حديث الثقلين والولاية التكوينية بأعلى درجاتها

18 أبريل 2010
6
0
0
بسم الله الرحمن الرحيم

حديث الثقلين والتصرف في عالم الوجود
قال تعالى : ( قال يا أيها الملا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين * قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين * قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر )(331) .
هذه الايات المباركة من سورة النمل تحكي قصة النبي سليمان عليه السلام مع بلقيس ملكة سبأ ، فبعد أن نقل له الهدهد رؤيته لمملكة سبأ وأنهم كان يعبدون الشمس من دون الله ، وكانت إمرأة تحكمهم ، بعث مع الهدهد رسالة إلى ملكة سبأ وكانت تسمى « بلقيس » يأمرها بعبادة الله عز وجل وترك عبادة الشمس ، وأن ينقادوا لهذا الأمر طائعين ، فعندها قررت ملكة سبأ بأن ترسل له هدية لتعرف أنه نبي أو ملِك ، فلما رفض عليه السلام هديتها عندها أدركت بلقيس بأن سليمان عليه السلام ليس بملك كبقية الملوك ، وأنه ليس من طلاّب الدّنيا وزينتها ، فقررت أن تذهب لرؤيته بنفسها ، فتجهزت للمسير إليه .
ولما علم النبي سليمان عليه السلام برغبتها في المجيء إليه ، أراد أن يبرهن لها صدق نبوته ، وما أعطاه الله عز وجل من مُلْك عظيم ، فقال ( يأيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ) أي : منقادين طائعين ، ( قال عفريت )أي شديد الداهية ( من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ) إذ كان سليمان عليه السلام يجلس للقضاء والادارة إلى منتصف النهار ( وإني عليه لقوي أمين ) قوي على حمله ونقله في هذه المدة القصيرة ، وأمين عليه من التلف والضياع .
فقال سليمان عليه السلام أريد أسرع من ذلك ، فعندها ( قال الذي عنده علم من الكتاب ) أي ببعض الكتاب لا كله ـ وهو آصف بن برخيا وصيه وخليفته من بعده كما في الروايات ـ ( أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك )يعني في أقل من ذلك ، إذ معنى « أقل من طرفة عين » أي في آن واحد ، و هي أقل مدة يمكن أن تقاس بالالفاظ ( فلما رآه مستقراً )وثابتاً عنده ( قال هذا من فضل ربي ليبلوني ) ويختبرني ( أأشكر )نعمته ( أم أكفر )بها (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ).
فهذه الايات صريحة على أن الله عز وجل قد أقدر بعض خلقه على التصرف في عالم الوجود ، كما أقدر الانسان على الحركة والنطق والقيام ، وهذا ما يسمى في الاصطلاح بـ « الولاية التكوينية » .
حقيقة الولاية التكوينية :
فالولاية التكوينية بمعنى السلطنة والقدرة الواقعية على التصرف والتأثير في الاشياء ، ولكن لا على نحو الاستقلال(332) ، وتختلف هذه القدرة والسلطنة من موجود لآخر حسب السعة الوجودية لكل مخلوق .
فقد خلق الله عز وجل الملائكة وجعلها مجار لفيضة في تسيير أمر مملكته بإذنه وتحت نظام الامر بين الامرين ، فلا هذه المخلوقات اللطيفة مُجْبَرة على التدبير لعالم الامكان ، ولا هي مُفَوَّضَة لذلك ، بل هم ( عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ) .
والقدرة والسلطنة الممنوحة لهذه الموجودات تختلف من مَلَك إلى آخر ، وأعاظم الملائكة الكرام : جبرائيل وعزرائيل واسرافيل وميكائيل ، ولكل واحد من هذه الملائكة أعوان وجنود لتدبير أمر هذا العالم ، وإلى هذه الحقيقة أشار الله عز وجل ( والنازعات غرقا * والناشطات نشطا * والسابحات سبحا * فالسابقات سبقا * فالمدبرات أمر )(333) .
وقد خلق الله عز وجل الانسان وجعله سميعاً بصيراً قادراً ، وهذه القدرة لها حد طبيعي ومحدود عند غالبية الناس ، فلا يمكن للانسان العادي أن يشق القمر ، أو يرجع الشمس بعد مغيبها ، أو يكلم الحيوان ، أو تسبح الحصى في يده ، أو يفجر للناس ينبوعاً ، أو يرقى إلى السماء ، أو يخلق من الطين طيراً ، أو يبرىء الاكمه والابرص ، أو أن تطوى له الأرض ، أو أن ينقل قصراً أو عرشاً من مكان إلى آخر بطرفة عين ، كل ذلك لأن قدرته وقوته محدودة بحد لا مجال لأن تتسع لأكثر من ذلك .
وعليه : فما من إنسان إلا وله حظ من الولاية التكوينية لكن هذه الولاية والقوة والسلطنة محدودة بحد وَقَدَر لا تتجاوزه .
لكن : للانسان استعداد لأن تتسع قدرته وسلطنته وقوته فتفوق قوة وسلطنة وقدرة الملائكة المدبِّرة لعالم الوجود ، فتخضع وتسجد له جميع الملائكة حينما يكون خليفة لله تعالى ، وإذا كان الانسان خليفة لله تعالى يقول للشيء كن فيكون ، كل ذلك بإذن الله تعالى وفق نظام الامر بين الامرين ، ولا يصل الانسان إلى هذه المرتبة الشامخة إلا بالعلم الخاص ، وهو المعبر عنه في القران الكريم بـ « علم الكتاب » أو « العلم بالاسماء » المشار إليها في قوله تعالى ( وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا لا علم لنا إلا ما علمتنا ) .
وإذا اتسعت قدرة وسلطنة الانسان وتجاوزت القدرة والسلطنة المتعارفة الطبيعية ، يقال بأن هذا الانسان صاحب ولاية تكوينية بالمعنى المصطلح .
والضرورة القرآنية والروائية قائمة على وصول بعض بني البشر إلى مقامات عالية ومراتب عظيمة من سعة التصرف في عالم الوجود .
ولا ريب أن آصف بن برخيا وصي سليمان عليهما السلام قد تجاوزت سلطنته وقدرته على النحو المتعارف ، ومنشأ هذه القوة والقدرة كما هو صريح الاية الكريمة علمه ببعض الكتاب ( قال الذي عنده علم من الكتاب ) وكان عنده علم ببعض حروف الاسم الاعظم على ما في الروايات التي رواها علماء الاسلام قاطبة(334) .
وعليه : فمن تحقق بالاسم الأعظم وعلم ببعض حروفه ومراتبه ، وصل إلى مقام « كن ، فيكون » ، فيكون يد الله التي يبطش بها ، وسمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، وجنبه ولسانه الناطق في أرضه وسمائه ، ويكون عالم الوجود بأكمله كالعجينة في يد أحدنا يقلبها كيف يشاء .
ففي الحديث الشريف « ما تقرب إلي عبد بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه ، وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته »(335) .
وبما أن عالم الامكان بجميع مراتبه خاصع ومقهور تحت هيمنة الاسماء الحسني كما هو صريح الايات والروايات(336) فمن تحقق بهذه الاسماء وببعض حروفها خضع وانقهر له كل شيء .
ولا ريب أن الاسم الاعظم بحروفه مكنون في آيات الذكر الحكيم ، لا يهتدي إليه ولا يعرفه ولا يتحقق به إلا المطهرون الراسخون في العلم الذين عندهم علم الكتاب ، المشار إليهم بقوله تعالى ( لا يمسه إلا المطهرون ) .
وحينما تسأل من هؤلاء الذي عندهم علم الكتاب ؟!
فالجواب : هو من جعلهم الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله قرناء القرآن الكريم ، وهم الذين لا يفارقهم القرآن ولا يفارقونه في جميع مراتب الوجود ـ كما هو نص حديث الثقلين ـ وهم علي وفاطمة والحسن والحسين والتسعة من صلب الحسين عليهم السلام .
فالولاية التكوينية بأرقى درجاتها المتصورة ثابتة على نحو القطع واليقين لأهل بيت النبوة عليهم السلام .
وذلك لمعرفتهم بحقائق وأسرار القران الكريم وهو الكتاب المهيمن على سائر الكتب السماوية ، وتحققهم عليهم السلام بالاسم الاعظم التكويني المكنون بأحرفه في القرآن الكريم ، فهم عليهم السلام لهم علم الكتاب جملة وتفصيلاً ، والروايات الكثيرة شاهدة على ذلك نذكر بعض منها .
فعن سدير ـ في حديث ـ عنه (عليه السلام) قال : يا سدير ! ألم تقرأ القرآن ؟!
قلت : بلى .
قال فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عز وجل ( قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) .
قال : قلت : جعلت فداك قد قرأته .
قال : فهل عرفت الرجل ؟ وهل علمت ما كان عنده من علم الكتاب ؟
قال : قلت : أخبرني به ؟
قال : قدر قطرة من الماء في البحر الأخضر فما يكون ذلك من علم الكتاب ؟ قلت : جعلت فداك ما أقل هذا !
قال : يا سدير ! ما أكثر هذا ، أن ينسبه الله عز وجل إلى العلم الذي أخبرك به يا سدير ، فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عز وجل أيضا ( قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) .
قلت : قد قرأته جعلت فداك ، قال : أفمن عنده علم الكتاب كله أفهم أم من عنده علم الكتاب بعضه ؟ قلت : لا ، بل من عنده علم الكتاب كله .
قال : فأومأ بيده إلى صدره ، وقال : علم الكتاب والله كله عندنا ، علم الكتاب والله كله عندنا(337) .
والمقصود من الكتاب في قوله تعالى ( علم من الكتاب ) وقوله تعالى ( علم الكتاب ) هو حقيقة القران الكريم الذي لا يمسّه إلا المطهرون المشار إليه في قوله تعالى ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ، وقوله ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين )(338) .
وفي الصحيح إلى شريس عن جابر ، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : إن اسم الله الاعظم على ثلاثة وسبعين حرفاً ، وإنما كان عند آصف منها حرف واحد ، فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين ، ونحن عندنا من الاسم الاعظم اثنان وسبعون حرفاً ، وحرف واحد عند الله تعالى استأثر به في علم الغيب عنده ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم(339) .
وعن إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن الأول موسى بن جعفر عليهما السلام قال : قلت له : جعلت فداك أخبرني عن النبي صلى الله عليه وآله ورث النبيين كلهم ؟ قال : نعم ، قلت : من لدن آدم حتى انتهى إلى نفسه ؟ قال : ما بعث الله نبياً إلا ومحمد صلى الله عليه وآله ولله أعلم منه ، قال : قلت : إن عيسى بن مريم كان يحيى الموتى بإذن الله ، قال : صدقت ، وسليمان بن داود كان يفهم منطق الطير ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يقدر على هذه المنازل ... وإن الله يقول في كتابه ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ) ونحن ورثنا هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال ، وتقطع به البلدان ، وتحيى به الموتى ، ونحن نعرف الماء تحت الهواء ، وإن في كتاب الله لآيات ما يراد بها أمر إلا أن يأذن الله به مع ما قد يأذن مما كتبه الماضون ، جعله الله لنا في أم الكتاب ، إن الله يقول ( وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ) ثم قال : ( ثم أورثنا الذين اصفينا من عبادنا ) فنحن الذين اصطفانا الله عز وجل وأورثنا هذا الذي فيه تبيان كل شيء(340) .
والشاهد على أنهم عليهم السلام ورثوا هذا الكتاب الذي فيه تبيان كل شيء ، وفيه علم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة ، وفيه ما تقطع به الأرض وتسير به الجبال ويحيى به الموتى ، قوله صلى الله عليه وآله « إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي » .
الكليني : عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن مثنى الحناط ، عن أبي بصير .
الصفار : أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن مثنى الحناط ، عن أبي بصير قال : دخلت على أبي عبد الله وأبي جعفر عليهما السلام(341) ، فقلت لهما : أنتما ورثة رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟
قال : نعم .
قلت : فرسول الله(صلى الله عليه وآله)وارث الأنبياء ، عَلِمَ كلّما عَلِموا ؟
فقال لي : نعم .
فقلت : أنتم تقدرون على أن تحيوا الموتى وتبرئوا الاكمه والأبرص ؟!
فقال لي : نعم ، بإذن الله ; ثم قال : ادني مني يا أبا محمد ، فمسح يده على عيني ووجهي ، فأبصرت الشمس والسماء والأرض والبيوت وكل شيء في الدار .
قال : أتحب أن تكون هكذا ، ولك ما للناس وعليك ما عليهم يوم القيامة ؟ أو تعود كما كنت ولك الجنة خالصاً ؟
قلت : أعود كما كنت .
قال : فمسح على عيني ، فعدت كما كنت .
قال علي : فحدثت به ابن أبي عمير ، فقال : أشهد أن هذا حق كما أن النهار حق(342) .
الكليني : عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن عبد الله بن المغيرة ، قال : مرّ العبد الصالح (عليه السلام) بامرأة بمنى وهي تبكي وصبيانها حولها يبكون ، وقد ماتت لها بقرة فدنا منها ، ثم قال : ما يبكيك يا أمة الله ؟ قالت : يا عبد الله ! إن لنا صبياناً يتامى ، وكانت لنا بقرة معيشتي ومعيشة صبياني كان منها وقد ماتت ، وبقيتُ منقطعاً بي وبولدي لا حيلة لنا ، فقال لها : يا أمة الله هل لك أن أحييها لك ؟ فألهمت أن قالت : نعم يا عبد الله ، فتنحى وصلى ركعتين ، ثم رفع يده هنيئة وحرّك شفتيه ، ثم قام فصوت بالبقرة ، فنخسها نخسة أو ضربها برجله ، فاستوت على الأرض قائمة ، فلّما نظرت ( المرأة ) إلى البقرة صاحت وقالت : عيسى بن مريم وربّ الكعبة ! فخالط الناس وصار بينهم ومضى(343) .
الصدوق : حدثنا محمد بن الحسن بن الوليد ، حدثنا محمد بن الحسن الصفار وسعد بن عبد الله جميعاً : عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن علي بن يقطين ، عن أخيه الحسين ، عن أبيه علي بن يقطين ، قال : استدعى الرشيد رجلاً يبطل به أمر أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام ويقطعه ويخجله في المجلس ، فابتدر له رجل معزم(344) ، فلما حضرت المائدة عمل ناموساً على الخبز ، فكان كلما رام أبو الحسن تناول رغيف من الخبز طار من بين يديه واستفز هارون الفرح والضحك بذلك ، فلم يلبث أبو الحسن (عليه السلام) أن رفع رأسه على أسد مصور على بعض الستور ، فقال : يا أسد خذ عدو الله ، قال : فوثبت تلك الصورة كأعظم ما تكون من السباع فافترست ذلك المعزم ، فخرّ هارون وندماؤه مغشياً عليهم ، فطارت عقولهم من هول ما رأوه ، فلما أفاقوا من ذلك قال هارون لابي الحسن : بحقي عليك لما سألت الصورة أن ترد ما ابتلعته من هذا الرجل ! فقال : إن كانت عصا موسى ردت ما ابتلعته من حبال القوم وعصيَّهم ، فان هذه الصورة ترد ما ابتلعته من هذا الرجل ، فكان ذلك أعمل الاشياء في إفاقة نفسه(345) .
خاتمة مسك :
روى الشريف الرضي قدس سره : أن أمير المؤمنين عليه السلام كان جالساً في المسجد إذ دخل عليه رجلان فاختصما إليه ، وكان أحدهما من الخوارج ، فتوجه الحكم إلى الخارجي فحكم عليه أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال الخارجي والله وما حكمت بالسوية ولا عدلت في القضية ، وما قضيتك عند الله تعالى بمرضية ، فقال له أمير المؤمنين وأومأ إليه : اخسأ عدو الله ، فاستحال كلباً أسوداً ، فقال من حضره : فوا لله لقد رأينا ثيابه تطاير عنه في الهواء ، وجعل يبصبص لأمير المؤمنين عليه السلام ، ودمعت عيناه في وجهه ، ورأينا أمير المؤمنين عليه السلام قد رق فلحظ السماء ، وحرك شفتيه بكلام ، لم نسمعه فو الله لقد رأيناه وقد عاد إلى حال الانسانية ، وتراجعت ثيابه من الهواء ، حتس سقطت على كتفيه ، فرأيناه وقد خرج من المسجد ، وإن رجليه لتضطربان .
فبهتنا ننظر إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال لنا : ما لكم تنظرون وتعجبون ؟ فقلنا : يا أمير المؤمنين ! وكيف لا نتعجب وقد صنعت ما صنعت .
فقال : أما تعلمون أن آصف بن برخيا وصي سليمان بن داود عليهما السلام قد صنع ما هو قريب من هذا لامر فقص الله جل اسمه قصته حيث يقول ( أيكم يأتي بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين .... ) .
فأيما أكرم على الله نبيكم أم سليمان عليهما السلام ؟
فقالوا : بل نبينا عليه السلام أكرم يا أمير المؤمنين .
قال : فوصي نبيكم أكرم من وصي سليمان ، وإنما كان عند وصي سليمان عليهما السلام من اسم الله الاعظم حرف واحد ، فسأل الله جل اسمه فخسف له الأرض ما بينه وبين سرير بلقيس ، فتناوله في أقل من طرف العين ، وعندنا من اسم الله الاعظم إثنان وسبعون حرفا ، وحرف عند الله استأثر به دون خلقه .
فقالوا له يا أمير المؤمنين : فإذا كان هذا عندك فما حاجتك إلى الانصار في قتال معاوية وغيره ، واستنفارك الناس إلى حربه ثانية ؟
فقال : ( بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهو بأمره يعملون ) ، إنما أدعو هؤلاء القوم إلى قتاله لثبوت الحجة ، وكمال المحنة ، ولو أذن لي في إهلاكه لما تأخرت ، لكن الله تعالى يمتحن خلقه بما شاء .
قالوا : فنهضنا من حوله ، ونحن نعظم ما أتى به عليه السلام(346) .
وهذه الرواية وإن كانت مرسلة لكن مضامينها موافقة للقران الكريم والروايات الصحيحة(347) ، وتفسيرا لحديث الثقلين ، فإن الاسم الاعظم بحروفه مكنون في القران الكريم ، لا يدرك حقيقته ولا يمسه إلا المطهرون ، وهم محمد وعلي وفاطمة وذريتهم عليهم السلام ، كما هو مقتضى حديث الثقلين .
فالولاية التكوينية بأوسع معانيها المتصورة ثابتة لهم عليهم السلام ، وحديث الثقلين شاهد على ذلك ، ومن أراد مزيداً من التفصيل فعليه بكتبنا : « وسائط الفيض الالهي » و « حقيقة الاسماء الحسنى » و « سعة التصرف التكويني » و « دورس من الزيارة الجامعة » .
قال السيد صادق الروحاني دام ظله في تعريف الولاية التكوينية للائمة عليهم السلام : كون زمام أمر العالم بأيديهم ، ولهم السلطنة التامة على جميع الأمور بالتصرف فيها كيف ما شاؤوا اعداماً وإيجاداً ، وكون عالم الطبيعة منقاداً لهم لا بنحو الاستقلال ، بل في طول قدرة الله تعالى وسلطنته واختياره ، بمعنى أن الله تعالى أقدرهم وملكهم كما أقدرنا على الأفعال الإختيارية ، وكل زمان سَلب عنهم القدرة ـ بل لم يَفضْها عليهم ـ انعدمت قدرتهم وسلطنتهم .
ومن هذا الباب معجزات الأنبياء والأولياء ، وقد دل الكتاب الكريم على ثبوت ذلك لأشخاص ، قال تعالى ( قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) وقال عز ومن قائل ( فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاءاً حيث أصحاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين له في الأصفاد ) ، وقال سبحانه ( إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وابرىء الاكمه و الأبرص واحيي الموتى بإذن الله وانبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ) إلى غير ذلك من الآيات المتضمنة لثبوت ولاء التصرف لأشخاص .
وإذا ثبت ذلك لهؤلاء فثبوته للرسول الأعظم وخليفته الذي عنده علم الكتاب بنص القرآن لا يحتاج إلى بيان ، وعليه فالروايات المتواترة المتضمنة للمعجزات والكرامات الصادرة عن المعصومين عليهم السلام ـ كالتصرف الولائي في النقش وصيرورته أسداً متفرساً وما شاكل ـ إنما نلتزم بها ونعتقد من غير التزام بالتأويل ، وكيف ونرى أنهم عليهم السلام بعد موتهم تصدر عنهم كرامات من إبراء المريض الذي عجز الاطباء عن إبرائه ، وحل معضلات الأمور وما شاكل ، وليس ذلك الا لما ذكرناه ، ويمكن أن تكون الآية الكريمة ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) ناظرة إلى ثبوت هذا المعنى من الولاية أيضاً للنبي صلى الله عليه وآله .
والجملة : ثبوت الولاية بهذا المعنى للنبي والأئمة المعصومين ـ الذين ثبت لهم جميع ما يثبت للنبي صلى الله عليه وآله للروايات الكثيرة المتواترة ـ مما لا ينبغي التوقف فيه(348) .
------------- الهوامش
(331) النمل : 38 ، 40 .
(332) بل تحت هيمنة قوله عليه السلام « لا جبر ولا تفويض وإنما أمر بين أمرين » ، وبتعبير فلسفي هو على نحو الاضافة الاشراقية والوجود التعلقي ، وللتفصيل راجع كتابنا « حقيقة الاسماء الحسنى » و « وسائط الفيض الالهي » في بيان حقيقة الاضافة الاشراقية .
(333) النازعات : 1 إلى 5 .
(334) الكافي الشريف : 1/230 * بصائر الدرجات : 228 ، 232 * تفسير الطبري : 19/193 ، 198 عن ابن عباس ومجاهد وقتادة * الدر المنثور : 5/109 .
(335) الكافي الشريف لثقة الاسلام الكليني : 2/352 * المحاسن لشيخ الطائفة البرقي قدس سره : 1/291 * المؤمن لشيخ الطائفة الحسين بن سعيد الاهوازي : 32 .
(336) وللتفصيل راجع كتابنا « حقيقة الإسماء الحسنى » .
(337) الكافي الشريف : 1/257 * بصائر الدرجات : 250 ، راجع ملحق : 5 ، في أن المقصود من قوله تعالى ( ومن عنده علم الكتاب ) هو أمير المؤمنين (عليه السلام) والعترة الطاهرة برواية الخاصة والعامة .
(338) الانعام : 59 .
(339) الكافي الشريف : 1/229 .
(340) الكافي الشريف : 1/226 * بصائر الدرجات : 67 .
(341) وكل منهما في ظرف يختلف .
(342) الكافي الشريف : 1/470 * بصائر الدرجات : * مختصر البصائر : * رجال الكشي : .
وسنده حسن ، بل صحيح ، رجاله من أعاظم الطائفة منصوص على وثقاتهم وتثبتهم ، سوى مثنى الحناط ، فقد روى عنه زرافات من الثقات الحفاظ كما روى عنه ابن أبي عمير والبزنطي وهما لا يرويان إلا عن الثقات ، وذكره الثقة العين الحافظ ابن فضال ـ كما في رجال الكشي ـ وقال لا بأس به ، وله كتاب معتمد ، ورواياته كثيرة جداً ، ولم يقدح فيه أصلا ، فالتوقف في رواياته وسوسة زائدة .
(343) الكافي الشريف : 1/484 وسنده من أصح الاسانيد * بصائر الدرجات : 292 .
(344) أي صاحب عزائم وسحر .
(345) الامالي : 212 * عيون أخبار الرضا : 2/90 ، وسنده من أصح الاسانيد .
(346) خصائض الائمة : 46 .
(347) فإياك أن تتوهم بأن مثل هذه الروايات ضرب من الخيال والخرافة ، فتكفر بالغيب المشار إليه في قوله تعالى ( هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ) ، بل هذه الروايات حكمها حكم تلك القصص التي ذكرها الله عز وجل في كتابه ، من حمل الريح لسليمان عليه السلام ، وقصته مع الهدهد والنملة .
(348) فقه الصادق عليه السلام : 16/153 * منهاج الفقاهة : 4/268 .