موقف علماء السنة من التصوف

6 مايو 2010
74
0
0
الأم رالثاني
[FONT=AF_Jeddah]موقف علماء السنة من التصوف[/FONT]​
اختلف علماء السنة حول نظرتهم للتصوف كاختلاف علماء الشيعة في نظرتهم إليه ، وقد ذهب بعض علماء السنة إلى ذمه ولم يقبلوه كالحافظ ابن الجوزي الذي خصص قسماً كبيراً من كتابه تلبيس إبليس في الكلام على الصوفية ، بيد أنّ هذا الموقف من التصوف لايمثل إجماع السنة ولا توافقهم ، بل هم مختلفون في ذلك ، فمقابل لوجود ذم للتصوف عند بعضهم ، فإنّ البعض الآخر منهم إما كان من الصوفية كبعض من تقدم الكلام عنهم من أمثال القشيري وأبي نعيم الإصبهاني والحارث المحاسبي وغيرهم ، أو قبل التصوف ودافع عنه ، وممن لم يعتبر جميع المتصوفة من المبتدعة ابن تيمية ، وقد ذهب إلى أنْ منشأ التصوف إنما كان في البصرة في أصحاب الحسن البصري الذي هو من كبار الفقهاء المعتمد عليهم عند السنة ، حيث يقول : ... وإذا عرف أنّ منشأ التصوف كان من البصرة وأنه كان فيها من يسلك طريق العبادة والزهد مما كان له فيه اجتهاد ... ([1])
وبعد ذكر الإختلاف في أمر التصوف والمتصوفة قال :
والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله ، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله ، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده ، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين ، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطيء فيتوب أو لايتوب . ([2])
إلى أنْ قال : وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة ، ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم كالحلاج مثلاً ، فإنّ أكثر مشائخ التصوف أنكروه ، وأخرجوه عن الطريق ، مثل الجنيد بن محمد سيد الطائفة وغيره ، كما ذكر ذلك الشيخ أبو عبد الرحمن السلّمي في طبقات الصوفية ، وذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد . ([3])
بل إنّ ابن تيمية يعتبر بعض علماء التصوف الكبار من العلماء الذين لا كلام في مقامهم ومكانتهم عند المسلمين ، حيث يقول عن بعضهم : شيوخ المسلمين المحمودين عند المسلمين ، كالجنيد بن محمد ، وسهل بن عبد الله التستري . ([4])
فالحاصل من كلام ابن تيمية أنّ التصوف منهج إجتهادي نشأ في مدرسة أوساط السنة ، وأنّ في الصوفية جماعة من الصالحين والمجتهدين في طاعة الله عز وجل وأنّ أهل الشطح والبدع المنتسبين إليهم قد تبرأ منهم أهل التحقيق من الصوفية ، بل يقول في شأنّ الزهاد الذين كانوا منشأ التصوف حسب وجهة نظره في البصرة :
فإذا قيل عن أولئك الزهاد والعباد من البصريين أنهم صديقون فهو كما يقال عن أئمة الفقهاء من أهل الكوفة أنهم صديقون أيضاً ، كل بحسب الطريق الذي سلكه في طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده ، وقد يكونون من أجلّ الصديقين بحسب زمانهم ، فهم من أكمل صديقي زمانهم ، والصديق في العصر الأول أكمل منهم ... الخ . ([5])
ويقول الفقيه الأصولي المعروف عند أهل السنة أبو إسحاق الشاطبي الغرناطي صاحب كتاب الموافقات في مقام الدفاع عن التصوف : ... الوجه الرابع من النقل ما جاء في ذم البدع وأهلها عن الصوفية المشهورين عند الناس ، وإنما خصصنا هذا الموضع بالذكر وإنْ كان فيما تقدم من النقل كفاية لأنّ كثيراً من الجهال يعتقدون أنهم متساهلون في الإتباع وأنّ اختراع العبادات والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه مما يقولون ويعملون عليه ، وحاشاهم من ذلك أنْ يعتقدوه أو يقولوا به ، فأول شيء بنوا عليه طريقتهم إتبّاع السنة واجتناب ما خالفها حتى زعم مذكرهم ، وحافظ مأخذهم ، وعمود نحلتهم أبو القاسم القشيري أنهم إنما اختصوا باسم التصوف انفراداً عن أهل البدع ... الخ . ([6])
إلى أنْ قال : وفي غرضي إنْ فسح الله في المدة وأعانني بفضله ويسر لي الأسباب أنْ ألخص في طريقة القوم أنموذجاَ يُستدل به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى ، ,أنه إنما داخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم على عهد ذلك السلف الصالح وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي ولا فهم لمقاصد أهلها وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به ... الخ . ([7])
ويقول في موضع آخر من كتاب الإعتصام الذي صنفه لبيان الفرق بين السنة والبدعة وضوابط كل منهما : وأما الكلام في دقائق التصوف فليس ببدعة بإطلاق ، ولا هو مما صح الدليل بإطلاق ، بل الأمر ينقسم . ([8])
وممن دافع عن التصوف بقوة ابن خلدون ، يقول في مقدمته المعروفة :
... فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده ، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا ، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة . ([9])
إلى أنْ قال : فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد والإنفراد عن الخلق والإقبال على العبادة اختصوا بمآخذ مدركةٍ لهم ... الخ . ([10])
وقد صنف كتاباً مستقلاً يشرح فيه حقيقة التصوف ويدافع عنه سماه شفاء السائل وتهذيب المسائل ، وبين فيه أنّ التصوف إهتمامه بباطن الشريعة في مقابل أنّ جملة من العلوم الإسلامية كالفقه دورها هو البحث في ظاهر الشريعة ([11]) ، وقال في مقام الإستدلال على أهمية البحث في باطن الشريعة والإهتمام بها : ثم إنّ الصحابة رضوان الله عليهم لما شرح الله صدورهم للإسلام ، وقبلوا من الهداية ما كانوا فيه على بينة من ربهم صرفوا الاهتمام إلى أعمال الباطن أكثر من أعمال الظاهر ، فكانوا يراعون أنفاسهم ، ويراقبون خطراتهم ، ويحذرون غوائل قلوبهم ... ([12])
إلى أنْ قال : فانفرد خواص السنة المحافظين على أعمال القلوب المقتدون بالسلف الصالح في أعمالهم الباطنة والظاهرة ، وسموا بالمتصوفة . ([13])
إلى أنْ قال : ولما تميزت هذه الطائفة بما تميزت به من النظر في أفعال القلوب والإهتمام بها وتقديمها على أفعال الجوارج في الشرعيات والعاديات ، كما قال الجنيد رضي الله عنه : إذا رأيت الصوفي يُعنى بظاهره فاعلم أنّ باطنه خراب ، فاخصوا بهذا الاسم لقباً لهم وعلماً عليهم . ([14])
ويقول أبو الحسنات اللكنوي أثناء حديثه عن الإفراط والتعنت في الجرح : ومن ذلك جرح الذهبي في ميزانه وسير أعلام النبلاء وغيرهما من تأليفاته في كثير من الصوفية وأولياء الأمة ، فلا تغتر به ، ما لم تجده عند متوسطي الأجلة ومنصفي الأئمة موافقاً له ، وذلك لما علم من عادة الذهبي بسبب تقشفه وغاية ورعه واحتياطه وتجره عن أشعة أنوار التصوف والعلم الوهبي الطعن على أكابر الصوفية الصافية ، وضيق الطعن في مدح هذه الطائفة الناجية كما لا يخفى على من طالع كتبه . ([15])
ولكن الصحيح خلافاً لما قاله أنّ الذهبي كان يعظم علماء الصوفية ويذم من لديهم الشطح في نظره وقد تقدم مدح لجماعة من أعلامهم ، ولذا قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في مقام الرد عليه :
والذي أدين الله به أنّ الحافظ الذهبي إمام من كبار أئمة العلم في الإسلام ، وأنه صالح تقي ورع ، وليس بالمعصوم ، ويحب الصوفية الصالحين الأتقياء جداً ، ويحسن الظن بهم ، ويأمر بتحسين الظن بهم ، وذلك عنوان دينه وورعه وتقواه وحبه لهم ، ولكنه يحذَر ويحذِّر من شطحاتهم ومخالفاتهم ...الخ ([16])
إلى أنْ قال : ومن شواهد حبه للصوفية الصالحين ودلائل تعلقه بمحبة أوليائه الصالحين أنك تراه في كتبه ومؤلفاته تنشرح نفسه عند ذكرهم ، وينبسط لسانه وقلمه بالثناء عليهم ، ويطيل نفسه بالمدح لهم والاسترواح بالحديث عنهم ، ويطيل تراجمهم ، ويتعرض لذكر كراماتهم والرؤى الصالحة لهم ، وكتبه المطولة طافحة بذلك جداً . ([17])
وكلمات علماء السنة وفقهائهم في الدفاع عن التصوف كثيرة ، وكذا كلماتهم في مدح المتصوفة التي تقدم بعضها عند ذكر التراجم المتقدمة ، ويكفي أنّ عدداً كبيراً من علماء التصوف هم من كبار علماء السنة في الحديث أو الفقه أو غير ذلك من العلوم منهم أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري الذي تقدمت ترجمته حيث يقول بشأنْ الصوفية في رسالته المعروفة بالرسالة القشيرية : لقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه ، وفضلهم على كافة عباده بعد رسله وأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم ، وجعل قلوبهم معادن أسراره ، واختصهم من بين الأمة بطوالع أنواره ، فهم الغياث للخلق ، والدوائرون في عموم أحوالهم مع الحق بالحق ، صفّاهم من أكدار البشرية ، ورقاهم إلى محال المشاهدات بما تجلى لهم من حقائق الأحدية ، ووفقهم للقيام بآداب العبودية ، وأشهدهم مجاري أحكام الربوبية ... الخ . ([18])
وبالجملة فنسبة ذم التصوف إلى السنة وأنه إنما وصل إليهم من خلال الشيعة أمر في غير محله ، بل يختلف في ذلك علماء السنة ، وقد قبله جماعة من كبار فقهائهم محدثيهم المعتمدين لديهم ، بل الأمر أكثر من ذلك ، فإنْ عدة من كبار أئمة التصوف ومؤسسيه وأركانه الذين شيدوا بنيانه من كبار فقهاء السنة وأئمتهم ، ومن الذين أجمعوا على وثاقتهم وجلالتهم ، ولم يترددوا في الحكم عليهم بالثناء والمدح والاعتماد عليهم وتزكيتهم في العلم والعمل .

([1]) مجموع فتاوى ابن تيمية ج11 ص 16 .

([2]) مجموع فتاوى ابن تيمية ج11 ص 18 .

([3]) مجموع فتاوى ابن تيمية ج11 ص 18 .

([4]) مجموع فتاوى ابن تيمية ج11 ص 239 .

([5]) مجموع فتاوى ابن تيمية ج11 ص 17 .

([6]) الاعتصام ج1 ص 89 ط. دار المعرفة سنة 1406 هـ - 1986 م ، وص 67 ط. دار الكتب العلمية سنة 1411هـ - 1991م .

([7]) الاعتصام ج1 ص 90 ط. دار المعرفة وص 67 ط . دار الكتب العلمية .

([8]) الإعتصام ج1 ص 207 ط . دار المعرفة ، وص 150 ط. دار الكتب العلمية .

([9]) مقدمة ابن خلدون ص 426 الباب السادس ، الفصل السابع عشر ط. دار الفكر / بيروت سنة 1419هـ - 1998م .

([10]) مقدمة ابن خلدون ص 426 . .

([11]) شفاء السائل لابن خلدون ص 37 ط. دار الفكر المعاصر / بيروت – دار الفكر / دمشق سنة 1417هـ - 1996م .

([12]) شفاء السائل ص 40 .

([13]) شفاء السائل ص 43 .

([14]) شفاء السائل ص 50 .

([15]) الرفع والتكميل ص 310 ط .مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب سنة 1407 هـ- 1978م .

([16]) الرافع والتكميل ص 311 ، راجع الهامش .

([17]) الرفع والتكميل ص 311 ، راجع الهامش .

([18]) الرسالة القشيرية ص 36 ط. دار الخير / دمشق – بيروت سنة 1408هـ – 1988م .