بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمدٍ وآله الطاهرين، واللعنة الدائمة على اعدائهم أجمعين.
كثيراً ما يرد النواصب واتباعهم الأحاديث الواردة في فضل أمير المؤمنين عليه السلام بدعوى أن في بعض رجال السند (شيعة) وحتى لو نص علمائهم على وثاقة هذا الراوي الشيعي إلا أنهم يردون الحديث لأنه يؤيد مذهب الراوي، فلا يأمن عليه حينئذ من غلبة الهوى فيضع الحديث!
وفي هذا يقول ابن حجر العسقلاني في كتاب نزهة النظر:
ثمَّ البِدْعَةُ، وهي السَّببُ التَّاسعُ مِن أَسبابِ الطَّعنِ في الرَّاوي، وهي إِمَّا أَنْ تَكونَ بمُكَفِّرٍ؛ كأَنْ يعتَقِدَ ما يستَلْزِمُ الكُفْرَ، أو بِمُفَسِّقٍ:
فالأوَّلُ: لا يَقْبَلُ صاحِبَها الجُمهورُ، وقيلَ: يُقْبَلُ مُطلقاً، وقيلَ: إِنْ كانَ لا يعتَقِدُ حِلَّ الكَذِبِ لنُصرَةِ مقالَتِه.
والتحقيق: أنه لا يُرَدُّ كُلُّ مُكفَّرٍ ببدعَتِه؛ لأَنَّ كلَّ طائفةٍ تدَّعي أَنَّ مخالِفيها مبتَدِعةٌ، وقد تُبالِغُ فتُكفِّرُ مخالِفها، فلو أُخِذَ ذلك على الإِطلاقِ؛ لاسْتَلْزَمَ تكفيرَ جميعِ الطَّوائفِ، فالمُعْتَمَدُ أَنَّ الَّذي تُرَدُّ روايتُهُ مَنْ أَنْكَرَ أَمراً مُتواتِراً مِن [الشَّرعِ] معلوماً مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ، وكذا مَن اعتقدَ عكسَهُ.
فأَمَّا مَن لم يَكُنْ بهذهِ الصِّفَةِ، وانْضَمَّ إِلى ذلك ضَبْطُهُ لِما يَرويهِ مَعَ وَرَعِهِ وتَقْواهُ؛ فلا مانِعَ مِن قَبولِهِ ((أصلاً)).
والثاني: وهو مَن لا تَقْتَضي بدعَتُهُ التَّكفيرَ أَصلاً، [و] قد اختُلِفَ أَيضاً في قَبولِهِ ورَدِّهِ:
فقيلَ: يُرَدُّ مُطلَقاً - وهُو بَعيدٌ - وأَكثرُ مَا عُلِّلَ بهِ أَنَّ في الرِّوايةِ عنهُ تَرْويجاً لأمرِهِ وتَنْويهاً بذِكْرِهِ.
وعلى هذا؛ فيَنْبَغي أَنْ لا يُرْوى عنْ مُبْتَدعٍ شيءٌ يُشارِكُه فيهِ غيرُ مُبتدعٍ.
وقيلَ: يُقْبَلُ مُطْلقاً إِلاَّ إِن اعْتَقَدَ حِلَّ الكَذِبِ؛ كما تقدَّمَ.
وقيلَ: يُقْبَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ داعِيةً إِلى بِدعَتِهِ؛ لأنَّ تزيينَ بِدعَتِه قد يَحْمِلُهُ على تَحريفِ الرِّواياتِ وتَسويَتِها على ما يقتَضيهِ مذهَبُه، وهذا في الأصَحِّ.
وأَغْرَبَ ابنُ حِبَّانَ، فادَّعى الاتِّفاقَ على قَبولِ غيرِ الدَّاعيةِ مِن غيرِ تفصيلِ.
نَعَمْ؛ الأكثرُ على قَبولِ غيرِ الدَّاعيةِ؛ إِلاَّ إنْ رَوى ما يُقَوِّي بِدْعَتَهُ، فيُرَدُّ على المذهَبِ المُخْتارِ، وبهِ صرَّحَ الحافِظُ أَبو إِسحاقَ إِبراهيمُ بنُ يعقوبَ الجُوْزَجانِيُّ شيخُ أَبي داودَ، والنَّسائِيِّ في كتابِه ((معرفة الرِّجال)) فقالَ في وَصْفِ الرُّواةِ: ((ومِنهُم زائغٌ عن الحَقِّ - أَيْ: عنِ السُّنَّةِ- صادقُ اللَّهجَةِ، فليسَ فيهِ حيلةٌ؛ إِلاَّ أَنْ يُؤخَذَ مِن حديثِه ما لا يكونُ مُنْكراً إِذا لم يُقَوِّ [بهِ] بدْعَتَهُ)) اهـ.
وما قالَه متَّجِهٌ؛ لأنَّ العلَّةَ التي لها رُدَّ حديثُ الدَّاعيةِ وارِدةٌ فيما إِذا كانَ ظاهِرُ المرويِّ يُوافِقُ مذهَبَ المُبْتَدِع، ولو لم يكنْ داعيةً، واللهُ أَعلمُ.
انتهى
وقال أيضاً: وينبغي أن يقيد قولنا بقبول رواية المبتدع إذا كان صدوقاً ولم يكن داعية بشرط أن لا يكون الحديث الذي يحدث به مما يعضد بدعته ويشيدها، فإنا لا نأمن حينئذ عليه غلبة الهوى، والله الموفق.
لسان الميزان ج 1 ص 11
ولنا أن نلزمهم بهذه القاعدة التي اخترعوها، فنقول لهم: يجب عليكم أن تردوا أي رواية تؤيد مذهب أحد رجالها مهما كان مذهبه! أما تفعيل هذه القاعدة فقط في روايات الشيعة الواردة في فضل أهل البيت عليهم السلام فهذا جهل وتعصب ... فإنه من المعلوم أن كل راوٍ له مذهب مختار إما على نحو الاجتهاد أو التقليد، ولا نأمن حينئذ عليه من غلبة الهوى، فإن تزيين بدعته قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه!
قال ابن تيمية: أَمَّا الْبُخَارِيُّ؛ وَأَبُو داود فَإِمَامَانِ فِي الْفِقْهِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا مُسْلِمٌ؛ والترمذي؛ والنسائي؛ وَابْنُ ماجه؛ وَابْنُ خزيمة؛ وَأَبُو يَعْلَى؛ وَالْبَزَّارُ؛ وَنَحْوُهُمْ؛ فَهُمْ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَيْسُوا مُقَلِّدِينَ لِوَاحِدِ بِعَيْنِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلَا هُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ هُمْ يَمِيلُونَ إلَى قَوْلِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ كَالشَّافِعِيِّ؛ وَأَحْمَد؛ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ؛ وَأَمْثَالِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ كَاخْتِصَاصِ أَبِي داود وَنَحْوِهِ بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَهُمْ إلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْحِجَازِ - كَمَالِكِ وَأَمْثَالِهِ - أَمْيَلُ مِنْهُمْ إلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ - كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ -. وَأَمَّا أَبُو داود الطيالسي فَأَقْدَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ مِنْ طَبَقَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ؛ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ الواسطي؛ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ داود. وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ؛ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ؛ وَمُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ؛ وَحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ؛ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ؛ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ طَبَقَةِ شُيُوخِ الْإِمَامِ أَحْمَد. وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يُعَظِّمُونَ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمِيلُ إلَى مَذْهَبِ الْعِرَاقِيِّينَ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَنَحْوِهِمَا كَوَكِيعِ؛ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمِيلُ إلَى مَذْهَبِ الْمَدَنِيِّينَ: مَالِكٌ وَنَحْوُهُ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ. وَأَمَّا البيهقي فَكَانَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ مُنْتَصِرًا لَهُ فِي عَامَّةِ أَقْوَالِهِ. والدارقطني هُوَ أَيْضًا يَمِيلُ إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَئِمَّةِ السَّنَدِ وَالْحَدِيثِ لَكِنْ لَيْسَ هُوَ فِي تَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ كالبيهقي مَعَ أَنَّ البيهقي لَهُ اجْتِهَادٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ وَاجْتِهَادُ الدارقطني أَقْوَى مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ وَأَفْقَهَ مِنْهُ.
[/COLOR]انتهى
إذن فلكل راوٍ مذهب يتدين به ... ولا نأمن حينئذ عليه من غلبة الهوى، فإن تزيين بدعته قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه!
وقد يقول قائل القاعدة مخصصة لأهل البدع !!!
فنقول ليس لهذا التخصيص وجه، فكما أن المبتدع (في نظرهم) يجوز عليه الكذب، كذلك السني، وهذه بعض الأمثلة التي تثبت أن بعض المتصلبين في السنة يضعون الأحاديث لتقوية مذهبهم:
قال ابن الجوزي: قال ابن حبان وحدثنا مكحول قال حدثنا أبو الحسين الرهاوى قال سألت عبد الجبار بن محمد بن أبى داود النخعي، فقال: كان أطول الناس قياماً بليل وأكثرهم صياماً بنهار، وكان يضع الحديث وضعاً.
قال ابن حبان: وكان أبو بشر أحمد بن محمد الفقيه المروزى من أصلب أهل زمانه في السنة وأذبهم عنها وأقمعهم لمن خالفها، وكان مع هذا يضع الحديث. قد وضع في فضائل قزوين نحو أربعين حديثا كان يقول إنى أحتسب في ذلك.
أنبأنا محمد بن ناصر الحافظ أنبأنا أبو بكر بن خلف الشيرازي عن أبى عبدالله الحاكم قال سمعت أبا علي الحافظ يقول سمعت محمد بن يونس المقرى يقول سمعت جعفر بن أحمد بن نصر يقول سمعت أبا عمار المروزي يقول: قيل لأبي عصمة نوح بن أبى مريم المروزى من أين لك عن عكرمة عن بن عباس في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة هذا ؟!
فقال : إنى رأيت الناس أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبى حنيفة ومغازى ابن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة.
وقد حكى مؤمل بن إسماعيل أن رجلاً وضع في فضائل القرآن حديثاً طويلاً، وسيأتى في كتاب العلم إن شاء الله.
أنبأنا إسماعيل بن أحمد أنبأنا أبو القاسم الاسماعيلي أنبأنا حمزة السهمى أنبأنا أبو أحمد بن عدي سمعت أبا بدر أحمد بن خالد يقول: كان وهب بن حفص من الصالحين مكث عشرين سنة لا يكلم أحداً. قال أبو عروبة: وكان يكذب كذباً فاحشاً.
أنبأنا أبو المعمر الانصاري قال أنبأنا أبو محمد بن السمرقندى قال أنبأنا أبو بكر بن ثابت قال أنبأنا محمد بن جعفر بن علان قال أنبأنا أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي حدثنا الحسين بن محمد حدثنا عبيدالله بن عمر النواريزى قال: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه في من ينسب إلى الخير والزهد.
الموضوعات لابن الجوزي ج 1 ص 40
وقال ابن حجر في ترجمة عنبسة بن سعيد القطان:
وقال الدوري عن ابن معين: ضعيف.
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث يأتي بالطامات.
وقال عمرو بن علي: كان مختلطاً لا يروى عنه، قد سمعت منه وجلست إليه متروك الحديث وكان صدوقا لا يحفظ.
وقال محمد بن المثنى ما سمعت عبد الرحمن يحدث عن عنبسة القطان.
وقال الآجري عن أبي داود: ثنا المخرمي ثنا يزيد بن هارون ثنا عنبسة بن سعيد ذاك المجنون.
قال أبو داود: كان أشد الناس في السنة، وكان أحياناً عاقلاً وأحياناً مجنوناً.
قال فسألت أبا داود عن عنبسة وأشعث يعني أخاه فقال عنبسة أمثلهما.
وقال في موضع آخر سألت أبا داود عن عنبسة فقال: ثقة.
وقال ابن عدي: بعض أحاديثه مستقيمة وبعضها لا يتابع عليه.
تهذيب التهذيب ج 8 ص 140
وقال في ترجمة نعيم بن حماد:
وقال عبد الغني بن سعيد المصري كل من حدث به عن عيسى بن يونس غير نعيم بن حماد فإنما أخذه من نعيم، وبهذا الحديث سقط نعيم عند كثير من أهل العلم بالحديث، إلا أن يحيى بن معين لم يكن ينسبه إلى الكذب بل كان ينسبه إلى الوهم.
وقال صالح بن محمد الأسدي في حديث شعيب عن الزهري كان محمد بن جبير يحدث عن معاوية في الامراء من قريش والزهري إذا قال كان فلان يحدث فليس هو سماع قال وقد روى هذا الحديث نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن معمر عن الزهري عن محمد بن جبير عن معاوية نحوه.
وليس لهذا الحديث أصل من ابن المبارك ولا أدري من أين جاء به نعيم؟ وكان نعيم يحدث من حفظه وعنده مناكير كثيرة لا يتابع عليها.
قال وسمعت يحيى بن معين سئل عنه فقال: ليس في الحديث بشئ ولكنه صاحب سنة.
وقال الآجري عن أبي داود: عند نعيم نحو عشرين حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس لها أصل.
وقال النسائي: نعيم ضعيف، وقال في موضع آخر: ليس بثقة.
وقال أبو علي النيسابوري: سمعت النسائي يذكر فضل نعيم بن حماد وتقدمه في العلم والمعرفة والسنن ثم قيل له في قبول حديثه فقال: قد كثر تفرده عن الائمة المعروفين بأحاديث كثيرة فصار في حد من لا يحتج به.
وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما اخطأ ووهم.
وقال له ابن عدي قال لنا ابن حماد يعني الدولابي نعيم يروي عن ابن المبارك، قال النسائي: ضعيف.
وقال غيره كان يضع الحديث في تقوية السنة وحكايات في ثلب أبي حنيفة كلها كذب.
قال ابن عدي: وابن حماد متهم فيما يقوله عن نعيم لصلابته في أهل الرأي وأورد له ابن عدي أحاديث مناكير وقال وليعلم غير ما ذكرت وقد اثنى عليه قوم وضعفه قوم وكان أحد من يتصلب في السنة ومات في محنة القرآن في الحبس وعامة ما أنكر عليه هو الذي ذكرته وأرجو أن يكون باقي حديثه مستقيما.
تهذيب التهذيب ج 10 ص 411
وبعد فنحن نخيرهم بين أمرين:
- إما أن يطبقوا هذه القاعدة على جميع الرواة، ويردون كل رواية تؤيد مذهب أحد رواتها.
- أو أن يحذفوا هذه القاعدة، ويكتفون بصدق الراوي ووثاقته.
وقد اعترف بهذه النتيجة أحد حفاظ أهل السنة المعتدلين، وهو أحمد بن الصديق المعربي الغماري المتوفى سنة 1380 هـ فقال:
(فصل): وأما اشتراط كونه روى ما لا يؤيد بدعته فهو من دسائس النواصب التي دسوها بين أهل الحديث ليتوصلوا بها إلى إبطال كل ما ورد في فضل علي عليه السلام، وذلك أنهم جعلوا آية تشيع الراوي وعلامة بدعته هو روايته فضائل علي عليه السلام، كما ستعرفه، ثم قرروا أن كل ما يرويه المبتدع مما فيه تأييد لبدعته فهو مردود ولو كان من الثقات، والذي فيه تأييد التشيع في نظرهم هو فضل علي وتفضيله فينتج من هذا أن لا يصح في فضله حديث كما صرح به بعض من رفع جلباب الحياء عن وجهه من غلاة النواصب كابن تيمية وأضرابه، ولذلك تراهم عندما يضيق بهم هذا المخرج ولا يجدون توصلا منه إلى الطعن في حديث لتواتره أو وجوده في الصحيحين يميلون به إلى مسلك آخر وهو التأويل وصرف اللفظ عن ظاهره، كما فعل حريز بن عثمان في حديث (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) وكما فعل ابن تيمية في أكثر ما صح من فضائله بالنسبة إلى اعترافه. وقد حكى ابن قتيبة وهو من المتهمين بالنصب لهذا المذهب عن قبله من المتقدمين، كما أنهم يفعلون ضد ذلك بالنسبة لأعدائه، فيقول الذهبي في حديث: (اللهم اركسهما في الفتنة ركسا ودعهما في النار دعا) أنه من فضائل معاوية، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم من سببته أو لعنته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة) !!
وقد راجت هذه الدسيسة على أكثر النقاد فجعلوا يثبتون التشيع برواية الفضائل ويجرحون راويها بفسق التشيع ثم يردون من حديثه ما كان في الفضائل ويقبلون منه ما سوى ذلك، ولعمري إنها لدسيسة إبليسية ومكيدة شيطانية كاد ينسد بها باب الصحيح من فضل العترة النبوية لولا حكم الله النافذ والله غالب على أمره {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (32) سورة التوبة
وأول من علمته صرح بهذا الشرط وإن كان معمولاً به في عصره إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني المعروف بين أهل الجرح والتعديل بالسعدي وهو أحد شيوخ الترمذي وأبي داود والنسائي وكان من غلاة النواصب بل قالوا: إنه حريزي المذهب على رأي حريز بن عثمان وطريقته في النصب، وكان حريز المذكور يلعن علياً سبعين مرة في الصباح وسبعين مرة بالعشي فقيل له في ذلك، فقال: هو القاطع رؤوس آبائي وأجدادي، ذكره ابن حبان.
وقال إسماعيل بن عياش: عادلت حريز بن عثمان من مصر إلى مكة فجعل يسب علياً ويلعنه، وقيل ليحيى بن صالح: لم لم تكتب عن حريز؟ فقال: كيف أكتب عن رجل صليت معه الفجر سبع سنين فكان لا يخرج من المسجد حتى يلعن علياً سبعين مرة! وأخباره في هذا كثيرة.
وقد ذكر الخطيب في ترجمته من تاريخ بغداد، والحافظ في ترجمة محمد بن حريز من اللسان: أن الحافظ يزيد بن هارون قال: رأيت رب العزة في المنام فقال: يا يزيد لا تكتب عنه فإنه يسب علياً.
فالجوزجاني كان على مذهب هذا الخبيث وطريقته في النصب وزاد عليه بالتعصب في الجرح والتعديل، فكان لا يمر به رجل ممن فيه تشيع إلا جرحه وطعن في دينه وعبر عنه بأنه زائغ عن الحق متنكب عن الطريق مائل عن السبيل، كما نبه عليه الحافظ في مقدمة اللسان فقال: وممن ينبغي أن يتوقف في قبول قوله في الجرح من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الاختلاف في الاعتقاد فإن الحاذق إذا تأمل ثلب أبي إسحاق الجوزجانى لأهل الكوفة رأى العجب، وذلك لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيع، فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلقة وعبارة طلقة حتى أنه أخذ يلين مثل الأعمش وأبي نعيم وعبيد الله بن موسى وأساطين الحديث وأركان الرواية اه.
ولما نقل عنه في مقدمة الفتح أنه قال في إسماعيل بن أبان الوراق: مائلا عن الحق، قال ابن عدي يعني ما عليه الكوفيون من التشيع تعقب ذلك بقوله: كان الجوزجانى ناصبياً منحرفاً عن علي فهو ضد الشيعي المنحرف عن عثمان، والصواب موالاتهما جميعا ولا ينبغي أن يسمع قول مبتدع في مبتدع اه.
ونص على ذلك في غير ترجمة منها: ترجمة المنهال بن عمرو.
فهذا الناصبي هو أول من نص على هذه القاعدة فقال في مقدمة كتابه في (الجرح والتعديل) كما نقله عنه الحافظ في مقدمة اللسان: ومنهم زائغ عن الحق صدوق اللهجة قد جرى في الناس من حديثه لكنه مخذول في بدعته مأمون في روايته فهؤلاء ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يعرف إلا ما يقوى به بدعتهم فيتهم بذلك اه.
فانظر كيف اعترف بأنه صدوق اللهجة مأمون الرواية ثم اتهمه مع ذلك بالكذب والخيانة مما هو تناقض محض وتضارب صريح!!! ليؤسس بذلك قاعدة التحكم في مرويات المبتدع الذي يقصد به المتشيع من قبول ما كان منها في الأحكام وشبهها، ورد ما كان منها في الفضائل حتى لا يقبل في فضل علي حديث.
وهذا الشرط لو اعتبر لأفضى إلى رد جميع السنة إذ ما من راو إلا وله في الأصول والفروع مذهب يختاره ورأي يستصوبه ويميل إليه مما غالبه ليس متفقا عليه، فإذا روى ما فيه تأييد لمذهبه وجب أن يرد ولو كان ثقة مأموناً لأنه لا يؤمن عليه حينئذ غلبة الهوى في نصرة مذهبه كما لا يؤمن المبتدع الثقة المأمون في تأييد بدعته.
فكما لا يقبل من الشيعي شيء في فضل علي:
- كذلك لا يقبل من غيره شيء في فضل أبي بكر.
- ثم لا يقبل من الأشعري ما فيه دليل التأويل.
- ولا من السلفي ما فيه دليل التفويض.
- ثم لا يقبل من الشافعي ما فيه تأييد مذهبه.
- ولا من الحنفي كذلك.
وهكذا بقية أصحاب الأئمة الذين لم يخرج مجموع الرواة بعدهم عن التعلق بمذهب واحد منهم أو موافقته، خصوصاً وقد وجدنا في أهل كل مذهب من يضع الأحاديث ويفتريها لنصرة مذهبه.
وحينئذ فلا يقبل في باب من الأبواب حديث إلا إذا بلغ رواته حد التواتر أو كان متفقا على العمل به وذلك بالنسبة لخبر الآحاد وما هو مختلف فيه قليل، وبذلك ترد أكثر السنة أو ينعدم المقبول منها وهذا في غاية الفساد فالمبني عليه كذلك، إذ الكل يعتقد أن مذهبه حق ورأيه صواب، وكونه باطلاً وبدعة في نفسه أمر خارج عن معتقد الراوي، ولهذا لم يعتبروا هذا الشرط ولا عرجوا عليه في تصرفاتهم أيضاً بل احتجوا بما رواه الشيعة الثقات مما فيه تأييد مذهبهم، وأخرج الشيخان فضائل علي عليه السلام من رواية الشيعة كحديث (أنت مني وأنا منك) أخرجه البخاري من رواية عبيد الله بن موسى العبسى الذي أخبر البخاري عنه أنه كان شديد التشيع.
وحديث: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) أخرجه مسلم من رواية عدي بن ثابت وهو شيعي غال داعية، وهكذا فعل بقية الأئمة أصحاب الصحاح والسنن والمصنفات الذين لا يخرجون من الحديث إلا ما هو محتج به وصرحوا بصحة كثير منها، وذلك كثير لمتتبعه دال على بطلان هذا الشرط وغيره مما سبق وأنه لا يعتبر في صحة الخبر وقبوله إلا ضبط الراوي وصدقه.
فتح الملك العلي ص 107
هل تقبل رواية المبتدع؟!
سعد بن ضيدان السبيعي
* هل تقبل رواية المبتدع؟!
أقول مستعينا بالله هذه المسألة فيها أقوال لأهل العلم بالحديث :
القول الأول :
رد رواية المبتدع مطلقاً .
وروى هذا القول عن الإمام مالك وقال به القاضي أبو بكر الباقلاني (1) .
وذلك لأن في الرواية عنه ترويجاً لأمره وتنويهاً بذكره .
قال الخطيب في « الكفاية » (148) : « اختلف أهل العلم في السماع من أهل البدع والأهواء كالقدرية والخوارج والرافضة وفي الاحتجاج بما يروونه فمنعت طائفة من السلف صحة ذلك لعلة أنهم كفار عند من ذهب إلى اكفار المتأولين وفساق عند من لم يحكم بكفر متأول وممن يروى عنه ذلك مالك بن أنس .
قال الحافظ ابن حجر في « لسان الميزان » (1/10) : « فالمنع من قبول رواية المبتدعة الذين لم يكفروا ببدعتهم كالرافضة والخوارج ونحوهم ذهب إليه مالك وأصحابه والقاضي أبو بكر الباقلاني وأتباعه » (2) .
ورد هذا القول ابن الصلاح في « علوم الحديث » (104) : « والقول بالمنع مطلقاً بعيد مباعد للشائع عن أئمة الحديث فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة » .
وممن يذهب إلى ذلك أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني وخاصة فيمن وصف بالتشيع فكان يرد حديث من هو موصوف بذلك إلا نفرا من الرواة ممن اشتهروا بالحفظ والضبط قال المعلمي في « التنكيل » (1/46) : « والجوزجاني فيه نصب وهو مولع بالطعن في المتشيعين » (3) .
القول الثاني :
هو التفصيل فإذا كان الراوي داعية إلى بدعته فلا يقبل حديثه وإلا قبل وهذا القول قال به أكثر أهل العلم .
ونسب الخطيب هذا القول للإمام أحمد ورواه بسنده عن ابن مهدي وابن المبارك .
قال الإمام أحمد عن شبابة بن سوار تركته لم أكتب عنه للإرجاء قيل له يا أبا عبدالله وأبو معاوية قال شبابة كان داعية (4) .
قال الخطيب في « الكفاية » (149) : « وقال كثير من العلماء يقبل أخبار غير الدعاة من أهل الأهواء فأما الدعاة فلا يحتج بأخبارهم وممن ذهب إلى ذلك أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل » (5) .
قال عبدالرحمن بن مهدي : « من رأى رأياً ولم يدع إليه أحتمل ، ومن رأى رأياً ودعا إليه فقد استحق الترك » (6) .
قال علي بن الحسن بن شقيق : قال قلت لعبدالله - يعني ابن المبارك - : سمعت من عمرو بن عبيد . فقال بيده هكذا أي كثرة . قلت : فلم لا تسميه وأنت تسمى غيره من القدرية . قال : لأن هذا كان رأساً (7) .
قال النووي في « التقريب » (43) : « هو الأظهر والأعدل وقول الكثير أو الأكثر » .
قال ابن الصلاح في « علوم الحديث » (104) : « وهذا أعدل الأقوال وأولاها » .
وقال ابن كثير في « اختصار علوم الحديث » (1/299) : « والذي عليه الأكثرون التفصيل بين الداعية وغيره » .
بل نقل ابن حبان الاتفاق على ذلك ! فقال في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي في « الثقات » (6/140) : « جعفر بن سليمان من الثقات المتقنين في الروايات غير أنه كان ينتحل الميل إلى أهل البيت ولم يكن بداعية إلى مذهبه وليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أن الصدوق المتقن إذا كان فيه بدعة ولم يكن يدعو إليها أن الاحتجاج بأخباره جائز فإذا دعا إلى بدعته سقط الاحتجاج بأخباره ولهذه العلة ما تركوا (8) حديث جماعة ممن كانوا ينتحلون البدع ويدعون إليها وإن كانوا ثقات واحتججنا بأقوام ثقات انتحالهم كانتحالهم سواء غير أنهم لم يكونوا يدعون إلى ما ينتحلون وانتحال العبد بينه وبين ربه إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه وعلينا قبول الروايات عنهم إذا كانوا ثقات على حسب ما ذكرناه في غير موضع من كتبنا » . ا.هـ (9) .
وكذلك نقل الاتفاق على ذلك الحاكم (10) .
واستغرب الحافظ ابن حجر في « نزهة النظر » (137) نقل الاتفاق .
وقيد جماعة ذلك أيضاً بأن لا يكون ذلك فيما يقوي بدعته .
قال إبراهيم بن إبراهيم الجوزجاني في كتابه « الشجرة في معرفة الرجال » (32) عن الرواة : « ومنهم زائغ عن الحق ، صادق اللهجة ، فليس فيه حيلة ، إلا أن يؤخذ من حديثه ما لا يكون منكراً إذا لم يقو به بدعته » .
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه لله « لسان الميزان » (1/11) : « وينبغي أن يقيد قولنا بقبول رواية المبتدع إذا كان صدوقا ولم يكن داعية بشرط أن لا يكون الحديث الذي يحدث به مما يعضد بدعته ويشيدها فأنا لا نأمن حينئذ عليه من غلبة الهوى والله الموفق » .
وقال في « نخبة الفكر » (136) « ثم البدعة إما بكفر أو بمفسق :
فالأول : لا يقبل صاحبها الجمهور .
الثاني : يقبل من لم يكن داعية في الأصح إلا إن روى ما يقوي بدعته فيرد على المختار وبه صرح الجوزجاني شيخ النسائي » .
القول الثالث :
أن البدعة لا تؤثر على الراوي إذا ثبت أنه حافظ ضابط وصادق ليس بكاذب ، وذلك لأن تدينه وصدق لهجته يحجزه عن الكذب (11) ، وهذا قول جمهور النقاد ، جمهور المتقدمين وعلى رأسهم الإمام البخاري ومسلم وعلي بن المديني ويحيى بن سعيد القطان وابن خزيمة وغيرهم من أهل العلم بالحديث .
فقد خرج البخاري في صحيحه لعمران بن حطان في موضع واحد متابعة (12) .
وعمران بن حطان من الخوارج قال ابن حجر في « هدي الساري » (432) كان داعية إلى مذهبه (13) .
وخرج أيضاً لعبدالحميد بن عبدالرحمن الحماني - وهو داعية للإرجاء قاله أبو داود (14) - في موضع واحد (15) .
وروى البخاري (990) واللفظ له ومسلم (215) من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال سمعت النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم جـهاراً غـير سر يقول : « إن آل آبي بياض (16) ليسوا بأوليائي ، إنما وليي الله وصالح المؤمنين » (17) .
وقيس بن أبي حازم رمي ببدعة النصب (18) وهذا الحديث ظاهره فيما يؤيد بدعته ومع ذلك خرجه البخاري ومسلم (19) .
قال الحافظ ابن ابي حجر في « الفتح » (10/515) : « قال أبو بكر بن العربي في « سراج المريدين » : كان في أصل حديث عمرو بن العاص إن آل أبي طالب فغير آل أبي فلان كذا جزم به ، وتعقبه بعض الناس وبالغ في التشيع عليه ونسبه إلى التحامل على آل أبي طالب ولم يصب هذا المنكر فإن هذه الرواية التي أشار إليها ابن العربي موجودة في مستخرج أبي نعيم من طريق الفضل بن الموفق عن عنبسه بن عبدالواحد بسند البخاري عن بيان بن الإسماعيلي من هذا الوجه أيضا لكن أبهم لفظ طالب وكأن الحامل لمن أبهم هذا الموضع ظنهم أن ذلك يقتضي نقصا في آل أبي طالب كما توهموه » .
وأيضا مسلم بن الحجاج رحمه الله خرج (237) من طريق عدي بن ثابت عن زر بن حبيش عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : « إنه لعهد النبي الأمي إلى أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق » .
وعدي بن ثابت قاص الشيعة !
قال الذهبي في « الميزان » (3/61) : « عدي بن ثابت عالم الشيعة وصادقهم وقاصهم وإمام مسجدهم » .
ومع ذلك خرج الإمام مسلم هذا الحديث له من طريقه .
روى الخطيب بسنده في « الكفاية » (157) عن علي بن المديني قال : قلت ليحيى بن سعيد القطان أن عبدالرحمن بن مهدي قال أنا أترك من أهل الحديث كل من كان رأساً في البدعة فضحك يحيى بن سعيد فقال كيف يصنع بقتادة ؟! كيف يصنع بعمر بن ذر الهمدْاني ؟! كيف يصنع بابن أبي رواد وعد يحيى قوما أمسكت عن ذكرهم ثم قال يحيى أن ترك عبدالرحمن هذا الضرب ترك كثيراً .
وروى الخطيب بسنده في « الكفاية » ( 157) عن علي بن المديني : « لو تركت أهل البصرة لحال القدر ولو تركت أهل الكوفة لذلك الرأي يعني التشيع خربت الكتب » . قال الخطيب : قوله « خربت الكتب يعني لذهب الحديث » .
ومحمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله قال في « صحيحه » (2/376) حديث رقم (497) : « حدثنا عباد بن يعقوب المتهم في رأيه الثقة في حديثه ... » فوثق ابن خزيمة عباد بن يعقوب الرواجني في حديثه مع أنه متهم في دينه بالتشيع (20) وهذا هو القول الصحيح والله أعلم .
وذلك لأنه الذي جرى عليه العمل فالصحيحين فيها رواية عن بعض أهل البدع الدعاة وغيرهم ممن هو معروف بالصدق .
قال العلامة المعلمي رحمه الله في « التنكيل » (1/50) : « وقد وثق أئمة الحديث جماعة من المبتدعة واحتجوا بأحاديثهم وأخرجوها في الصحاح . ومن تتبع رواياتهم وجد فيها كثيراً مما يوافق ظاهره بدعهم ، وأهل العلم يتأولون تلك الأحاديث غير طاعنين فيها ببدعة راويها ولا في راويها بروايته لها » ا.هـ.
قال الذهبي في « ميزان الاعتدال » (1/5) : « قد يقول قائل : كيف ساغ توثيق مبتدع وحد الثقة العدالة والإتقان ؟ وجوابه : أن البدعة على ضربين :
1- فبدعة صغرى كغلو التشيع أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية وهذه مفسدة بينة .
2- بدعة كبرى : كالرفض الكامل والغلو فيه والحط على أبي بكر وعمر والدعاء إلى ذلك فهذا النوع لا يحتج بحديثهم ولا كرامة » .
قال الذهبي في « السير » (7/154) : « هذه مسألة كبيرة وهي القدري والمعتزلي والجهمي والرافضي إذا علم صدقه في الحديث وتقواه ولم يكن داعياً إلى بدعته فالذي عليه أكثر العلماء قبول روايته والعمل بحديثه وترددوا في الداعية هل يؤخذ عنه ؟ فذهب كثير من الحفاظ إلى تجنب حديثه وهجرانه وقال بعضهم : إذا علمنا صدقه وكان داعية ووجدناه عنده سنة تفرد بها فكيف يسوغ لنا ترك تلك السنة ؟ فجميع تصرفات أئمة الحديث تؤذن بأن المبتدع إذا لم تبح بدعته خروجه عن دائرة الإسلام ولم تبح دمه فإن قبول ما رواه سائغ وهذه المسألة لم تتبرهن لي كما ينبغي الذي أتضح لي منها أن من دخل في بدعة ولم يعد من رؤوسها ولا أمعن فيها يقبل حديثه » .
قال الذهبي في « الميزان » (1/5) في ترجمة أبان بن تغلب : « شيعي جلد لكنه صدوق فلنا صدقه وعليه بدعته » .
وقال في « السير » ترجمة إبراهيم بن أبي داود سليمان بن داود الأسدي البَرَلُسي (19/368) : « العمدة في ذلك صدق المسلم الراوي فإن كان ذا بدعة أخذ عنه والإعراض عنه أولى ولا ينبغي الأخذ عن معروف بكبيرة والله أعلم » .
وقال في « السير » (13/395) : « له أسوة بخلق كثير من الثقات الذين حديثهم في الصحيحين أو أحدهما ممن له بدعة خفيفة بل ثقيلة فكيف الحيلة ؟ نسأل الله العفو والسماح » .
وقال الذهبي في « الميزان » (1/27) : « اختلف الناس في الاحتجاج برواية الرافضة على ثلاثة أقوال :
1- المنع مطلقاً .
2- الترخيص مطلقاً إلا فيمن كذب .
3- التفصيل .
فتقبل رواية الرافضي الصدوق العارف بما يحدث .
وترد رواية الرافضي الداعية ولو كان صدوقا . » .
قال الحافظ ابن حجر في « لسان الميزان » (1/10) : « فالمنع من قبول رواية المبتدعة الذين لم يكفروا ببدعتهم كالرافضة والخوارج ونحوهم ذهب إليه مالك وأصحابه والقاضي أبو بكر الباقلاني وأتباعه والقبول مطلقا إلا فيمن يكفر ببدعته وإلا فيمن يستحل الكذب ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف وطائفة وروى عن الشافعي وأما التفصيل فهو الذي عليه أكثر أهل الحديث بل نقل فيه ابن حبان (21) إجماعهم ووجه ذلك أن المبتدع إذا كان داعية كان عنده باعث على رواية ما يشيد به بدعته » .
* أقول وأما صاحب البدعة المكفرة فترد روايته ونقل النووي الاتفاق (22) .
قال النووي : « من كفر ببدعته لم يحتج به بالاتفاق » (23) .
وقال ابن كثير في « اختصار علوم الحديث » (1/299) : « المبتدع إن كفر ببدعته فلا إشكال في رد روايته » .
قال الحافظ ابن حجر في « نزهة النظر » (138) : « والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعته لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة وقد تبالغ فتكفر مخالفها فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أثرا متواترا من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة وكذا من اعتقد عكسه » .
وقال المعلمي في « التنكيل » (1/42) : « لا شبهة أن المبتدع إن خرج ببدعته عن الإسلام لم تقبل روايته لأن من شروط قبول الراوية الإسلام » .
-----------------------------------------------
(1) انظر فتح المغيث للسخاوي (3/60) ، التنكيل للمعلمي (1/45).
(2) انظر أيضا فتح المغيث للسخاوي (3/60) ، التنكيل للمعلمي (1/45).
(3) وانظر شرح العلل لابن رجب (1/357) ؛ وانظر أيضا الثقات ( 8/82 ) ، الكامل (1/310) التنكيل (1/99) .
(4) انظر ميزان الاعتدال (1/301) وتهذيب التهذيب (2/147) ترجمة سوار بن شبابة من سوار .
(5) رواه الخطيب في الكفاية (194).
(6)رواه الخطيب في الكفاية (155).
(7)رواه الخطيب في الكفاية (155) .
(8) كذا في المطبوع ! والصواب ( تركوا ) حتى يستقيم المعنى .
(9) وانظر المجروحين (1/18).
(10)انظر التنكيل للمعلمي (1/43).
(11) انظر فتح المغيث السخاوي (2/61) التهذيب (3/317)، فتح الباري (10/357) .
(12) في كتاب اللباس ، باب لبس الحرير للرجال وقدر ما يجوز منه حديث رقم (5835).
(13) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (10/357) أخرج له البخاري على قاعدته في تخريج أحاديث المبتدع إذا كان صدوق اللهجة متديناً .
(14) انظر تهذيب التهذيب (2/487) ترجمة عبدالحميد بن عبدالرحمن الحماني وهدي الساري (1/416) .
(15) في كتاب فضائل القرآن ، باب حق حسن الصوت بالقراءة للقرآن حديث رقم (4761).
(16)قال ابن القيم في جلاء الأفهام (255) : « وغلط بعض الرواة في هذا الحديث وقال « إن آل بني ... بياض » والذي غر هذا أن في الصحيح « أن آل بني ... ليسوا لي بأولياء » وأخلى بياضاً بين بني وبين ليسوا فجاء بعض النساخ فظن أن « بياض » هو المضاف إليه، فقال : « بني بياض » ولا يعرف في العرب بنو بياض ، والنبي ﷺ لم يذكر ذلك ، وإنما سمى قبيلة كبيرة من قبائل قريش والصواب لمن قرأها في تلك النسخ أن يقرأها إن آل بني « بياضٌ » بضم الضاد من بياض لا يجرها والمعنى وثم بياض ، أو هنا بياض .ا.هـ.
وانظر فتح الباري (10/515) شرح النووي على صحيح مسلم (3/87).
ولفظ مسلم ( 215) « إن آل آبي يعني فلانًا ... »
(17) انظر التهذيب (3/444) ، فتح الباري (10/516).
(18) انظر التهذيب (3/444) ، فتح الباري (10/516).
(19) التنكيل للمعلمي (1/51) وتعليق العلامة الألباني رحمه الله عليه .
(20) قال الخطيب في الكفاية (159) قلت : قد ترك ابن خزيمة في آخر أمره الرواية عن عباد وهو أهل أن لا يروي عنه . وانظر السير (11/538).
(21) في الثقات ( 6/140) ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي . والمجروحين ( 1/18) .
(22) تدريب الراوي ( 1/383) وانظر شرح النووي على مسلم ( 1/60) .
(23) تدريب الراوي (1/383) وانظر شرحه على صحيح مسلم (1/60).
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمدٍ وآله الطاهرين، واللعنة الدائمة على اعدائهم أجمعين.
كثيراً ما يرد النواصب واتباعهم الأحاديث الواردة في فضل أمير المؤمنين عليه السلام بدعوى أن في بعض رجال السند (شيعة) وحتى لو نص علمائهم على وثاقة هذا الراوي الشيعي إلا أنهم يردون الحديث لأنه يؤيد مذهب الراوي، فلا يأمن عليه حينئذ من غلبة الهوى فيضع الحديث!
وفي هذا يقول ابن حجر العسقلاني في كتاب نزهة النظر:
ثمَّ البِدْعَةُ، وهي السَّببُ التَّاسعُ مِن أَسبابِ الطَّعنِ في الرَّاوي، وهي إِمَّا أَنْ تَكونَ بمُكَفِّرٍ؛ كأَنْ يعتَقِدَ ما يستَلْزِمُ الكُفْرَ، أو بِمُفَسِّقٍ:
فالأوَّلُ: لا يَقْبَلُ صاحِبَها الجُمهورُ، وقيلَ: يُقْبَلُ مُطلقاً، وقيلَ: إِنْ كانَ لا يعتَقِدُ حِلَّ الكَذِبِ لنُصرَةِ مقالَتِه.
والتحقيق: أنه لا يُرَدُّ كُلُّ مُكفَّرٍ ببدعَتِه؛ لأَنَّ كلَّ طائفةٍ تدَّعي أَنَّ مخالِفيها مبتَدِعةٌ، وقد تُبالِغُ فتُكفِّرُ مخالِفها، فلو أُخِذَ ذلك على الإِطلاقِ؛ لاسْتَلْزَمَ تكفيرَ جميعِ الطَّوائفِ، فالمُعْتَمَدُ أَنَّ الَّذي تُرَدُّ روايتُهُ مَنْ أَنْكَرَ أَمراً مُتواتِراً مِن [الشَّرعِ] معلوماً مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ، وكذا مَن اعتقدَ عكسَهُ.
فأَمَّا مَن لم يَكُنْ بهذهِ الصِّفَةِ، وانْضَمَّ إِلى ذلك ضَبْطُهُ لِما يَرويهِ مَعَ وَرَعِهِ وتَقْواهُ؛ فلا مانِعَ مِن قَبولِهِ ((أصلاً)).
والثاني: وهو مَن لا تَقْتَضي بدعَتُهُ التَّكفيرَ أَصلاً، [و] قد اختُلِفَ أَيضاً في قَبولِهِ ورَدِّهِ:
فقيلَ: يُرَدُّ مُطلَقاً - وهُو بَعيدٌ - وأَكثرُ مَا عُلِّلَ بهِ أَنَّ في الرِّوايةِ عنهُ تَرْويجاً لأمرِهِ وتَنْويهاً بذِكْرِهِ.
وعلى هذا؛ فيَنْبَغي أَنْ لا يُرْوى عنْ مُبْتَدعٍ شيءٌ يُشارِكُه فيهِ غيرُ مُبتدعٍ.
وقيلَ: يُقْبَلُ مُطْلقاً إِلاَّ إِن اعْتَقَدَ حِلَّ الكَذِبِ؛ كما تقدَّمَ.
وقيلَ: يُقْبَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ داعِيةً إِلى بِدعَتِهِ؛ لأنَّ تزيينَ بِدعَتِه قد يَحْمِلُهُ على تَحريفِ الرِّواياتِ وتَسويَتِها على ما يقتَضيهِ مذهَبُه، وهذا في الأصَحِّ.
وأَغْرَبَ ابنُ حِبَّانَ، فادَّعى الاتِّفاقَ على قَبولِ غيرِ الدَّاعيةِ مِن غيرِ تفصيلِ.
نَعَمْ؛ الأكثرُ على قَبولِ غيرِ الدَّاعيةِ؛ إِلاَّ إنْ رَوى ما يُقَوِّي بِدْعَتَهُ، فيُرَدُّ على المذهَبِ المُخْتارِ، وبهِ صرَّحَ الحافِظُ أَبو إِسحاقَ إِبراهيمُ بنُ يعقوبَ الجُوْزَجانِيُّ شيخُ أَبي داودَ، والنَّسائِيِّ في كتابِه ((معرفة الرِّجال)) فقالَ في وَصْفِ الرُّواةِ: ((ومِنهُم زائغٌ عن الحَقِّ - أَيْ: عنِ السُّنَّةِ- صادقُ اللَّهجَةِ، فليسَ فيهِ حيلةٌ؛ إِلاَّ أَنْ يُؤخَذَ مِن حديثِه ما لا يكونُ مُنْكراً إِذا لم يُقَوِّ [بهِ] بدْعَتَهُ)) اهـ.
وما قالَه متَّجِهٌ؛ لأنَّ العلَّةَ التي لها رُدَّ حديثُ الدَّاعيةِ وارِدةٌ فيما إِذا كانَ ظاهِرُ المرويِّ يُوافِقُ مذهَبَ المُبْتَدِع، ولو لم يكنْ داعيةً، واللهُ أَعلمُ.
انتهى
وقال أيضاً: وينبغي أن يقيد قولنا بقبول رواية المبتدع إذا كان صدوقاً ولم يكن داعية بشرط أن لا يكون الحديث الذي يحدث به مما يعضد بدعته ويشيدها، فإنا لا نأمن حينئذ عليه غلبة الهوى، والله الموفق.
لسان الميزان ج 1 ص 11
ولنا أن نلزمهم بهذه القاعدة التي اخترعوها، فنقول لهم: يجب عليكم أن تردوا أي رواية تؤيد مذهب أحد رجالها مهما كان مذهبه! أما تفعيل هذه القاعدة فقط في روايات الشيعة الواردة في فضل أهل البيت عليهم السلام فهذا جهل وتعصب ... فإنه من المعلوم أن كل راوٍ له مذهب مختار إما على نحو الاجتهاد أو التقليد، ولا نأمن حينئذ عليه من غلبة الهوى، فإن تزيين بدعته قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه!
قال ابن تيمية: أَمَّا الْبُخَارِيُّ؛ وَأَبُو داود فَإِمَامَانِ فِي الْفِقْهِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا مُسْلِمٌ؛ والترمذي؛ والنسائي؛ وَابْنُ ماجه؛ وَابْنُ خزيمة؛ وَأَبُو يَعْلَى؛ وَالْبَزَّارُ؛ وَنَحْوُهُمْ؛ فَهُمْ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَيْسُوا مُقَلِّدِينَ لِوَاحِدِ بِعَيْنِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلَا هُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ هُمْ يَمِيلُونَ إلَى قَوْلِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ كَالشَّافِعِيِّ؛ وَأَحْمَد؛ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ؛ وَأَمْثَالِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ كَاخْتِصَاصِ أَبِي داود وَنَحْوِهِ بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَهُمْ إلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْحِجَازِ - كَمَالِكِ وَأَمْثَالِهِ - أَمْيَلُ مِنْهُمْ إلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ - كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ -. وَأَمَّا أَبُو داود الطيالسي فَأَقْدَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ مِنْ طَبَقَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ؛ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ الواسطي؛ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ داود. وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ؛ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ؛ وَمُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ؛ وَحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ؛ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ؛ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ طَبَقَةِ شُيُوخِ الْإِمَامِ أَحْمَد. وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يُعَظِّمُونَ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمِيلُ إلَى مَذْهَبِ الْعِرَاقِيِّينَ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَنَحْوِهِمَا كَوَكِيعِ؛ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمِيلُ إلَى مَذْهَبِ الْمَدَنِيِّينَ: مَالِكٌ وَنَحْوُهُ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ. وَأَمَّا البيهقي فَكَانَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ مُنْتَصِرًا لَهُ فِي عَامَّةِ أَقْوَالِهِ. والدارقطني هُوَ أَيْضًا يَمِيلُ إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَئِمَّةِ السَّنَدِ وَالْحَدِيثِ لَكِنْ لَيْسَ هُوَ فِي تَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ كالبيهقي مَعَ أَنَّ البيهقي لَهُ اجْتِهَادٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ وَاجْتِهَادُ الدارقطني أَقْوَى مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ وَأَفْقَهَ مِنْهُ.
[/COLOR]انتهى
إذن فلكل راوٍ مذهب يتدين به ... ولا نأمن حينئذ عليه من غلبة الهوى، فإن تزيين بدعته قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه!
وقد يقول قائل القاعدة مخصصة لأهل البدع !!!
فنقول ليس لهذا التخصيص وجه، فكما أن المبتدع (في نظرهم) يجوز عليه الكذب، كذلك السني، وهذه بعض الأمثلة التي تثبت أن بعض المتصلبين في السنة يضعون الأحاديث لتقوية مذهبهم:
قال ابن الجوزي: قال ابن حبان وحدثنا مكحول قال حدثنا أبو الحسين الرهاوى قال سألت عبد الجبار بن محمد بن أبى داود النخعي، فقال: كان أطول الناس قياماً بليل وأكثرهم صياماً بنهار، وكان يضع الحديث وضعاً.
قال ابن حبان: وكان أبو بشر أحمد بن محمد الفقيه المروزى من أصلب أهل زمانه في السنة وأذبهم عنها وأقمعهم لمن خالفها، وكان مع هذا يضع الحديث. قد وضع في فضائل قزوين نحو أربعين حديثا كان يقول إنى أحتسب في ذلك.
أنبأنا محمد بن ناصر الحافظ أنبأنا أبو بكر بن خلف الشيرازي عن أبى عبدالله الحاكم قال سمعت أبا علي الحافظ يقول سمعت محمد بن يونس المقرى يقول سمعت جعفر بن أحمد بن نصر يقول سمعت أبا عمار المروزي يقول: قيل لأبي عصمة نوح بن أبى مريم المروزى من أين لك عن عكرمة عن بن عباس في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة هذا ؟!
فقال : إنى رأيت الناس أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبى حنيفة ومغازى ابن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة.
وقد حكى مؤمل بن إسماعيل أن رجلاً وضع في فضائل القرآن حديثاً طويلاً، وسيأتى في كتاب العلم إن شاء الله.
أنبأنا إسماعيل بن أحمد أنبأنا أبو القاسم الاسماعيلي أنبأنا حمزة السهمى أنبأنا أبو أحمد بن عدي سمعت أبا بدر أحمد بن خالد يقول: كان وهب بن حفص من الصالحين مكث عشرين سنة لا يكلم أحداً. قال أبو عروبة: وكان يكذب كذباً فاحشاً.
أنبأنا أبو المعمر الانصاري قال أنبأنا أبو محمد بن السمرقندى قال أنبأنا أبو بكر بن ثابت قال أنبأنا محمد بن جعفر بن علان قال أنبأنا أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي حدثنا الحسين بن محمد حدثنا عبيدالله بن عمر النواريزى قال: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه في من ينسب إلى الخير والزهد.
الموضوعات لابن الجوزي ج 1 ص 40
وقال ابن حجر في ترجمة عنبسة بن سعيد القطان:
وقال الدوري عن ابن معين: ضعيف.
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث يأتي بالطامات.
وقال عمرو بن علي: كان مختلطاً لا يروى عنه، قد سمعت منه وجلست إليه متروك الحديث وكان صدوقا لا يحفظ.
وقال محمد بن المثنى ما سمعت عبد الرحمن يحدث عن عنبسة القطان.
وقال الآجري عن أبي داود: ثنا المخرمي ثنا يزيد بن هارون ثنا عنبسة بن سعيد ذاك المجنون.
قال أبو داود: كان أشد الناس في السنة، وكان أحياناً عاقلاً وأحياناً مجنوناً.
قال فسألت أبا داود عن عنبسة وأشعث يعني أخاه فقال عنبسة أمثلهما.
وقال في موضع آخر سألت أبا داود عن عنبسة فقال: ثقة.
وقال ابن عدي: بعض أحاديثه مستقيمة وبعضها لا يتابع عليه.
تهذيب التهذيب ج 8 ص 140
وقال في ترجمة نعيم بن حماد:
وقال عبد الغني بن سعيد المصري كل من حدث به عن عيسى بن يونس غير نعيم بن حماد فإنما أخذه من نعيم، وبهذا الحديث سقط نعيم عند كثير من أهل العلم بالحديث، إلا أن يحيى بن معين لم يكن ينسبه إلى الكذب بل كان ينسبه إلى الوهم.
وقال صالح بن محمد الأسدي في حديث شعيب عن الزهري كان محمد بن جبير يحدث عن معاوية في الامراء من قريش والزهري إذا قال كان فلان يحدث فليس هو سماع قال وقد روى هذا الحديث نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن معمر عن الزهري عن محمد بن جبير عن معاوية نحوه.
وليس لهذا الحديث أصل من ابن المبارك ولا أدري من أين جاء به نعيم؟ وكان نعيم يحدث من حفظه وعنده مناكير كثيرة لا يتابع عليها.
قال وسمعت يحيى بن معين سئل عنه فقال: ليس في الحديث بشئ ولكنه صاحب سنة.
وقال الآجري عن أبي داود: عند نعيم نحو عشرين حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس لها أصل.
وقال النسائي: نعيم ضعيف، وقال في موضع آخر: ليس بثقة.
وقال أبو علي النيسابوري: سمعت النسائي يذكر فضل نعيم بن حماد وتقدمه في العلم والمعرفة والسنن ثم قيل له في قبول حديثه فقال: قد كثر تفرده عن الائمة المعروفين بأحاديث كثيرة فصار في حد من لا يحتج به.
وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما اخطأ ووهم.
وقال له ابن عدي قال لنا ابن حماد يعني الدولابي نعيم يروي عن ابن المبارك، قال النسائي: ضعيف.
وقال غيره كان يضع الحديث في تقوية السنة وحكايات في ثلب أبي حنيفة كلها كذب.
قال ابن عدي: وابن حماد متهم فيما يقوله عن نعيم لصلابته في أهل الرأي وأورد له ابن عدي أحاديث مناكير وقال وليعلم غير ما ذكرت وقد اثنى عليه قوم وضعفه قوم وكان أحد من يتصلب في السنة ومات في محنة القرآن في الحبس وعامة ما أنكر عليه هو الذي ذكرته وأرجو أن يكون باقي حديثه مستقيما.
تهذيب التهذيب ج 10 ص 411
وبعد فنحن نخيرهم بين أمرين:
- إما أن يطبقوا هذه القاعدة على جميع الرواة، ويردون كل رواية تؤيد مذهب أحد رواتها.
- أو أن يحذفوا هذه القاعدة، ويكتفون بصدق الراوي ووثاقته.
وقد اعترف بهذه النتيجة أحد حفاظ أهل السنة المعتدلين، وهو أحمد بن الصديق المعربي الغماري المتوفى سنة 1380 هـ فقال:
(فصل): وأما اشتراط كونه روى ما لا يؤيد بدعته فهو من دسائس النواصب التي دسوها بين أهل الحديث ليتوصلوا بها إلى إبطال كل ما ورد في فضل علي عليه السلام، وذلك أنهم جعلوا آية تشيع الراوي وعلامة بدعته هو روايته فضائل علي عليه السلام، كما ستعرفه، ثم قرروا أن كل ما يرويه المبتدع مما فيه تأييد لبدعته فهو مردود ولو كان من الثقات، والذي فيه تأييد التشيع في نظرهم هو فضل علي وتفضيله فينتج من هذا أن لا يصح في فضله حديث كما صرح به بعض من رفع جلباب الحياء عن وجهه من غلاة النواصب كابن تيمية وأضرابه، ولذلك تراهم عندما يضيق بهم هذا المخرج ولا يجدون توصلا منه إلى الطعن في حديث لتواتره أو وجوده في الصحيحين يميلون به إلى مسلك آخر وهو التأويل وصرف اللفظ عن ظاهره، كما فعل حريز بن عثمان في حديث (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) وكما فعل ابن تيمية في أكثر ما صح من فضائله بالنسبة إلى اعترافه. وقد حكى ابن قتيبة وهو من المتهمين بالنصب لهذا المذهب عن قبله من المتقدمين، كما أنهم يفعلون ضد ذلك بالنسبة لأعدائه، فيقول الذهبي في حديث: (اللهم اركسهما في الفتنة ركسا ودعهما في النار دعا) أنه من فضائل معاوية، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم من سببته أو لعنته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة) !!
وقد راجت هذه الدسيسة على أكثر النقاد فجعلوا يثبتون التشيع برواية الفضائل ويجرحون راويها بفسق التشيع ثم يردون من حديثه ما كان في الفضائل ويقبلون منه ما سوى ذلك، ولعمري إنها لدسيسة إبليسية ومكيدة شيطانية كاد ينسد بها باب الصحيح من فضل العترة النبوية لولا حكم الله النافذ والله غالب على أمره {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (32) سورة التوبة
وأول من علمته صرح بهذا الشرط وإن كان معمولاً به في عصره إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني المعروف بين أهل الجرح والتعديل بالسعدي وهو أحد شيوخ الترمذي وأبي داود والنسائي وكان من غلاة النواصب بل قالوا: إنه حريزي المذهب على رأي حريز بن عثمان وطريقته في النصب، وكان حريز المذكور يلعن علياً سبعين مرة في الصباح وسبعين مرة بالعشي فقيل له في ذلك، فقال: هو القاطع رؤوس آبائي وأجدادي، ذكره ابن حبان.
وقال إسماعيل بن عياش: عادلت حريز بن عثمان من مصر إلى مكة فجعل يسب علياً ويلعنه، وقيل ليحيى بن صالح: لم لم تكتب عن حريز؟ فقال: كيف أكتب عن رجل صليت معه الفجر سبع سنين فكان لا يخرج من المسجد حتى يلعن علياً سبعين مرة! وأخباره في هذا كثيرة.
وقد ذكر الخطيب في ترجمته من تاريخ بغداد، والحافظ في ترجمة محمد بن حريز من اللسان: أن الحافظ يزيد بن هارون قال: رأيت رب العزة في المنام فقال: يا يزيد لا تكتب عنه فإنه يسب علياً.
فالجوزجاني كان على مذهب هذا الخبيث وطريقته في النصب وزاد عليه بالتعصب في الجرح والتعديل، فكان لا يمر به رجل ممن فيه تشيع إلا جرحه وطعن في دينه وعبر عنه بأنه زائغ عن الحق متنكب عن الطريق مائل عن السبيل، كما نبه عليه الحافظ في مقدمة اللسان فقال: وممن ينبغي أن يتوقف في قبول قوله في الجرح من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الاختلاف في الاعتقاد فإن الحاذق إذا تأمل ثلب أبي إسحاق الجوزجانى لأهل الكوفة رأى العجب، وذلك لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيع، فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلقة وعبارة طلقة حتى أنه أخذ يلين مثل الأعمش وأبي نعيم وعبيد الله بن موسى وأساطين الحديث وأركان الرواية اه.
ولما نقل عنه في مقدمة الفتح أنه قال في إسماعيل بن أبان الوراق: مائلا عن الحق، قال ابن عدي يعني ما عليه الكوفيون من التشيع تعقب ذلك بقوله: كان الجوزجانى ناصبياً منحرفاً عن علي فهو ضد الشيعي المنحرف عن عثمان، والصواب موالاتهما جميعا ولا ينبغي أن يسمع قول مبتدع في مبتدع اه.
ونص على ذلك في غير ترجمة منها: ترجمة المنهال بن عمرو.
فهذا الناصبي هو أول من نص على هذه القاعدة فقال في مقدمة كتابه في (الجرح والتعديل) كما نقله عنه الحافظ في مقدمة اللسان: ومنهم زائغ عن الحق صدوق اللهجة قد جرى في الناس من حديثه لكنه مخذول في بدعته مأمون في روايته فهؤلاء ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يعرف إلا ما يقوى به بدعتهم فيتهم بذلك اه.
فانظر كيف اعترف بأنه صدوق اللهجة مأمون الرواية ثم اتهمه مع ذلك بالكذب والخيانة مما هو تناقض محض وتضارب صريح!!! ليؤسس بذلك قاعدة التحكم في مرويات المبتدع الذي يقصد به المتشيع من قبول ما كان منها في الأحكام وشبهها، ورد ما كان منها في الفضائل حتى لا يقبل في فضل علي حديث.
وهذا الشرط لو اعتبر لأفضى إلى رد جميع السنة إذ ما من راو إلا وله في الأصول والفروع مذهب يختاره ورأي يستصوبه ويميل إليه مما غالبه ليس متفقا عليه، فإذا روى ما فيه تأييد لمذهبه وجب أن يرد ولو كان ثقة مأموناً لأنه لا يؤمن عليه حينئذ غلبة الهوى في نصرة مذهبه كما لا يؤمن المبتدع الثقة المأمون في تأييد بدعته.
فكما لا يقبل من الشيعي شيء في فضل علي:
- كذلك لا يقبل من غيره شيء في فضل أبي بكر.
- ثم لا يقبل من الأشعري ما فيه دليل التأويل.
- ولا من السلفي ما فيه دليل التفويض.
- ثم لا يقبل من الشافعي ما فيه تأييد مذهبه.
- ولا من الحنفي كذلك.
وهكذا بقية أصحاب الأئمة الذين لم يخرج مجموع الرواة بعدهم عن التعلق بمذهب واحد منهم أو موافقته، خصوصاً وقد وجدنا في أهل كل مذهب من يضع الأحاديث ويفتريها لنصرة مذهبه.
وحينئذ فلا يقبل في باب من الأبواب حديث إلا إذا بلغ رواته حد التواتر أو كان متفقا على العمل به وذلك بالنسبة لخبر الآحاد وما هو مختلف فيه قليل، وبذلك ترد أكثر السنة أو ينعدم المقبول منها وهذا في غاية الفساد فالمبني عليه كذلك، إذ الكل يعتقد أن مذهبه حق ورأيه صواب، وكونه باطلاً وبدعة في نفسه أمر خارج عن معتقد الراوي، ولهذا لم يعتبروا هذا الشرط ولا عرجوا عليه في تصرفاتهم أيضاً بل احتجوا بما رواه الشيعة الثقات مما فيه تأييد مذهبهم، وأخرج الشيخان فضائل علي عليه السلام من رواية الشيعة كحديث (أنت مني وأنا منك) أخرجه البخاري من رواية عبيد الله بن موسى العبسى الذي أخبر البخاري عنه أنه كان شديد التشيع.
وحديث: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) أخرجه مسلم من رواية عدي بن ثابت وهو شيعي غال داعية، وهكذا فعل بقية الأئمة أصحاب الصحاح والسنن والمصنفات الذين لا يخرجون من الحديث إلا ما هو محتج به وصرحوا بصحة كثير منها، وذلك كثير لمتتبعه دال على بطلان هذا الشرط وغيره مما سبق وأنه لا يعتبر في صحة الخبر وقبوله إلا ضبط الراوي وصدقه.
فتح الملك العلي ص 107
هل تقبل رواية المبتدع؟!
سعد بن ضيدان السبيعي
* هل تقبل رواية المبتدع؟!
أقول مستعينا بالله هذه المسألة فيها أقوال لأهل العلم بالحديث :
القول الأول :
رد رواية المبتدع مطلقاً .
وروى هذا القول عن الإمام مالك وقال به القاضي أبو بكر الباقلاني (1) .
وذلك لأن في الرواية عنه ترويجاً لأمره وتنويهاً بذكره .
قال الخطيب في « الكفاية » (148) : « اختلف أهل العلم في السماع من أهل البدع والأهواء كالقدرية والخوارج والرافضة وفي الاحتجاج بما يروونه فمنعت طائفة من السلف صحة ذلك لعلة أنهم كفار عند من ذهب إلى اكفار المتأولين وفساق عند من لم يحكم بكفر متأول وممن يروى عنه ذلك مالك بن أنس .
قال الحافظ ابن حجر في « لسان الميزان » (1/10) : « فالمنع من قبول رواية المبتدعة الذين لم يكفروا ببدعتهم كالرافضة والخوارج ونحوهم ذهب إليه مالك وأصحابه والقاضي أبو بكر الباقلاني وأتباعه » (2) .
ورد هذا القول ابن الصلاح في « علوم الحديث » (104) : « والقول بالمنع مطلقاً بعيد مباعد للشائع عن أئمة الحديث فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة » .
وممن يذهب إلى ذلك أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني وخاصة فيمن وصف بالتشيع فكان يرد حديث من هو موصوف بذلك إلا نفرا من الرواة ممن اشتهروا بالحفظ والضبط قال المعلمي في « التنكيل » (1/46) : « والجوزجاني فيه نصب وهو مولع بالطعن في المتشيعين » (3) .
القول الثاني :
هو التفصيل فإذا كان الراوي داعية إلى بدعته فلا يقبل حديثه وإلا قبل وهذا القول قال به أكثر أهل العلم .
ونسب الخطيب هذا القول للإمام أحمد ورواه بسنده عن ابن مهدي وابن المبارك .
قال الإمام أحمد عن شبابة بن سوار تركته لم أكتب عنه للإرجاء قيل له يا أبا عبدالله وأبو معاوية قال شبابة كان داعية (4) .
قال الخطيب في « الكفاية » (149) : « وقال كثير من العلماء يقبل أخبار غير الدعاة من أهل الأهواء فأما الدعاة فلا يحتج بأخبارهم وممن ذهب إلى ذلك أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل » (5) .
قال عبدالرحمن بن مهدي : « من رأى رأياً ولم يدع إليه أحتمل ، ومن رأى رأياً ودعا إليه فقد استحق الترك » (6) .
قال علي بن الحسن بن شقيق : قال قلت لعبدالله - يعني ابن المبارك - : سمعت من عمرو بن عبيد . فقال بيده هكذا أي كثرة . قلت : فلم لا تسميه وأنت تسمى غيره من القدرية . قال : لأن هذا كان رأساً (7) .
قال النووي في « التقريب » (43) : « هو الأظهر والأعدل وقول الكثير أو الأكثر » .
قال ابن الصلاح في « علوم الحديث » (104) : « وهذا أعدل الأقوال وأولاها » .
وقال ابن كثير في « اختصار علوم الحديث » (1/299) : « والذي عليه الأكثرون التفصيل بين الداعية وغيره » .
بل نقل ابن حبان الاتفاق على ذلك ! فقال في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي في « الثقات » (6/140) : « جعفر بن سليمان من الثقات المتقنين في الروايات غير أنه كان ينتحل الميل إلى أهل البيت ولم يكن بداعية إلى مذهبه وليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أن الصدوق المتقن إذا كان فيه بدعة ولم يكن يدعو إليها أن الاحتجاج بأخباره جائز فإذا دعا إلى بدعته سقط الاحتجاج بأخباره ولهذه العلة ما تركوا (8) حديث جماعة ممن كانوا ينتحلون البدع ويدعون إليها وإن كانوا ثقات واحتججنا بأقوام ثقات انتحالهم كانتحالهم سواء غير أنهم لم يكونوا يدعون إلى ما ينتحلون وانتحال العبد بينه وبين ربه إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه وعلينا قبول الروايات عنهم إذا كانوا ثقات على حسب ما ذكرناه في غير موضع من كتبنا » . ا.هـ (9) .
وكذلك نقل الاتفاق على ذلك الحاكم (10) .
واستغرب الحافظ ابن حجر في « نزهة النظر » (137) نقل الاتفاق .
وقيد جماعة ذلك أيضاً بأن لا يكون ذلك فيما يقوي بدعته .
قال إبراهيم بن إبراهيم الجوزجاني في كتابه « الشجرة في معرفة الرجال » (32) عن الرواة : « ومنهم زائغ عن الحق ، صادق اللهجة ، فليس فيه حيلة ، إلا أن يؤخذ من حديثه ما لا يكون منكراً إذا لم يقو به بدعته » .
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه لله « لسان الميزان » (1/11) : « وينبغي أن يقيد قولنا بقبول رواية المبتدع إذا كان صدوقا ولم يكن داعية بشرط أن لا يكون الحديث الذي يحدث به مما يعضد بدعته ويشيدها فأنا لا نأمن حينئذ عليه من غلبة الهوى والله الموفق » .
وقال في « نخبة الفكر » (136) « ثم البدعة إما بكفر أو بمفسق :
فالأول : لا يقبل صاحبها الجمهور .
الثاني : يقبل من لم يكن داعية في الأصح إلا إن روى ما يقوي بدعته فيرد على المختار وبه صرح الجوزجاني شيخ النسائي » .
القول الثالث :
أن البدعة لا تؤثر على الراوي إذا ثبت أنه حافظ ضابط وصادق ليس بكاذب ، وذلك لأن تدينه وصدق لهجته يحجزه عن الكذب (11) ، وهذا قول جمهور النقاد ، جمهور المتقدمين وعلى رأسهم الإمام البخاري ومسلم وعلي بن المديني ويحيى بن سعيد القطان وابن خزيمة وغيرهم من أهل العلم بالحديث .
فقد خرج البخاري في صحيحه لعمران بن حطان في موضع واحد متابعة (12) .
وعمران بن حطان من الخوارج قال ابن حجر في « هدي الساري » (432) كان داعية إلى مذهبه (13) .
وخرج أيضاً لعبدالحميد بن عبدالرحمن الحماني - وهو داعية للإرجاء قاله أبو داود (14) - في موضع واحد (15) .
وروى البخاري (990) واللفظ له ومسلم (215) من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال سمعت النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم جـهاراً غـير سر يقول : « إن آل آبي بياض (16) ليسوا بأوليائي ، إنما وليي الله وصالح المؤمنين » (17) .
وقيس بن أبي حازم رمي ببدعة النصب (18) وهذا الحديث ظاهره فيما يؤيد بدعته ومع ذلك خرجه البخاري ومسلم (19) .
قال الحافظ ابن ابي حجر في « الفتح » (10/515) : « قال أبو بكر بن العربي في « سراج المريدين » : كان في أصل حديث عمرو بن العاص إن آل أبي طالب فغير آل أبي فلان كذا جزم به ، وتعقبه بعض الناس وبالغ في التشيع عليه ونسبه إلى التحامل على آل أبي طالب ولم يصب هذا المنكر فإن هذه الرواية التي أشار إليها ابن العربي موجودة في مستخرج أبي نعيم من طريق الفضل بن الموفق عن عنبسه بن عبدالواحد بسند البخاري عن بيان بن الإسماعيلي من هذا الوجه أيضا لكن أبهم لفظ طالب وكأن الحامل لمن أبهم هذا الموضع ظنهم أن ذلك يقتضي نقصا في آل أبي طالب كما توهموه » .
وأيضا مسلم بن الحجاج رحمه الله خرج (237) من طريق عدي بن ثابت عن زر بن حبيش عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : « إنه لعهد النبي الأمي إلى أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق » .
وعدي بن ثابت قاص الشيعة !
قال الذهبي في « الميزان » (3/61) : « عدي بن ثابت عالم الشيعة وصادقهم وقاصهم وإمام مسجدهم » .
ومع ذلك خرج الإمام مسلم هذا الحديث له من طريقه .
روى الخطيب بسنده في « الكفاية » (157) عن علي بن المديني قال : قلت ليحيى بن سعيد القطان أن عبدالرحمن بن مهدي قال أنا أترك من أهل الحديث كل من كان رأساً في البدعة فضحك يحيى بن سعيد فقال كيف يصنع بقتادة ؟! كيف يصنع بعمر بن ذر الهمدْاني ؟! كيف يصنع بابن أبي رواد وعد يحيى قوما أمسكت عن ذكرهم ثم قال يحيى أن ترك عبدالرحمن هذا الضرب ترك كثيراً .
وروى الخطيب بسنده في « الكفاية » ( 157) عن علي بن المديني : « لو تركت أهل البصرة لحال القدر ولو تركت أهل الكوفة لذلك الرأي يعني التشيع خربت الكتب » . قال الخطيب : قوله « خربت الكتب يعني لذهب الحديث » .
ومحمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله قال في « صحيحه » (2/376) حديث رقم (497) : « حدثنا عباد بن يعقوب المتهم في رأيه الثقة في حديثه ... » فوثق ابن خزيمة عباد بن يعقوب الرواجني في حديثه مع أنه متهم في دينه بالتشيع (20) وهذا هو القول الصحيح والله أعلم .
وذلك لأنه الذي جرى عليه العمل فالصحيحين فيها رواية عن بعض أهل البدع الدعاة وغيرهم ممن هو معروف بالصدق .
قال العلامة المعلمي رحمه الله في « التنكيل » (1/50) : « وقد وثق أئمة الحديث جماعة من المبتدعة واحتجوا بأحاديثهم وأخرجوها في الصحاح . ومن تتبع رواياتهم وجد فيها كثيراً مما يوافق ظاهره بدعهم ، وأهل العلم يتأولون تلك الأحاديث غير طاعنين فيها ببدعة راويها ولا في راويها بروايته لها » ا.هـ.
قال الذهبي في « ميزان الاعتدال » (1/5) : « قد يقول قائل : كيف ساغ توثيق مبتدع وحد الثقة العدالة والإتقان ؟ وجوابه : أن البدعة على ضربين :
1- فبدعة صغرى كغلو التشيع أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية وهذه مفسدة بينة .
2- بدعة كبرى : كالرفض الكامل والغلو فيه والحط على أبي بكر وعمر والدعاء إلى ذلك فهذا النوع لا يحتج بحديثهم ولا كرامة » .
قال الذهبي في « السير » (7/154) : « هذه مسألة كبيرة وهي القدري والمعتزلي والجهمي والرافضي إذا علم صدقه في الحديث وتقواه ولم يكن داعياً إلى بدعته فالذي عليه أكثر العلماء قبول روايته والعمل بحديثه وترددوا في الداعية هل يؤخذ عنه ؟ فذهب كثير من الحفاظ إلى تجنب حديثه وهجرانه وقال بعضهم : إذا علمنا صدقه وكان داعية ووجدناه عنده سنة تفرد بها فكيف يسوغ لنا ترك تلك السنة ؟ فجميع تصرفات أئمة الحديث تؤذن بأن المبتدع إذا لم تبح بدعته خروجه عن دائرة الإسلام ولم تبح دمه فإن قبول ما رواه سائغ وهذه المسألة لم تتبرهن لي كما ينبغي الذي أتضح لي منها أن من دخل في بدعة ولم يعد من رؤوسها ولا أمعن فيها يقبل حديثه » .
قال الذهبي في « الميزان » (1/5) في ترجمة أبان بن تغلب : « شيعي جلد لكنه صدوق فلنا صدقه وعليه بدعته » .
وقال في « السير » ترجمة إبراهيم بن أبي داود سليمان بن داود الأسدي البَرَلُسي (19/368) : « العمدة في ذلك صدق المسلم الراوي فإن كان ذا بدعة أخذ عنه والإعراض عنه أولى ولا ينبغي الأخذ عن معروف بكبيرة والله أعلم » .
وقال في « السير » (13/395) : « له أسوة بخلق كثير من الثقات الذين حديثهم في الصحيحين أو أحدهما ممن له بدعة خفيفة بل ثقيلة فكيف الحيلة ؟ نسأل الله العفو والسماح » .
وقال الذهبي في « الميزان » (1/27) : « اختلف الناس في الاحتجاج برواية الرافضة على ثلاثة أقوال :
1- المنع مطلقاً .
2- الترخيص مطلقاً إلا فيمن كذب .
3- التفصيل .
فتقبل رواية الرافضي الصدوق العارف بما يحدث .
وترد رواية الرافضي الداعية ولو كان صدوقا . » .
قال الحافظ ابن حجر في « لسان الميزان » (1/10) : « فالمنع من قبول رواية المبتدعة الذين لم يكفروا ببدعتهم كالرافضة والخوارج ونحوهم ذهب إليه مالك وأصحابه والقاضي أبو بكر الباقلاني وأتباعه والقبول مطلقا إلا فيمن يكفر ببدعته وإلا فيمن يستحل الكذب ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف وطائفة وروى عن الشافعي وأما التفصيل فهو الذي عليه أكثر أهل الحديث بل نقل فيه ابن حبان (21) إجماعهم ووجه ذلك أن المبتدع إذا كان داعية كان عنده باعث على رواية ما يشيد به بدعته » .
* أقول وأما صاحب البدعة المكفرة فترد روايته ونقل النووي الاتفاق (22) .
قال النووي : « من كفر ببدعته لم يحتج به بالاتفاق » (23) .
وقال ابن كثير في « اختصار علوم الحديث » (1/299) : « المبتدع إن كفر ببدعته فلا إشكال في رد روايته » .
قال الحافظ ابن حجر في « نزهة النظر » (138) : « والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعته لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة وقد تبالغ فتكفر مخالفها فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أثرا متواترا من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة وكذا من اعتقد عكسه » .
وقال المعلمي في « التنكيل » (1/42) : « لا شبهة أن المبتدع إن خرج ببدعته عن الإسلام لم تقبل روايته لأن من شروط قبول الراوية الإسلام » .
كتبه وأملاه/
سعد بن ضيدان السبيعي
عضو الدعوة بوزارة الشئون الاسلامية
3/3/1427هـ
سعد بن ضيدان السبيعي
عضو الدعوة بوزارة الشئون الاسلامية
3/3/1427هـ
-----------------------------------------------
(1) انظر فتح المغيث للسخاوي (3/60) ، التنكيل للمعلمي (1/45).
(2) انظر أيضا فتح المغيث للسخاوي (3/60) ، التنكيل للمعلمي (1/45).
(3) وانظر شرح العلل لابن رجب (1/357) ؛ وانظر أيضا الثقات ( 8/82 ) ، الكامل (1/310) التنكيل (1/99) .
(4) انظر ميزان الاعتدال (1/301) وتهذيب التهذيب (2/147) ترجمة سوار بن شبابة من سوار .
(5) رواه الخطيب في الكفاية (194).
(6)رواه الخطيب في الكفاية (155).
(7)رواه الخطيب في الكفاية (155) .
(8) كذا في المطبوع ! والصواب ( تركوا ) حتى يستقيم المعنى .
(9) وانظر المجروحين (1/18).
(10)انظر التنكيل للمعلمي (1/43).
(11) انظر فتح المغيث السخاوي (2/61) التهذيب (3/317)، فتح الباري (10/357) .
(12) في كتاب اللباس ، باب لبس الحرير للرجال وقدر ما يجوز منه حديث رقم (5835).
(13) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (10/357) أخرج له البخاري على قاعدته في تخريج أحاديث المبتدع إذا كان صدوق اللهجة متديناً .
(14) انظر تهذيب التهذيب (2/487) ترجمة عبدالحميد بن عبدالرحمن الحماني وهدي الساري (1/416) .
(15) في كتاب فضائل القرآن ، باب حق حسن الصوت بالقراءة للقرآن حديث رقم (4761).
(16)قال ابن القيم في جلاء الأفهام (255) : « وغلط بعض الرواة في هذا الحديث وقال « إن آل بني ... بياض » والذي غر هذا أن في الصحيح « أن آل بني ... ليسوا لي بأولياء » وأخلى بياضاً بين بني وبين ليسوا فجاء بعض النساخ فظن أن « بياض » هو المضاف إليه، فقال : « بني بياض » ولا يعرف في العرب بنو بياض ، والنبي ﷺ لم يذكر ذلك ، وإنما سمى قبيلة كبيرة من قبائل قريش والصواب لمن قرأها في تلك النسخ أن يقرأها إن آل بني « بياضٌ » بضم الضاد من بياض لا يجرها والمعنى وثم بياض ، أو هنا بياض .ا.هـ.
وانظر فتح الباري (10/515) شرح النووي على صحيح مسلم (3/87).
ولفظ مسلم ( 215) « إن آل آبي يعني فلانًا ... »
(17) انظر التهذيب (3/444) ، فتح الباري (10/516).
(18) انظر التهذيب (3/444) ، فتح الباري (10/516).
(19) التنكيل للمعلمي (1/51) وتعليق العلامة الألباني رحمه الله عليه .
(20) قال الخطيب في الكفاية (159) قلت : قد ترك ابن خزيمة في آخر أمره الرواية عن عباد وهو أهل أن لا يروي عنه . وانظر السير (11/538).
(21) في الثقات ( 6/140) ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي . والمجروحين ( 1/18) .
(22) تدريب الراوي ( 1/383) وانظر شرح النووي على مسلم ( 1/60) .
(23) تدريب الراوي (1/383) وانظر شرحه على صحيح مسلم (1/60).