعة أخرى وهكذا دواليك.

وهنا تساءلت ما الذي يدفع الإنسان لهذا الانسياق؟

فجاءني الجواب من أحد الدراسات المعمقة للموضوع يقول:
بأن لدى البشر رغبة داخلية بأن يُكذب عليهم وهم يرتاحون نفسيا للكذب المزوق والمبالغات في المواصفات وأهميتها حتى لو لم تكن ذات أهمية فعلية خارج الوجود الذهني. ولهذا فإن الكثير من الشركات تقوم بزيادة المواصفات في المنتج بناءً على دراسات نفسية تربط بين المواصفة والبهجة النفسية التي تخلقها المواصفة بواسطة الدعاية لها، ولو فشل المنتج فذلك يعني أحد أمرين إما فشل الحملة الدعائية أو فشل التهديف للبهجة ومتطلباتها.

إذن نحن أمام قابلية لدى البشر لتصديق واستيعاب ألاعيب وأكاذيب الآخرين أو مبالغاتهم ، وقد قمت بتقسيم هذه الحالة إلى مستويين:
الأول هو المستوى الطبيعي والمتلائم مع فكر وحضارة الإنسان ، مثل الابتهاج بمواصفات براد أو سيارة أو ما شابه ذلك من بضائع أصبحت مكشوفة للمجتمع.
والثاني هو المستوى الوضيع وقد أسميته (قابلية الاستحمار)، وهذا له أمثلة لا تعد ولا تحصى، تبدأ من التصديق بمفعول أدوية عجيبة غريبة ( كما هو حال دعايات السلفية للحبة السوداء وأنها تشفي السرطان والإيدز!!!) إلى التصديق بالأكاذيب الثقافية.

قابلية الاستحمار مرة تنبع من النفس ووضاعتها وأخرى بواسطة التربية ، غير أن ما كان نابعا من النفس لا يشكل ظاهرة عامة.
ولكن ما كان بواسطة التربية يمكن أن يشكل ظاهرة عامة، فتربية شعب كامل على أن لا يفرّق بين الناقة والجمل هي بالتأكيد تربية على (قابلية الاستحمار) وطلب هذه الميزة علناً .

وقابلية الاستحمار تتجلى في صور كبيرة في مجتمعاتنا العربية فهي تتراوح:
بين تقديم ثقافة جاهزة ومعايير معلبة
وبين غلق باب الاجتهاد
وبين فتح الاجتهاد للجهلة أو بسطاء المثقفين.

وحسب رأيي فإن أخبث عملية استحمار قام بها الحكام ومدارسهم الفكرية في المجتمع الإسلامي هو إنشاء مشاريع الصحاح في الحديث. وتجهيز قوالب كاذبة يطبق عليها الحديث في سبيل تدمير الإسلام من الداخل.

أن وضع الحديث بقوالب مجهزة وتصحيحها والدعوة إلى الاقتصار عليها، هي دعوة صريحة لغلق العقول، ودعوة لتعويم ما يراد تعويمه وترسيخ ما يراد ترسيخه رغم كذب الحديث علنا وعيانا ولكنه يوصف بالصحة وبأنه عقيدة.
فهذا هو الاستحمار بعينه وعيانه .

ما رأيكم باسم هذا الكتاب؟
:
(عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن).

تأليف الشيخ حمود التويجري وتقريض الشيخ عبد العزيز بن باز. وهو كتاب يعتمد على حديث كاذب أو محرف.
والتويجري يؤيد صحة هذا الحديث -المحرّف- بفهم اليهود فيقول في صفحة(67) : (وأيضا فهذا المعنى عند أهل الكتاب من الكتب المأثورة عن الأنبياء فإن في السفر الأول منها : ( سنخلق بشراً على صورتنا يشبهها).) ويقصد بهذا الكلام ما هو موجود في التوراة المحرّفة التي بأيديهم.

هكذا الاستحمار وإلا فلا.

كتاب يصرح بأن عقيدة أهل الإيمان هي البناء على حديث غير موجود من حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. والموجود في الحديث هو أن آدم خُلق على صورة من شُتم أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس على صورة الله.
فأحاديث كاذبة أو محرفة يجبر المسلمون على اعتبارها صحيحة وتبنى عليها عقيدة، ولا يوجد معترض. فهذا استحمار تام .

فهنا تكمن خطورة المعلبات الحديثية، وهنا تتوضح لنا الإجابة عن السؤال: لماذا يراد وضع أطر عامة للتصحيح؟ وعلى الجماهير إغماض العيون المشي وراء الدجال.

حيث أن المقصود الأولي هو استحمار الناس تربويا.

وهذا النوع من التعتيم وسلب القدرة على الاجتهاد وترك تمحيص التراث على أسس إبداعية مخلصة يؤسس لحالة خطيرة هي سر تخلف المجتمعات الإسلامية التي بيدها القدرة والقوة الفعلية.

إن فكرة الصحاح مبنية أساسا على فكرة تجهيز معايير مصنّعة وطلب اتباعها بدون تفكير أو بدون تمييز، من أجل تمشية ما يراد من صورة محددة.
الحاكم واتباعه من وعاظ السلاطين لا شأن لهم بعدد ركعات الصلاة أو مفطرات الصوم، ولكن ما يهمهم هو أن يكون الإسلام طوع أمرهم باعتباره الدين الذي يحكم جماهيرهم.
ولهذا فهو العدو الأول الذي يجب أن يمسك من العنق، وهو من يمسك بأعناق الناس. فيكون من مسك أسس الإسلام مسك أعناق الناس، ولهذا نراهم يتدخلون في الصلوات والأعياد ورؤية الهلال وغير ذلك من أجل أن يكون الإسلام بشكله المادي بيد الحاكم وأتباعه. وعلى الجميع السمع والطاعة.

وهذه المنجزات تتحقق بصورة أفضل حين يسيطر على المعايير وعلى الحديث الشريف الذي هو مركز العلوم الإسلامية.

ولم يكتف من ابتلوا بأن خضعوا لهذه الكوارث، فأغلقوا عقولهم، بل اصبحوا يطالبون من برأهم الله من هذا الاستحمار أن يصححوا الأحاديث، وبعضهم يطالب بنسب مئوية لصحة الحديث وكأن الحديث الشريف مادة كيماوية يقاس فيها نسبة الرطوبة.

هذه الدعوات الغبية نابعة من استحمار حقيقي لعقولهم بطريق تربوي طويل، ونحن محصّنون ضد الاستحمار بفتح الدراسات وإخضاعها لمعايير شخصية إبداعية بغض النظر عن ما وصلت إليه النتائج فقد قبلنا من قال بصحة الجميع وقبلنا من قال أن الصحيح أقل من ربع الموجود، ولا نجد في ذلك غضاضة لأن رأي أي منهم لا يعتبر مدرسة للآخرين من دون منع أن يكون مدرسة بالفعل ولكنه بلا طغيان على الفكر والبحث الحر.

أقول لهؤلاء الأغبياء المتورطين بصيحات المطالبة بالتصحيح العام:

لو أنني قمت بتصحيح ما يصح عندي في الكافي وطبعته كتابا ، فما قيمة هذا العمل بالنسبة للباحثين الآخرين؟

طبعا سوف لن يكون له أي قيمة علمية غير طبع محط نظري فقط، لأن أي مجتهد لو اعتمد على معاييري وتحقيقي فهو مقلد لا قيمة له ولا يعرف كيف يستنبط الأحكام، وسوف لن يكون اكثر من الفقهاء الذين يقولون هذا صحيح لأنه على شرط الشيخين. وكأن شرطهما صحيح بنفسه!!!

ثم أن هناك مسألة أساسية وهي في نفس التقسيمات الحديثية والمصطلح، فقد يكون معنى الصحيح عند الخوئي غيره عند الحكيم وغيره عند اليزدي وهكذا دواليك.
هناك خلافات حتى في التقسيمات فقسم كبير من الفقهاء لا يؤمن بالتقسيم الرباعي ويراه تقسيما ثمانيا وقسم منهم لا يرى أصل هذه التقسيمات من أساسها، فبعض المفكرين لا يرى الفرق بين الصحيح والموثق لا من حيث المصطلح ولا من حيث القيمة المعرفية ، وبعضهم يرى قسما من الضعيف يدخل في الحسن بموجب نظريته في القرائن وبعضهم يدخل الصحيح في الضعيف بموجب نظريته في التصحيح.

فعلى أي أساس يمكن وضع معايير موحدة وقوالب استحمارية من أجل إنتاج أحاديث معلبة جاهزة للاستعمال؟؟؟

ما صح عند الخوئي قد لا يصح عند تلميذه وما ضعف عند الخوئي قد يكون صحيحا أو حسنا عند تلاميذه، فكيف بزملائه أو بمن لا يؤمن بمدرسته أصلا؟

فالخلاصة إن أعظم شاهد من شواهد قابلية الإستحمار أن يطلب أحد من الناس، تجهيز حزمة أحاديث يسميها بالصحيحة .
فهذا عمل تحقيري لقدرات الإنسان الإبداعية ولعمل الإنسان الاجتهادي.

وبهذا انتهيت من التصور بأن ما يسميه المفكر الجزائري الأستاذ مالك بن نبي بـ (قابلية الاستعمار) إنما هي حالة عقلية نابعة من النفس المعقدة أو من التربية السيئة ويمكن وصفها بـ (قابلية الاستحمار). وكل من لا يلتفت إليها يخسر إنسانيته ويخسر قدراته العقلية.

هذه القابلية تعني بكل صراحة أن يطلب أحد منك أن تستغفله وتلغي عقله وتقدم له المعلبات الجاهزة مع فقد مواد الحس والتذوق لما يستلم.

هذه القابلية موجودة بالفعل ونحن نرى يوميا من يلحّ علينا بأن نتحول إلى هذه الحالة عسى أن يرتاح نفسيا لأنه لا يرتاح إلا بأن يرى الجميع مثله. ويحاول أن يقنع نفسه بشتى الحجج، ومن أجمل حججهم هو أن توفير هذه القاعدة تريحهم وتجعل الأمور واضحة.

مع تحيات

المنار